الحتمية والاحتمالية في فلسفة المجتمع الإنساني
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
............
طبيعة العلاقات
الاجتماعية لا تحكمها نظريات فلسفية مُجرَّدة، أو قوانين اقتصادية جامدة ، لأن
العلاقات الاجتماعية تبتكر طبيعتها الخاصة ، وتؤسِّس قوانينها الذاتية ، اعتمادًا
على التغيرات في مشاعر الإنسان وأحاسيسه ، والتغيرات في مسار المجتمعات والحضارات
. وثنائية ( التغيُّر الإنساني / التغيُّر الاجتماعي ) هي الفلسفة الكامنة في
أنساق الحياة داخل البُنى المعرفية وخارجها . والتغيُّر _ كنظام فلسفي حياتي شامل
_ ينشأ بصورة مستمرة ، ويتولَّد باستمرار ، ضِمن مسار دائري تختلط فيه البداية
بالنهاية ، لذلك لا يُمكن للإنسان أن يتنبَّأ بموعد حدوث التغيُّر ، ولا تستطيع
الحضارةُ أن تتوقَّع مدى تأثير التغيُّر في الأنساق الحياتية .
2
الحضاراتُ
السابقة كانت تملك زُعماء وعُلماء ومُفكِّرين وخُبراء في السياسة والاقتصاد
والثقافة وعِلم الاجتماع ، ومعَ هذا انهارت الحضارات السابقة ، وغابَ شمسُها ،
ولَم يستطع أحد حماية حضارته من السقوط والاضمحلال ، وهذا يدل بوضوح على أن
الحضارات محكومة بقوانين حتمية وأُطُر زمانية ومكانية ، لا يمكن تجاوزها أو
التلاعب بها. وإذا حانَ موعدُ سُقوط الحضارة ، فسوفَ تَسقط لا مَحَالة ، حتى لو
اجتمع الزعماء والعلماء والخُبراء لحمايتها . وإذا حانَ موعد وفاة الإنسان ، فسوفَ
يموت قطعًا ، حتى لو اجتمع الأطباءُ الماهرون وأدويتهم الفَعَّالة وآلاتهم
المتطورة .
3
المشكلةُ
الجذرية في أنساق التفكير الإنساني تتجلَّى في عدم القدرة على التمييز بين الحتمية
والاحتمالية. فالحتميةُ هي سُلطة القوانين الوجودية الحاكمة على المشاعر الإنسانية
والمنظومة الاجتماعية ، وهي سُلطة أساسية ودائمة ، وغير مُتأثرة بالزمان والمكان .
والإنسان جاءَ إلى هذا العَالَم ، واكتشفَ وجودَ هذه السُّلطة ، ولم يَخترعها . أي
إن وجودها سابق على وجود الإنسان نَفْسِه ، والإنسان تابع لها بإرادته ورغمًا عنه.
أمَّا الاحتمالية فهي سُلطة القوانين التي وضعها الإنسانُ بنَفْسه لتدبير أُموره ،
وتنظيم شؤون مجتمعه ، وهي سُلطة فَرعية مُتغيِّرة ومختلفة تبعًا لاختلاف الزمان
والمكان وطبيعة الناس ومصالحهم ، ووجود هذه السُّلطة خاضع للإنسان، وتحت تصرُّفه.
وهذا التمييز بين سُلطة القوانين الحاكمة ، وسُلطة القوانين المحكومة ، في غاية
الأهمية، لأنَّه يُوضِّح الفرق بين الحتمية والاحتمالية ، كما أنَّه يُفَسِّر
طبيعة التحولات الإنسانية والاجتماعية بشكل استباقي، مِمَّا يعني بالضرورة تَحييد
عُنصر المفاجأة القاتل ، والسيطرة عليه ، ووضع خُطط للتعامل معه. وكما أن العَقل
المُدبِّر الذي يُخطِّط للمعركة يجب عليه أن يضع خُطَّتَيْن : خُطَّة للانتصار ،
وخطة للهزيمة ، لأنه لا يَعرِف المُفاجآت في طبيعة سَير المعركة ، كذلك المُفكِّر
الذي يَدرس خصائص المجتمعات والحضارات ، يجب عليه أن يضع خُطَّتَيْن : خُطة ( أ )
التي تُمثِّل المسار العام للأحداث المرسومة على الورق، وخُطَّة ( ب ) وهي خطة
الطوارئ التي تُمثِّل الأحداث المُفاجِئة على أرض الواقع. وكما يُقَال: الشَّيطان
كامن في التفاصيل .