لا يمكن إخفاء القلق الإيراني من الثورات العربية ، على الرغم من تأييد القيادة الإيرانية لما حدث في تونس ومصر . وقد تجلى هذا القلق في تصريحات مرشد الثورة علي خامنئي حول الانتخابات الإيرانية المقبلة وإمكانية حدوث اضطرابات فيها . فهناك تخوف حقيقي من حِراك شعبي قد يخرج عن السيطرة مستمداً أفكاره من ثورة الجماهير العربية. كما أن التصعيد العسكري الإيراني ضد الأكراد في هذا الوقت بالذات يعطي أكثر من رسالة للداخل والخارج . وكأنه يقول إن إيران لن تتوانى عن استخدام القوة العسكرية لإنهاء أي تهديد، ولن يوقفها أحد. فاستعراض القوة عبارة عن رسالة ردع للمعارضة الإيرانية في الداخل التي قد تفكر في استلهام السيناريو الثوري العربي.
وفي واقع الأمر فإن إيران ليست غريبة عن المنطقة ، ومشكلاتها الاجتماعية متشابهة إلى حد بعيد مع مشكلات المجتمع العربي. فانعدامُ الحريات السياسية ، والتضييق على حرية التعبير ، ومنع نقد المؤسسة الحاكمة، وعدم السماح بتشكيل الأحزاب السياسية ، وحالة الاستقطاب الشديد بين المحافظين والإصلاحيين ، وتدخل المؤسسة العسكرية ( مثل الحرس الثوري ) في رسم السياسات الحكومية ، وارتفاع نسب البطالة والفقر رغم ثروات النفط والغاز المحاصرة بالعقوبات الدولية ، وتفشي حالة الإحباط في أوساط الشباب ، حيث تزايد نسب تعاطي المخدرات والطلاق ، وعدم تمكين المرأة في الحياة السياسية والاجتماعية . كل هذه المشكلات تضغط على العمود الفقري للنظام السياسي ، وتشكل تهديداً حقيقياً لوجوده .
وهذه المشكلات المتشعبة يمكن إرجاعها إلى ثلاثة مصادر رئيسية . فالمشكلة السياسية مردها إلى إقحام عقيدة " ولاية الفقيه " في صميم الحياة السياسية ، مما أدى إلى توفير حصانة لرأس النظام والمؤسسات المرتبطة به ، واستمرار حكمهم إلى الأبد . وهذا قَسم المجتمع إلى سادة فوق مستوى النقد وعبيدٍ يتوجب عليهم الطاعية العمياء انطلاقاً من القناعة الدينية " ولاية الفقيه ". وهنا تتجلى قضية توظيف الدِّين لضمان ولاء الأتباع وخضوعهم وعدم معارضتهم . أما المشكلة الاجتماعية فمرجعها إلى الضغوطات المعيشية الهائلة على كاهل الشباب ، وعجزهم عن تحقيق أحلامهم ، ورفض تمكينهم من المشاركة في الحياة السياسية وصناعة مستقبلهم ورسم معالم مجتمعهم بسبب انعدام الثقة بهم . مما اضطر قِسماً منهم إلى الهروب من واقعهم عبر المخدرات وإدارة الظهر للمجتمع بكل قِيَمه بسبب الإحباط وفقدان الانتماء. والقِسمُ الآخر يهرب من واقعه المر إلى مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت والمدونات للتعبير عن آرائهم ، وإحداث ثورتهم الخاصة بهم في العالم الافتراضي ثم نقلها إلى الشارع _ رغم القيود الشديدة على الإنترنت ومنع العديد من المواقع_ . كما أن المرأة الإيرانية مستثناة من صناعة الفعل الاجتماعي . وما زالت إيران حتى هذه اللحظة تبحث في لون الشادور ( عباءة المرأة ) ، وهل يُسمح بالألوان الفاتحة أم يتوجب اعتماد اللون الأسود والبني الغامق كخيار وحيد ! . والمشكلة الاقتصادية يمكن إرجاعها إلى عدم تنويع مصادر الدَّخل ، والاعتماد بالكلية على النفط والغاز ، مع وجود جهاز اقتصادي بيروقراطي للغاية طارد للاستثمارات ، كما أن العقوبات الاقتصادية الدولية فاقمت الأزمة الاقتصادية .
ومن المؤسف رؤية الدول التي ترفع لواء المقاومة وتتبنى القضية الفلسطينية ، قامعةً لشعوبها ، غير واثقة بقدرات أبنائها ، ومتشككة في نواياهم وانتمائهم . وتُفصِّل القوانين التي تُضيِّق على الأفراد والجماعات وتحشرهم في الزاوية . وقد رأينا أمريكا التي تخوض حروباً في كل مكان ، وتتعرض للتهديد من كل الجهات ، لم تفرض قانون الطوارئ _ مثلاً _ على شعبها ، أو تُقيِّد حرية التعبير تحت شعار الحرب والمقاومة . وفي هذا درسٌ بليغ لكل الأنظمة التي تتخذ من المقاومة ذريعةً للقمع والاضطهاد وخنق الناس .
وما يثير التعجب أن القيادة الإيرانية لم تتخذ خطوات حقيقية لإزالة حالة الاحتقان ، وتجنب تكرار الربيع العربي على أراضيها مثلما فعلت دول الخليج التي صارت تنفق الأموال يمنةً ويسرة على شعوبها لإبعاد فكرة الثورة عن أذهانها وفق نظرية " أطعم الفم تستحِ العين " . وهذا مؤشر بالغ الخطورة يعكس غياب الرؤية الإستراتيجية للأحداث ، والاعتماد بالكلية على القبضة البوليسية .
فعلى إيران أن تعيد حساباتها ، وتبني دولتها على الحق والحرية واحترام الكرامة الإنسانية ، وتقف إلى جانب الشعوب المقهورة، ولا تدعم الأنظمة القمعية التي تظلم المواطنين . خصوصاً أن صانعي السياسة الإيرانية قد رسموا شرعيتهم الثورية والاجتماعية حول الإمام الحسين الذي ينظرون إليه على أنه الشهيد المظلوم الذي وقف في وجه الظلم ، وأن الدم انتصر على السيف .