لا يمكن حصر مهمة القصيدة في اكتشاف الجذور الاجتماعية لحركة التاريخ الإنساني ، لأن الفكر الشعري عبارة عن عنفوان متكامل ومتشظي يستحيل سجنه في قالب محدود . فالقصيدةُ هي نظام كُلي يرمي إلى تأريخ اللحظة الآنية على شكل رموز عابرة لمفاصل الزمن ، واختزالِ المعاني المركزية في حياتنا وفق منظومة مُكثَّفة ذات صِبغة عالمية ، لأن الشِّعر لغة عالمية قائمة بذاتها _ مهما اختلفت لغات الكتابة وجنسيات الشعراء _ . وهذا الأفق القصائدي الكَوْني الذي يصهر الثقافات المختلفة في هوية جامعة ، يهزُّ الحلمَ البشري بكل قوة لكي تتولد أنساق جذرية جديدة تتفرع على شكل أمكنة معرفية متجددة وأزمنة وجدانية دائمة الانبعاث .
والدخول إلى عوالم النص الشعري مغامرةٌ غير طائشة . فهو ليس رحلة عبر الزمن فحسب ، بل _ أيضاً_ اختراع لأزمنة جديدة تولد من حرارة التعبير الشعري الطامحة إلى إعادة إعمار الخيال البشري الذي يتكسر في أزمنة المجتمع المغلقة ، وإعادةِ ترميم الذاكرة الجمعية الغارقة في الأنماط العَرَضية دون اقتحام الجوهر . لذلك فإن النص المنبعث من لهب التجربة لا يقدر على التأثير في البيئة المحيطة إلا إذا تمتع بالقدرة على إعمار الخيال وترميم الذاكرة . وسوى ذلك سينشغل النصُّ بالأشياء الطافية على السطح دون اكتشاف الأعماق .
والقصيدة ليس من وظيفتها إعادة نسخ الواقع المادي المعاش على الورق ، وليس من وظيفتها حبس المشاعر الإنسانية في حِبر الكلمات ، أو إعادة إنتاج البشر بصورة ميكانيكية ، لأن إفراغ العناصر من المحتوى العاطفي سيكون مدمراً للمجتمع ومنظومته الشعرية على السواء . فالوظيفة الأساسية للقصيدة متشعبة ومستمدة من كَوْن الشَّاعر هو الناطق الرسمي باسم كائنات الطبيعة ( الإنسان . الحيوان . النبات . الجماد ) . وهو لا يمارس هذه المهمة بدافع الاستبداد أو مصادرة العناصر الأخرى، وإنما انطلاقاً من دَوْره الحياتي المحوري ، إذ إنه الرَّائي الذي لا يفرض رؤيته على الأشياء ، بل يلغي الحواجزَ لكل تصبح الرؤية واضحة لجميع الأشياء .