سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

31‏/08‏/2012

انكسار الحلم الأمريكي التوسعي

انكسار الحلم الأمريكي التوسعي

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .


     إن وضع المنطق المستحيل في تقاطعات تجذير السياسة الأمريكية الداخلية ، والاعتماد عليها للانطلاق إلى السياسة الخارجية من شأنه تفتيت الدلالات الحضارية المتصوَّرة ذات الملامح الإمبراطورية الشخصانية . فكل المجتمعات التي يكون فيها الانتماءُ مجرد منفعة مادية بحتة تبدو متماسكةً ما دام الاقتصاد قوياً ، أما إن حصلت أزمات عنيفة فيبدأ العقد الاجتماعي المخلخَل أصلاً بالانحلال بشكل دراماتيكي ، حيث يبحث كل فرد عن مصلحته الذاتية، ويغيب الانتماء للكل الوطني لأن الوطن صار شركةً مفلسة . وهذه هي أدبيات النظام السياسي في كل الحضارات الإمبراطورية مثل فقاعة الصابون .
     إن القيم التحريرية أو التي يُفترَض بها حمل دلالات الحرية صارت تياراً استهلاكياً مثل الوجبات السريعة . فالدمار المنسحب على إشكالية التبعيض الحياتي للأفراد يتكرس في أطر بعيدة عن الحلم الكوني العالمي في حياة أفضل ، ويتجذر حول انكسار بؤرة المعنى في أداءات شهوانية وقتية من شأنها تكريس الفرد كنمط استهلاكي في موضع البيع والشراء .
     وإن أخطر ما يهدد الفلسفة المنطقية للتأسيس العقلاني لسياسة الكيانات البشرية والدولية هو تحول القيم الإنسانية إلى قيم استهلاكية ، أو بالأحرى إحالة قيم التحضر البشري إلى بؤرية البضائع التجارية، فيصبح الإنسان مجرد سلعة تباع لمن يدفع أكثر . وإذا استمر الوضع وفق هذا الشكل فإن النسق البشري سيغدو إجراءً ميكانيكياً آلياً قاتلاً لا وجود للعاطفة فيه، مما يؤدي إلى تدمير كوكب الأرض نتيجة تحوله إلى غابة يأكل القويُّ الضعيفَ دون أية شريعة دينية ملزِمة ، أو تيار أخلاقي إنساني حاكم. 
     وهذه الجدلية الاستهلاكية نقلت طبقاتِ المدلول المسيطر على انبعاثات فلسفة عسكرة الخيال السياسي من محيطات الفعل إلى مصيدة ردة الفعل . وكلما تواصلت النزعة الاستهلاكية في التهام القيم الحضارية العمومية اتَّجهت وحدة الأحداث العالمية إلى فرض الإقامة الجبرية على الأنساق السياسية ، أي تحول الإمبراطوريات السالبية المتمددة ظاهرياً إلى ظل باهت لمشروع توسُّعي لم ينجح بفعل الخلل الاجتماعي الداخلي .
     وكما هو معلوم فإن أية حضارة كبرى لا يمكن أن تصل إلى ما وصلت إليه من مجد مؤقَّت إلا إذا حصَّنت الجبهةَ الداخلية ، وهذا ما لم تنتبه إليه أمريكا في زحمة أحلامها الإمبراطورية التوسعية، فسقطت في مصيدة الداخل والخارج معاً. فإذا انهار جهاز المناعة الداخلي ، فإن التقدم الاجتياحي سينكسر ، وهذا يؤدي إلى مآزق وجودية حرجة .
     وفي ضوء هذا الاندفاع الخارجي ظهرت الأزمات الخانقة في الداخل، مما يدل على دخول أمريكا في عزلة انطوائية لتصحيح مسارها الداخلي، وهذا صعب للغاية يقترب من المستحيل، لأن الإبريق المكسور لا يمكن إعادته كما كان مطلقاً. صحيحٌ أنه يمكن لصقه وترميمه ، ولكن لن يعود كما كان مهما كان الحرفي ماهراً .
     ونحن في إطار تشريحنا لأبجديات التبادل الميكانيكي بين عسكرة السياسة وتسييس العسكرية نتوصل إلى حالات دقيقة من البنى السوسيولوجية في تعميق فهمنا لأداء التجربة الإمبراطورية المرتبكة .
     وكل الإرهاصات السياسية تنسحب على جزيئات المجتمع التداخلي الشَّعبَوِي ، فانكسار البنية الفوقية لم يأت عبثاً أو بمحض الصدفة ، بل هو نتاج طبيعي دينامي لحالة التخبط في التسييس المبالغ فيه لعسكرة العالَم سالبياً من منظور فَوْقي . وكلما فكَّكت المنهجيةُ التاريخية الصيغَ اللاأخلاقية ، بدأت المضامين الذاتية الشعبية في نسف حلم المواطن الأمريكي العادي العاطل عن الوطن، بعد أن صار التشكيل الوطني صفقةً خاسرة ، وسهماً هابطاً في البورصة . فلم تكن الوحدة الوطنية أو تعريفات هلامية الأمة الأمريكية إلا نسقاً شعاراتياً في مجتمع يتَّجه نحو المزيد من الصدامات الداخلية والتفكك وعودةِ النزاعات العقائدية والعِرْقية بكل تشكيلاتها الروحية والمادية .
     ووفق فلسفة انعدام التواصل بين الأنا العسكرية والجسدِ الاجتماعي الميكانيكي تبرز آلياتٌ متماهية مع تشييد أطوار العزلة القاسية المفروضة على إفرازات البنى الجيوسياسية . فقوة المؤسسات الإمبراطورية في تكثيفها التاريخي نابعة بالأساس من القدرةِ على التمدد خارج الحدود الذاتية ، والتكريسِ الأدائي للعبور خارج النطاق الجغرافي الضيق ، وتأسيسِ سياسة عسكرية ضاغطة عابرة للقارات .
     ومع تفاقم الأزمات الخانقة التي تحيط بأمريكا من كل الجهات سيبدأ التمدد السياسي المعسكَر بالانكماش والتقوقع على الذات نتيجة انكماش المستويات الداخلية في شتى مجالات . ومن خلال أنظمة العزلة الداخلية والخارجية ستجد أمريكا نفسها في وضع لا تُحسَد عليه.
     وإن أمريكا كيان يتمتع بحصانة طبيعية ، فهي شبه جزيرة بين محيطين ، وهذه الحماية الطبيعية جعلت منه كياناً نائياً عن الحروب في داخل أرجائه سوى أحداث 11/9 والحرب الأهلية بين الشمال والجنوب . وبما أن الأنساق الإمبراطورية خاضعة لقانون تداول الحضارات، فلا مفر من تفشي المشكلات في الداخل الأمريكي. فقد رأينا أن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تصاعدت وتيرتها بشكل كارثي مع مطلع عام 2009م تؤسس لعالَم متعدد الأقطاب، وتدفع باتجاه نزاعات اجتماعية شرسة للغاية . مما يشير إلى أن العزلة الأمريكية ستتفجر باتجاهات سالبية .   
     ومن خلال توليد الزخم الهلامي للتغطية على غياب العقلانية المحيطة بالذاكرة التَّسييسية ، تتجذر مستويات انكسار الوعي الأمريكي كحالة ميكانيكية شَعْبَوِيَّة تهدف إلى رسم سياسات بناء الذات البشرية حسب قيم استهلاكية خاضعة للتشظي الإفرازي لطبقة العلاقات الترابطية بين السُّلطة والثروة .
     وكل هذه الانكسارات في مركزية العمود الفقري للمجتمع تؤول إلى إنتاجات ربحية على حساب المواطن العادي . وبعبارة أخرى إن تموضع الجهل في المجتمع الأمريكي المتصوَّر ليس تياراً اجتماعياً عابراً بالصدفة ، بل هو نتاج أدلجة نخبوية رامية إلى حصر الفرد ضمن دائرة المتلقِّي الذي يتم تلقينه بالمعلومات . وكل هذا التأطير الموجَّه ضد الوعي الاستقلالي يُدخِل الشعبَ المخيالي في زاوية رد الفعل لا الفعل .     
     ولا بد من انقلاب الفرد على ذاته إذا أراد الالتقاء بذاته . أما حالة الضياع الشاملة التي يحياها الفرد في ظل منظومة اجتماعية مكبوتة وفوضوية تأخذ شكل النظام، فسوف تزداد تعقيداً وسلبيةً . الأمر الذي ينتزع الفرد من مجاله الحيوي كفرد قادر على البناء ، ويجعل منه معول هدم في سياقات مجتمعية تقيم مجتمعَ الوهم على أنقاض المجتمع الحر والحي.

29‏/08‏/2012

تأثير السياسة العسكرية على المجتمع الأمريكي

تأثير السياسة العسكرية على المجتمع الأمريكي

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .


     في ضوء تفريغ الحراك الاجتماعي من قيم الوعي السياسي تصير النماذج البشرية تحت رحمة الآلة الإعلامية الشرسة التي تقلب الليل نهاراً والعكس . فمبدأ التدجين ما برح يفترض تفكيراً إجمالياً سطحياً يستند إلى لغويات الشعور المكسور ، ويعيد إنتاجَ المتلقي على أساس تفريغه تماماً من الخلفية المعرفية الثابتة ، وإحلال التلقين الممنهَج في أمكنة الشعور المتذبذب .
     ومع مرور الوقت يتحول الفرد إلى ببغاء تم تلقينه بعض الكلمات ليرددها دون وجود قدرات ذاتية على الولوج إلى عوالم التفاعل التخاطبي، أو وجود حصيلة استشرافية تتيح له فرصة الاطلاع على الآخر ، والحكم بنفسه إيجاباً أو سلباً .
     فالفرد الغربي هو نتاج الانكماش المحوري المنهجي ضمن المجتمع الخاضع للإعلام الموجَّه تماماً كما يحصل في دولة الحزب الواحد ، فالغرب هو فلسفة الحزب الواحد رغم وجود التعددية السياسية الوهمي .
     ولن يستطيع الغربيُّ فكَّ الحصار المفروض عليه من قبل أجهزة الإعلام المغرِضة إلا من خلال كسر رؤية عيون الآخرين ، واعتماد كل فرد على عينيه ليرى بهما ، لا أن يجلس ليرى بعيون الآخرين ، فيقول ما يُقال ، ويُردِّد ما يسمع دون التفكير العميق في الحالة المعرفية السائدة ، والاعتماد على التوازن في الطرح ، ومن ثم إصدار حكم منصف يعكس خبرة فعلية ذات تماس مباشر بالحدث .
     أما أن تظل وسائل الإعلام الخاضعة لرأس المال المشبوه تتلاعب بعقول المشاهِدين، وتغسل أدمغتهم وفق أيديولوجيتها ، فهذا لن ينتج إلا فرداً فاقد الأهلية الثقافية .                               
     وتتركز التعابير المخيالية في العزلة المفروضة على تكوينات التفسخ السياسي الحاد، فالأداء السلوكي لإمبراطوريات الهيمنة هو الذاكرة الجزئية لافتراضات المعنى الدينامي المنهار بفعل تسييس دماء الضحايا لصالح طبقات متنفذة تنحو منحىً متآكلاً ومفضوحاً من الناحية الأخلاقية. لكن الإشكالية هي أن غطرسة القوة تتخذ من تكوينات محددة معنىً خاصاً لعلم أخلاق جديد يولد من فوهات المدافع لا القيم الإنسانية الفاضلة .
     لكن إحلال المعنى العسكري في قلب الأنسنة الجزئية والكلية من شأنه إحالة انهيار الحضارات إلى شظايا المراهقة السياسية في إطار نظرية شمولية تقضم النظامَ الاجتماعي الأمريكي دون إعطائه فرصة للعودة من أجل بناء الذاكرة العالمية على أساس دبلوماسية العسكرة . وهذا سوف يدخل الأطرَ الحضارية في جدلية الفعل ورد الفعل ( مبدأ الارتداد ) .
     هذا المبدأ مبني وفق الذات الكيانية والذات المقابِلة باعتبارها ذات تماس مباشر بالذات الكيانية بسبب وجود الفعل ورد الفعل ضمن نطاق ضيق مغلق محصور ، فالقاتل والضحية سيشعران بالمعاناة من جانبين مختلفين ، وهذا بالطبع لا يعفي القاتلَ من المسؤولية ، ولكننا نوضح هذه الرؤيةَ من خلال المثل العربي " كاد المريب أن يقول خذوني " ، أي إن حجم الضغط والشك وانعدام الثقة في ذاتية الإنسان ستكون وبالاً عليه تقوده إلى حتفه ، وكذلك المجرم . فدم الضحية سيظل لعنةً تطارده وهاجساً يملأ حياته بغض النظر عن ضميره . ومن يُقدِم على اغتصاب امرأة، سيظل شاعراً بالمعاناة الباطنية المنعكسة على ظاهره مهما كان سفاحاً أو متخندقاً في مظهر اللامبالاة وانعدام الشعور. فالضحية هي كابوس القاتل مهما كان محترفاً، ويبدو أنه ميت القلب. 
     إن مبدأ الارتداد واضح التراكيب في إشكالية التداخل التعبيري المتوازي مع حالة انكسار الحلم . فمثلاً، كل الحروب الشرسة التي خاضتها إمبراطوريات الهيمنة انعكست سلباً على الأطر الداخلية ، وانقلب السحر على الساحر ، لأن العالَم مكانٌ مغلق لأزمنة تموت .
     أي إن ما يحدث للضحية من معاناة بسبب المجرم ، سينعكس على المجرم لا محالة في التو واللحظة، وعلى المدى البعيد ، ليس لأن ضمير المجرم قد استيقظ، بل لأن العالَم مغلق ومحصور تماماً كملعب الإسكواش، فأي كرة تضربها باتجاه الجدار سوف ترتد إليك ، أو على الأقل ترتد في نفس الجهة التي تتواجد فيها .
     فكل الحرائقِ في العالَم يبدو أن دخانها قد صعد إلى الفضاء وتبدَّد، لكن المفاجأة غير السارة هي أن الدخان يعود مرة أخرى إلى الأرض ليؤثر على الحياة سلباً، لأن كوكب الأرض محاط بغلاف مثل الشرنقة لا يسمح بالنفاذ ، وهذا ما يجعل كوكب الأرض زنزانة كبيرة ، تظهر على أنها أفق رحب مفتوح ، لكنه عكس ذلك تماماً . لذلك فكل السموم التي تنفثها مصانع الدول الكبرى تعود إلى الأرض على شكل أزماتٍ بيئية شديدة تهدِّد مصيرَ هذا الكوكب الضائع .    
     وعلى الرغم من كل ما يحصل في النظام البشري الاجتماعي والتضاد الحاد في إشكالية القاتل والضحية المنتشرة على الأرض إلا أن العالَم أجمع في سفينة واحدة ، والكارثة الحقيقية المحدقة بالجميع هي أن هناك فئاتٍ تحترف الإفساد، وتعمل جاهدةً على إحداث ثقوب في السفينة مما يعرض حياة الجميع للخطر بلا استثناء .
     وهذا المثال الواقعي يُوضِّح المصيرَ المشترك العمومي للحياة على هذا الكوكب. وقد وجدنا أن ظاهرة الاحتباس الحراري مثلاً أو ارتفاع حرارة الأرض أو مشاكل الأوزون ، كلها تهدِّد الحياةَ البشرية بغض النظر عن التوجهات البشرية الدينية والسياسية .
     ومن جهة أخرى فإن الأسلحة النووية التي تفتخر بها الدول كرمز للقوة والسيادة والمكانة الدولية هي نقطة قوة وضعف في آن معاً ، وقد تُشكِّل تهديداً حقيقياً على الدول النووية ذاتها ، لأن المفاعل النووي إذا ضُرِب أو حدث له خلل فإن الدولة التي تسيطر عليه ستفقد السيطرة عليه ، ويصبح لعنةً تقضي على مصير أبنائها ومستقبل وجودها البيئي وكيانها السياسي الاجتماعي. وأظن أن العالَم لم ينس ما حصل في تشيرنوبل إبان حكم الاتحاد السوفييتي .
     ومن جهة أخرى نجد أن أمريكا تنفق مبالغ هستيرية على أبحاث الفضاء وغزو العالَم الخارجي والوصول إلى القمر ومن ثم المريخ ، في حين أنها لا تفكر في حل مشاكل الإيدز والجوع والفقر والبطالة والموت الإنساني البطيء . فلو تم إنفاق هذه الأموال على إصلاح كوكب الأرض وتنميته وإنقاذ البشر لصار كوكبُ الأرض جنةً خالية من المشكلات .
     فالتداعيات الأيديولوجية ذات الأطر السياسية والاقتصادية تنسحب بشكل كارثي على الصيغ الفلسفية للفرد الأمريكي الذي يترنح تحت وطأة مجتمع رأسمالي قدَّم بعضَ المنافع المادية لفترة زمنية معيَّنة ، ثم حصلت الانتكاسة الشرسة التي من شأنها تعرية المنظور الاجتماعي تماماً ، وإدخال المجتمع في حالة من عدم التوازن أو الاضطراب الاجتماعي الحاد بسبب طبيعة الأدلجة في المستويات الاجتماعية الملتصقة بالأداء السياسي المرتبك.
     ومع تنامي حدة الرمزية المعنوية في تشكيلات الكيانات الإنسانية تُحال وجودية العقلانية الذاتية إلى إطاراتٍ من هوس الاستهلاك التجريدي ، فتغدو الحضارة المتصوَّرة شكلاً من أشكال الترف الزائد عن حاجة الأنسنة المستهلَكة .
     وفي ظل هذا الزحام التكويني لثقافة الفراغ وإحلال الذاكرة الشخصانية الآنية في محل الكل الجمعي سوف يتخلص الفردُ الأمريكي من ثقل الهاجس الحضاري الواهم في سبيل الحفاظ على قدرته الاستهلاكية ، وهذا الذي يجعل القيمة الأسطورية للحضارة المادية _ بوصفها عبئاً ثقيلاً على كاهل القدرة الاستهلاكية للشعب المخيالي _ مجرد مرحلة استهلاكية عابرة انتهجها الفردُ لتحقيق مكاسب مادية نفعية شخصية ، وحينما عجزتْ عن فعل ذلك تخلَّص منها لكي ينجوَ بنفسه محافظاً على التنميط الشخصاني في الإطار النفعي الذاتي . أي إن الفرد المادي الذي يرى انهيار مجتمعه أمام عينيه ، سوف يخلعه ليخف عنه الحِمْل أثناء غرقه ظناً منه أن ذلك طريقه إلى النجاة . فالغريق لن يفكر في إنقاذ باقي الغرقى ، وإنما سيركِّز كل جهوده لإنقاذ نفسه ، وليكن من بعده الطوفان . وهذا يعكس زيف البناء الأسطوري للإمبراطوريات المتعاقبة عبر تكثيف الإرهاصات التاريخية . إذ إن صورة الوهم المتطابق تأخذ أشكالاً مختلفة بحسب الضغط الاجتماعي والتدخلات السياسية من أصحاب النفوذ ، وهكذا نجد أن تحولات الوهم إلى علم اجتماع سياسي ذي تطبيقات تمس حياة الأفراد والجماعات سوف تَقتل بقايا المستقبل . وفي كل المآزق الحضارية الوجودية تبزغ فلسفة ثابتة في متطابِقات اضطراب العلاقة بين الأنا والآخر الداخلي فضلاً عن الآخر الخارجي.فالمجتمع المادي الإشكالي هو هلامية التعبير المجتمعي لا حقيقة البناء الجذري الفعال . ومن هنا فإن التكوينات السياسية تفرز بيئةً أنانية تتمحور حول مركزية الفرد باعتباره المحور والركيزة في العمل الاجتماعي وهذا يتشابه مع الفلسفة الوجودية التي تجعل العناصرَ تدور حول الإنسان"المرْكَز"،حيث يصبح كلُّ ما حول الفرد المركزي المغرور أطرافاً.
http://www.facebook.com/abuawwad1982 

27‏/08‏/2012

الصلاة

الصلاة 

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .


_ الطهارة :
_ التطهر :
     لقد حرص الإسلام على تجذير مبدأ الطهارة في المجتمع على المستوى الفردي والجماعي ، والمستوى المحسوس وغير المحسوس. فالمسلم هو عبدٌ لله تعالى ، فينبغي أن يكون طاهراً حتى يصح التوجه إلى خالقه تعالى. كما أن الطهارة هي أساس العبادات ، سواءٌ بمعناها الفعلي المادي أو المعنوي ( ماوراء المادة الملموسة ) .
     قال الله تعالى : (( ويُنَزل عليكم من السماء ماءً ليُطَهركم به ))[ الأنفال : 11].
     وفي تفسير القرطبي ( 7/ 326 ) : (( وحكى الزجاج : أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه، وبقي المؤمنون لا ماء لهم ، فوجست نفوسهم ، وعطشوا ، وأجنبوا ، وصَلوا كذلك. فقال بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم : نزعم أنا أولياء الله وفينا رسوله وحالنا هذه والمشركون على الماء ، فأنزل الله المطر ليلة بدر ، السابعة عشرة من رمضان ، حتى سالت الأودية فشربوا وتطهروا )) اهـ .
     ومع أن الظروف المحيطة بالصحابة _ رضي الله عنهم _ ظروف حرب ( غزوة بدر ) ، إلا أن الله تعالى أراد أن يجعل عبادَه طاهرين لكي يواجهوا الأعداءَ وهم في أعلى درجات النقاء المعنوية والحسية . فهذا الماءُ الذي أنزله الله تعالى كان طاهراً مطهِّراً ، وبثّ السكينةَ في قلوب المؤمنين ، ونقلهم إلى مرتبة الطهارة الكاملة . وهذا يدل على أهمية النقاء والصفاء في كيان المسلم وبيئته .
     وطهارةُ المسلم ليست شكليةً ظاهرية فحسب ، بل إنها تنفذ إلى صميم كيان المسلم الذي داخله كخارجه لا تعارض بينهما. فالطهارةُ هي الحاضنة الشرعية لروح المسلم وجسده ، تنقله إلى عوالم القرب من خالقه تعالى . وليست الطهارةُ _ بأية حال من الأحوال _ إجراءً تجميلياً تنظيفياً مجرّداً من أبعاده الروحية ودلالاته الاجتماعية . إذ إن مفهومها أوسع من ذلك ، وأكثر شموليةً وعمقاً. إنها تطهّرٌ من شوائب الدنيا ، وانقطاعٌ تام عن النجاسات الحسية والمعنوية ، وعمليةُ تطهير للإنسان من القيم السلبية على الصعيد المعنوي والمادي. فلا يمكن للنور أن يستقر في مكان نجس ، لذلك كانت الطهارةُ هي الاستعداد الضروري لاستقبال الهداية، والتّهيئة الحتمية لاحتضان النور .   
     قال الله تعالى : (( وإن كنتم جُنُباً فاطهروا )) [ المائدة : 6] .
[قال الشوكاني في فتح القدير ( 2/ 25 ) : ((  وقد ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود إلى أن الجنب لا يتيمم البتة ، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء استدلالاً بهذه الآية . وذهب الجمهور إلى وجوب التيمم للجنابة مع عدم الماء ، وهذه الآية هي للواجد ، على أن التطهر هو أعم من الحاصل بالماء أو بما هو عوض عنه مع عدمه وهو التراب . وقد صح عن عمر وابن مسعود الرجوع إلى ما قاله الجمهور للأحاديث الصحيحة الواردة في تيمم الجنب مع عدم الماء )) اهـ . وقال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 4/ 5) : (( وأصل الجنابة في اللغة : البُعد . وتُطلَق على الذي وجب عليه غُسْلٌ بجِماع ، أو خروج مني ، لأنه يجتنب الصلاةَ والقراءة والمسجد ، ويتباعد عنها ، والله أعلم )) .].
     أي اغْتَسِلوا بالماء في حال حدوث جنابة ( الحدث الأكبر ) . وذلك لكي يظل المسلمون طاهرين في كل أحوالهم . فديمومةُ الطهارة بالغة الأهمية من أجل استقبال الفيوضات الرحمانية ، والبقاء على أُهبة الاستعداد لتلقي النفحات الربانية . فغيابُ الطهارة قطيعةٌ مع الهداية الإلهية .
     وفي صحيح البخاري ( 1/ 99 ) : عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ، ثم يُدخل أصابعه في الماء فيُخلل بها أصول شَعره ، ثم يصب على رأسه ثلاث غُرف بيديه ، ثم يُفيض الماءَ على جِلده كله .
     والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقوم بأعماله عبثاً، ولا تخضع حركاته وسكناته للصدفة . فالحرصُ على الاغتسال من الجنابة مؤشر على أهمية الطهارة ، كما أن هذا الترتيب الدقيق المشتمل على البدء باليدين ثم وضوء الصلاة والحرص على إيصال الماء لأصول الشعر ثم صب الماء على الرأس بدون إفراط في استهلاك الماء ، ثم تعميم الماء على الجلد كله ، ليس ترتيباً عبثياً ، بل هو نظام دقيق يتضمن عدم الإسراف في الماء ، واستحضار وضوء الصلاة الذي يدل على الارتباط اللصيق بين الطهارة والصلاة ، وإيصال الماء إلى كل نقاط الجسم دون استثناء . كما أن التيامن    ( البدء بجهة اليمين ) سُنة نبوية ثابتة. فهذه المنظومة المتكاملة تشير إلى أهمية الطهارة في حياة المسلم وانعكاساتها على حياته وطبيعة تفكيره وسلوكياته .
     فليست الطهارةُ كميةً من الماء تُسكَب على الجسم وينتهي الأمر ، أو مجموعة من المواد الكيميائية لإزالة الأوساخ . إن ماهيتها أكبر من ذلك ، فهي تحتوي على منهجية شاملة لتجهيز العبد وتهيئته نفسياً وجسمياً لاستحضار عَظَمة الخالق تعالى والوقوف بين يديه ونشر تعاليمه . 
     وقال الله تعالى : (( وثيابكَ فَطَهرْ )) [ المدثر : 4] .
     فهذا الأمرُ الإلهي يشير إلى أهمية الطهارة ، سواءٌ كان المقصود بالآية الطهارة المادية ، وهي تطهير الثياب من النجاسات التي قد تلحق بها. أو الطهارة المعنوية ، كتطهير القلب أو الجسم ... .
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 5/ 454 ) : (( المراد بها الثياب الملبوسة على ما هو المعنى اللغوي . أمره اللهُ _ سبحانه _ بتطهير ثيابه وحفظها عن النجاسات ، وإزالة ما وقع فيها منها . وقيل : المراد بالثياب العمل ، وقيل : القلب ، وقيل : النفس ، وقيل : الجسم ، وقيل : الأهل ، وقيل : الدين ، وقيل : الأخلاق . قال مجاهد وابن زيد وأبو رزين : أي عملك فأصلح . وقال قتادة : نفسك فطهِّر من الذنب ، والثياب عبارة عن النفس . وقال سعيد بن جبير : قلبك فطهِّر . ومن هذا قول امرئ القيس : ( فسلي ثيابي من ثيابك تنسل ) . وقال عكرمة : المعنى ألبسها على غير غدر وغير فجرة ، وقال : أما سمعت قول الشاعر :
                 وإني بحمد الله لا ثوب فاجر           لبستُ ولا من غدرة أتقنع )) اهـ .
     وعن جابر بن عبد الله الأنصاري _ رضي الله عنهما _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُحدث عن فترة الوحي ، قال في حديثه : (( بَيْنا أنا أمشي سمعتُ صوتاً من السماء فرفعتُ بصري فإذا الْمَلَك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، ففرقتُ منه، فرجعتُ ، فقلتُ : زَملوني زملوني )) ، فدثروه ، فأنزل الله تعالى : [ يا أيها المدثر . قُمْ فأنذِرْ . وربكَ فكبرْ . وثيابكَ فطهرْ . والرجْزَ فاهْجُرْ ] [ المدثر 1_5].
[متفق عليه.واللفظ للبخاري( 4/ 1895 )برقم( 4671 ).ومسلم ( 1/ 143) برقم ( 161).].
     لقد أمر اللهُ تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بالطهارة الحسية والمعنوية . وهذا الأمرُ شامل لكل الأمة . وهنا تتجلى رحمة الله تعالى بعباده الذين أرادهم أنقياء أصفياء بلا شوائب ، يدخلون إلى حضرته العَلِيّة وفق أحسن صورة ، قلباً وقالباً .
     فالدربُ إلى الله تعالى لا مكان فيه للنجاسات والشوائب ، فهو دربٌ نوراني ممتلئ بالتطهر والخير والسعادة . ومن اختار أن يمشيَ فيه ، عليه أن يكون طاهرَ السريرة ، وطاهرَ البدن . يهاجر إلى خالقه تعالى مستعداً ، وعلى أفضل هيئة .
     قال الله تعالى : (( لا يَمَسهُ إلا المطَهرون )) [ الواقعة : 79] .
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 5/ 227 ) : (( قال الواحدي : أكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الكتاب المكنون: أي لا يمس الكتاب المكنون إلا المطهرون، وهم الملائكة. وقيل : هم الملائكة والرسل من بني آدم )) اهـ .
     وعن عبد الرحمن بن يزيد قال : كنا مع سلمان _ رضي الله عنه _ فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا ، ثم خرج إلينا ، وليس بيننا وبينه ماء . قال : فقلنا له : يا أبا عبد الله لو توضأتَ فسألناكَ عن أشياء من القرآن ، قال : فقال : سلوا ، فإني لستُ أَمسه ، فقال: إنما يمسه المطهرون . ثم تلا :    (( إنه لقرآنٌ كريم )) [ الواقعة : 77] . )) لا يَمَسهُ إلا المطَهرون ))[ الواقعة : 79].
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 519 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .].
     ومن خلال النصوص الشرعية تتضح أهمية الطهارة والتطهر على جميع الأصعدة . لما في ذلك من تهيئة الفرد للاضطلاع بمسؤولياته الجسيمة، باعتباره حامل أمانة الدِّين ، وخليفة الله في الأرض. فالمنهج الشرعي واضحٌ في مساره ، حيث يحاط الإنسان بسياج الطهارة والتطهر ، لكي يظل دائماً على اتصال مع خالقه تعالى ، وهو في أبهى حُلّة مشتملة على نقاء العبودية ، وصدقِ التوجه إلى الله تعالى .
     قال الله تعالى: (( وإذ قالت الملائكةُ يا مريمُ إن الله اصطفاكِ وطهركِ )) [ آل عمران : 42] .
     أي إن الله اختاركِ وطهركِ من الكفر والضلال والدنس ، وجعلكِ نقيةً عابدة تقية ذات قلب صافٍ لا مكان للشوائب فيه ، وذات جسد طاهر شريف لا مكان للحرام فيه . فالسيدة مريم    _ عليها السلام _ جُعلت ذات قلب طاهر وجسدٍ نقي لكي تضطلع بدورها المحوري في الدعوة الإسلامية . فالهدايةُ الربانية والنجاسة ضدان لا يجتمعان . ولو وُجدت أدنى شُبهة حول السيدة مريم لكان ذلك ضربةً قاضية للدعوة ، وباباً واسعاً لدخول المشكِّكين الطاعنين في الدِّين ، وعندئذ ستؤول دعوة النبي عيسى صلى الله عليه وسلم إلى الفشل بسبب غياب الحاضنة الطاهرة . وهذا مُحال . فاللهُ تعالى اختار المنبعَ الصافي ( السيدة مريم ) لاحتضان هذا النبي العظيم ، والمساهمة في الدعوة الإسلامية من خلال موقف قوي متماسك، ومنظورٍ إيماني لا تتسلل إليه الشبهات أو النجاسات المعنوية والحسية . فالدعوةُ تخرج من حاضنة طاهرة شريفة لكي تكون ذات تأثير وإقناع في الرأي العام ، ولا يمكن أن تنبع من مكان مشبوه .
     وقال الشوكاني في فتح القدير ( 1/ 510 ) : (( قيل : هذا الاصطفاء الآخر غير الاصطفاء الأول . فالأول هو حيث تقبلها بقبول حسن، والآخر لولادة عيسى ... وقيل : الاصطفاء الآخر تأكيد للاصطفاء الأول ، والمراد بهما جميعاً واحد )) اهـ .
     وهكذا تتجذر الطهارة كرتبة سامية ومنزلة عظيمة لا يحصل عليها إلا من اختاره اللهُ تعالى لحمل مسؤولية الدين وتبليغه ، وإيصال الدعوة الإسلامية إلى الآخرين . فالسيدةُ مريم _ عليها السلام _ ليست امرأةً عادية حَبِلت وَوَلَدَت . فاللهُ تعالى اختارها لإجراء معجزة خالدة ، حيث صارت حُبلى بدون زواج ، وهذا الطفلُ الذي كان في أحشاؤها هو واحد من أعظم أنبياء الله تعالى ، وهو عيسى صلى الله عليه وسلم الذي خلقه الله تعالى بدون أب ليرى الناسُ قدرةَ الخالق غير المحدودة .
_ الوضوء :
     قال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلَكم إلى الكعبَيْن )) [ المائدة : 6] .
     وهذه آيةُ الوضوء التي حدّدت كيفية الاستعداد قبل الدخول في الصلاة ، حيث غسل الوجه واليدين إلى المرافق ، ومسح الرأس، وغسل الرِّجْلين إلى الكعبَيْن. والترتيبُ أحد فرائض الوضوء ، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خالف هذا الترتيب . والعباداتُ توقيفية تستند إلى الاتباع .
     وفي صحيح البخاري ( 4/ 1684 ) : عن عائشة _ رضي الله عنها _ : سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة ، فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم ونزل ، فثنى رأسه في حِجري راقداً . أقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة . وقال: حبستِ الناس في قلادة، فبي الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوجعني، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ، وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد ، فنزلت : (( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة )) . الآية . فقال أُسيد بن حضير : لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ، ما أنتم إلا بركة لهم .
[ ( فثنى رأسه ) وضعه . ( راقداً ) أي يريد الرقود والنوم . ( لكزني ) دفعني في صدري بكفه .  ( فبي الموت . . ) أي كاد ينزل بي الموت من شدة الوجع ، ولم أتحرك حتى لا أزعج رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( فيكم ) بسببكم .] .
     فاللهُ تعالى يُخفِّف عن الناس ولا يضطرهم إلى أضيق المسالك . فقد أنزل هذه الآيةَ ليرشد المؤمنين إلى كيفية التصرف في حال القيام إلى الصلاة . كما بيّن لهم الإجراءات الواجب اتباعها . فلم يتركهم لأهوائهم أو أمزجتهم الشخصية . وقد جاءت الشريعةُ لرفع الحرج ، فلا مكان للضيق والمنغِّصات فيها .
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 2/ 25 ) : (( قد اختلف أهل العلم في هذا الأمر عند إرادة القيام إلى الصلاة ، فقالت طائفة : هو عام في كل قيام إليها سواء كان القائم متطهراً أو محدثاً ، فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ ... وقال جماعة : هذ الأمر خاص بمن كان مُحدِثاً. وقال آخرون : المراد إذا قمتم من النوم إلى الصلاة ، فيعم الخطاب كل قائم من نوم )) اهـ .
     وفي صحيح البخاري ( 1/ 87 ): عن عمرو بن عامر عن أنس قال : (( كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة )). قلتُ : كيف كنتم تصنعون ؟، قال : (( يجزىء أحدنا الوضوء ما لم يُحدِث )). 
     فلا يمكن إنكار أهمية الوضوء في الطهارة والتطهر قبل الدخول إلى حضرة الله تعالى، والاتصال معه عبر الصلاة . فالوضوءُ سلاح المؤمن ، ويمنح كل أعضائه نوراً وبهجة ، فليس هو مجرد إسالة الماء على بعض الأعضاء ، بل هو نظام حياة متكامل يضع المؤمنَ في أقصى مدى النور . والنبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على الوضوء عند كل صلاة . وهذه هي حالة الكمال الإيماني ، مع أن هذا الأمر ليس بواجب. فيجوز للمسلم أن يُصلِّيَ كل الصلوات بوضوء واحد ، فالعِبرةُ في انتقاض الوضوء أم لا.
     وفضل الوضوء عام في الحياة الدنيا ، حيث يجعل المؤمنَ واثقاً بنفسه ، في أعلى درجات النظافة والتطهر ، مقبلاً على الله تعالى وهو في شكل نوراني حسن . ويتعدى فضلُ الوضوء إلى الحياة الآخرة . حيث إن الوضوء يساهم في رفع درجة المؤمن يوم القيامة ، ومجيئه طاهراً شريفاً مكتمل الهيئة . فعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن أمتي يُدْعَوْن يوم القيامة غُراً مُحَجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يُطيل غرته فليفعل )).
[متفق عليه . البخاري ( 1/ 63 ) برقم ( 136 ) ، ومسلم ( 1/ 216 ) برقم ( 246 ) .].
     أي إن الأمة المحمدية الإسلامية تأتي يوم القيامة يعلوها البياضُ الوهاج، والصفاءُ الباهر ، نتيجة الوضوء في الحياة الدنيا الذي منحهم النظافة والتألق والبياض المنتشر من غير عِلة . فيتحولون إلى كائنات بشرية نورانية، لأنهم _ في الدنيا _ التزموا أوامرَ الله تعالى في الطهارة والتطهر والاستعداد للصلاة ، فيأتون في الآخرة ، وعليهم الوقارُ الناصع ، حيث وجوههم مشرقة ، وأجسادهم طاهرة نقية . وهكذا ، فإن الوضوء ليست عمليةً ميكانيكية أو تعاملاً عبثياً مع الماء . إنه حالة إيمانية شاملة يتعدى أثرُها إلى الحياة الآخرة .

25‏/08‏/2012

ملامح الأطر السياسية الأمريكية

ملامح الأطر السياسية الأمريكية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد


   إن البحث الدؤوب عن صيغة تحفيزية للتسريع في تكوين أنساق سياسية معرفية شاملة لا بد أن ينتهيَ إلى استئصال قيمة الخديعة في السياقات المجتمعية ، لأن الهوية الحضارية للمعنى الإنساني هي الامتداد المنطقي في جغرافيا الزمان والمكان ، وهذا الامتداد التكريسي لا يمكن أن ينسجم مع منظومة الخديعة .
     لكن الأمر ليس سهلاً ، وفي ذات الوقت ليس صعباً ، لأن تفكك الإفرازات السياسية في تكوينات الأنساق الوجودية للسوسيولوجيا المجتمعية المضمحلة نابع من انهيار الأنوية الداخلية المكوِّنة لفقاعة الصابون التي تتقمص البعدَ الحضاري .
     وبالقطع فإن تساقط المتواليات الهندسية لملامح الفكر المعرفي المسيَّس بشكل سالبي سيدفع باتجاه تكوين أنساق وجودية ذات صبغة متمردة على الطبيعة الفلسفية للضباب الأيديولوجي ، وذات قادرة على محو السالب وتفعيل الموجب .  
     فحينما يصل العطب إلى أجزاء مُولِّد الكهرباء لا بد أن تنطفئ الأضواء في ناطحة السحاب . وهذا هو الحاصل في متواليات البناء الدينامي المجتمعي العالمي باعتباره شكلاً للخرافة المؤطَّرة .
     فالعطب الحضاري قد وصل إلى النواة المركزية ( منبع النهر ) في ثقافة الانكماش الحضاري ، وبالتالي فإن التداعي في انهيارات المعنى الوجودي لا بد أن يتدفق على شكل بؤر ثقيلة الظل ، تتصاعد عمودياً لتضرب العمودَ الفقري للإمبراطوريات المتحدة ظاهرياً والمفكَّكة باطنياً ، مما يدفع باتجاه التسريع في ولادة عالَم متعدد الأقطاب .
     وفي إطار التجريد الفلسفي للمعنى العمومي نجد أن السياسات الغربية ممثلة في القداسة الوهمية للرجل الأبيض قد أَوقعت نفسها في الفخ الاقتصادي ، وأَدخلت الحلم  الإمبراطوري في مصيدة اللامعنى . وهذا سينعكس سلباً على القوة العسكرية ( القوة الدافعة لقيمة الردع والتخويف ) . 
     وإرهاصاتُ المأزق الشرس في تداخلات الحالة السياسية داخل السياق التكويني هي متواليات التسارع الإشكالي في طبيعة بناء الأنوية المجتمعية في الإطار المعرفي ، وتكويناتِ أنسجة الخلايا الفكرية العمومية المتشظية إلى القيم السُّلطوية وما يتفرع عنها .
     وفي خضم التداعيات الأيديولوجية تبدأ مراحل اكتشاف أطوار التقنية السياسية المحصورة في صميم الرمزية السُّلطوية المتعاقبة . فالوجود الميكانيكي في الأداء الجيوسياسي الرامي إلى فرض وقائع جديدة على الأرض يفترض حتمياتٍ جديدة في التحليل العسكري المتواطئ مع عسكرة الفكرة تمهيداً لإلغاء العقلانية من قاموس المعرفة المنطقية .
     فالتأسيس الكلاسيكي لعسكرة السياسية باعتبارها عاملاً فعالاً في الفوضى الخلاقة يكمن في أنساق المحيط الحاضن لوهم غطرسة القوة ، وفرض الحقائق على الأرض ، وإعادة رسم الخارطة الأرضية بما يضمن تكريس منطق الأمر الواقع .
     لكن التكريس المنهجي لعسكرة القيمة الحضارة يؤدي إلى مقامرة بالمستقبل العالمي للفكر المجتمعي المتشظي. كما أن كلية التوظيف الاجتماعي للأسس التعبيرية عن مكياج الديمقراطية الشعاراتية تظل شكلاً أخرس لتفكك الوعي العناصري بين المترابِطات الثقافية الجدلية .
     فالإمبراطوريات العائشة في فقاعة الصابون لا تملك أساساً أرضياً تقف عليه ، وتنفذ _ اعتماداً عليه _ مشاريعَ الهيمنة . وفي ذات الوقت لا تملك خلفيةً فلسفية أو مرجعيةً دينامية ثقافية حضارية لكي تبرِّر من خلالها مأزق البنى السياسة ، أو تحصل بواسطته على شرعية النظام السياسي العالمي الميت في كوكب يُحتضَر .
     لكن التقنية الأدائية لتحليل قيمة الاجتماعيات في اتجاهات إنتاج فوضى النظم المجتمعية المسيَّسة تظل نمطاً يفتقد إلى معنى الدينامية الحقيقي في أداءاتِ بؤرية التسييس الإمبراطوري .
     فالدول التي تبني سيادةً واهمة في فقاعة الصابون لا تلبث أن تجد نفسها أمام معضلة الشرعية التطبيقية على الأرض ، فالبنى الاجتماعية للتسييس سرعان ما تبدأ في تفكيك متوازِيات الشعور الإنساني الذائب في إشكاليات القدرة النسقية على تحويل الفرد الإنساني إلى نواة في إمبراطورية إنسانية. لكن قيمة التوحش في دلالات البناء الإمبراطوري عبر أطوار التاريخ هي ذاتها التي تساهم في أدلجة الفرد في أُطر معادية لمسار وجوده الحر .
     ووفق تكوينات البؤر المركزية لحاجة أنظمة الهيمنة الإمبراطورية إلى حاضنة عالمية ذات أبعاد تكريسية ، نجد أن الفوضى العسكرية المختبئة وراء قناع الدبلوماسية تحاول إثبات فاعليتها اعتماداً على التأسيس الفكري لحالة التوليد الذاتي المتعلقة بموت الروح . فالحضارات الإمبراطورية تتذبذب بين الهزائم العسكرية والانتكاسات الروحية . مما يؤدي إلى اضمحلالها . خصوصاً مع تصاعد الأطر المتداعية الخاصة بالتسارع المرحلي في توظيف الدلالات المحورية في بؤر النزاع الذي قد يؤدي إلى حروب أهلية جديدة في داخل الهوية الحضارية . فالخللُ الصارم في بنائية الإنسان التائه في المنظومة الكلية الضبابية هو النتاج الأيديولوجي لتفسخ الرابطة المنطقية ذات أبعاد الدلالة الإنسانية ، مما يجعل المساراتِ البشرية تنتهي إلى الوأد المنهجي للروح البشرية .
     وكما أن انعكاس البؤر التكوينية في انضباط طفولة ثقافة المجزرة ، وشريعةِ الإبادة هو التماهي البرهاني لحالة المراهقة السياسية المبنية على جثث الضحايا . فالإشكالية التبعيضية في الممارَسة الحضارية المتطرفة _ كالنازية والفاشية _ تكمن في افتقاد الحضارة _ ككتلة جغرافية وتاريخية _ إلى الإحساس بالأنا المنطقية . ففي واقع الأمر هناك حضارات صابونية ليست بأكثر من وعاء تجميعي غير متجانس تتخذ من عسكرة المعنى هويةً لا محيد عنها .
     إن رمزية الجمعنة السياسية سرعان ما تنطفئ في تشابكات التأطير المتداخل في عسكرة القيم الإنسانية، لذا فإن الخطورة في مشاريع التطبيق الجزئي للعسكرة على أرضية التنافر الميكانيكي للمادة المعنوية هي محاولة تشكيل تقاطعات الهيمنة النسقية وفق قوالب جاهزة مسبقاً مضادة لهوية الخصوصية الإنسانية .
     فمع تزايد انكسار الوعي السيادي المتداخل في جَمْعنة القوالب المعرفية الطائشة تتزايد _ تلقائياً _ فرص التأسيس العالمي لكوكب التعدد القطبي . فالخيار الوحيد أمام العالَم لكي يكون حراً بشكل حقيقي لا شعاراتي هو أن يبنيَ مستقبله في عالم متعدد الأقطاب .
     لكن التوصيف الدقيق للتوظيف الفعال في تكوينات تجذير نظرية الفوضى الخلاقة التي قادت أمريكا إلى المأزق الحرج ، حيث الحصار بالأزمات الداخلية والخارجية ، هو التوصيف المنطقي للأنسنة الشعورية ذات المستويات المفتوحة على العدم . وفي ظل انعدام وجود أبجدية المعنى الدينامي تغدو سياسات اللامنطق منطقاً قائماً بحد ذاته .
     إن التحولات العميقة التي ضربت العمودَ الفقري للحضارة الأمريكية ، تكمن أهميتها في وصول إرهاصاتها إلى الجذور لا الفروع . أي الاصطدام الشامل في العمق لا الضرب على السطح الظاهري، ومن هنا تنبع خطورة الموقف الأمريكي الحرج المحاصَر بالأزمات الداخلية والخارجية ، حيث البنية التحتية تتآكل ، والبنية الفوقية تتشرب التصدعاتِ بصورة كارثية .
     وهذه التحولات العميقة الجذرية تشير إلى المشكلات الإمبراطورية بوصفها نواة متمركِزات مخلخَلة . لكن الانتقال من المستوى العسكري إلى المستوى السياسي دون بناء أنوية المصدرية المعنوية سيقود_ إن عاجلاً أو آجلاً_ إلى تضارب البناء الحضاري العمومي .
     لكن المدلول الرمزي المكسور في إطارات البنى الدينامية التبادلية ينتقل بشكل ترابطي استحواذي على الداخل الأمريكي ، فكل مشكلات أمريكا في الخارج تملك أداءً ارتدادياً إلى الداخل ، حيث الانتكاسات الواحدة تلو الأخرى . فمثلاً ، منظر الجنود العائدين في النعوشِ الملفوفة بالعلم الأمريكي من شأنه صناعة أزمة اجتماعية حادة للغاية ، خصوصاً مع تفكك الأسر التي يعيلها الجنود ، وهم من أُسر متدنية المستوى من الناحية المالية .

23‏/08‏/2012

عداوة الكافرين

عداوة الكافرين

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .


     قال الله تعالى : (( ما يَود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن يُنَزل عليكم من خير من ربكم )) [ البقرة : 105] .
     إن الله تعالى يوضِّح شدة عداوة اليهود والنصارى والمشركين للمؤمنين . حيث إنهم لا يحبون أن يحصل المؤمنون على الخير من عند الله تعالى . وهذا يعكس الحقد المتجذر في صدورهم ، وابتعادهم عن مفهوم الأخوة الإنسانية الخاضعة للخالق تعالى . فالمؤمنُ يحبُّ الخيرَ للجميع لأنه يدرك أن له رسالة في هذه الحياة محدودة بمدة زمنية . فعليه أن يستغل هذا الوقت في الدعوة وإرشاد الناس إلى خالقهم وإعادة القطار الاجتماعي المنحرف إلى السكة . والإسلامُ ليس سُلطةً كهنوتية مغلّفة بالأسرار والطلاسم ، ومغلقة في وجه الآخرين . إنه الدِّين العالمي للإنس والجن على السواء . ومقياسُ التفاضل بين الخلائق يعتمد على التقوى وليس الجنس أو العِرق أو اللون .
     والكفر ليس عقيدةً مخفية في الصدور فحسب ، بل هو أيضاً ذو انعكاس صارم على أرض الواقع ، حيث يتجذر الحقد ضد المؤمنين ، وتتأجج الكراهية في أبشع صورها . فالكافرُ يود لو كان الناسُ كلهم كفاراً ، وهذا من تمنِّي انتشار المنكرات في المجتمع الإنساني لئلا يشعر المنحرفون أنهم شاذون عن المسار الحياتي .
     وقال البيضاوي في تفسيره ( 1/ 376 ) : (( نزلت تكذيباً لجمع من اليهود ، يُظهرون مودة المؤمنين ويزعمون أنهم يودون لهم الخير ، والود : محبة الشيء مع تمنِّيه )) اهـ .
     قال الله تعالى : (( وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خَلَوْا عَضوا عليكم الأناملَ من الغيظ )) [ آل عمران : 119] .
     يصف اللهُ تعالى المنافقين الذين إذا لقوا المؤمنين زعموا الإيمانَ تقيةً ، وإذا خَلَوْا عضوا على المؤمنين أطراف الأصابع من شدة الحقد والغيظ . وهذا التصويرُ القرآني البليغ يشير إلى نار الحقد المتأججة في صدور أهل الضلال ، وأنهم يكرهون الخير للآخرين ، ولا يريدون صلاحَ الأرض وإعمارها. (( والعرب تصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان )) [فتح القدير للشوكاني ( 1/ 567 ) .] .
     والقلبُ الخالي من نور الإيمان وبَرْد اليقين سوف تندلع فيه نيران الشك والضغينة والكراهية لكل ما هو جميل . لكنّ نار الحقد تأكل صدرَ صاحبها وتقضي عليه ، فالنارُ حينما لا تجد ما تأكله ستأكل نفسَها .
     وعن عبد الله بن مسعود في قوله _ عز وجل _ : [ فردوا أيديهم في أفواههم ] [ إبراهيم : 9] . قال عبد الله : (( كذا ، ورد يدَه في فيه ، وعض يدَه ))، وقال : (( عضوا على أصابعهم غيظاً )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 382 ) برقم ( 3337 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .].
     وفي هذا إشارة إلى الحقد الدفين في قلوب الكافرين الذين لو استطاعوا أن يأكلوا المؤمنين بأسنانهم لفعلوا ذلك . فهم يريدون أيةَ فرصة للانتقام من أهل الإيمان ، والتنكيل بهم ، وتشكيكهم بعقائدهم . كما يتمنون أن يرتد المؤمنون عن الإسلام لكي يصبحوا مع المنافقين والكافرين في نفس الخندق ، خندقِ الباطل ورفضِ الحق ومعاداة أهله .
     وكما قيل : إن اللص يحب أن يكون كل الناس لصوصاً ، كما أن المرأة سيئة السمعة تود لو سارت النساءُ في طريقها . فأهلُ الباطل لا يكتفون بأنهم فاسدون ، بل يسعون _ بكل جهدهم_ أن يكونوا مُفسِدين، لكي يجذبوا الآخرين إلى دربهم المظلم .
     قال الله تعالى: (( لتَجِدَن أشد الناس عداوةً للذين آمنوا اليهودَ والذين أشركوا )) [ المائدة : 82] .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 117 ) : (( ما ذاك إلا لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود ومباهتة للحق ، وغمط للناس ، وتنقص بحملة العلم . ولهذا قتلوا كثيراً من الأنبياء ، حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ، وسَموه ، وسحروه ، وأَلبوا عليه أشباههم من المشركين )) اهـ .
     كما أن العرب المشركين في الجاهلية ليس لهم أي كتاب ديني ، فهم أمةٌ أُمية وثنية . لذلك كانوا ألعوبة بيد اليهود والنصارى يحرِّكونها كيفما شاؤوا ، ويبثُّون فيها عقائدهم الباطلة ، وتعاليم كتبهم المحرّفة .
     وفي صحيح البخاري ( 3/ 1156 ) : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مُخاطباً اليهود  : (( هل جعلتُم في هذه الشاةِ سُماً )) ، قالوا : نَعَم ، قال: (( ما حملكم على ذلك ؟ ))، قالوا : أردنا إِنْ كُنْتَ كاذباً نستريح منك ، وإنْ كنتَ نبياً لم يضرك . 
     وهذا يشير إلى رسوخ العداوة في قلوب اليهود لكل المؤمنين ، وسعيهم الدؤوب إلى التشويش على الحق، ومحاولة وأده قبل ظهوره . لكن الحق لا يمكن إيقافه ، كما أن الشمس لا يمكن تغطيتها بغربال .

21‏/08‏/2012

منطق القوة الأمريكي لا قوة المنطق

منطق القوة الأمريكي لا قوة المنطق

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد


     إني أذكر كلمة دقيقة قالها بنيامين نتنياهو : (( إن العالَم قد يتعاطف مع الضعيف بعض الوقت ، لكنه يحترم القوي كل الوقت )) اهـ .  
     وللأسف فهذه هي فلسفة المنطق العالمي في كثير من الدول المتنفذة ، مما يدل بشكل صاعق على تحول الأنساق الإنسانية المجتمعية إلى شريعة الغاب ، وانتقال الإنسان الكَوْني إلى أطوار التوحش الدينامي من أجل الإبادة والتدمير. لكن غطرسة القوة ممثلة بالأداء الكلاسيكي المتوحش للآلة العسكرية في أنحاء العالم نقلت المعنى الوجودي الإنساني إلى وديان المخيال الغريزي الصارم دون أدنى تطبيقات واقعية في البعد الحضاري العمومي .
     فالواقعية العسكرية ما هي إلا تيار سلوكي اجتماعي لمصطلحات التكريس الفعلي للوهم ، أي إن بؤرية التصادم مع الوعي المرحلي إنما تظهر كنتيجة حتمية للغبش السياسي ، حينما يغيب صوتُ العقل ، ويظهر صوتُ البارود .
     وفي إطار بحثنا الدؤوب عن اتساع رقعة الميثولوجيا العَقَدية العسكرية للحروب اللاأخلاقية ، ندرك أن انزياح خرافات الإمبراطوريات التي تتشكل من بؤر التجريد الاندفاعي للقتل والإبادة تحت شرعية الحقوق الإنسانية _ حيث يُصبَغ دم الضحايا بصابون الديمقراطية أمام الكاميرات_ ما هو إلا انزياح عابر لفلسفة الحروب التي تُشن باسم الله في كل الحضارات عبر الأطوار الزمنية المتعاقبة من أجل نيل الشرعية، لكن الله تعالى لا يأمر بسفك دماء الأبرياء ، وتدميرِ المنجزات الحضارية .
     إن الإمبراطورياتُ القوية استمدت قوتها من السيطرة على أناس متفرِّقين لا رابط بينهم، يريد كلُّ واحد منهم أن ينجوَ بنفسه، والهروب دون النظر إلى الخلف. لكن القوي مهما بلغ مستوى تفوقه المادي لا يقدر لوحده أن يقاتل كل العالَم ، فالأسد ملك الغابة استمد قوته من تفرق الحيوانات وتبعثرها ، وبحثها عن حلول فردية، وهذا ما جعل من الأسد سيداً مُهاباً. والطغاة سيطروا على شعوبهم لأن الأفراد متفرِّقون ، يريد كلٌّ منهم أن ينجوَ بنفسه ، وليكن الطوفان من خلفه . وهذه هي منطقية " فَرِّقْ تَسُدْ " . وكل نظام سياسي متطرف ليس نظاماً حضارياً متماسكاً في تداخلات تكوينات البنى الفكرية . بل هو فوضى أنظمة تجميع الشظايا والمبعثَرات .
     إن عملية تجذير الحروب الدينية بشكل فوضوي خطر على العالَم بأسره ، لأنها أدلجةُ محاور الشر كلها ، والنواةُ المركزية لكل تقاطعات الإرهاب العابر للقارات. والأمر يشبه وجود أناس على سفينة ، وقد مات أحدهم ، وصار جثةً هامدة ، وعبئاً على الأحياء الباقين ، وتهديداً حقيقياً لحياتهم . فإن تركوا الجثة على سفينتهم انتقلت الأمراض إليهم حتى يهلكوا واحداً تلو الآخر، ولا يملكون إلا خياراً واحداً، وهو رمي الجثة في البحر لكي يحفظوا حياتهم، ويبتعدوا عن نفس المصير. فالسفينة هي العالَم ، والجثةُ هي الحروب العبثية التي ينبغي التخلص منها خارج العالَم لكي يحتفظ العالَم بقدرته على الاستمرار .
     وكلما ازدحمت النمذجة ( وضع النماذج ) الجزئية للسياسات المعرفية في زاوية ردود الأفعال ، نتجت إرهاصات مجتمعية تتخذ من انهيار المخيال الطموح للحلم البشري تياراً عَقَدياً يُغذِّي الجهودَ الرامية إلى إعادة تشكيل العالَم من منطق القوة لا قوة المنطق .
     فالبعض يعتقد أن القوة العسكرية الجبارة قادرة على التمركز في البؤر الثقافية الحضارية ، ومن ثم إيجاد هوية جديدة للأرض تصير فيها البندقية هي أَنسنة الشرعية المنطقية للحلم البشري الثقافي الوجودي . وهذه الهوية الإقصائية من شأنها خلخلة الاستقرار في العالم .
     لكن الإشكالية الحقيقية تكمن في رفض تصديق أن الفكرة لا تُجابَه إلا بالفكرة، وأن العقيدة لا تُجابَه إلا بالعقيدة . فانظر مثلاً إلى أفعال الاتحاد السوفييتي سابقاً الذي نشر الشيوعية بالسيف ، وزرع العقيدة الشيوعية بالقوة العسكرية ، فقد اعتقد أن السلاح قادر على زراعة الفكر والعقائد والقناعات الإيمانية الداخلية، فماذا كانت النتيجة ؟ . بعد أن زال الاتحاد السوفييتي عاد المسلمون إلى المساجد ، وعاد الأرثوذكس إلى الكنائس ، كأن شيئاً لم يكن .
     فالعقائد الباطلة لا تقدر على إقناع الناس بأفكارها ضمن مقارعة الْحُجَّة بالحجة، لأنها لا تملك فكراً قوياً متماسكاً هادفاً ، لذلك تلجأ إلى الإفراط الكارثي في الإرهاب العسكري ، واستخدام أشد أنواع الأسلحة فتكاً لنشر عقائدها . وهذا ما أحدثته جرائمُ البلاشفة في روسيا ، ومحاكمُ التفتيش في أوروبا عامةً ، والأندلس خاصةً .
     والنتيجة المنطقية لدلالة السالبية في الممارسة القمعية هي تكوين عناصر اجتماعية مخيالية لا وجود لها على أرض الواقع ، لأن انحسار الفكر المادي التطبيقي للواقعية السياسية يقود إلى تشتت المتمركِزات النظرية في أنوية جديدة غير محسوبة بشكل دقيق.

19‏/08‏/2012

شُبه الكافرين واحتجاجهم بالقدر

شُبه الكافرين واحتجاجهم بالقَدَر

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد


     إن منهج أهل الكفر والضلال هو محاولة التنصل من أفعالهم الذاتية عبر إسنادها إلى القَدَر ، وذلك لتقديم أنفسهم كمجبَرِين لا ذنب لهم في كفرهم. فهم يتعلقون بالقَدَر ليس بدافع الإيمان به، بل بدافع اتخاذه ذريعةً ، وشماعةً يُعلِّقون عليها خطاياهم وضلالهم ، في محاولة يائسة للتنصل من تبعات أفعالهم القبيحة، والهروبِ من تحمل المسؤوليات الجسام المترتبة على كفرهم . فالفاشلُ الذي لا يعترف بفشله سوف يبحث عن شيء ما يضع عليه إخفاقه في محاولة للإفلات من المساءلة. وهذا الهروبُ لا يجدي نفعاً بسبب اشتماله على خداع النفس والالتفاف على محور الحقيقة ومحاولة تجميل الواقع البائس وتصويره في إطار براق ومقبول . فالعاقلُ لا يلجأ إلى المسكِرات الفكرية للفرار من مسؤولية أخطائه، أو يقضي وقته في المكابرة واختراع الأعذار وتبرير الكوارث ، بل يستغل وقتَه لتصحيح الأخطاء والخطايا . فالوقتُ الذي يؤخذ لتبرير الخطأ يكفي لإصلاحه .
     قال الله تعالى : (( سيقول الذين أشركوا لو شاء اللهُ ما أَشْرَكْنا ولا آباؤنا ولا حَرمْنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسَنا ))[ الأنعام : 148] .
     فقد علّقوا شِرْكهم على مشيئة الله تعالى جهلاً منهم ، وجعلوا الشِّرك إنما تم بمشيئته تعالى وإرادته وفق منظورهم الرامي إلى تخليص أنفسهم من أية مسؤولية على اختياراتهم . فنظرتهم العَقَدية متمركزة حول فكرة جَبرية ، وأنهم واقعون تحت مشيئة الله تعالى التي أجبرتهم على سلوك الأفعال السيئة_ وفق عقيدتهم الباطلة_ . فهم يجهلون أن الخير والشر، والإيمان والكفر ، يكتسبه الإنسان بملك إرادته ، وأن القَدَر لا يعارض تحمل الإنسان لمسؤولياته كاملة غير منقوصة . فالله تعالى أحاط بكل شيء علماً ، لكنه لم يجبر الإنسان على سلوك طريق محدد . فاللهُ تعالى يعلم أن المشركين سيغرقون في الشِّرك لكنه لم يجبرهم على سلوك هذا الطريق . ولو كان هناك إجبارٌ لفقد الأنبياءُ شرعيةَ وجودهم ، وأصبحت الجنة والنار بلا معنى ، ولم يعد هناك فائدة ليوم الحساب .
     قال الحافظ في الفتح ( 13/ 449 ) : [ وأما قوله في الأنعام: (( سَيَقُولُ الذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤنَا )) الآية. فقد تمسك بها المعتزلة وقالوا إن فيها رداً على أهل السُّنة . والجواب أن أهل السنة تمسكوا بأصل قامت عليه البراهين وهو أن الله خالق كل مخلوق، ويستحيل أن يخلق المخلوق شيئاً . والإرادة شرط في الخلق ، ويستحيل ثبوت المشروط بدون شرطه . فلما عاند المشركون المعقولَ ، وكذّبوا المنقولَ الذي جاءتهم به الرسل ، وأُلزموا الحجة بذلك ، تمسّكوا بالمشيئة والقَدَر السابق ، وهي حُجّة مردودة ، لأن القَدَر لا تبطل به الشريعة ، وجريان الأحكام على العباد بأكسابهم ] اهـ .
     وقال الله تعالى : (( وقالوا لَوْ شاء الرحمنُ ما عَبَدْناهم ما لهم بذلك من عِلْم إنْ هم إلا يَخْرصون )) [ الزخرف : 20] .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 4/ 159 ) : (( أي : لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة هذه الأصنام التي هي على صور الملائكة التي هي بنات الله فإنه عالِم بذلك وهو يقرنا عليه . فجمعوا بين أنواع كثيرة من الخطأ : أحدها _ جعلهم لله تعالى ولداً  تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً . الثاني _ دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين ، فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً . الثالث_ عبادتهم لهم مع ذلك كله بلا دليل ولا برهان ولا إذن من الله _ عز وجل _ ، بل بمجرد الآراء والأهواء، والتقليد للأسلاف والكبراء والآباء، والخبط في الجاهلية الجهلاء . الرابع _ احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قَدَراً . وقد جهلوا في هذا الاحتجاج جهلاً كبيراً ، فإنه تعالى قد أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار ، فإنه منذ بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا شريك له ، وينهى عن عبادة ما سواه )) اهـ .
     ونحن نجد أنهم يستخدمون القَدَر لتبرير كفرهم ، والتنصلِ من كافة مسؤولياتهم . وقولهم : (( لَوْ شاء الرحمنُ ما عَبَدْناهم )) كلام حق يراد به باطل . فهم لم يقصدوا تعظيمَ الله تعالى ، وإظهار أن مشيئته نافذة في كل شيء. بل أرادوا خداع أنفسهم بأن الله تعالى يقرهم على الباطل ولم يمنعهم من الكفر _ وفق تفكيرهم القاصر _ . وهذا يعكس جهلاً متجذراً في فوضى التفكير داخل العقل الجاهلي البدائي . وكثيرٌ من الناس يختبئون وراء القَدَر للتخلص من أية لائمة . وهم سائرون في درب التقليد والمحاكاة . فالذي يفتقد إلى الحجّة الناصعة تصبح أفكارُه خليطاً من تقاليد الآباء وما يدور في المجتمع من طقوس ورسوم . فالجاهلُ يقول كما يُقال لأنه يفتقد إلى منهجية التفكير والنقد والموازنة بين الأدلة والترجيح بينها .

17‏/08‏/2012

هل يفكر الغرب في اغتيال الرئيس السوري ؟

هل يفكر الغرب في اغتيال الرئيس السوري

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة العرب اللندنية 16/8/2012


    لا يخفى أن الأزمة السورية دخلت في مرحلة كسر العظم ، ووصلت إلى نقطة اللاعودة . وفي الواقع إن النظام السوري هو الذي يتحمل مسؤولية إيصال الأمور إلى هذا الحد ، لأن الأوضاع كانت تحت سيطرته ، وكان بإمكانه أن يعالج قضية الاحتجاجات الشعبية التي بدأت بسيطةً وخجولة وذات سقف منخفض تنادي ببعض الإصلاحات وقليل من الحرية . لكن اللجوء إلى الخيار العسكري العنيف رفع سقفَ الاحتجاجات التي وصلت إلى المطالبة بإسقاط النظام ، ودفع الكثيرين إلى حمل السلاح ، وأوصل البلاد إلى الهاوية ، فصارت سوريا تواجه تحديات حقيقية مثل الحرب الطائفية أو التقسيم .
     والمضحك المبكي أن الوضع السوري الراهن قد خرج عن سيطرة النظام والمعارضة معاً ، فأضحت سوريا ساحة للحرب بين قوى إقليمية ودولية . فإيران تدعم النظام السوري بالمال والرجال ، وروسيا تدعمه بالسلاح والغطاء السياسي في المحافل الدولية ، وفي الجهة المقابلة نجد قطر والسعودية تدعمان المعارضة بالمال والسلاح ، وتركيا تدعمها بالدعم اللوجستي ، أمَّا أمريكا وبريطانيا فتدعمانها بأجهزة الاتصال الحديثة . وهكذا صارت   " الحرب بالوكالة " هي العنوان الرئيسي للوضع السوري . وبذلك يكون النظام السوري قد شرب من نفس الكأس الذي أذاقه للآخرين . فطالما خاض النظامُ السوري حروبه على أرض لبنان باعتبارها خاصرة ضعيفة ، وجاء الوقتُ كي يخوض الآخرون حروبهم على أرض سوريا . وصارت سوريا اليوم مثل لبنان الأمس .   
     إن سوريا اليوم باتت مكشوفة للغاية، فهي مسرح لعمليات أجهزة المخابرات الإقليمية والعالمية ، وما سَهَّل هذا الموضوع خروج مناطق شاسعة من قبضة النظام . وكل الدول صارت تدلي بدلوها في القضية السورية ، وبالتالي لا معنى للحديث عن " السيادة السورية " لأن سوريا دولة فاشلة فقدت سيادتها ، وأضاعت هَيْبتها ، وها نحن نجد الدول الكبرى تتحدث باسم سوريا جهاراً نهاراً ، وترسم مستقبلها ، وسوريا آخر من يَعلم .
     لقد دخلت الأزمة السورية في مسارات شديدة التعقيد ، بحيث صار من المستحيل على النظام والمعارضة أن يحسما الحرب . فالنظامُ السوري بما يملكه من ترسانة عسكرية هائلة قد فشل طيلة سنة ونصف تقريباً أن يخمد الثورة، وقد عجز عن إخماد المعارضة عندما كانت ضعيفة ، فكيف سيخمدها الآن وقد اشتد عودها ، وصارت تسيطر على مساحات واسعة وتحقق العديد من المكتسبات على أرض الواقع ؟ . وعلى الرغم من ازدياد قوة المعارضة فهي لا تقدر على هزيمة الجيش النظامي بشكل تام ، وذلك لاختلال موازين القوة العسكرية بشكل واضح . ويكفي أن نعرف أن الدفاعات الجوية السورية أقوى من دفاعات باكستان ، وهي دولة نووية .
     وهذه الحالة المعقَّدة ستفتح الباب واسعاً أمام العمل المخابراتي الذي سيكون بيضة القبَّان لترجيح كفة المعارضة على النظام . وآثار العمل المخابراتي واضحة ، ويمكن رؤيتها بالعين المجردة . وقد تجلَّت في اغتيال أعضاء " خلية الأزمة " الذين يُعتبرون العقل الأمني للنظام السوري . فهذه العملية الدقيقة أكبر من قدرات المعارضة بكل أطيافها ، وهي تحمل بصمات أجهزة مخابرات غربية. فالتكنولوجيا المتفوقة التي تم استخدامها في عملية الاغتيال أكبر من قدرات الجيش الحر . وقد تكون أكبر من قدرات أجهزة المخابرات العربية أيضاً . وهذا لا يمنع من وجود تنسيق مع عناصر سورية قريبة من دائرة صنع القرار .   
     كما أن حالات انشقاق المسؤولين الكبار تكشف دوراً مخابراتياً هائلاً . فالعميد المنشق مناف طلاس أو رئيس الوزراء المنشق رياض حجاب لَيْسا شخصَيْن من عامة الشعب ، فهما تحت نظر عَين النظام ، وتحت المراقبة والحراسة المشددة، وما خروجهما بهذا الشكل إلا دليل باهر على أن النظام السوري مخترق من الداخل، وأن العمل المخابراتي يؤتي ثماره . 
     ولا شك أن عمليات الاغتيال وانشقاق المسؤولين الكبار وتهريبهم إلى الخارج ، تبعث برسائل للنظام السوري بأن يد الثورة السورية طويلة ، وأن الداعمين لها قادرون على الوصول إلى أي مكان في الوقت الذي يريدونه ، وأن لا أحد في مأمن بما فيهم رأس النظام الحاكم . وفي واقع الأمر ، إن القادر على الوصول إلى خلية الأزمة ( داود راجحة ، آصف شوكت ، حسن تركماني ، ... ) قادر على الوصول إلى بشار الأسد أو شقيقه أو غيرهما من صُنَّاع القرار .
     والمرحلةُ القادمة في سوريا سوف تكون مخابراتية بامتياز ، تعتمد _ بالأساس _ على وجود منشقين ما زالوا على رأس عملهم، أي أن قلوبهم مع الثورة وألسنتهم مع النظام. وهؤلاء أخطر أنواع المنشقين ، لأنهم يُضعفون النظام من الداخل فيتآكل ويضمحل . وكما قيل : مِن مَأمنه يُؤتى الحَذِر . فالنظامُ السوري البوليسي الذي يعتمد على الولاء الأعمى لا الكفاءة سوف يُنخَر من الداخل ، وسوف تأتيه الضرباتُ من بعض العناصر التي يثق بها ثقة مُطْلقة .
     إن الغرب يدرك أن الصراع في سوريا قد يدوم لسنوات عديدة ، مما يؤثر سلباً على بُنية سوريا التحتية والفوقية ، ويُسبِّب أزماتٍ كارثية لدول الجوار . وقد تشتعل المنطقة برمتها ، وتدخل في حروب إقليمية ذات طابع عِرقي أو مذهبي ، مما يهدِّد مصالح الغرب نفسه . والغربُ ليس لديه وقت ليُضيِّعه في انتظار تنحي الرئيس السوري المتشبث بالكرسي بأظافره وأسنانه دفاعاً عن مصلحته الشخصية ومصالح طائفته . لذلك فإن التخلص من الرئيس السوري سوف يكون شعارَ المرحلة المقبلة في دوائر المخابرات الغربية ، خصوصاً الأمريكية . فالمخابراتُ الأمريكية دَخلت على خط الأزمة السورية بقوة بعد أن قام الرئيس الأمريكي أوباما بتوقيع قرار يسمح لها بتقديم الدعم اللوجستي ، وتوفير معدات الاتصال الحديثة للمعارضة . وما خُفِيَ أعظم .
     ومن الواضح أن الرئيس السوري يشعر بالخطر الذي يقترب منه خصوصاً بعد اغتيال " خلية الأزمة "     ( الحلقة الضيقة المحيطة به ) ، لذا صار ظهوره نادراً ، ويُغيِّر مكان إقامته باستمرار . وهذا ساهم في انتشار أخبار هروبه إلى اللاذقية ، أو لجوء زوجته إلى موسكو .
     إن النظام السوري المتآكل أضاع فرصاً ذهبية عديدة لإنقاذ نفسه والشعب والوطن . لكن الجاهل عدو نفسه . وقد اتسع الفتق على الراتق ، وخرجت الأمور عن السيطرة ، وإن مستقبل سوريا ضبابي للغاية بغض النظر عن الجهة التي ستصل إلى سُدَّة الحُكم .
http://www.facebook.com/abuawwad1982