الدعوة إلى الاعتبار بالسابقين
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
إن صاحبَ البصيرة هو الذي يَدرس التاريخ من
أجل أخذ العِبَر والفوائد ، فيتجنب الأخطاءَ والخطايا التي وقعت فيها الأقوامُ
الغابرة . فالعاقلُ من اتّعظ بغيره ، والجاهل من اتعظ بنفسه .
وليس
التاريخُ كومةً عبثية من الأحداث ، أو سِجِلاً للوقائع خالياً من المعنى . إنه رصيد
إنساني هائل يُبرز التحولاتِ الفكرية والاجتماعية والاقتصادية في حياة الأفراد
والجماعات ، ويَرصد منظومةَ الصعود والسقوط في حياة الأمم والحضارات . فالشخصُ
المنقطع عن التاريخ إنما يتحرك في العُزلة والفراغ ، ويُقامر بحاضره ومستقبله ،
ويُورد نفسَه المهالك دون أدنى بصيص أمل . أمّا الشخص القارئ للتاريخ والمستوعِب
لأحداثه إنما يبني مصيره على قاعدة صلبة مستقاة من تجارب الآخرين المتضمنة
نجاحاتهم وإخفاقاتهم . كما أن التاريخ يُوفِّر على المرء البدء من الصفر ، وذلك
بسبب وجود مخزون هائل من التجارب الإنسانية ونقاطِ القوة ونقاط الضعف . مما يجعل
المرء ذا حصيلة معرفية ضخمة تؤهِّله لصهر المراحل ، والقفزِ فوق الفِخاخ ، وسَبْرِ
أغوار القضايا الإنسانية والحضارية ، وتجنب الدروب المظلمة التي تفضي إلى طرق
مسدودة .
وقد نَبّه
القرآنُ على أهمية التاريخ، ولفتَ الانتباه إلى حال الأمم الغابرة للتفكر في
مسارها ومصيرها ، والوقوف على مشكلاتها الروحية والمادية والعمل على تجنبها ،
والاعتبار بما حدث لها لئلا يتم السقوط في نَفْس الحُفرة .
قال اللهُ
تعالى : (( ألم يَرَوا كَم أهلكنا مِن قبلهم مِن قَرْن مَكناهم في الأرض ما لم نُمكن
لكم )) [ الأنعام : 6] .
فينبغي النظر إلى الأمم الخالية التي أُوتِيَت
من أسباب القوة والسّعة والقدرات الفائقة ما لم يَحصل عليه أهل مكة . ومع هذا أهلكهم
اللهُ تعالى وهم أصحاب التمكين والمنعة . إذن ، ماذا ستكون حالُ أهل مكة وهم أضعف
منهم بكثير ؟! . فالقادرُ على إهلاك الجبابرة لن يَعجز عن إهلاك الضعفاء . ومن هنا
تنبع أهميةُ التفكر في أحوال الأقوام السابقين الذين اعتمدوا على قوتهم الذاتية
والأسبابِ المادية معتقدين أنها كفيلة بجعلهم صامدين في وجه الأزمات ، وضمان بقائهم
على طول الدهر . لكنّ شيئاً من هذا لم يَحدث . والمشكلةُ الكبرى في عقلية الظالمين
عبر العصور ، هي اعتقادهم بأنهم استثناء من القاعدة ، وأن ما يَنطبق على غيرهم لا
يَنطبق عليهم . وهذا الوهمُ مرجعه إلى غرور القوة الذي يمنع المرءَ من رؤية الأمور
على حقيقتها . فالظالمُ سائرٌ إلى حتفه بكل غرور وتكبّر . فقد غَرّه حِلمُ الله
عليه ، وطولُ أمله ، وثناءُ الناس عليه .
ولو كان الظالمُ قارئاً للتاريخ لأدرك أن
لله تعالى سُنناً ثابتة تنطبق على الجميع ولا تتغير .
وإن
الحضارات العظمى التي زالت ، وعتاةَ الجبابرة الذين ذهبوا إلى غير رجعة ، وانتصار
المظلوم على الظالم ولو بعد حين . كل هذه الأمور تدعو للتفكر من أجل اتخاذ القرار
الصائب .
وقال
البيضاوي في تفسيره ( 1/ 392) : (( والقرن مدة أغلب أعمار الناس ، وهي سبعون سنة. وقيل:
ثمانون، وقيل: القرن أهل عصر فيه نبي أو فائق في العلم قَلّت المدة أو كَثُرت ))
اهـ.
وقال اللهُ
تعالى : (( أفلم يَهْدِ لهم كَم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في
ذلك لآياتٍ لأُولي النهى )) [ طه : 128] .
إن إهلاك
الأمم الماضية واضحٌ للعيان ، إذ إن آثار ديارهم ماثلة أمام الناس الذين يمرون بها
في أسفارهم، فيُشاهدون بقايا الأمم السابقة بكل وضوح. فالديارُ المتهالكة التي ذهب
أصحابُها إلى اللاعودة تُنبئ عن الحال بكل جلاء ، وتدل على وجود أقوام سابقين
عَمروا المكانَ ثم زالوا . ومن آثارهم تعرفونهم. وهذا الخرابُ الجاثم على صدر
المكان يشير إلى العذاب الذي حَل بهؤلاء الأقوام، لكنّ أصحاب العقول _ وَحْدَهم _
هم القادرون على التفكر وأخذ العِبَر .
قال القرطبي
في تفسيره ( 11/ 230) : (( يريد أهل مكة ، أي : أفلم يتبين لهم خبر من أهلكنا قبلهم
من القرون ، يمشون في مساكنهم إذا سافروا وخرجوا في التجارة طلب المعيشة ، فيرَوْن
بلادَ الأمم الماضية والقرون الخالية خاوية، أي : أفلا يخافون أن يَحل بهم مثل ما حَل
بالكفار قبلهم )) اهـ .