سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

03‏/12‏/2012

أهل الكتاب في القرآن والسنة

أهل الكتاب في القرآن والسنة

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .


1_ إقامة التوراة والإنجيل :
     قال الله تعالى : (( قُل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراةَ والإنجيل وما أُنزل إليكم من ربكم )) [ المائدة : 68] .
     فاليهودُ والنصارى ليسوا على شيء من الدين حتى يؤمنوا بالتوراة والإنجيل ، ويعملوا بما فيهما من تعاليم _ ومن ضمنها الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم _ ، ويؤمنوا بالقرآن الكريم الذي هو خاتم الكتب السماوية المحفوظ من الضياع والتحريفِ . أما تمثيل دور المؤمن بالتوراة والإنجيل دون القرآن الكريم ، فهذا لا يجدي نفعاً .
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 110) : (( أي : حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنْزَلة من الله على الأنبياء ، وتعملوا بما فيها ، ومما فيها الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بمبعثه ، والاقتداء بشريعته )) اهـ .
     فلا بد من الإيمان بكل الكتب السماوية المنْزَلة على الأنبياء ، فتكذيبُ كتابٍ هو تكذيب لكل الكتب ، وتكذيب لمن أنزلها . كما أن الإيمان بالأنبياء يجيء شاملاً لا مخصوصاً بنبي دون آخر ، لأن الطعن في نبي هو طعن في كل الأنبياء، لأنهم سائرون وفق منهاج إلهي واحد . لذا فإن الشريعة الإلهية تؤخذ كَكُل لا يتجزأ لأنها وحدة بناء متماسكة ، تؤخذ معاً أو تُرفَض معاً ، ولا حل وسطاً بين الأمرَيْن . 
     و[ عن ابن عباس قال : جاء مالك بن الصيف وجماعة من الأحبار ، فقالوا : يا محمد ألستَ تزعم أنك على ملة إبراهيم وتؤمن بما في التوراة وتشهد أنها حق ؟ ، قال : (( بلى، ولكنكم كتمتم منها ما أُمرتم ببيانه ، فأنا أبرأ مما أحدثتموه )) ، قالوا : فإنا نتمسك بما في أيدينا من الهدى والحق ولا نؤمن بك ، ولا بما جئت به ].
{ ذكره الحافظ في الفتح ( 8/ 269 ) وقال قبله : رواه ابن أبي حاتم بإسنادحسن من طريق سعيد ابن جُبير . اهـ . وانظر الدر المنثور للسيوطي ( 3/ 120 )، وقد جاء فيه أسماء الأحبار ، وهم :  (( رافع بن حارثة ، وسلام بن مشكم ، ومالك بن الصيف ، ورافع بن حرملة )) .}.
فأنزل اللهُ تعالى : (( قُل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراةَ والإنجيل )) الآية .
     وهكذا نرى أن الأحبار يحاولون إفحام النبي صلى الله عليه وسلم وإقامة الحُجة عليه ، لكن كيدهم رُدّ في نحورهم . فالنبي صلى الله عليه وسلم على مِلة إبراهيم صلى الله عليه وسلم         ( الحنيفية السمحة ) ، ويؤمن بالتوراة التي أُنزلت على موسى صلى الله عليه وسلم ، لكنه يبرأ من التحريفات التي اخترعها اليهودُ في كتابهم ، لأنها إسهامات بشرية لا تمت للوحي بصلة . أما زعمُ الأحبار تمسكهم بالتوراة وكفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا أمرٌ متناقض ينسف بعضُه بعضاً، لأن تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم هو تكذيب للتوراة التي أَخبرت عنه، وتكذيبٌ لموسى صلى الله عليه وسلم الذي يزعم اليهودُ أنهم سائرون على شريعته . وهكذا يتضح التناقض في العقل اليهودي المعتمد على التحايل والتلاعب ولوي أعناق النصوص من أجل الوصول إلى الأهداف الخبيثة .
     وفي صحيح البخاري ( 5/ 2374 ) أن سفيان بن عُيينة قال : (( ما في القرآن آية أشد علي من [ لستم على شيء حتى تقيموا التوراةَ والإنجيل وما أُنزل إليكم من ربكم ] )) .
     وهذا يشير إلى ضرورة الالتزام بالتعاليم الدينية ، وأخذها وحدةً واحدة دون تفرقة أو بشكل مجتزأ ، لأن التقصير في أداء عبادة ينسحب على باقي العبادات . وهكذا تتجلى الرابطة الوثيقة بين العبادات ، بحيث لا يمكن فصلها .
     وقال الحافظ في الفتح ( 8/ 269 ) : (( يعني أن من لم يعمل بما أنزل اللهُ في كتابه فليس على شيء ، ومقتضاه أن من أخل ببعض الفرائض فقد أخل بالجميع ، ولأجل ذلك أطلق كونها أشد من غيرها ، ويُحتمل أن يكون هذا مما كان على أهل الكتاب من الإصر )) .
2_ العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب :
     قال الله تعالى : (( قُل يا أهل الكتاب تعالَوْا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله ))[ آل عمران : 64] .
     والقرآنُ الكريم يُقدِّم الحججَ الدامغةَ ، والبراهين الباهرة . فقد دعا أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) إلى كلمة عَدْل يستوي أمامها الجميعُ بلا تمييز أو مداهنة . وهذه الكلمة التي ينبغي الاتفاق عليها من كل البشر _ على اختلاف أديانهم وأجناسهم _ هي إفراد العبادة لله وحده ، وعدم الشِّرك به ، وعدم اتخاذ البشر أرباباً من دون الله تعالى . فلا أحد يملك حق التشريع والتحليل والتحريم سوى الله تعالى . وكل ما عُبد من دون الله تعالى هم آلهة باطلة لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ، فلا معبود بحق إلا الله تعالى .       
     ومن يتفكر في هذه الدعوة العظيمة سيجد أنها منصفة لا ظلم فيها ، ولا تغليب أُناس على آخرين . فاللهُ تعالى هو خالق كلِّ الناس ، فعليهم أن يعبدوه وحده لا شريك له . فلا يجوز عبادة محمد أو موسى أو عيسى _ عليهم الصلاة والسلام _، بل يتوجب عبادة الذي أرسلهم. والالتزامُ بهذا المبدأ الراقي سَيُوحِّد الناسَ على الحق ، ولا فضل لإنسان على إنسان إلا بالتقوى .
     وهذه الدعوة عالمية لأنها لا تختص بقوم دون قوم . فهي لا تجامل المسلمين على حساب أهل الكتاب ، لأن اللهَ خالقُ الجميع لا المسلمين وحدهم . ولا تُنقِص من قَدْر التوراة والإنجيل ، لأنهما كتابان سماويان _ في الأصل _ يؤيدان القرآنَ مثلما القرآن يؤيدهما ، ولا تحط من منزلة موسى وعيسى _ عليهما الصلاة والسلام _ ، لأن الأنبياء كلهم دِينهم واحد يتشرفون بعبادة الله تعالى . ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاذباً لدعا الناس إلى عبادته مثل فرعون ، أو طعن في موسى وعيسى لإعلاء منزلته عليهما ، أو طعن في التوراة والإنجيل لبيان تفوق الكتاب الذي جاء به . لكن هذه الأمور لم تحدث، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد المدافعين عن التوراة والإنجيل وموسى وعيسى _ عليهما السلام _، فلا يُقبَل الإسلام من أحد إلا إذا آمن بالكتب السماوية كلها والأنبياءِ كلهم . وهذا هو الأساس للدعوة الإسلامية الكَوْنية الشاملة لكل زمان ومكان .
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 494 ) : (( هذا الخطاب يعم أهلَ الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم ، [ قُل يا أهل الكتاب تعالَوْا إلى كلمة ]، والكلمة تُطلَق على الجملة المفيدة كما قال ههنا ، ثم وصفها بقوله : [ سواء بيننا وبينكم ]، أي عَدْل ونَصَف _ يعني إنصاف _ ، نستوي نحن وأنتم فيها ، ثم فسَّرها بقوله : [ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ] ، لا وثناً ولا صليباً ولا صنماً ولا طاغوتاً ولا ناراً ولا شيئاً ، بل نُفرِد العبادةَ لله وحده لا شريك له، وهذه دعوة جميع الرسل )) اهـ .
     وفي تفسير البغوي ( 1/ 49 ) : { قال المفسرون : ( قدم وفدُ نجران المدينة فالتقوا مع اليهود فاختصموا في إبراهيم _ عليه السلام _ فزعمت النصارى أنه كان نصرانياً وهم على دِينه وأولى الناس به،وقالت اليهود: بل كان يهودياً وهم على دِينه وأولى الناس به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودِينه ، بل كان إبراهيم حنيفاً مسلماً وأنا على دِينه فاتبعوا دينَه دينَ الإسلام )) ، فقالت اليهود : يا محمد ، ما تريد إلا أن نتخذك رَباً كما اتخذت النصارى عيسى رَباً ، وقالت النصارى : يا محمد ، ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عُزَيْر ، فأنزل الله تعالى : [ قُل يا أهل الكتاب تعالَوْا إلى كلمة ] _ الآية _ ) } اهـ .
     لكن ابن حجر كان له رأي آخر ، فقال في العُجاب في بيان الأسباب ( 2/ 688 ) عن الآية:
(( أنزلها الله في قصة وفد نجران قبل أن يقع اجتماعهم باليهود فلما أبوا وبذلوا الجزية واطمأنوا
اجتمعوا بيهود المدينة عند النبي أو فيما بينهم فتجادلوا إلى أن ذكروا إبراهيم )) اهـ .
     وفي صحيح البخاري ( 6/ 2742 ) : { قال ابن عباس : أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا ترجمانه ثم دعا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه : (( بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل ، و [ يا أهل الكتاب تعالَوْا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ] )) . الآية }.
{ يمكن استنباط العديد من الفوائد من هذا الحديث ، فمنها على سبيل المثال لا الحصر : _
أ ) دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم .
ب) استحباب تصدير الكتاب ببسم الله الرحمن الرحيم ، وإن كان المبعوث إليه كافراً .
ج ) يجوز للمحدِث والكافر مس آية أو آيات يسيرة .
د ) السنةُ في المكاتبة والرسائل بين الناس أن يبدأ الكاتب بنفسه فيقول : من زيد إلى عمرو .
[ هذه الفوائد مأخوذة من شرح النووي على صحيح مسلم ( 12/ 107 ) ] .   }.
     وهذا يعكس حرصَ النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ الدعوة الإسلامية كاملةً غير منقوصة لكل الناس على اختلاف أجناسهم ومكانتهم الاجتماعية . كما يشير إلى حسن الأسلوب في الدعوة ، حيث اللين والرفق بلا تطرف أو خشونة في التعامل . ويشير أيضاً إلى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على دعوة عِلْية القوم ، إذ إن إسلامهم يعني إسلامَ أقوامهم، ودخولهم جميعاً في رحمة الله تعالى ورضوانه ، فلم يَسْعَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى مخاطبة العظماء من أجل مصلحة شخصية ، أو إبراز نفسه في عالم الرياء والشهرة والمجتمعات المخملية ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينظر إلى الآخرة فلا ينخدع ببهرج الحياة الدنيا الفانية .
     وقال ابن الجوزي في زاد المسير ( 1/ 402 ) : (( قوله تعالى : [ ولا يتخذ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله ] فيه ثلاثة أقوال ، أحدها : أن سجود بعضهم لبعض ، قاله عكرمة . والثاني : لا يطيع بعضُنا بعضاً في معصية الله، قاله ابن جريج.والثالث: أن نجعل غير الله رَباً كما قالت النصارى في المسيح ، قاله مقاتل والزجاج )) اهـ .
     فكل مظاهر العبودية لا يجوز صرفها لأحد من المخلوقين . واتخاذُ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله تعالى يحتمل عدة معانٍ ، فاتباع عِلْية القوم ( الأمراء والعلماء ) في التحليل والتحريم هو نوع من عبادتهم ، لأن تشريع الحلال والحرام بيد الله تعالى وحده . وهناك معنىً مشهور مثل عبادة النصارى للمسيح صلى الله عليه وسلم ، فقد اتخذوه إلهاً ، وذلك لجهلهم وتحريفِ الإنجيل ، حيث دخلت فيه العوامل البشرية . وأيضاً سوء تأويل النصوص الدينية الذي أدى إلى كوارث عقائدية .
3_ وجود المؤمنين بينهم :
     قال الله تعالى : (( ليسوا سواءً مِن أهل الكتاب أُمةٌ قائمة يتلون آياتِ الله آناء الليل وهم يسجدون )) [ آل عمران : 113] .
     إن أهل الكتاب والأمة المحمدية ليسوا سَواء ، فلا يمكن المساواة بينهم ، لأن الإيمان والكفر ضِدان لا يجتمعان . فالأمةُ المحمدية هي الحاملة للشريعة السماوية المحفوظة ، وإذا ذهبت فإن الله تعالى لن يُعبَد في الأرض ، لذلك هي مستمرة وثابتة حتى يوم القيامة رغم حالات الضعف التي تمر فيها بين الحين والآخر .
     وعن ابن مسعود _ رضي الله عنه_ قال: أَخر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ العشاء ، ثم خرج إلى المسجد والناس ينتظرون الصلاة ، فقال : (( أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر اللهَ هذه الساعة غيركم )) ، ثم نزلت عليه : [ ليسوا سواءً مِن أهل الكتاب أُمةٌ قائمة يتلون آياتِ الله آناء الليل وهم يسجدون ].
{ رواه ابن حبان في صحيحه ( 4/ 397 ) برقم ( 1530 ) .}.
     وأهلُ الكتاب متفاوتون ، وليسوا كلهم في إطار واحد ، ففيهم المؤمن والكافر ، والبَر والفاجر. فمن أهل الكتاب من هو متمسك بالشريعة الإلهية ، يُطبِّق التعاليم الدينية ، ولا ينحرف عنها . وهذه الفئةُ تتلو آيات الله تعالى ، وتقوم الليلَ ، وتكثر التهجدَ .
     وقال الطبري في تفسيره ( 3/ 397 ) : (( ليس فريقا أهلِ الكتاب أهل الإيمان منهم والكفر سواء ، يعني بذلك : أنهم غير متساوين ، يقول : ليسوا متعادلين ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد والخير والشر )) اهـ .
4_ غرورهم وأمانيهم :
     قال الله تعالى : (( وقالوا لن يَدخل الجنةَ إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانِيهم قُل هاتوا بُرهانكم إن كنتم صادقين ))[ البقرة : 111] .
     فأهلُ الكتاب يخترعون الأماني الكاذبة ، فهم يخدعون أنفسهم فيعيشون في دنيا الخيال وعوالم الأحلام التي لا حقيقة لها . فاليهودُ قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً ، والنصارى قالت لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً . لكن الله تعالى أفحمهم وفضح باطلَهم . فهذه الأماني الواهية لا أساس لها من الصحة ، كما أن أهل الكتاب لم يُقدِّموا دليلاً على كلامهم . فإن كانوا صادقين في زعمهم فليحضروا البرهان الساطع ، وليُقدِّموا الحُجةَ الباهرة ليكون موقفهم قوياً ، لكن هذا لم يحدث ولن يحدث ، فاليهودُ والنصارى عائشون في عوالم الأحلام بلا حُجّة مُعتبَرة ، وهذه الأحلام ستؤول إلى كوابيس .
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 214 ) : (( يُبيِّن _ تعالى _ اغترارَ اليهود والنصارى بما هم فيه ، حيث ادّعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على مِلّتها )) .
     وقال الله تعالى : [ وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ] [ البقرة : 135] .
     وهذا يشير إلى غرور أهل الكتاب ، وبناءِ أفكارهم على أُسس واهية . فإن اليهود يعتقدون أن اليهودية هي الدرب المستقيم وخلاص الإنسان والإنسانية ، وكذلك النصارى يعتقدون أنهم على الصراط المستقيم ، فمن وافقهم اهتدى ، ومن خالفهم ضَل . وهذه دعوى عريضة لا دليل عليها، وهي بمثابة أضغاث أحلام ، وكل يُغنِّي على لَيْلاه .  
     وقال الطبري في تفسيره ( 1/ 614 ) : (( ...وقالت اليهود لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المؤمنين : كونوا هودا تهتدوا ، وقالت النصارى لهم : كونوا نصارى تهتدوا ... [تهتدوا ] أي : تصيبوا طريق الحق )) اهـ .
     وفي لُباب النقول للسيوطي ( 1/ 17 ) : (( عن ابن عباس قال : قال ابن صوريا للنبي صلى الله عليه وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه ، فاتَّبعنا يا محمد تهتد ، وقالت النصارى مثل ذلك ، فأنزل الله فيهم : [ وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ] )) اهـ .
     وهكذا نرى أن اليهود والنصارى عائشون في عالم الأوهام ، فابن صوريا _ وهو أحد رؤوس اليهود _ يفتقد إلى المنهجية العلمية وتقديم البراهين الجلية ، فهو يزعم أن قومه ( اليهود ) على الهدى دون تقديم أدلة تدعم كلامَه ، فلم يحاول _مثلاً _ مناقشة النبي صلى الله عليه وسلم ومقارعة الحُجة بالحجة، وإنما اكتفى بأن اليهود على الهدى بلا برهان ، وكذلك فعل النصارى ، وهذا كلامٌ في الهواء لأنه لا يستند إلى عقلية علمية منهجية تحليلية ، بل يستند إلى الأهواء والأماني الكاذبة . وهذا غير مستغرب ، إذ إن عقائد أهل الكتاب مبنية على الأحلام والشكوك والوساوس دون وجود حصيلة علمية متماسكة . فالأمرُ الطبيعي أن يُقدِّم المرءُ دليلاً على كلامه لكي يكون موقفُه متماسكاً مقنعاً للآخرين ، لكن أهل الكتاب غارقون في الأهواء الشخصية والمصالحِ الذاتية ، وهذا يجعلهم بعيدين عن الاستخدام المنهجي للعقل ، وتكوين حصيلة فكرية متضمنة للأدلة والبراهين ، فعقائدُ أهل الكتاب مبنية على الظن لا اليقين، وهي عقائد واهية ضد الفطرة، تنفي نفسَها ، وتفتقد إلى المنطق.
5_ عدم رضاهم عمن لم يتبع ملتهم :
     قال الله تعالى : (( ولن ترضى عنكَ اليهودُ ولا النصارى حتى تتبع مِلتهم ))[ البقرة: 120].
     فأهلُ الكتاب لا يمكن أن يرضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو جاءهم بكل الآيات والبراهين النقلية والعقلية ، فهم يطمحون إلى أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم الإسلامَ ( الدين الحق )، ويتبع ملتهم الباطلة . وهذا محال بسبب عصمة الأنبياء .
     وهذه الآيةُ دليلٌ على أن الكفر مِلةٌ واحدة ، لأن الله تعالى ذكر المِلة بالمفرَد : [ مِلتهم ] ، مع أن اليهود والنصارى فريقان .
     وقال الطبري في تفسيره ( 1/ 565 ) : (( وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبداً ، فدع طلبَ ما يرضيهم ويوافقهم ، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك اللهُ به من الحق ، فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدِّين القيِّم ، ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم ، لأن اليهودية ضد النصرانية ، والنصرانية ضد اليهودية، ولا تجتمع النصرانية واليهودية في شخص واحد في حال واحدة، واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك إلا أن تكون يهودياً نصرانياً ، وذلك مما لا يكون منك أبداً لأنك شخص واحد ، ولن يجتمع فيك دِينان متضادان في حال واحدة )) اهـ .
     وفي الدر المنثور للسيوطي ( 1/ 272 ) : (( عن ابن عباس أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يُصَليَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى قِبلتهم ، فلما صرف اللهُ القِبلةَ إلى الكعبة شَق ذلك عليهم وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم، فأنزل اللهُ : [ ولن ترضى عنكَ اليهودُ ولا النصارى ] الآية )).
6_ حُججهم الواهية :
     قال الله تعالى : (( يا أهل الكتاب لِمَ تُحاجون في إبراهيم وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده )) [ آل عمران : 65] .
     وفي هذه الآية إفحامٌ لأهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) الذين زعموا أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان على دينهم . فاليهودُ قالوا إن إبراهيم كان يهودياً ، والنصارى قالوا إنه كان نصرانياً . وقد كَذّبهم اللهُ تعالى ودحض زعمَهم . فالتوراةُ والإنجيلُ أُنزلا بعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم بمدة طويلة جداً ، فكيف كيف على دِينهم وقد ظهر قبلهم بقرون ؟ . وهذه الْحُجّةُ القرآنية الباهرة تفضح جهلَ أهل الكتاب ، وتُبرز أن كلامهم نابع من الأهواء المتضاربة ، ويفتقد إلى المنهج العلمي المتوازن والحججِ السليمة ، وكلّ كلامٍ لا دليل عليه فهو كلامٌ ساقط لا تقوم له قائمة .
     وقال الطبري في تفسيره ( 3/ 302 ) : (( وكان حِجاجهم فيه : ادعاء كل فريق من أهل هذين الكتابين أنه كان منهم ، وأنه كان يدين دينَ أهل نحلته ، فعابهم اللهُ _ عز وجل _ بادعائهم ذلك ودل على مناقضتهم ودعواهم، فقال: وكيف تدعون أنه كان على ملتكم ودينكم ، ودينكم إما يهودية أو نصرانية ، واليهودي منكم يزعم أن دينه إقامة التوراة والعمل بما فيها ، والنصراني منكم يزعم أن دينه إقامة الإنجيل وما فيه ، وهذان كتابان لم ينزلا إلا بعد حين من مهلك إبراهيم ووفاته ؟ ، فكيف يكون منكم ؟ ، وما وجه اختصامكم فيه وادعاؤكم أنه منكم ، والأمر فيه على ما قد علمتم ؟ )) اهـ .
     وفي الدر المنثور للسيوطي ( 2/ 235 ): { أخرج ابن إسحق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : (( اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً ، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانياً . فأنزل اللهُ فيهم : [ يا أهل الكتاب لِمَ تُحاجون في إبراهيم وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ] ))  _ الآية _ } .
     وهكذا نرى أن القرآنَ الكريم يخاطب العقلَ الإنساني بما يَعلم ، فلم يجيء الخطابُ القرآني بعيداً عن الواقع أو الموضوع ، ولم يجيء مخاطباً الإنسان بما هو فوق قدرته . فالْحُجّةُ القرآنية واضحة ، فلا يوجد فيها تزويق فلسفي هلامي ، ولا هروب من الموضوع .
     فأهلُ الكتاب الذين يزعمون انتماءَ إبراهيم صلى الله عليه وسلم إليهم تم بيان باطلهم بأسلوب واضح يدركه العقلُ البشري . فإبراهيم صلى الله عليه وسلم ظهر قبل اليهود والنصارى ، وبالتالي فلا يمكن أن يكون يهودياً أو نصرانياً، فقد كان حنيفاً مسلماً ولم يكن من المشركين. وهذا الخطابُ القرآني الذي دحض شبهاتِ الخصوم يدل على إعجاز القرآن لفظاً ومعنى ، ويدل على عظمة الله تعالى مُنْزِلِ القرآن الذي يَغلب ولا يُغلَب .
     وفي هذا السياق ينبغي الانتباه إلى أزمنة ظهور الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ ، فهم لم يظهروا في فترة واحدة ، بل كان يتبع بعضُهم بعضاً ، لكنهم جميعاً سائرون على منهاج واحد ، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له .
     وفي الدر المنثور للسيوطي ( 2/ 749 ) : (( أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : كان بين آدم ونوح ألف سنة ، وبين نوح وإبراهيم ألف سنة ، وبين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبين موسى وعيسى أربعمائة سنة ، وبين عيسى ومحمد ستمائة سنة )) اهـ .
http://www.facebook.com/abuawwad1982