سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

18‏/03‏/2014

المتشابه في القرآن / الجزء الأول

المتشابه في القرآن / الجزء الأول

من كتاب/ قضايا تهم كل مسلم

تأليف: إبراهيم أبو عواد .

..................................

     مِن المواضيع الهامة في دراسات القرآن والسُّنة ، موضوع المتشابِه . وقد خاضَ علماء السَّلف والخلف في هذه القضية الحسَّاسة . وللأسف ، فقد ضَلَّ الكثيرون في هذا الموضوع ، وظَهرت فِرَقٌ عديدة أضاعت نفْسَها لأنها لم تستوعب هذه القضية بشكل متوازن . ونحن نريدُ في هذا البحث الموجَز أن نُبيِّن القضيةَ بأسلوب واضح بلا تعقيد ولا تطرُّف .
     وقبل الخوْضِ في تفاصيل هذا الموضوع المهم ، ينبغي ذِكرُ بعض القواعد الأساسية :
     [1]القاعدةُ السَّاميةُ في هذا الموضوع هي قَوْلُ الله تعالى:}لَيْسَ كَمِثْله شَيء{[الشُّورى:11]. فاللهُ تعالى لا يُشْبِه شيئاً مِن مخلوقاته، ولا يُشْبِهُه شيء. وكلُّ ما في بالِك ، فاللهُ تعالى بِخِلافِ ذلك .
     [2] لا نُثبِت صفةً لله تعالى إلا بِنَص قَطعي الورود( القرآن والحديث المتواتر ) وقَطعي الدلالة.
     [3] اللهُ تعالى مُنَزَّه عن الجوارحِ والحواس . فالمخلوقُ العاجزُ هو الذي يَحتاج إلى الجوارح كاليد والقَدَم وحاسة السمع وحاسة البصر. وهذه الجوارحُ مُركَّبة من الأعصاب واللحم والخلايا.
 أمَّا اللهُ تعالى فهو الغنيُّ عن كُل شيء ، ولا يَحتاج شيئاً ، وكلُّ شيء مُفْتَقِر إليه _ سبحانه _ .
     [4] كان اللهُ ولا شيء . وهو الآن حيثُ كان، وهو الآن كما كان . مُنَزَّهٌ سبحانه عن المكان والزمان ، لأنه خالق الزمان والمكان ، وقد كان اللهُ ولا مكان ولا زمان ولا سماء ولا عَرْش . يُغيِّر سبحانه ولا يَتغيَّر . لا يَحُلُّ في الأشياء ولا تَحُلُّ الأشياء فيه .
     [5] النصوصُ الدينية ( نصوص القرآن والسُّنة ) تُحمَل على ظاهرها ، إلا إذا وَردت قرينةٌ تُحيل المعنى إلى المجاز أو عدم إرادة الظاهر .
     [6] السلفُ الصالحُ هُم أعلم هذه الأُمَّة بلا مُنازِع ، والخلفُ ( الأشاعرة ) أفضلُ مَن شَرَحَ مُرادَ السلف الصالح . ولا صراع بين السلف والخلف إلا في أذهان الجهَّال . ولا داعي للحِدَّة بين أهل التفويض وأهل التأويل . فالعِصمةُ للنَّص ، وليس لأقوال العُلماء . فالرِّجالُ يُعرَفون بالحق ، والحقُّ لا يُعرَف بالرجال . واعْرِف الحقَّ تعرفْ أَهْلَه .
     [7] لقد ثَبَتَ التأويلُ عن طائفة من الصحابة وعُلماء السَّلف . لكنَّ الأصل المعتمَد هو اتِّباع منهج السلف الصالح، وهو الإيمان بالآيات المتشابِهة ، والأحاديث المتشابِهة ، وأن قراءتها تفسيرها، ولا يتم تأويلها .
     [8] لا يُصار إلى التأويل إلا في حالتين فقط لا غَيْر. الأُولى: إذا خِفنا من انهيار عقيدة العَوام ، فعندئذ يتم اللجوء إلى التأويل حمايةً لعقائدهم ، ولِئلا يَعْتقدوا في ذات الله تعالى ما لا يَليق به .
مع أن الأصل هو عدم طَرح هذا الموضوع على العَوام . والثانية : هو مناظرة الطوائف الضالة ، وأتباع الأديان الوَضْعية ( اليهودية ، النصرانية ، البوذية ، ... إلخ ) . فالتأويلُ فيه الإيضاح والقُدرة على إفحام الخصوم ، ودحضِ باطلهم . 
     [9] " وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبيها          أَوِّلْهُ أَو فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيها ".
     [10] الأشخاصُ الذين يُسَمُّون أنفسهم في هذا العصر بالسلفيين لَيْسوا سَلفيين، فهُم لا يَتَّبعون السلفَ الصالحَ . إنهم تَيْمِيُّون يَتَّبعون ابن تيمية ، وابنُ تيمية ليس سلفياً . كما سيمرُّ معنا .
     [11] غالبيةُ الذين يُسَمُّون أنفسهم بالسلفيين هم حنابلة . ولا شَكَّ أن أضعف المذاهب الأربعة هو المذهب الحنبلي ، لأنه الأقل قُدرة على الاستنباط والغوص في المعاني . وبسبب الوقوف على ظواهر الآيات والأحاديث ، ضَرَبَ التجسيمُ متأخِّري هذا المذهبَ . وكما قيل :

وإن حنبلياً قلتُ قالوا بأنـني         ثَقيلٌ  حُلُولِيٌّ  بغيضٌ  مُجَسِّمُ

     قال الإمامُ ابن الجوزي الحنبلي في دَفع شُبه التشبيه ( ص 95 ) : (( فلم يُصنِّف _ أي الإمام أحمد _ إلا المنقول ، فرأيتُ مذهبه خالياً من التصانيف التي كَثُرَ جِنسها عند الخصوم ... إلا أن القاضي أبا يعلى قال : كنتُ أقول ما لأهل المذاهب يَذكرون الخِلافَ مع خصومهم ولا يَذكرون أحمد ؟ ثم عَذرتُهم ، إذ ليس لنا تعليقة في الفِقه )) اهـ .
     وهذا يدل _ بكل وضوح _ على ضَعف المذهب الحنبلي ، فأتباعُ هذا المذهب يَقفون عند ظواهر النصوص الدينية لا يَتحركون ، ولا يَستنبطون المعاني ، ولا يَغوصون في فهم النصوص ، ولا يَستخرجون منها القواعدَ الشرعية . لذلك خَلا المذهب الحنبلي من التصانيف الكثيرة التي تُوجَد عند باقي المذاهب ، لأن الأحناف والمالكية والشافعية أسَّسوا قواعد أُصولية وفقهية كثيرة ، ورتَّبوا عليها فُروعاً عديدة ، وهذا غير موجود _ للأسف _ عند الحنابلة .
     وقال أبو زهرة في تاريخ المذاهب الإسلامية ( ص 523) : (( اتفق العلماءُ على أن أحمد     _ رضي الله عنه _ كان مُحدِّثاً ، وأنكرَ بعضُهم أن يكون فقيهاً ، ويحق لنا أن نقول : إن أحمد إمام في الحديث بلا رَيْب ، ومن طريق الإمامة كانت إمامته في الفقه ، وإن فقهه سُنن وآثار في منطقه وضوابطه ، ومقاييسه ولونه ومظهره . ولذلك أنكرَ ابنُ جرير الطبري أن يكون فقيهاً ، وعدَّه ابن قُتيبة من المحدِّثين ، ولم يَذْكره في الفقهاء ، وغيره قال هذه المقالة أو قريباً منها )) اهـ .
     وفي هذا إشارةٌ واضحة على ضعف الإمام أحمد في الفِقه مقارنةً مع أئمة الفِقه . وما وجودُ طائفة من العُلماء تجرِّد الإمامَ أحمد من لقب " فَقيه " إلا مؤشر على وقوفه عند النصوص الدينية دون الغوص فيها . ولا يخفَى أن الفِقه هو الاستنباط ، واستخراج الأحكام من النصوص الشرعية. وكلُّ واحدٍ يَقْدر على الوقوف عند ظاهر النَّص ، لكنَّ العِبرة تكمن في فهم النَّص بكل أبعاده الظاهرة وغير الظاهرة . 
     قال السبكي في الإبهاج ( 1/ 28 ) : (( والفِقهُ العِلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية . في معنى الفقه بحسب اللغة ثلاثة أقوال : أحدها مُطْلق الفهم، والثاني فهم الأشياء الدقيقة ، والثالث فهم غرض المتكلِّم مِن كلامه )) اهـ . 
     ويُتابع ابن الجوزي الحنبلي كلامه في دَفع شُبه التشبيه ( ص 97 ) : (( ورأيتُ مِن أصحابنا مَن تكلم في الأصول بما لا يَصْلح ، وانتدب للتصنيف ثلاثة : أبو عبد الله بن حامد ، وصاحبه القاضي ، وابن الزاغوني ، فصنَّفوا كتباً شانوا بها المذهب ، ورأيتُهم قد نَزلوا إلى مرتبة العوام ، فَحَمَلوا الصفاتِ على مقتضى الحِس )) اهـ .
     وهذا يُؤيِّد ما ذَهبنا إليه من أن التجسيم قد شَوَّه سُمعةَ المذهب الحنبلي ، وهذه نتيجة طبيعية لحمل النصوص الدينية على ظاهرها ، وإبعاد العقل عن النَّص . والإسلامُ هو نَقْلٌ وعَقْلٌ ، لا يُقبَل أحدهما بدون الآخَر .
     الخلاصة في موضوع " المتشابِه " :
     قال الترمذي في سُننه ( 4/ 691) : (( والمذهب في هذا عند أهل العِلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك وابن عُيَيْنَة ووكيع وغيرهم أنهم رَوَوْا هذه الأشياء ثم قالوا : تُروَى هذه الأحاديث ونُؤْمِن بها ، ولا يُقال كَيْف . وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تُروَى هذه الأشياء كما جاءت ، ويُؤْمَن بها ، ولا تُفَسَّر ، ولا تُتَوَهَّم ، ولا يُقال كَيْف ، وهذا أَمْر أهل العِلم الذي اختاروه وذهبوا إليه )) اهـ .
     والحقُّ هو الإيمان بهذه الأشياء على مُراد الله مع اعتقاد تَنْزِيه الله عن كُلِّ ما لا يَليق به . نؤمن بها كما ذَكَرَ اللهُ لا كما يَخطر للبشر . وعلى المسْلم أن يؤمن بها بلا تشبيه ، ويُصدِّق بلا تمثيل ، ويُمسِك عن الخوض فيما لا عِلم له به . ومِيزةُ التفويض أنه لا يَحتمل الخطأ ، أي إن المفوِّض محقٌّ دائماً على يقين تام . أمَّا المعتمدُ على التأويل ، فإن تأويله عُرضةٌ للخطأ وعدم اليقين .
     ومن غرائب ابن تيمية أنه قال في درء التعارض ( 1/ 115)  : (( فتبيَّن أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم مُتَّبعون للسُّنة والسلف مِن شر أقوال أهل البدع والإلحاد )) اهـ .
     وهذا الكلامُ المتهوِّر يمثِّل طعناً في أئمة المسلمين في كل العصور . فالتفويض منهج معتمَد عند السلف والخلف . وكلامُ ابن تيمية منطلق من الهوى والتعصب بلا دليل شَرعي .
     قال الحافظ في الفتح ( 13/ 383 ): (( والصواب : الإمساك عن أمثال هذه المباحث والتفويض إلى الله ، والاكتفاء بالإيمان بكل ما أوجب اللهُ في كتابه أو على لسان نَبِيِّه إثباته له أو تنزيهه عنه على طريق الإجمال ، وبالله التوفيق . ولو لم يمكن في ترجيح التفويض على التأويل إلا أن صاحب التأويل ليس جازماً بتأويله ، بخلاف صاحب التفويض )) اهـ .
     لقد أغلقَ السلفُ الصالحُ بابَ التأويل لئلا تُصبِح النصوصُ الشرعية أُلعوبةً بيد المتأوِّلين من أصحاب الأهواء والأغراض الخبيثة . كما أن الخطأ في التأويل واردٌ ، أمَّا التفويضُ فلا يمكن أن يَعتريَه الخطأ .
     ونقل الحافظ في الفتح( 13/ 383) عن ابن دقيق العيد قوله: (( في العقيدة نقول في الصفات الْمُشْكِلَة إنها حق وصدق على المعنى الذي أراده الله ، ومَن تأوَّلها نَظَرْنا ، فإن كان تأويله قريباً على مقتضى لسان العرب لم نُنكِر عليه ، وإن كان بعيداً ، توقفنا عنه ، ورجعنا إلى التصديق مع التَّنْزيه )) اهـ .
     وهذا الكلامُ صحيحٌ، ودقيقٌ إلى أبعد حَد ، ولا يَصْدر إلا مِن عالِم كبير . فالعِصمةُ هي للنَّص لا أقوال السَّلف أو الخَلَف . والصراعُ بين أهل التفويض وأهل التأويل صراعٌ وهمي لا قيمة له . وطريقةُ السلفِ الصالحِ هي أَسْلم وأَحْكم وأَعْلم . ومع هذا ، فطريقةُ الخلفِ في التأويل طريقةٌ مُعْتَمَدَةٌ شَرْعاً وعَقْلاً . 
     كلمة أخيرة : من الأهمية بمكان إبعاد العَوام عن المتشابِه في القرآن والسُّنة ، وعدم تحديثهم بالمتشابِهات، لأن عقولَهم لا تَرقى إلى ذلك المستوى، وقد تَضطرب عقائدُهم ، ويَحملون تصوراتٍ منحرفة عن الذات الإلهية . وبالتأكيد ، ليس كُلُّ ما يُعرَف يُقال .
     وفي صحيح البخاري ( 1/ 59 ) عن علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ قال : (( حَدِّثوا الناسَ بما يَعرفون ، أتحبُّون أن يُكَذَّبَ اللهُ ورسوله ؟! )) .
     وفي صحيح مسلم ( 1/ 11) : أن عبد الله بن مسعود _ رضي الله عنه _ قال : (( ما أنتَ بمحدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فِتنة )) .
     وهذان الحديثان دليلان على أن المتشابِه يَجب ألا يُذكَر عن العوام ، لِمَا في ذلك خَطر على عقائدهم ، إذ إنهم لا يَمْلكون المستوى العِلْمي لفهم هذه القضايا .
     قال الحافظ في الفتح ( 1/ 225) : (( ومِمَّن كَره التحديثَ ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ، ومالك في أحاديث الصفات ، وأبو يوسف في الغرائب ، ومِن قَبْلهم أبو هريرة ... في الجرابين ، وأن المراد ما يقع مِن الفِتن . ونحوه عن حذيفة وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجَّاج بقِصَّة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يَعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي ، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يُقوِّي البِدعةَ وظاهره في الأصل غير مُراد ، فالإمساك عنه عند مَن يُخشَى عليه الأخذ بظاهره مطلوب ، والله أعْلم )) اهـ .

أولاً : الآيات القرآنية .

     [1] قال اللهُ تعالى : } يَوْمَ يُكشَف عَن سَاقٍ { [ القلم : 42] .
     لفظةُ " الساق " في اللغة العربية تدل على شدة الأمر . والمقصود بكلمة " ساق " في الآية هو شدة الأمر وصعوبة الخطب يوم القيامة للحساب والجزاء . كما قال الشاعر :

فتى الحربِ إن عَضَّت به الحربُ عَضَّها          وإِن شَمَّرت عَن سَاقِها الحربُ شَمَّرا
     وكما قال الشاعرُ :

كَشَفَتْ لهم عَن سَاقـها          وبدا مِن الشَّر الصراح

     قال الطبري في تفسيره ( 12/ 197 ) : (( قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل يبدو عن أمر شديد )) اهـ . ونقل الطبري تأويل الساق بالشدة عن مجاهد وقتادة اللذين هما من علماء السلف ، انظر تفسير الطبري ( 12/ 197 ) . 
     وهذا يدل على أن التأويل كان عند السلف الصالح . فالذي يَرمي الذين يتأولون بالجهل والضلال فهو يتهجم ضمنياً على جماعة من علماء الصحابة والتابعين. والتأويل ثابت عنهم ومنتشر في كتب الحديث والتفسير ومبسوط باستفاضة مُدَعَّماً بالأسانيد الثابتة، ونحن هنا لن نستعرض كل ما ورد ، لكن يهمنا إيصال الفكرة بأن التأويل كان عند السلف الصالح ، ولم يأت به الخلف من بنات أفكارهم ، لذا مَنْ أَوَّلَ ضمن الضوابط الشرعية واللغوية ، هو على خير كثير ومأجور على عمله المتوافق مع الكتاب والسُّنة الصحيحة ، وهو أبعد ما يكون عن الضلال والزيغ .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أنه سُئل عن قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : ) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ( [ القلم: 42]. قال : (( إذا خُفِيَ عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشِّعر ، فإنه ديوان العرب ، أما سمعتم قول الشاعر : أصبر عناق إنه شر باق، قد سن قومك ضرب الأعناق، وقامت الحرب بنا عن ساق )) . قال ابن عباس : (( هذا يَوْمُ كَرْبٍ وشِدَّة )).
{ رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 542) برقم ( 3845 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .}
     ومعروفٌ أن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ حَبْر الأُمَّة وتُرجمان القرآن ، وواحد مِن أكبر عُلماء الصحابة .
     وقال الحافظ في الفتح ( 13/ 428 ) : (( وقال الخطابي : تَهَيَّب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق، ومعنى قول ابن عباس : إن الله يكشف عن قُدرته التي تَظهر بها الشِّدة ، وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن )) اهـ .
     وفي تاج العروس ( 1/ 6386 ) : (( قالَ ابنُ سِيدَه : وقد يَكُونُ يُكْشَفُ عن ساقٍ لأنَّ الإنْسانَ إِذا دَهَمَتْهُ شِدَّةٌ شَمَّرَ لَها عن ساقَيْهِ ، ثُمَّ قِيلَ للأمْرِ الشَّدِيدِ : ساقٌ ، ومِنه قَوْلُ دُرَيْدٍ  :
" كَمِيشُ الإِزارِ خارِجٌ نِصْفُ ساقِهِ ، أَرادَ : أَنه مُشَمِّرٌ جاد ، ولم يُرِدْ خُرُوج السّاقِ بعَيْنِها )) اهـ.
     وَبَعْدَ كُلِّ هذا يأتي ابن تيمية فيقول في الرد على البكري [ تلخيص كتاب الاستغاثة ] ( 2/ 542 و543) : (( ومن الثاني قوله تعالى : } يَوْمَ يُكشَف عَن سَاقٍ { لم يقل يوم يكشف الساق ، وهذا يُبيِّن خطأ من قال المراد بهذه كشف الشدة ، وأن الشدة تُسمَّى ساقاً ، وأنه لو أُريد ذلك لقيل يوم يكشف عن الشدة أو يكشف الشدة ، وأيضاً فيوم القيامة لا يكشف الشدة عن الكفار ، والرواية في ذلك عن ابن عباس ساقطة الإسناد )) اهـ .
     هذا الكلامُ المتطرفُ يَعكسُ سيطرةَ الهوى على ابن تيمية . فهو يتكلم بدوى دليل شَرعي ولا لغوي.فقد خالفَ أهلَ اللغة،وراحَ يَهرف بما لا يَعرف. وكما قيل: مَن يَعْلم حُجَّةٌ على مَن لا يَعْلم.
     وَإِلَيْكَ الردُّ على ابن تيمية :
     أ ) لم تُقدِّمْ دليلاً لغوياً على ضرورة أن تكون كلمة " ساق " مسبوقة بأل التعريف .
     ب ) قَدَّمْنا الأدلةَ على أن الشِّدة تُسمَّى ساقاً ، أمَّا أنتَ فلم تُقدِّم دليلاً على كلامك . والعِبرةُ بالأدلة ، وليس بإلقاء الكلام على عواهنه .
     ج ) قَوْلُك " فيوم القيامة لا يكشف الشدة عن الكفار "، نتَّفق معه تماماً . ولكنْ ما علاقته بموضوعنا ؟! . لم يَقُلْ أحد من المسلمين إن اللهَ تعالى يَكشف يَوْمَ القيامةِ الشِّدةَ عن الكفار . ففي يوم القيامة تَظهر الشِّدةُ، وتتَّضح صعوبةُ الموقف العظيم ، ويَبْرز الخطبُ الجليلُ . وهذا تأويلُ الآية.
     د ) قَوْلُك " والرواية في ذلك عن ابن عباس ساقطة الإسناد " كلام لا وَزْنَ له . فلم تُحدِّد بالضبط أيةَ رواية ، ولم تَذْكر السَّندَ ، ولم تَذْكر أيَّ طعنٍ مُعْتَبَر في رِجال السَّند . والروايةُ عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أوردها الحاكمُ في مستدركه وصحَّحها، ووافقه الذهبي . كما أن البيهقي أوردَ أثراً بنفْس المعنى عن ابن عباس بسندَيْن ، وقد حسَّنهما الحافظُ في الفتح . وإذا أردتَ أن تُسقِط الإسنادَ فلا بد أن تُقدِّم أدلةً مُعْتَبَرة ، وقد عَجزتَ عن فِعل ذلك . فلا أهمية لكلامكَ .
     وكما قال ابن حَزم في الفِصَل في المِلل ( 2/ 129 ) : (( ولكنْ مَن ضَاقَ عِلْمُه أنكرَ ما لا عِلم له به . وقد عَابَ اللهُ هذا ، فقال : ) بَل كَذَّبوا بما لَم يُحيطوا بِعِلْمه وَلَمَّا يأتهم تأويلُه (  [ يُونُس : 39] )) اهـ .
     [2] قال اللهُ تعالى : } والسماءَ بَنيناها بأيْدٍ { [ الذاريات : 47] .
     يُخبِر اللهُ تعالى عن جَبروته وعَظَمته . فالسماءُ العظيمةُ قد بناها اللهُ تعالى بِقُوَّةٍ .
     قال الطبري في تفسيره ( 11/ 472): (( يقول تعالى ذِكْره: والسماء رفعناها سَقْفاً بقوة )) .
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 4/ 303 ) : (( } بأيْدٍ { ، أي : بقوة . قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والثوري وغير واحد )) اهـ .
     ولا يخفَى أن الذين ذَكَرَهم ابن كثير هُم أئمة السلف ، وقد تأوَّلوا الآية . مما يشيرُ إلى وجود التأويل عند السلف الصالح ، واعتماده منهجاً للتفسير .
     حتى إن ابن تيمية قد تأوَّل } بأيْدٍ { بمعنى : بِقُوَّة . [ مجموع الفتاوى ( 5/ 195) ] .

     ونحن نقول للذين يَحْملون النصوصَ على ظواهرها حقيقةً . ما هو تفسيركم للآيات القرآنية التالية : } يَدُ اللهِ فَوْقَ أيديهم { [ الفَتْح : 10] ( إفراد يَد ). } لِمَا خَلقتُ بِيَدَيَّ { [ ص : 75]. ( تثنية يَد ) .           } والسماءَ بَنيناها بأيْدٍ { [ الذاريات : 47] ( جَمع يَد ) ؟ . وهل تؤمنون بأن لله تعالى يَداً واحدة أَمْ يَدَيْن أَمْ أكثر مِن يَدَيْن ؟ . وماذا تقولون في قَوْله تعالى: } لا يأتيه الباطلُ مِن بَيْن يَدَيْه ولا مِن خَلْفِه { [ فُصِّلَت : 42]؟. هل تُثْبِتون للقرآن الكريم يَدَيْن لَيْستا كأيدينا ؟!.
facebook.com/abuawwad1982