سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

02‏/03‏/2014

علي بن أبي طالب وقتال أهل البغي

علي بن أبي طالب وقتال أهل البغي

من كتاب/ قضايا تهم كل مسلم

تأليف: إبراهيم أبو عواد .

...............................

    مما لا شك فيه أن الحق كان يَدور مع علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ أثناء الفتن التي سَلَّ سيفَه فيها لإخمادها . وكان الدور الذي أدَّاه علي بن أبي طالب بالغ الحساسية والخطورة في آن معاً ، فقد كان يقاتل على تأويل القرآن بعد أن وُجِدت فئاتٌ أخطأت طريقها اعتماداً على تأويل مغلوط .
     فعن أبي سعيد _ رضي الله عنه _ قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقطعت نعله ، فتخلف علي يخصفها، فمشى قليلاً ثم قال : (( إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله ))، فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر _ رضي الله عنهما_ . قال أبو بكر : أنا هو ؟ ، قال : (( لا )) ، قال عمر : أنا هو ؟ ، قال : (( لا ، ولكن خاصف النعل )) ، يعني علياً ، فأتيناه فبشرناه ، فلم يرفع به رأسه ، كأنه قد كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم [(1)].
     وهذا الدور المحوري لا يتعلق بالخوارج فحسب، بل يتعلق أيضاً بالفئة الباغية ( معاوية وعمرو) التي تحايلت على تحديد الفئة الباغية ، وهذا أدَّى إلى تأويل مغلوط لآية قتال الفئة الباغية : } وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين { [ الحجرات: 9]. فالذين قاتلوا علياً سواءٌ كانوا من الخوارج أو فرقة معاوية وعمرو اعتمدوا على تأويل مغلوط للقرآن الكريم ، وهذا قاد إلى قتال علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ على أساس ديني بحت مثل الخوارج ، وعلى أساس ديني ظاهري تختفي تحته منافع مادية وشهوة السلطان كما هي الحال عند معاوية وعمرو ( الفئة الباغية ) ، فاختلال معنى الفئة الباغية عند الكثيرين قاد إلى فهم الآية القرآنية بشكل معكوس ، أي وجوب قتال علي بن أبي طالب وفرقته بأمر الله تعالى ، لأنهم الفئة الباغية . وهذا الخطأ الكارثي يحمل في طياته تأويلاً غير منضبط بالكتاب والسُّنة الصحيحة سواءٌ كان بحسن نية عند طائفة أو بسوء نية مثل التي كانت عند معاوية وعمرو ومَن دار في فلكهم . 
     والكثيرون يعتقدون بوجوب الكف عما حدث بين الصحابة . لكننا نرى وجوب الخوض فيما شجر بين الصحابة وفق منهجية التأصيل الشرعي ضمن الأدلة من الكتاب والسُّنة الصحيحة ، فهذه الأدلة الشرعية ليست عبثية ، وإنما جاءت وفق حكمة معيَّنة . وعندما يَذكر النبي صلى الله عليه وسلم كلاماً موجَّهاً ضد بعض أصحابه كما سبق بيان ذلك، فهو صلى الله عليه وسلم يعرف ماذا يقول . ولو كان الأمر بوجوب الإمساك عن ذِكر الصحابة لأمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن ذِكرهم،فلا يُتَصَوَّر أن ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن فعل ويأتيه . لذا فمنهجيتنا هي وجوب تطبيق الكتاب والسُّنة الصحيحة على الجميع لمعرفة المخطئ من المصيب ، ولا أحد يملك حصانة. لذا فينبغي الخوض في فتنة الصحابة لمعرفة الصالح من الطالح وفق التأصيل الشرعي ، وضمن نطاق العلماء وطلابِ العِلم ، دون إحداث بلبلة في المجتمع إذا ما خرج الموضوع إلى العامة المقلِّدين الذين لا يملكون ذلك المستوى العلمي الذي يؤهلهم لبحث هذه المواضيع الحساسة . مع الأخذ بعين الاعتبار إيصال الفكرة بصورة علمية تراعي الحالة النفسية للناس والمجتمع لئلا يدخل الناس في فتن جديدة نحن في غِنى عنها .
     وفي صحيح البخاري ( 1/ 59 ) عن علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ قال : (( حَدِّثوا الناسَ بما يَعرفون ، أتحبون أن يُكَذَّبَ الله ورسوله ؟! )) .
     قال الحافظ في الفتح ( 1/ 225) : (( والمراد بقوله بما يعرفون أي يفهمون . وزاد آدم بن أبي إياس في كتاب العِلم له عن عبد الله بن داود عن معروف في آخره : ودعوا ما يُنكِرون ، أي يشتبه عليهم فهمه ، وكذا رواه أبو نعيم في المستخرج . وفيه دليل على أن المتشابِه لا ينبغي أن يُذكر عند العامة )) اهـ .
     وفي صحيح مسلم ( 1/ 11) : أن عبد الله بن مسعود _ رضي الله عنه _ قال : (( ما أنت بمحدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فِتنة )) .
     لذلك  ينبغي عدم إدخال العامة في المسائل الدقيقة . فمسألة الصحابة حساسة للغاية  ، لأن الناس تربُّوا على أن الصحابة مجتمع ملائكي معصوم لا يجوز الاقتراب منه بتاتاً ، ومَن يَقم بالاقتراب منه فإنه يُرمَى بالتشيع،أو الفسق،وقد يصل الأمر إلى التكفير. فالناس أعداءُ ما يجهلون، والحُكمُ على الشيء فرعٌ عن تصوره.
     والذين يَرون وجوب الكف عما شجر بين الصحابة يعتمدون في دعواهم على الحديث الذي يرويه ثوبان وعبد الله بن مسعود _ رضي الله عنهما _ عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( إذا ذُكِرَ أصحابي فأمسكوا )) [(2)].
     فلو اعتمدنا هذا الحديث فمعناه الابتعاد عن الطعن في الصحابة بدون أدلة شرعية معتبرة ، وأن لا نسعى بالفتنة بين المسلمين عن طريق نشر الشبهات الحائمة حول الصحابة ، ونشر الشائعات بلا دليل ، واتخاذهم غرضاً للمزهم والطعنِ فيهم . أما تطبيق النصوص الشرعية المتعلقة بهم ، فهذا واجبٌ . إذ إن النصوص الشرعية ليس الهدف منها أن تظل على الرفوف ، وإنما إسقاطها على أرض الواقع . فلو كان ذِكرُ الصحابة مع الأدلة مقترناً بوجوب الإمساك عن ذلك لما ذَكره النبي صلى الله عليه وسلم الذي وجَّه كلاماً ضد بعض أصحابه ، أو عاتبهم ، أو حمَّلهم مسؤولية أخطائهم ، في نصوص شرعية ثابتة ومشهورة. فهل يريد أصحاب الرأي القائل بوجوب الإمساك أن نلغيَ الأحاديث النبوية الصحيحة الموجَّهة ضد بعض الصحابة بحُجَّة الإمساك عن ذِكرهم ؟! . ولو كان الأمر متعلق بوجوب الإمساك فلماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كلاماً ضد بعضهم ؟! .
     واللهُ تعالى عاتبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم الذي هو أعظم مخلوقات الله تعالى في أكثر من موضع ، فقال تعالى : } يا أيها النبي لِمَ تُحرِّم ما أَحَلَّ اللهُ لك { [ التحريم : 1] ، وقال تعالى : } عَبَسَ وتولى {        [عَبس:1].فقد تكلم اللهُ تعالى في موضوع معاتبة أعظم مخلوقاته.فمن أعظم النبي صلى الله عليه وسلم أم أصحابه؟!.
     ولا يصح اعتمادهم على الحديث: (( لا يُبلِّغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً ، فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر ))[(3)]. إذ إنه ضعيفٌ ، نصَّ على ذلك غير واحد من أهل العِلم . 
     ولو سلَّمْنا جدلاً بهذا الحديث فمعناه عدم الخوض في الصحابة بلا دليلٍ ، أو من باب الغَيرة والتنافس غير الشرعي بين الأقران . وإلا فإن هناك مسائل عن الصحابة يجب أن يعرفها النبي صلى الله عليه وسلم لكي يُصحِّحها من أجل أن لا يكون هناك شرخ في المجتمع الإسلامي أو انحراف بأي شكل كان .
     ومما لا شك فيه أن دور معاوية بن أبي سفيان في القضاء على الخلافة الإسلامية ، وإرجاع أمر الحُكم إلى العقلية الأموية في الجاهلية ، يُعتبَر من أخطر الأدوار التاريخية التي لعبها أشخاص في تاريخنا العربي الإسلامي . وقبل أن نلوم أتاتورك على إلغاء الخلافة الإسلامية ، علينا أن نلوم معاوية على إلغائها لأنه أول من سنَّ هذه البدعة الكارثية . (( ومَن سَنَّ في الإسلام سُنَّةً سَيِّئة فعُمل بها بعده كُتب عليه مثل وِزر من عمل بها ، ولا ينقص من أوزارهم شيء )) [ سبق تخريجه ].
     فمعاوية الذي صار يتقدم كل الصحابة الأثبات مع أنه ليس من السابقين الأولين ، إذ إنه من الطُّلقاء هو وأبوه ، كان عائشاً في حدود دنياه غافلاً عن آخرته ، يتركز تفكيره حول الكرسي ، وطرق الحفاظ عليه بأية وسيلة وفق مبدأ الغاية تبرر الوسيلة .
     وفي الدر المنثور ( 7/ 383) : (( وأخرج ابن أبي حاتم عن الأسود بن يزيد قال : قلتُ لعائشة : ألا تعجبين مِن رَجل مِن الطُّلقاء يُنازِع أصحاب محمد في الخلافة ؟!، قالت : وما تعجب من ذلك ، هو سُلطان الله يُؤتيه البَر والفاجر ، وقد مَلَكَ فرعون أهلَ مصر أربعمائة سنة )) اهـ .
     ومعاوية _ الذي هو رَجل من الطُّلقاء _ قد شوَّه الحُكمَ الإسلامي ، وقضى على الخلافة الراشدة ، بعد أن جعل الخلافة مُلْكاً وراثياً، فيكون بذلك قد حمل الوِزر مرتين بعد أن أسند الأمرَ إلى ابنه يزيد ، ويزيد هو يزيد .
     وفي تاريخ بغداد ( 30/ 287 ) أن الحسن البصري قال : (( وأما اللذان أفسدا أمرَ الناس ، فعمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف ، فَحَكَّمت الخوارج فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة . والمغيرة بن شعبة فإنه كان عامل معاوية على الكوفة فكتب إلى معاوية إذا قرأت كتابي هذا فأقبل معزولاً ، فأبطأ في مسيره ، فلمَّا وَرد عليه قال له : يا مغيرة ما الذي أبطأ بك ؟ ، قال : أمرٌ والله كنتُ أُوطئه وأهيئه ، قال : وما هو ؟ ، قال : البيعة ليزيد من بعدك ، قال : أَوَ فعلت ؟ ، قال : نعم ، قال : ارجع إلى عملك فأنت عليه . فلمَّا خرج من عند معاوية قال له أصحابه : ما وراءك يا مغيرة ؟ ، قال : ورائي والله أني قد وضعتُ رِجل معاوية في غرز بغي لا يزال فيه إلى يوم القيامة . قال الحسن : فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم ولولا ذلك لكانت شُورى إلى يوم القيامة )) اهـ .
     والجدير بالذِّكر أن يَزيد بُويِع بالخلافة أثناء حياة أبيه . وكما هو معلومٌ إذا بُويِع خليفتان يَجب قتل الآخر، وذلك للحفاظ على وَحدة المسلمين، والحيلولة دون تفرق كلمتهم ، وضياعِ دولتهم .
     فعن أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إذا بُويِع لخليفتَيْن فاقتلوا الآخر منهما))[(4)].
     ويكفي معاوية إثماً أنه لا يُعتبَر من الخلفاء الراشدين إجماعاً ، حتى أشرس أنواع النواصب لا يعتبرونه خليفةً راشداً. ففي الحديث المرفوع : (( خِلافة النُّبوة ثلاثون عاماً ثم تكون مُلْكاً )) [(5)].
     وقال الطبري في الرياض النضرة ( 1/ 255 ) : (( والصحيح في مدة ولاية الأربعة أنها تسع وعشرون سنة وخمسة أشهر وثلاثة أيام ، سنتان وثلاثة أشهر وعشرة أيام خلافة أبي بكر، وعشر سنين وستة أشهر وخمسة أيام خلافة عمر ، واثنتا عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً خلافة عثمان ، وأربع سنين وثمانية أشهر خلافة علي ، فإمَّا أن يكون أطلق على ذلك ثلاثين لقُربه منها ، أو يكون مدة ولاية الحسن محسوبة منها وهي تكملتها )) اهـ .        
     وقال ابن كثير في البداية والنهاية ( 13/ 205و 206 ) : (( والعجب أن خلافة النُّبوة  التالية لزمان الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ كانت ثلاثين سنة كما نطق بها الحديث الصحيح، فكان فيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم ابنه الحسن بن علي ستة شهور حتى كملت الثلاثون كما قَرَّرْنا ذلك في دلائل النُّبوة، ثم كانت مُلْكاً ، فكان أول ملوك الاسلام من بني أبي سفيان معاوية بن أبي سفيان )).
     قلتُ: ومما لا شك فيه أن الفترة القصيرة جداً التي حَكم فيها الحسن _ رضي الله عنه _ داخلة قطعاً في هذه الثلاثين سنة . ولكن البعض لا يَذكرها لقصرها الشديد بعد أن تنازل الحسن _ رضي الله عنه _ لمعاوية بن أبي سفيان حقناً لدماء المسلمين ، وظناً منه أن معاوية سيقود المسيرة وفق الكتاب والسُّنة الصحيحة ، ولكن للأسف فقد ضَلَّ معاوية وأَضل كثيراً من الخلق معه في سبيل الْمُلْك، وخيَّب رجاءَ الحسن _ رضي الله عنه _ الذي ظنَّ به خيراً لم يكن في مكانه . ولنتذكر كيف وَثَقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وجعله كاتباً للوحي بين يديه ، ثم خانه بكل دناءة. ومن البديهي أن يكون الحسن هو الخليفة الراشد الخامس، أمَّا عمر بن عبدالعزيز فهو الخليفة الراشد السادس . وهذا هو الصواب ، والله أعلم .
     وفي صحيح البخاري ( 2/ 962) من حديث أبي بكرة _رضي الله عنه _ مرفوعاً : (( إن ابني هذا سَيِّد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين )) .
     وفي فتح الباري ( 12/ 392 ) : (( وأمَّا معاوية ومن بعده فكان أكثرهم على طريقة الملوك ولو سُمُّوا خلفاء ، والله أعلم )) اهـ .
     وكلُّ مَن جاء بعد معاوية من الحُكام سارَ على منهج معاوية الباطل في توريث الحُكم ، ورفضِ الشُّورى . وفي هذا السياق ينبغي الانتباه إلى ملاحظة مهمة ، وهي : أن الخلفاء الراشدين الذين بَنوا خِلافةَ النُّبوة ، لم يَنْسب أيٌّ منهم الدولة إليه . فمثلاً ، لا توجد الدولة البكرية ( نِسبة إلى أبي بكر الصِّديق ) ، ولا توجد الدولة العُمرية ( نِسبة إلى عمر بن الخطاب ) . في حين أننا نجد الدولة الأُموية ( نسبة إلى الأمويين ) ، والدولة العباسية ( نسبة إلى العباسيين ) ... إلخ . وهذا يدل على فَرق جوهري بين الخِلافةِ الراشدة ( خلافة النُّبوة ) ، وبين الحُكمِ الوراثي الاستبدادي الذي يُكرِّس الدولةَ كمزرعة خاصة للحاكم وعائلته ، فَخَرجت الدولةُ الإسلاميةُ من فضاء الشُّورى إلى الاستبداد الذي يَعتبر الدولةَ والشعبَ مُلْكاً شخصياً للحاكم وقبيلته .
     وفي سير أعلام النبلاء ( 3/ 157 ) : (( قال الزبير بن بكار : كان معاوية أول من اتخذ الديوان للختم ، وأمر بالنيروز والمهرجان ، واتخذ المقاصير في الجامع ، وأوَّل مَن قَتل مُسلماً صبراً، وأوَّل مَن قام على رأسه حرس ، وأوَّل من قيدت بين يديه الجنائب، وأول من اتخذ الخدام الخصيان في الإسلام ، وأول من بلغ درجات المنبر خمس عشرة مرقاة ، وكان يقول أنا أول الملوك )).
     وعن أبي أُمامة الباهلي_رضي الله عنه_أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لتنتقض عُرى الإسلام عُرْوةً عُروة ، فكلما انتقضت عُروة تشبثت بالتي تليها، وأول نقضها الْحُكْم ، وآخرها الصلاة )) [(6)].
     قلتُ: ومما لا شك فيه أن الذي يتحمل مسؤولية نقض الحُكم، إنما هو معاوية بن أبي سفيان بلا خلاف .
     وللأسف فإن معاوية الذي اتخذ من دم عثمان وسيلةً للقفز إلى السُّلطة عبر تأسيس شرعية وهمية لكي ينال القبول عند الناس قد نسي دم عثمان بعد أن صار خليفةً ، ولم يتخذ من عثمان قدوةً ، وإنما ركَّز كل جهوده على تثبيت حُكْمه بأية وسيلة كانت ، شريفةً أو غير شريفة . كما ركَّز فلسفة مُلْكه على شتم علي ، وهذا مرجعه إلى فكرة الصراع بين الهاشميين والأمويين التي تسيطر على عقل معاوية ، وأيضاً مرجعه إلى الحقد الدفين في نفسية معاوية على علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ بسبب دوره في قتل أقارب معاوية يوم بدر، إذ إن علياً كان له دور بارز في بَدْر، وهو قاتل خال معاوية ( الوليد بن عتبة )، كما قتل حمزةُ بن عبد المطلب جدَّ معاوية لأُمه ( عتبة ابن ربيعة )، كما قُتِلَ في بدر مشركاً أخو معاوية ( حنظلة بن أبي سفيان ) . وهذا ما جعل شاعر الإباضية الرواحي ( المتوفى سنة 1338هـ ) يقول : 

أبا حسن ذَرْها حكومةَ فاسقٍ         جراحاتُ بَدْرٍ في حشاه تفور

     وفي المستطرف للأبشيهي ( 2/ 181و182): ((...ومن ذلك ما حُكي أن أُمية بن عبد شمس دعا هاشم بن عبد مناف إلى المفاخرة ، فقال له هاشم : أُفاخرك على خمسين ناقة سُود الحدق تُنحَر بمكة ، فرضي أُمية بذلك ، وجعل بينهم الخزاعي الكاهن حَكماً، فخبؤا إليه شيئاً، وخرجا إليه ومعهما جماعة من قومهما ، فقالوا : قد خَبَّأنا لك خبياً ، فإن عَلمتَه تحاكمنا إليك ، وإن لم تعلمه تحاكمنا إلى غيرك،فقال: لقد خَبَّأْتم لي كيت وكيت، قالوا: صَدقتَ، احْكُم بين هاشم بن عبد مناف وبين أمية بن عبد شمس ، أيهما أشرف بَيتاً ونَسَباً ، فقال : والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر ، وما بالجو طائر ، وما اهتدى بعِلم مسافر ، لقد سَبق هاشم أُمية إلى المآثر ، ولأُمية أواخر ، فَأَخَذَ هاشم الإبل ، ونحرها وأطعهما مَن حَضر ، وخَرج أُمية إلى الشام ، وأقام بها عشر سنين ، ويقال إنها أوَّل عداوة وقعت بين بني هاشم وبني أُمية )) اهـ .
     وبغض النظر عن صحة هذه القصة من عَدمها ، فهي تدل على الصراع التاريخي المتجذر بين الهاشميين والأمويين ، والتسابق بينهما على نَيْل الشرف ، والرِّفعة ، والمجد .
     وقد ساهم معاوية في تجذير إشكالية التناقض من وجهة نظره ( عثمان وعلي ) ، فصار الأمرُ كأنه عداوة بين رَجُلَيْن ، فقد تم اتهام علي بقتل عثمان أو التواطؤ مع قاتليه والتستر عليهم . فغدت القاعدة التي أرساها معاوية تنص على أن الشخص إذا كان في حزب عثمان فهو ضد علي، وإذا كان في حزب علي فهو ضد عثمان . وهذه القاعدة المردودة هي رواسب الجاهلية القَبَلية في عقلية معاوية، ومحاولة لاستعادة دور للأمويين عن طريق سلبه من الهاشميين. وهذا العقلية مخالفة للمبدأ القرآني ] إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ [ [الْحُجُرات : 13]، فالهاشميون والأمويون لا وزن لهما البتة بدون الإسلام، ومقياس الأفضلية هي بمقدار خدمة الإسلام ، وحملِ الرسالة بعيداً عن عقلية الحَسَب والنَّسَب الجاهلية .
     وسيظل علي بن أبي طالب _ رضي اللهُ عنه _ هو قُدوة جميع الفقهاء الذين صَنَّفوا في مسألة  " قتال أهل البغي " . وقد أَخذ الإمام الشافعي _ رحمه الله _ أحكامَ البُغاة من معاملة علي بن أبي طالب للخارجين عليه .
     وفي تاريخ المذاهب الإسلامية للشيخ أبي زهرة ( ص 459) : (( ويُروَى في ذلك أنه قيل لأحمد بن حنبل إن يحيى بن معين يَنسب الشافعي إلى الشيعة ، فقال أحمد ليحيى بن معين : كيف عرفتَ ذلك ؟ ، فقال يحيى : نظرتُ في تصنيفه في قتال أهل البغي ، فرأيتُه قد احتج من أوله إلى آخره بعلي بن أبي طالب ، فقال أحمد : يا عجباً لك ! ، فبمن كان يحتج الشافعي في قتال أهل البغي ، فإن أوَّل مَن ابْتُلِيَ من هذه الأُمة بقتال أهل البغي هو علي بن أبي طالب )) اهـ .
     وفي هذا دلالةٌ باهرة على أن علياً قد اضطلع بدور مركزي في تاريخ الأُمَّة الإسلامية ، فهو أوَّل مَن قام بقتال أهل البغي ، وقد شَهدت فترةُ حُكمه اضطرابات هائلة ، وقد أَثْبت جدارته في مواجهتها ، وعدم الهرب منها . ولا يمكن بأية حال من الأحوال تحميله مسؤولية الفتن التي عَصفت بالمسلمين ، كما لا يَمكن تحميل الطبيب مسؤولية أمراض الناس .
..................الحاشية..........................
[(1)] رواه الحاكم في المستدرك ( 3/ 132) برقم ( 4621) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .
[(2)] رواه الطبراني في الكبير ( 2/ 96) برقم ( 1427) من حديث ثوبان ، وقال الهيثمي في المجمع ( 7/ 411) : (( وفيه يزيد بن ربيعة وهو ضعيف )) اهـ ، ورواية عبد الله بن مسعود رواها الطبراني في الكبير ( 10/ 198) برقم ( 10448) وتم تحسينها في تخريج أحاديث الإحياء ( 1/ 22) . وقال الهيثمي في المجمع ( 7/ 411 ) : (( وفيه مسهر بن عبد الملك، وثقه ابن حبان وغيره ، وفيه خلاف ، وبقية رجاله رجال الصحيح))اهـ.وإليك ترجمة مسهر بن عبد الملك من تهذيب التهذيب(10/135): (( قال البخاري : فيه بعض النظر ، وقال الآجري عن أبي داود : أما الحسن بن علي الخلال فرأيته يحسن الثناء عليه، وأما أصحابنا فرأيتهم لا يحمدونه ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال أبو يعلى الموصلي : وكان ثقة... وذكره ابن عَدي في الضعفاء من أجل قول البخاري، وقال: ليس حديثه بالكثير )) اهـ . وقال ابن حجر في تقريب التهذيب ( 1/ 532) : (( لَيِّن الحديث )) اهـ .  
[(3)] رواه أحمد في مسنده( 1/395)برقم(3759)،والترمذي في سُننه(5/710)برقم ( 3896 )، وقال:(( هذا حديث غريب من هذا الوجه))،وأبو داود في سُننه ( 4/ 265 ) برقم ( 4860 ).اهـ. قلتُ:[نصَّ ابن كثير على ثبوت هذا الحديث في الصحيح(البداية والنهاية 6/ 38 )]. لكن الحديث معلول : ففي سنده الوليد بن أبي هاشم، وهو مجهول . وأيضاً زيد بن زائدة ، قال المزي عنه في تهذيب الكمال (10/ 69) : (( ذكره ابن حبان في كتاب الثقات، روى له أبو داود والترمذي حديثاً واحداً وقد وقع لنا عالياً _ وهو هذا الحديث_ ))،وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب( 3/ 356 ): (( وقال الأزدي: لا يصح حديثه)) اهـ. وقال ابن حجر في تقريب التهذيب( 1/ 223) : (( مقبول )) اهـ. وقال الذهبي في الكاشف( 1/ 416 ): (( وُثِّق )) اهـ ] .
[(4)] رواه مسلم ( 3/ 1480 ) برقم ( 1853 ) . وفي رواية الطبراني في الكبير ( 19/ 314) برقم ( 710 ) : عن سعيد بن جبير أن عبد الله بن الزبير قال لمعاوية في الكلام الذي جرى بينهما في بَيعة يزيد : وأنت يا معاوية أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا كان في الأرض خليفتان فاقتلوا  أحدهما))،وقال الهيثمي في المجمع( 5/ 198):((رواه الطبراني في الكبير والأوسط،ورجاله ثقات))اهـ. وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 12/ 242 ) : (( هذا محمول على ما إذا لم يندفع إلا بقتله ... ، وفيه أنه لا يجوز عَقدها لخليفتَيْن ، وقد سبق قريباً نقل الإجماع فيه )) اهـ .
[(5)] رواه الحاكم في المستدرك( 3/ 75 )برقم( 4438 ) وصحَّحه ، وسكت عنه الذهبي . وصحَّح ابن كثير الجزء الأول من الحديث في البداية والنهاية ( 13/ 205و206 ) . وأبو داود ( 4/ 211 ) برقم ( 4646 )،والطبراني في الكبير ( 7/ 84 )برقم ( 6444 ). وقال الحافظ في الفتح ( 7/ 58) : (( "الخلافة ثلاثون سنة ثم تصير مُلْكاً " . أخرجه أصحاب السُّنن وصحَّحه ابن حبان وغيره )).

[(6)] رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 104) برقم (  7022 ) وصحَّحه ، وابن حبان في صحيحه   ( 15/ 111) برقم ( 6715 ). وأحمد في مسنده ( 5/ 251 ) برقم ( 22214 ) ، والطبراني في الكبير ( 8/ 98 ) برقم ( 7486 ) ، وقال الهيثمي في المجمع ( 7/ 551 ) : (( رواه أحمد والطبراني ، ورجالهما رجال الصحيح )) اهـ .
facebook.com/abuawwad1982