سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

08‏/03‏/2014

فلسفة الفتن

فلسفة الفتن

من كتاب/ قضايا تهم كل مسلم

تأليف: إبراهيم أبو عواد .

......................

     إن العقلية الجاهلية القَبَلية هي الوقود الحيوي للفتن، وهي التي تدفع باتجاه انكسار الطبيعة الإنسانية من أجل متاع دنيوي زائل . فالأداء الموغل في مادية الطبائع المصلحية له دور فعال في تثبيت الشكوك في محيط اليقين من أجل تحقيق منفعية شخصية محاطة بشهوة السلطان والنفوذ . لذلك فإن إرهاصات الأبعاد النفسية في لوي أعناق النصوص بُغية تطويعها لتحوير الأحداث السياسية على أرض الواقع ، إنما تنبع من جاهلية العقلية القَبَلية الأعرابية الملتفة حول نفوذ شيخ القبيلة . وبالتالي فإن الإغراق في تشييد متوازِيات النفعية قاد طبيعةَ امتداد الذاكرة الإنسانية إلى الانكسار أمام طوفان المصالح المادية والأهواء ، سواءٌ كانت الأهواء ذات منحى روحي اعتباري في صياغة حالة إنسانية صاحبة مكانة ونفوذ اعتماداً على استغلال النقاط المظلمة في النفس البشرية ، أو ذات منحى مادي واقعي يكرِّس تبعيةَ العقل للشهوة ، والروح للجسد .
     لكن التعامل النَّفسي مع سوسيولوجيا الفتن إنما هو تعامل مع هلامية المنظور الإستراتيجي لمصلحية التكريس الشَّعبي المهووس الملتف حول الكرسي . أي إن غياب الحاجة الفعلية لأداءات الذاكرة الحالمة صنع نظاماً فلسفياً جديداً قائماً على اقتناص الغنيمة من أجل تثبيت نمذجة الرموز الغائبة عن مسطَّحات الوعي ، وعليه تتوالد بناءات أقل ما يقال عنها أنها استغلالية منزوية في رواسب الكيانات الجاهلية .
     وقد يتكرس الأسلوب الداعم لمنهجية النشاط المتداخل على شكل انبعاثات قَبَلِيَّة تؤدي إلى تفتيت قيم الشعور الداخلي الساعي نحو التصالح مع الأنا الكلية في الأنا الجزئية ، والسلامِ مع كليات المحيط الاجتماعي للواقع المحقون بالتسييس النفعي . لكن المحيطات الاجتماعية في التداخل الشخصاني للفرد تغدو أكثر أهمية من المحيطات الاجتماعية الخارجية ، وذلك عائد إلى كون الفرد الاعتباري الساعي إلى شخصنة ذاته باعتبارها ذاتاً قيادية رمزية مُلهَمة، يرى نفسَه جديراً ومستحقاً للاهتمام، ومستحقاً كذلك أن يلتف الناس حوله ، ويخضعوا له ، سواءٌ باستعمال المال أو السيف. في حين أن التسطيح الفكري التداخلي مع إشكاليات المعنى الآخذ في الانحسار ما هو إلا كيانٌ محسوس يُفضي إلى تسييس تلقائي للأحداث الاجتماعية لكي يتم تطويعها ، وتقديمها على أنها التأسيس النظري لاتصال المعاني مع جزيئات الشعور ، لكن الإشكالية الحقيقية تكمن في تسييس الشعور ضمن توجهات سيكولوجية هادفة إلى قتل الذاكرة الإنسانية عن طريق بناء ذاكرة اجتماعية جديدة تكون الكلمة فيها لمن يملك السيف . وهكذا يقع المجتمع تحت احتلال فكري خاضع لفكر الخليفة غير الشرعي ، إذ إن العدل هو الشرعية ، وإذا غاب تُنزَع الشرعية الاعتبارية عن الحاكم ، وتظل هناك مساحة اضطرارية لعدم تفريق الكلمة الجمعية .
     وبما أن تركيبات المتوازِيات الاجتماعية مبنية في قدرات الازدواج ، وبناءِ مقارَبات تتراوح بين الأخذ والرد ، بُغية الالتفاف حول الشرعية الحقيقية للمعنى ، صار لزاماً أن تجد انكساراً حقيقياً في الذات الإنسانية، إذ إن الشرخ المبني على تأسيسات إشكالية المعنى صار معنىً بحد ذاته ، مما يعكس لنا خطورة إحلال المعاني في غير محيطاتها ، أو تكريسها في تداخلات تيار تَوْعَوِي غير منطقي ، وإنما مسيطر عليه من قبل تجريد ظواهري هلامي يلتف حول الخديعة البصرية والسمعية من أجل تعرية إنسانية الكيانات من صيغ إعمال العقل والنقد والنقض .
     إن البناءات المتماهية مع تصييغ أشكال جديدة للفتنة كمذهب فلسفي نفعي قائم على تقديم الناس إلى السيف ، والمتاجرةِ بدمائهم لتحقيق مكاسب على أرض الواقع ، ما هي إلا بناءات في محيطات تداخلية تحمل نواة الهدم في أحشائها . فالمضامين الأنثروبولوجية المسيَّسة قد تفضي إلى تشييد جزئي لمكوِّنات الهاجس الحالم ، إلا أنها لا تَقْدر على مواصلة البناء بشكل انفرادي ، وذلك لعدم اشتمالها على العناصر التكاملية اللازمة للبناء الإحاطي .
     فالبناء هو صيغة التلازم الطبيعي الشامل لكل جهات النواة المركزية ، أما إن تجاوزت حالةُ البناء جهةً عصية على الإحاطة ، فعندها سيكون البناء هشاً ، مما يقود إلى انكسار حالة الوعي العمومي . أضف إلى هذا أن رمزية المواقف التقليدية من العملية الفلسفية هي مواقف بعيدة عن المتخيَّل الإنساني المجتمعي ، لأن الناس غارقون في محيطات التشظي الظاهرية الاستهلاكية ، يضربون على السطح ولا يضربون في العمق ، وذلك لأنهم يفتقدون إلى المرجعية العلمية اللازمة لتمييز الغث من السمين . وعلى أية حال فإن أنسنة جزيئات أبعاد الروابط قد تم استغلالها لإقحام العوام في معترك الصراعات الدامية ، لكن الذي يحصد في الأخير هو الذي رسم سيناريو الفتنة ، وغذَّاها بالمال ، وغذَّى جنوده بالسلاح . فالذي يملك السلاح هو الذي يفرض شروطه على أرض الواقع لأن الواقع هو أحادية الخضوع للصولجان المدعوم بالدماء المهراقة في كل ذكريات البسطاء، ودماءِ الشباب الذين يذهبون إلى المعارك ، ليحصد النخبةُ النتائج على الأرض . ومن هنا نكتشف حتمية الاهتمام بنمذجة المشاعر الوجدانية لئلا تقع الحياة الاجتماعية في قبضة اللاتجانس الوظيفي ، وعندها سيكون من الصعب جداً على اجتماعيات الذاكرة الكلية لأنسنة المحيطات المجتمعية أن تخرج من صيغ الوصاية على المجتمع الإنساني التداخلي ، أو تتخلصَ من احتكار المنظومة الفكرية الموجِّهة للمسار العام البشري وفق إرادة صانع القرار .
     ومما لا شك فيه أن التقاليد المتجذرة في مجتمع التداخل الذهني مع أنانية الذات الإنسانية وعشقها لشهوة التملك والسلطان والنفوذ تغدو حقائق أو مسلَّمات تُشَرْعِن منطقيةَ انهيارها من لامنطقية التكاثر غير المعقول للحالة الفكرية الذهنية . فالفرد هو صياغة جزيئات المجتمع النامي في قلبه، بمعنى أن حب السلطان والجاه قد يدفع باتجاه صناعة الفتن من أجل تأسيس قيم من المنظورات المجتمعية الحادة . لكن السلوك الإدراكي يفترض أن يكون صناعة الخير في الذاكرة المجتمعية المبنية على معطيات الوجدان الذهني للحقيقة ، وللأسف فهذا لا يحصل على أرض الواقع إلا نادراً . فمسؤولية تطورات ذهنية الشيفرة النفسية لا يمكن أن تظل في عهدة القدرة الأخلاقية على الصياغة الواقعية ، وإنما ينبغي تثبيتها في النظام الأخلاقي ، وتعميمها على القدرة الفكرية الحالمة البعيدة عن استغلال الإنسان لأخيه الإنسان .
     فالنظام السياسي لجدلية الفتنة يعني إهراق دم المخدوعين من أجل تقديس دم المخادِعين . وهذه الهلامية التقديسية تُحال إلى اتجاه تكويني أكثر شراسة ، يضرب العمقَ الروحي للخلفية الاجتماعية في الداخل الفردي الجزئي أو الخارج المجتمعي الكلي . وإذا كانت صيغ الجزيئات تحمل في طياتها بُنى المستوى الإشاراتي للمجتمع ، فلا بد للمجتمع ألا يتحول إلى إشارات سطحية يتم تحريكها بواسطة أجهزة التحكم عن بعد دون إعمال المستوى الذهني العقلاني الفاحص لصياغات اجتماعيات السياسة الفكرية ، سياسةِ الفرد وسياسةِ المجتمع ، والتسييسِ الوقتي المبني على نظرية الحصار الزمني لهذه الولادة الفكرية المؤقَّتة كقانون الطوارئ .  
     وللحيلولة دون اتساع ثقوب المعرفة الإنسانية في مواجهتها لطوفان النفعية المادية الدامية ، ينبغي تثبيت الأساس الفكري للفتن في محيطات قامعة لفكرة الاستحواذ غير المنطقي على كيانات الناس ، والتصدي لظاهرة احتكار المجتمع الذهني والمادي واختطافه من قبل من يملكون لكي يتم توجيهه لابتزاز من لا يملكون ، ومنع الانفراد بالصياغات الداخلية العقلية ، لأن السيطرة على مستويات المعرفة التحليلية العقلية أخطر بكثير من السيطرة على المكتسبات المادية على أرض الواقع .
     وكما  أن  الفتن غربال التمايز المعرفي الخلاق الرامي إلى فصل المكوِّنات الفكرية والوجودية ، فهي أيضاً حصاد المنافقين الذين يسيرون وفق مبدأ احتراف الانحراف ، وهي كذلك سلب الشرعية الوهمية عن أمراء الحروب ، وتجارِ الأجسادِ البشرية الذاهبة إلى فوضى القتل مجاناً . فالتمايز الأخلاقي في تقاطعات الصياغة النهائية الحاسمة للمعاني ما هو إلا تمحيص دقيق للحالة النفسية الشخصانية ، ومدى تطبيقات انعكاساتها على الواقع الخاضع للتجاذبات . لكن الفتنة في نهاية المطاف تظل صورةً لإشكالية الاستحواذ الأناني الفطري عند الإنسان الذي يعطي لنفْسه الحقَّ أن يُضَحِّيَ بالآخرين ليظل هو نائماً في العسل لا يعكر أحلامَه شيء .
     وكما أن تَبَنِّي أشكال معرفية منقوصة أدَّى إلى توليد معرفة وجودية جديدة تتخذ صفة الحسم النهائي في تحريك الواقعية الفكرية ، فإن صيغ الوجود الإنساني الأناني تتخذ صيغاً مشابهة لحالة الانكسار المعنوي أثناء لهاث الكائن الحي نحو السيطرة على معطيات وقائع الحلم المتصوَّر ، وتملكِ الطموح الشرس الذي يأخذ ولا يعطي ، وإن أعطى فسيكون هذا العطاء صيغة الأخذ المختفي خلف الشعارات البراقة الجاذبة للبسطاء ، والاستحواذ على تأويلات الذاكرة الإنسانية أثناء تمركزها في الوعي الذاتي لأنسنة الحلم الواقعي الدُّنيوي .  
     وحينما يتحول الإنسان إلى نظام آلي استهلاكي متوحش فإن صيغ الأنسنة الداخلية المتماهية مع واقع يؤول إلى الخضوع لصاحب المال والسوط تؤول هي الأخرى إلى قوانين أكثر سادية في نهش الانطباعات المعنوية لإنسانية المجتمعات المتوازية مع الانحسار الجزئي لأنطقة تفشي جنون المنظور الاستهلاكي العابث بالمخزون الفكري المتداخل مع لغويات الحلم سواءٌ كان الحلم المجتمعي في تجريد المجتمع من السالب ومنحه فرصة التحليق نحو الموجب، أو الحلم الفردي في الانخراط داخل تيار اجتماعي يُعبِّر عن إمكانية تطبيقات ملامح هواجس الإنسان العادي في حياة كريمة في ظل مجتمع يتعامل مع أنساقه على أنها عسكرة المعنى ، ودموية الطبائع الفكرية في لغة العنف الاجتماعي الصامت .
     ومن الأهمية بمكان إدراك تقاطعات الفتن المجتمعية مع حالة النقص النفسي التي يحياها الأفراد في ظل ضغوطات قَبَلية يتم فيها تسجيل الفرد باسم القبيلة حيث يغيب التشخيص الدقيق لحالة الفرد في سبيل انكسار الروح الإنسانية في محيطات النفوذ . وهذا هو التوازي الرامي إلى صناعة الفتن صناعةً تخرجها من حيز التلقائية العفوية، وتنتشلها من بدهية ما يسمى بالصُّدفة ، من أجل توظيفها عَقَدياً وواقعياً في تثبيت الأمر الواقع، وتحقيق مكاسب معنوية اعتبارية ومادية مسيَّسة على هوامش قيم النفوذ وشهوة الحكم . ومن هنا نفهم التوازي المدروس بين متواليات التوفيق السيكولوجي الداخلي مع أنثروبولوجيا التجمع البشري خارج محيطات الكيان الفردي للأنا العليا التي تختزل المجتمعَ في صورتها النهائية التي تُقدَّم على أنها حاسمة وفاعلة .
     إن انكسار المخيِّلة الوجودية المبنية على تنسيقات المتوازيات الواقعية يؤدي حتماً إلى انكماش الروح الإنسانية في بؤرة المنفعة المادية الضيقة ، وبالتالي فإن قيمة الوهم العقلي سوف تتعزز لتصير معقوليةً جديدةً لأنساق واقعية تولد من رحم الاستغلال عن طريق زراعة شرور الفتن بُغية حصد مزيد من المكاسب المادية المسيَّسة ، والانتصارات على أرض الواقع . لكن تشظي المعاني الحساسة الهادفة إلى خلخلة المجتمع لإعادة بنائه حسب رؤية صاحب المال والسوط ، هو الذي ينتزع القيمة السيادية الحرة على النفوس البشرية ، وينقل إلى أرض الواقع قيمةَ الوهم من زوايا الذاكرة المخدوشة التي تم إقصاؤها بسبب انتمائها إلى التجريد النفعي الحاد.ومن هنا تنبع الخطورة الحاسمة ، إذ إن الوهم المبني على تصورات جدلية في محيطات التوازي التداخلي مع ذهنية التفكير العابر ، والمحصورَ في أنطقة استعادة واقعية المستويات غير المتعدية إلى الواقع ، يظل أقل خطورةً من الوهم الذي تم ترسيخه على أرض الواقع كتيار عقلاني فعلي يُبنَى عليه امتدادات المعرفة الإنسانية في صيغتها الاجتماعية الموغلة في التجريد السياسي . وهذا عائد إلى أن الواقع هو امتداد تيار انسحابي يصعب تأطيره في إطار نخبوي ، فالواقع أو الشارع هو وعاء حاضن لكل الأصناف بشتى مستوياتهم الفكرية ، والغالبية الساحقة من الناس لا تملك أهلية الاجتهاد والموازنة والتأطير العلمي الدقيق الذي يتيح لها تمحيص المقولات والأفكار والعقائد والتوجهات ، لذا تكون هذه الشرائح البشرية عُرضةً بشكل كبير للاختراق الذهني .
     كما أن الشرائح الإنسانية هي شرائح مضغوطة بشكل صادم بسبب خضوعها لآلة إعلامية شرسة من قبل النظام الحاكم . ومن أدبيات أي نظام قمعي أن يغسل أدمغةَ الناس عن طريق تحويل النهار إلى ليل والعكس ، بواسطة استقدام مفكِّرين مرتزقة، واستخدام أساليب مغلوطة يتم إلباسها لباس المنهج العلمي التأصيلي . ولأن الناس غارقون في مجتمع استهلاكي متوحش فإنهم يقفون موقف العاجز عن غربلة المعطيات التي تصل إليهم من هنا وهناك . ومما لا شك فيه أن الفتن يتم أدلجتها بواسطة اعتماد نظريات سحب الناس ليكونوا وقودها عن طريق إقناعهم بالغبش السياسي المدعوم بتصورات مغلوطة التفافية مصبوغة بالدِّين . لذلك كان كثيرٌ من محرِّكي الفتن على مر العصور مجموعة من البسطاء الذين انطلت عليهم حيلة القيادات المغرِضة التي تحمل توجهاتٍ متنوعة الانتماء والتأصيل الارتدادي للطبائع البشرية . وللأسف فقد اكتشفوا أخطاءهم بعد فوات الأوان  ، ووصلوا متأخرين جداً إلى شاطئ الفكر الآمن  . وعلى أية حال أن تصل متأخراً خيرٌ من
ألا تصل أبداً .
     وتظهر ازدواجية التيار الذهني الفاحص لبيئة العقل المغرِض من خلال التجاوزات غير المنطقية المبنية وفق مبدأ فصل السيادة الكيانية في داخل الذات البشرية المضطربة ، إذ إن الذات المضطربة هي الأكثر عرضة لتشرب الانحراف المعرفي التداخلي مع إشكاليات البنى السياسية المغرِضة التي تُحمَل على أسس دينية ، فتصير فلسفة " كلمة حق أُريد بها باطل " هي الفلسفة المعتمدة لدى أصحاب توجهات صناعة الفتن ، وتجارةِ الأشلاء من أجل تحقيق ربح سريع زائل . فقد صارت الفتن تجارةً يقودها رجال أعمال متوحشون مستعدون لفعل أي شيء لزيادة أرصدتهم من الذهب والفضة والجماجم والقبور . وأضحى أمراء الحرب الأنيقون المختبئون خلف ابتساماتهم العريضة ، والذين يرتدون أقنعة الشرف والطهارة والانتماء ، هم الذين يسعون في تأصيل الفتن ، ومحاولة انتزاع الشرعية الدينية لها عبر لوي أعناق النصوص ، والالتفافِ حول الكلمة المقدَّسة ، مطبِّقين نظرية الاقتران التي تقول إن الشيء إذا ارتبط بأمر محبَّب للنفوس صار ذاك الشيء محبَّباً للنفوس هو الآخر. ولأن الدِّين _ أي دِين _ هو المكوِّن الجمعي للمجموعات البشرية في شتى بقاع العالَم، وجدنا أن كثيرين يحاولون الالتصاق به ظاهرياً لخداع الرأي العام ، وانتزاع شرعية التقوى والنقاء الوهمية، وترسيخ صورة المجرمين كشرفاء في أذهان الناس الذين يتحركون وفق حركة المال والعصا أو الترغيب والترهيب. فهناك أنظمة حاكمة باسم الشيطان ، ومع هذا فهي تتخذ من الدِّين وسيلةً للحصول على شرعية التقوى والانتماء والطهارة لدى الرأي العام . كما ظهرت أسماء الكثيرين من القادة التي تُصبَغ بإطار ديني ليتم تجذير الذئب كَحَمَل وديع في أذهان البشر المغلوب على أمرهم الذين اختاروا العيش في أحضان زوجاتهم في غرف النوم المعتمة والتي صارت تماماً كجحور الفئران ، راضين بالذل والمهانة في صمتهم المخزي ، وهذا أدَّى إلى غياب المنهجية الثورية الناقدة لأفعال ولاة الأمر ، مما أدى إلى تماديهم في الظلم وسرقة البشر الصامتين ، وإطالة عمر الأنظمة الطاغوتية .
     وفي أحيان كثيرة تتجذر صناعة الفتن كتجارة رسمية رائجة لضمان تمزق المجتمع وتفرقه دون اتحاده على كلمة سواء، وهذا ما تريده الأنظمة الإرهابية الحاكمة التي تعتمد في أدبياتها مبدأ " فَرِّقْ تَسُدْ " ، وكلما ازداد المجتمع انفصالاً ازداد النظام الحاكم تماسكاً على أكثر من صعيد ، فمثلاً سوف يقوم النظام الحاكم بتمثيل دور المصلح بين فئات الشعب لما فيه خير الوطن والمواطن والمصالح العليا والوحدة الوطنية، إلى آخر هذه المخدَّرات السياسية . وبالطبع فليست هذه المصالحة الرسمية الظاهرية غير خطة لعمل موازنة بين الفريقين تضمن عدم اتفاقهما على رأي محدَّد ، من أجل كسب مزيد من الوقت، وتحقيق إنجازات انسحابية على الأرض. وعلى صعيد آخر سوف تتكرس فلسفة سياسة الفتن لضمان استمرارية اللصوص في الحكم على جماجم البشر الذين عشقوا انتحارَهم فكرهوا الحياة أحراراً ، وصاروا يرفضون الحريةَ في عقلهم الباطن ، ويخافون من الانعتاق من فرط ما تعوَّدوا على ملمس القيود والسجون .
     وبالنسبة للطريقة الفكرية التي يتم بواسطتها شرح الكمون غير المنطقي لفلسفة المتوازيات الشعورية في أحداث الفتن والاضطراب ، فهي طريقة متشظية وغير منضبطة بقواعد محدَّدة ، وهذا عائدٌ إلى كون الطبيعة الرمزية لهالة الحراك الاجتماعي المسيَّس تجريداً في صورة إحساس عميق بالانكسار الجزئي في مجتمعات ارتدادية في الانحسار العقلاني الكلي ، ومترددة بين الكبت الجنسي والكبت السياسي .
     فالفتن في شكلها النهائي تتخذ صفة الانحسار الفلسفي لأنها صورة العَرَض المادي الزائل ، إذ إنها تنشأ كفلسفة بعيداً عن الجوهر الكياني في الذاكرة الفطرية للإنسان . والفتن تجسِّد المشاريعَ الاستثمارية لرجال الأعمال وأمراء الحرب، لأنها تدخل في سياق المستوى التجاري، حيث يباع الإنسان لتتكرس المادةُ ، ويُسحَق المعنى بُغية تجذير مستويات جديدة من الألفاظ المفرغة من قوة أنسنة المعنى، أو لإبقاء الألفاظ قوالب فضفاضة يتم حقنها_ فيما بعد _ بالمعنى المطلوب المتلائم مع الأدبيات القمعية للسُّلطة الحاكمة .
     وكما أن الإحالة إلى صورة انكسار المعنى هي عبثية ألفاظ إحالة المجتمعات إلى القواعد التأطيرية للفتن فإن بنية التيار السلوكي لإشكاليات البناء الذهني على أفكار مجتمع مناوئ للتجريد الفلسفي ستظل محصورةً في قوالب يتم استدعاؤها بصورة تلقائية بعد حقنها بالأساس الواقعي الذي يجري عملية تلفيق واضحة بين فلسفة المنظور النفعي المادي حيث يُرمَى البشر إلى الموت بلا طائل من أجل تجذير استغلال عِلْية القوم وبين ضعف التماسك الاجتماعي في الشارع . ومثل هذه العملية التلفيقية من شأنها إحالة ديمومة تجارة الفتن من حالة العَرَض إلى وصف الجوهر، ومن تموضع السلوك الخجول إلى وضعية السلوك السافر، ومن فرضية النادر إلى نظرية العام ، ومن معنى الاستثناء إلى فلسفة الوجود العمومي .
     وفي خضم هذا التحول الشرس إلى تموضعات انكسار اجتماعيات المعنى ندرك كيفية تحول الفتن إلى فلسفة حُكْم لا يُستغنَى عنها في أدبيات الأنظمة الحاكمة الفاسدة . فالتجريد الذي يُشَيَّد
على أنقاض ذاكرة أنسنة المعاني ما هو إلا محاولة التفافية هادفة إلى قلب نظام الحكم الذهني في صورته الحاسمة على صعيد اجتماعيات الأخوة البشرية، فالفتن صورةُ انكسار الروح المجتمعية ، وتشتيت قيم السلام الداخلي في كيانات الفرد المتعدية إلى المحيط الاجتماعي للمعنى . لكن المعنى أحياناً قد يسبِّب إشكالية في نفوس أولئك المتاجرين من عِلْية القوم بالقدرات الفكرية للناس ، والذين يرمون من وراء هذه العملية إلى تفتيت الكيانات الإنسانية ، ومن ثم إعادة تركيبها لتتوافق قسراً مع الطبيعة الاستغلالية لعقلية استحواذ النخبة السياسية على المكاسب النفعية .
     إن صياغات الحلم الفكري لا يمكن أن تظل حبيسةً لأهواء الطبقة الحاكمة بالسوط ، لذلك لا بد أن تخرج بنية الصياغات من انكسار المعنى إلى تثبيت الدلالة الرمزية للفكر التمايزي . ومهمة هذا الفكر الفاحص التمحيصي هو تجذير سلوكيات الهوية المعرفية السياسية للجماعة من أجل الحيلولة دون تحول الشعب إلى قطيع غنم يقول ما يُقال دون إعمال عقله الجمعي .
     فالنخبوية الطبقية التي تُفَلْسِف قيمةَ الفتن بشكل ميكانيكي إقصائي ، لا تُعتبَر عملية منطقية تلقائية ، بل هي فوضى مدروسة ذات دلالة زمنية تشير إلى توحد المكان الخاضع للابتزاز مع فكرة امتصاص أكبر قدر ممكن من رحيق الحلم الشعبي البسيط . فالناس أعداء ما يجهلون ، لذلك فإن فلسفة الفتن تتم إحالتها إلى مستوى علمي تأصيلي يُبَث في نفوس الشعب على أنه مُسلَّمات وجودية وفق منهجية البحث العلمي التفصيلي ، وهذه الحيلة تنطلي بسهولة على الشعب صاحب الحصيلة العلمية الضعيفة . ومن هنا يتضح خطورة البناء الرمزي على مستويات علمية مغلوطة يراد منها أن ترتديَ لباس الصفة الأخلاقية للمواجهة الحاسمة .
     ومما لا شك فيه أن الخروج من دوائر العتمة التأسيسية يتطلب تأصيلاً في بؤرة الزمان والمكان معاً ، لأن أمراء الحرب الذين يستعدون للمقامرة بأجساد الشباب الذين يذهبون إلى الحرب بلا رجعة لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام المواجهة الفكرية الهادفة إلى تعريتهم أمام الرأي العام الداخلي والخارجي ، ولكي يتفادوا هذا الأمر ينغمسون في الحملات الدعائية المغرضة التي من شأنها رسم هالة من الأحاسيس البريئة ، والعواطف الجياشة التي تُقَدَّم على أنها خلاص المجتمع من كافة أزماته . وللأسف فإن غسيل الدماغ الذي يقوم به المنتفعون من النظام السلطوي ، والمرتزقة الذين يُوجِّهون بوصلةَ أفكارهم نحو من يدفع أكثر هو فلسفة الجهاز الدعائي الإعلامي للنخبوية الحاكمة الفاسدة . لكن صيغ الطموح العقلاني مهما جوبهت بحصار خانق لا بد أن تجد مخرجاً بسبب اشتمالها على مُقوِّمات  الفكرة التأسيسية للحلول الناقدة لصيغ بناءات المجتمع سواءٌ من الناحية التلقائية المنطقية أو الناحية المبرمَجة الواعية .
     وفي ظل تمزق الأبعاد الرمزية في طرق التقاء القرينة السيكولوجية مع مصلحة أنثروبولوجيا التسييس ، نجد أن طريقة التقاء القرائن المصلحية على أرض الواقع يعتريها كثيرٌ من التعقيدات الشكلانية الهادفة إلى الالتفاف حول مفهوم المعنى ، وحقيقةِ مذهب التفكير التَّعْرَوِي الحاد . فالدلالة المشيرة إلى التنازع الحاد بين مفاهيم البنى المعرفية صارت طريقةً مكشوفة لحشد الأتباع بعد سلخهم عن مستوياتهم العقلانية ، أي إن الجهل يصير نظاماً حياتياً ، يُسكَب عليه قطرات من المنهجية العلمية المغلوطة ليتم إدخال المجتمع في حالة الغيبوبة السياسية أو اللاوعي الاجتماعي الصادم ، ومن هنا يؤول المجتمع البشري إلى سبيكة غير متجانسة مصابة بالإرهاق الفكري ، والإعياءِ الوظيفي ، والغباءِ السياسي الذي هو فلسفة تعاملات النخبوية الحاكمة مع الرعية لضمان انعدام أي أثر للمعارضة أو المناقشة أو الاستدراك .
     وكما أن سلوك المجاز السياسي يُحال إلى صيغ توافقية مع العبث بمصائر البشر ، فإن رؤية الإشارات الرمزية تتقاطع بصورة حساسة على رقعة انهيار الذاكرة الروحية لصالح واقعية نفوذ المادة ، فيصبح الإنسان خادماً لشهواته الآنية غير الشرعية ، وتصبح باقي الكائنات الحية مجرد مشاريع استثمارية يُنظَر إليها على أنها جزء من شرعية الأخذ والعطاء ، تماماً كما يعتقد الحاكم أن إطعام الشعب أو تجويعه حق مشروع من حقوقه بوصفه السيد المطْلق لهؤلاء البشر الصامتين الذين لا يملكون الاعتراض على قاتلهم لئلا يفقدوا كسرة الخبز التي يحصلون عليها بكل ذل آخر النهار، ومن ثم يعودون إلى بيوتهم منكسرين ليرتموا في أحضان نسائهم ، ويمارسوا الجنسَ بشراهة تعويضاً عن خيباتهم المجتمعية الكثيرة ، والكبتِ الذي يعانون منه على جميع المستويات ، سواءٌ السياسية أو الاقتصادية أو الروحية أو المادية .
     ومن المؤكَّد أن فاعلية الفتن تعتمد على استغلال التأويل الإرهاصي الالتفافي للناس ، وتهييجِ عواطفهم ، لأن الغالبية الساحقة من البشر إنما تعيش على فورة الغضب ، وترتكز في بناء تصوراتها الشعورية إلى خزين العاطفة المتشظية إلى إنتاجات مكبوتة تنمو في الظل خوفاً من الصدام مع واقعية المجتمع الخشنة التي تتعامل مع مشاعر الناس كتحصيل حاصل لا طائل منه بفعل الحشد المادي الاستهلاكي القاسي .
     وعلى أية حال فإن قدرة التناقض على تفعيل الثنائية : الكبت الإحاطي الذي يحاصر أحلام الكيانات  البشرية  من كل الجهات ، واستغلال  الكبت لتحقيق أهداف مصلحية شخصية مضادة
لاتجاه الجماعة التأصيلي ، إنما هي قدرة مسيطر عليه من قبل قوى ذهنية مجتمعية ترسم المجتمعَ كدجاجة تبيض ذهباً يصب في جيوب أصحاب المشاريع الدنيوية الغافلين عن الآخرة . فالتركيب العاطفي مهما بلغ من منزلة سامية في تثبيت التَّماس الاجتماعي في نفسية السلوك الجوهري سيظل عَرَضَاً زائلاً ما لم يصحبه تأسيس فكري فاعل في كل جوانب المحيط الاجتماعي،ومثل هذا التأسيس لا يقدر أن يقوم به سوى صانع القرار ، لأنه يملك سُلطة الكلام المسموع ، وسُلطة تنفيذه على أرض الواقع .
     والنمذجة الوجودية الانتقائية ليست صناعةً لمستويات فلسفة الفتن كما يعتقد البعض ، أو وقوداً مُعَرَّضاً للاستخدام الانتقائي لتحقيق مصالح ذاتية في أي وقت . والسبب في ذلك راجع إلى أن النمذجة الوجودية الانتقائية مختلطة بالحس الإنساني العمومي، أي إنها تتخذ من النماذج البشرية أنموذجاً راقياً يصير غربالاً يفصل العناصر الصالحة عن الطالحة، ومثل هذه النمذجة إنما هي تكريس للموجب وإقصاء للسالب ، ووفق هذا الفعل العاطفي التمحيصي يتم إثبات إحساس إنساني وجودي مُؤْمن ، فيصير التجمع البشري هو الضمانة الحقيقية للحيلولة دون إغراق المجتمع في الفتن، ففي تلك اللحظة التمحيصية ينقسم المجتمع إلى قسمين: التجمع البشري الشَّعبي الإيجابي ، والنخبة الحاكمة السالبية . ومهما حاولت هذه النخبة جر المجتمع إلى حالة نزاع مجاني من أجل مصالح فئوية ضيقة ، فإنها ستواجه معارضة شعبية واثقة من رسوخها العلمي والعقلي ، وتمكنِها من تطبيقات الأنساق المعرفية الشاملة . فلا يمكن بأية حال من الأحوال جر أي تجمع بشري إلى الهاوية إلا إذا كان لديه الاستعداد الداخلي للانحراف ، وهذا الاستعداد إنما هو نابعٌ من ثنائية الشهوة والشُّبهة .
     وإذا أدركنا حتمية التوازي مع قيم أنسنة النمذجة المجتمعية اكتشفنا أهميةَ فصل العناصر الشاذة عن المسار الحضاري للمجتمع ، ليضمن المجتمع أن يتواجد على رقعة المعنى المستقيم ، وفي قلب الضمير المجتمعي العمومي الحي الذي يؤهله لأن يقول "نعم" في وقتها، ويقول " لا" في وقتها . كما أن القدرة الذاتية على تجذير صور التاريخ الشخصي الواثق تتأتى من سُلطوية ديمومة المواجهة مع الباطل الحاكم على المستويين: السياسي الرسمي، والشعبي العُرْفي. فالمعارضة الشعبية أو معارضة الشارع لسياسة احتراف الانحراف التي تنتهجها المؤسسة الحاكمة الظالمة ستزيد المجتمع قوةً ، وتُضعِف بالونَ الهالة الرمزية الذي ينتفخ في نفسية التداخل المؤسَّساتي في قلب الدولة . وبما أن الفتن هي صورة تثبيت النظام الحاكم عبر خداع الرأي العام ، فإن الضمانة الحتمية للأداء المعرفي الفذ هي بناء رأي عام قوي مثقَّف بعيد عن عقلية الأغنام التي تقول كما يُقال ، وتسير وراء الراعي سواءٌ قادها إلى المرعى الخصب أم الهاوية السحيقة .
     إن السياسة البدوية ما زالت تسيطر على أنساق مؤسَّسية متعددة في الشرق والغرب ، فالأمر غير مقصور على الأنظمة السياسية المتخلفة في العالمين العربي والإسلامي . إذ إن فلسفة التوازي الانكساري المتماهي مع مفاهيم قَوْلَبة الأنظمة الحاكمة لا بد أن تصطدم بالخط الرسمي رغم ظاهرية التوازي لأن كثرة الممارسة الانحرافية على الصعيد المجتمعي المضطرب لا بد أن تنقل حالة التوازي من قيمة المعرفة الهندسية إلى إشكاليات التخلف الواقعي  ، فيحدث التصادم الذي قد يكون أبيض ( سلمياً ) أو أحمر ( دموياً ) .
     لكن التوظيف الدلالي المحمول على تعددية المنظور المقترن مع الاستخدام العسكري للفكرة ، هو نتاج أدبيات عسكرة الأفكار ، وإخراجها من نطاق الكتب إلى الحيز المجتمعي على أرض الواقع بصورة دموية ، أو بعبارة أخرى تحويل الدلالة الكلماتية الصامتة إلى تيار عسكري حركي هادف إلى تغيير خريطة توزيع الأنساق في الشارع. وهذه العملية بالغة الخطورة ، لأنها إذا وقعت في أيدي جهات متطرفة مثل الأنظمة الحاكمة، أو الجماعات المحكومة بقمع الأنظمة الحاكمة، سيتم تكريسها كنظام واحدي مُتَقَوْقِع حول بؤرة التمركز الحاد ، والمركزيةِ النظامية الصارمة ، فيتم رفضُ الرأي الآخر ، وسحقُ الآخر ، والنظرُ إلى الأنا باعتبارها الأنا والآخر معاً ضمن منظومة أنسنة الواحدية ، وإقصاء البنية الإنسانية للكائن على أساس طبيعته الآدمية فقط لا غير . وهذه نقطة مجتمعية حرجة للغاية لأن طبيعة أنسنة الكيان الحي تغدو تياراً عنصرياً على أساس التكوين الإنساني المجرَّد من كل المعاني ، فينقسم المجتمع إلى بشر درجة أولى وثانية وعاشرة على أساس عِرْقي محض لا شأن للعقائد فيه ، وهذا هو انكسار الحلم الإنساني الشمولي في مجتمع خائف متخلف محكوم بنظام سياسي لصوصي متخلف .
     وتظل نظرة التمايز الصاعق هي الأبجدية البؤرية الحاملةُ لفكر المجتمعات ، والناقلةُ لصور أنسنة المجموع المعرفي . ومع تجذير سياسة مواكبة إمساك ثنائية الأضداد ينكشف لنا التجريد الشاعري للحلم كأساس ذاتي تمحيصي يُثبِّت تواجدَ المجتمع على أرض الواقع من خلال البناء الحضاري الأفقي والعمودي بصورة لا تعتنق فلسفةَ السيف إلا في مكانها الطبيعي الشَّرعي . أما أن يصير التسييس القمعي لتجارة الفتن تياراً قواعدياً شاملاً لكل مناحي الحياة من أجل تجذير سلطة النظام الحاكم الاستبدادي ، فهذا سوف ينقل المجتمع من حالة السلام مع ذاته _ حتى لو كان شكلياً _ إلى حالة الصدام مع ذاته جوهرياً وعَرَضياً، باطناً وظاهراً، ومن ثم ينتقل الصدام مع الآخر الشريك في المجتمع، فتصبح الأنا قسمين : الأنا الذات ، والآخر الذات . وهذا هو التمزق البشري في أكثر صوره السيكولوجية تعقيداً وعنفاً .
     ونظرية الانقسام المجتمعي أو تجذير صور الانقسام ما زالت تُسْتَغَل لإشعال الفتن في الوقت المطلوب الذي يناسب توجهات النخبوية السياسية الحاكمة ، أي إن السيطرة على مواعيد نزع فتيل الفتنة هي سيطرة من نوعية سياسية منهجية غارقة في التأسيس الكينوني الذي يعتمد في إيجاد أنساقه على تفريغ الكينون الإنساني من محتواه التلقائي المعرفي ، ليظل الفردُ جزءاً من قطيع الغنم لا يستطيع أن يرفع رأسَه ، لأنه لم ير في حياته أحداً يرفع رأسه ضمن دائرة الانغلاق الشرسة التي تفرض على أنسنة التجمع البشري خصائص الحِملان المستسلمة للذبح ضاحكة بكل سذاجة .
     والتمهيد الدلالي الذي يقود إلى مناقشة سياسة المنظور الاستخدامي للثروة البشرية في النزاعات المسلحة ، يُفترَض به أن يعطيَ مساحةً أكبر لمرتكزات الحلم البشري الشخصاني ، ليس على حساب استغلال الجماعة وتطويعها لخدمة الفردية الذاتية للأفراد المتنفِّذين ، وإنما وفق منهجية التفتيش عن الكوامن الإبداعية في الذات الفردية المحاصَرة بالانكسار المجتمعي المادي الاستهلاكي . أضف إلى هذا حتمية التأسيس المراحلي لبناء قدرات المجتمع على أساس التوظيف الدقيق للموهبة الفردية في إطار جماعي ، وليس توظيفها باعتبارها جزءاً من الفرضية العشائرية في مجتمع يتمزق روحياً ، ويؤول إلى ارتدادات قَبَلية موغلة في الاعتبارات الشخصية المناوئة للفكر الدينامي الحركي التثويري . وبلا ريب فإن مصطلح الثورة ومشتقاتها اللغوية ذات دلالة مخيفة بالنسبة لأنظمة الحكم التي تتشبث بعروش الجماجم بأظافرها وأسنانها ، وهذا مرجعه إلى اتخاذ صورة نمطية مسبقة عن تعريف الثورة بأنها قلب نظام الحكم . والحقيقة أن الثورة ذات مفهوم أوسع بكثير من هذا الأفق الضيق، فالنظام الحاكم لن يكون ناجحاً إلا إذا كان ثورياً انقلابياً . فأعظم ثوار وانقلابيين في تاريخ البشرية هم الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ ، فقد ثاروا على الجاهلية متعددة الأشكال والأقطاب والتطبيقات، وقلبوا أنظمة الحكم السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية ... إلخ ، وذلك عبر تحويلها إلى أنظمة إسلامية ثورية متقدمة تحترم عقلَ الفرد ولا تُدَجِّنه ، ولا تنظر إليه على أنه حَمَلٌ خانع ذليل إمَّا أن يَخضع أو يُذبَح . وهذه المنهجية الثورية تفضح زيفَ الأنظمة الحاكمة باسم الشيطان مهما ارتدت لبوسَ الثورية والديمقراطية والتقدم والحرية وحقوق الإنسان . فالطاغية لا يريد للشعب أن يرفع رأسَه مهما حصل ، ليظل هو في سُدة الحكم حتى وفاته ، ومن ثم استلام أبنائه للحكم إلى ما لا نهاية . وهكذا فمن مصلحة الأنظمة الحاكمة المتطرفة أن تُدجِّن الشعبَ ، وتبعده عن قيم الحق والعدالة الاجتماعية والمساواة ، وتُغمِض عينيه بإرادته أو رغم أنفه، لكي تستمر أطول وقت ممكن في سدة الحكم .
     واعتماداً على صيغ التوافق العقلاني في المحيط السياسي للفتن نكتشف أن الأقطاب المعرفية لأية فتنة تكمن في صيغ الابتزاز باسم الشرعية الموهومة . وغالباً ما تتغطى هذه الشرعية بالدِّين لاعتبارات تمس الطابع الإيماني للأفراد من شتى الملل. فالفتنة هي قدرة الابتزاز على تثبيت الأنساق الطامحة إلى انتزاع شرعية التواجد السياسي على الأرض، ومحاولة تجذير تداعيات جديدة تحل مكان فلسفة الأقطاب الفلسفية الذهنية من أجل فرض سياسة الأمر الواقع . والأخطر من هذه العملية هي تغيير الثوابت السياسية الفكرية في أذهان الناس عبر تكثيف حملات الدعاية المبرمَجة .
     لكن تشكيل بيئة الاشتراك الاجتماعي بين اللفظ الواقعي التطبيقي والمعنى السياسي المجرَّد بحاجة إلى صياغات أكثر إيغالاً في رمزية الكيان الإنساني من أجل الابتعاد عن جدليات التنميط ، والحيلولة دون الدخولِ في إشكاليات إطلاق تعميمات على طبيعة التشريح التفكيري للأفراد رغم اختلاف منهجياتهم الذاتية في الحكم على الأشياء .
     ومن الواضح أن الأشكال النهائية للفتن من حيث إنها انعكاس لهوس الأخذ والانتزاع تظل تموضعاً غارقاً في محدودية المعقولية المتنقلة ، لأن انتقال الافتراضات التي تُقَدَّم على أنها تصحيح للصيغ العقلانية من بيئة إلى بيئة يدل على أن هناك أمراً مشوباً بالريبة في تفصيل المعطيات السياسية وفق الهوى النفوذي ، وشهوةِ السلطان . فالتضارب المريع في تحوير الحكم الفكري من واقعة إلى واقعة بدافع التعصب للهوى النفعي ، وشهوةِ الاستبداد بالمنفعة والنفوذ ، ما هو إلا انعكاس مُتوقَّع للمجموع الشعبي الراضخ لسياسة الأمر الواقع. فأي فتنة سيكون وقودها الناس ، وإذا رفضها الناس سوف تموت في مهدها . إذن ، نخلص إلى القول إن انهيار السلوكيات النَّفسية في الداخل الوجودي للتعليل الوظيفي الإنساني أدى إلى الحصول على تفاسير مغلوطة متماهية مع اقترانات غير منطقية ترمي إلى إسقاط الوقائع الذهنية المشوَّشة على أرض الواقع ، وإحلالِ معقولية التطور الاجتماعي الوهمي في بؤرة الواقعية الملموسة ، فيعيش الفرد في المتخيَّل التوظيفي ظناً منه أنه يعيش على أرض الواقع . لذلك تكون الصدمة شرسة جداً حينما يصحو الفردُ فيجد نفْسه في محيط اجتماعي موغل في التوحش بينما هو كان عائشاً في الأحلام المستورَدة من عوالم لا تمت للواقع بِصلة . وهذا التمزق في مستويات الروحِ والمادة ، والأنا والآخرِ ، والمجتمعِ الداخلي والمجتمع الخارجي، سوف يقود إنسانَ الأداءِ الاجتماعي المتهالكِ إلى حالة من الانفصام المتداعي بقسوة مؤقتاً أو بشكل دائم، لأن الفردَ بنى حياته وفق أساس فكري محدَّد مخيالياً ومحصور في أنطقة عاجزة عن توليد إثبات في موطن الإثبات، وعاجزة كذلك عن توليد نفي في موطن النفي ، وقد اكتشف متأخراً أن الواقع شيء مغاير تماماً ، وهو بذلك يكون قد حاصرَ نفْسَه حصاراً شديداً أمام خيارَيْن لا ثالث لهما : العودة لتصحيح مفاهيمه حول ذاته المجتمعية الداخلية وطرق تحركها في محيط اجتماعيات الخارج ، وهذا سيستغرق منه جهداً شديداً ، لأنه سيقضي جزءاً كبيراً من حياته لا يمشي إلى الأمام ، وإنما يعود للوراء لردم الثغرات في طريقه، وتصحيح مساره الماضَوِي، ولكن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وأن تصل متأخراً خير من ألا تصل أبداً. والخيار الثاني هو مواصلة مشواره السالبي، والاستمرار في غَيِّه دون وازع ذاتي أو خارجي . وكما قال الشاعر :
لا ترجع  الأنفس عن غيها         ما لم يكن لها منـها رادع
     إن تأسيس المراحل النَّفسية في تجميع أجزاء سوسيولوجيا الفتن ينبع من التصوير الإسقاطي للفتن على أنها الضمانة الأساسية لحماية وجود الفرد وتاريخه ومكتسباته ، ولا يخفى أن إشعار الفرد بأنه في خطر لا بد أن يشحذ كوامن قواه ظاهرياً وباطنياً ، ويقوده _رغم أنفه_ إلى حالة الاستنفار القصوى ليحميَ وجوده الذي رُسِمَت حوله هالة الخطورة والتهديد . وهذه هي الفلسفة الجزئية لإشعال الفتن ، وجعل الناس وقودها .
     وفي ظل التناحر الاستقطابي يُعمَد إلى إحلال المخرَجات المتصوَّرة بشكل مصلحي مسبق مكان المدخَلات المحالة إلى إرهاصات مضطربة تلعب على وتر العاطفة الفردية الشاعرة بالخطر ، وذلك  من أجل الالتفاف حول الصياغات القادرة على اختزال أنسنة الوعي في بؤر فكرية واضحة المعالم، وقادرة على تثبيت الفعل الإنساني في محوره الأفقي المتعامد مع طموحات الفرد الشرعية . لكن هالة الاستقطاب معرَّضة لكي تنقلب على ذاتها بفعل عوامل خارجية ضاغطة من أجل انتخاب واقع جديد مُدَجَّن . وفي ظل هذا التدفق المعنوي الصارم تُحال الأنساق الفكرية إلى دلائل ذات أبعاد جدلية هدفها التغطية على التحضير الاستباقي للفتن بواسطة إحداث ثورة جدلية كلماتية في المجتمع مسيطر عليها أمنياً بُغية إبعاد الأنظار عن المسائل الكبرى . فالحاكم مثلاً قد يمنحك قصراً ، ليس لأنه يحبك ، بل لأنه يريدك أن تنشغل بهذا القصر الواحد عن حقوقك في عشرات القصور ، وبذلك يكون قد أشغلك بالأدنى لئلا ترى الأعلى . وهذه إحدى أهم أدبيات دساتير الحكام الطغاة لتمرير مشروعاتهم بعيدة المدى عن طريق الضحك على الأشخاص قصار النظر. ووفق هذه الفكرة قد نرى أن النظام الحاكم يُمثِّل دورَه بحرفية عالية في منع الفتن ، ليس من أجل حقن دماء الشعب، وإنما لتأخير موعد الفتنة كي يسيطر عليها تماماً ، ويستغلها لتحقيق أكبر قَدْر من المكاسب ، فيبدأ بها في الوقت الذي اختاره ، وينهيها في الوقت الذي اختاره . فالأنظمة السياسية الظالمة تؤمن أن الشعب هو الوقود الشرعي الذي ينبغي أن يحترق في محرِّكات قطارات الحاكم والحكومة والحزب الحاكم والدولة البوليسية ، لتظل مسيرة الحكم مستمرة على جماجم البشر الذين صاروا مجرد سكة حديد لا تاريخ لهم سوى الموت في سبيل ديمومة الفوضى الخلاقة الحاكمة . وهكذا يضمن النظام السياسي أن لا يُعكِّر صفوَه أي شيء لأطول وقت ممكن .  
     وإذا فهمنا الدورَ السياسي للتطابق الفلسفي المغلوط مع انكسارات المجتمع الإنساني ، وجنوحِ الفرد نحو عوالم الشهوات والشبهات ، أدركنا حجمَ التجريد العاطفي الذي يُبَث بواسطة أبواق السُّلطة لفرض التكتلات غير المنطقية على مستويات المنطق الاجتماعي العمومي . واستناداً إلى جوهرية المعنى الفكري يتم الكشف عن تداعيات الحياة المسيَّسة بواسطة إخضاعها لذاتية المنهج التمحيصي الأساسي الذي يدرس بنيةَ تحولات أنوية الجماعة البشرية ، ولا يكتفي بالضرب على السطح ، بل يغوص في الأعماق لكي يتداخل مع ذهنية التحليل والتحريم من الوجهة السياسية . وعليه فإن  كينونة الحراك الاجتماعي لا بد أن تصطدم بحالة الارتباك المعاشة في أحادية المستوى الشكلاني للمعنى السياسي . وعلى أية حال فإن السياسة في أدبيات الأنظمة القمعية لا تعدو عن كونها إطالة عُمر الحكم بواسطة الضغط على الفرد ، وإعاشته في حالة رعب مستمر يمنعه من التفكير في حالة البلاد والعباد . فالتعريف الاصطلاحي للسياسة في الأنظمة المتخلفة هي قيادة الشعب كأغنام يتم تقديم المرعى لها حسب درجة الولاء والانتماء إلى النظام الدكتاتوري .
     وهكذا نفهم عِلة غياب الأدبيات السياسية التنظيرية الدقيقة على المستوى الشعبي العادي ، وانحصارِ المفاهيم الدلالية للمعنى السياسي بيد فئات تطوِّعه لخدمة مصالحها الفئوية الضيقة عن طريق اللعب بمفردات التعريفات السياسية لتوظيفها في المجال النفعي المراد، وتحقيقِ مقارَبات خيالية من الازدهار والعدالة والحرية وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية ، رغم أن هذه المفاهيم ليست بأكثر من مخدَّرات سياسية تُعطى بقَدْر معيَّن في حالات معينة ، هدفها تزوير إرادة الشعب، وغسل دماغه بصورة دينامية حِراكية تصنع مجالاً جديداً من انكسار الوعي الاجتماعي لصالح اللاوعي الشامل . وفي  ظل  هذه  الرمزية  الموغلة في التوحش نكتشف أن مفهوم الشعب في ذهنية العقل الحاكم ليس بأكثر من بقرة حلوب ، تقضي حياتها جائعةً بائسة لتطعم عِلْيةَ القوم الذين لا يُقدِّمون لها سوى الإهانات والضرب والإقصاء .  
     ولا يمكننا اعتبار التأسيس الفلسفي للفتن تأسيساً معزولاً عن إرهاصات انهيار المجتمع، وضعفِ النواة المجتمعية في الذات الكينونية الشاملة المعبِّرة عن كيانات الفردية والمجموعِ الذهني العُرْفي ، والمعرفةِ التكريسية الفاعلة في تطبيقات المعنى الوجودي . فإشكالية انسحاب التداعيات المرحلية تتعزز خطورتها في صيغة التجذير غير المنطقي ، والذي يُبنَى على معيارية العناصر المتقابلة بشكل نسبي متغير، وليس وفق أساس قواعدي يشمل العِلة والمعلول، أو السبب والنتيجة. وهذه المرحلة المتقدمة في هوس سلب طمأنينة الفكرة من نفوس الناس خطيرةٌ للغاية، إذ إن التحرك وفق تقابلات النسبية المعرفية يُنتِج معرفةً سالبية على نطاق التعميم الفلسفي ، وغير قادرة على تطبيق أنساقها إلا ضمن محيط ضيق للغاية ، الأمر الذي يقتل فلسفةَ التعميم الذهني التقعيدي ، ويعيد السلوك الاجتماعي إلى انتكاسة ارتدادية صادمة بفعل شراسة التكثيف في محيط خانق ومخنوق في آن معاً .
     وإذا أردنا إيجاد تفسير منطقي دقيق لشخصنة الفتن كحالة اجتماعية استثنائية يتم استدعاؤها في وقتٍ محدَّد تختاره النخبوية الحاكمة الرامية إلى تنفيذ مصالحها الفئوية الضيقة فينبغي علينا تأسيس تفاسير عميقة لإشكاليات اختزال السُّلطة السياسية في ذات الحاكم ، حيث يصير الحاكم هو الدولة ، والدولة هي الحاكم ، ويكون حينئذ الشعب مجرد متفرِّج لا أكثر . وهذا التطرف الاختزالي ليس تجربة تطبيقية على عمق انهيار أدبيات نظام الحكم فَحَسْب ، وإنما أيضاً مؤشر خطير على تلاحم المعادَلات الاجتماعية بفعل الضغط السلطوي غير التلقائي ، والذي هو بمثابة إخراج الذاكرة الإنسانية من سياقها الطبيعي ، وإقحام مستويات جديدة من التسييس لا علاقة لها بالأبعاد الفكرية للحلم الإنساني .
     وأخطر ما يواجه الصياغات النَّفسية الداخلية للمجتمع هو حالة النمو غير الطبيعي للقيم المشاعرية التي تفترض تياراً معنوياً عارماً ، وتبني عليه إسهامات مُقْتَحَمة ضمن تصويرات مخيالية هادفة إلى صناعة واقع افتراضي هلامي جديد يُسحَب من أنساق المجتمع الإنساني متى شاءت النخبة الحاكمة ، ويُطبَّق متى شاءت . ولا يخفى أن تواجد مثل هذه الإشكاليات المحورية إنما الهدف منها فرض معطيات الأمر الواقع على الشعب المتذبذب شعورياً بين المال والعصا . أي إن أبجدية اجتماعيات السياسة تُحال إلى وصاية جديدة على المجتمع اعتماداً على أن المجتمع قاصر غير قادر على التمييز بين الغث والسمين ، وبالتالي فعلى النظام الحاكم وما يتفرع منه أن يُفكِّر نيابةً عن هذا الشعب الذي لا يعرف مصلحته . وهذه الفلسفة الضاغطة على أدوات الفعل الاجتماعي هي الشرعية الوهمية التي يتبناها التطبيق اللاعقلاني في مجتمع أدار ظهره للسياسة رغم أنفه ، وصار يلهث وراء كسرة الخبز ، وقد لا يُحصِّلها . لكن سياسة التجويع قد تثبت نجاحاً وقتياً عابراً ، بَيْد أنها قنبلة موقوتة قد تنفجر في أية لحظة ، فالشعب إذا جاع سوف يثور ، فالفرد حينما يصل إلى بؤرة التمركز حول غياب المعنى الحالم في حياته ، ويصبح وجوده كعدمه ، ويصير المستقبل جزءاً من الماضي ، عندها لا يوجد لديه أي شيء يخسره سوى قيوده ، وهذه هي شرارة الثورة الشاملة التي ستقود المجتمع إلى فتنة داخلية سوف يخسر فيها الجميع .
     وكما أن التفكير الذاتي في مآلات غياب الحلم عن ذهنية الفرد يُعتبَر من خصائص انعكاس الوصاية الحكومية على المجتمع بكل أطيافه ، فإن الحالة السيكولوجية للمعنى الاجتماعي قد تتمزق في حال حدوث صدام بين الأنا المجتمعية والذات الأخرى المحيطة بالأنا . فالمجتمع الذي يكسر الفردَ عمداً من أجل تطويعه لخدمة مصالح ذاتية محددة مسبقاً على مستوى النخبة المتنفذة ، هو مجتمع يغامر بشرعية وجوده ، ويقامر بأعز ما يملك ، وهو صياغات أنسنة الانبعاث الحضاري من كينونة انتماء الفرد إلى الذاكرة والذكريات .
     ولئلا ننسى قدرة التكثيف على صناعة مستقبل منبثق من قوة المصير الإنساني النبيل المنزاح نحو التفكير العقلاني ، ينبغي معرفة دور استيعاب وجودية المنظور الفلسفي ، وعلاقته الذاتية مع الامتداد الزمني للمواجهات العسكرية الداخلية ، لأن الفتن قد تُبَرْمَج خارجياً ، لكن حدوثها مستحيل بدون تنفيذ داخلي ، أو احتضانٍ ذاتي يتبنَّاها على مستويات ذاتية المشاعر ، واختزالاتِ السلوك التطبيقي لعقلنة التحويل الذهني الجمعي .
     لذلك فالفتنة تولد من الداخل وتتأجج من الداخل مهما كان الدور الخارجي كبيراً ، لأن الرَّحم الحاضنة لجنين المواجهة لا تكون خارجية بأية حال من الأحوال . إذن ، نخلص إلى القول بأن منهجية العقلنة السالبية المتواصلة هي ذاتية الاستحواذ على المكتسبات الجمعية وتطويعها لخدمة الأنا المفرطة في حدود زمانها الشخصي . وليست الفتنة إلا قدرة لغوية إقطاعية في أبجدية متشظيةٍ إلى تفاعلات كيانية ممزَّقة ، ومتماهيةٍ مع تصدع الحلم المقاتِل في شخصية المجتمع البشري الذي يؤول إلى الشخصنة المفرطة ، والأنانية المتوحشة ، والتكريسات المصلحية في بؤرة الأنا الضيقة . أضف إلى هذا أن أشكال بؤر الصراع ، وتقاطعاتِ الصدام الحامل للانكسار الإنساني المحمول على التجريد المخيالي ، سوف تؤول في نهاية المطاف إلى واقعية غير منطقية لكوامن التعبئة الشخصية في ذات الفرد . وهذه الذاتية ستغدو جنيناً متوحشاً ومتطرفاً إلى أقصى حد لأن المجتمع الإنساني       ( الرَّحم ) الحاضن لهذه البذرة غير المتكاملة مجتمع مادي خشن ، واستهلاكي قامع مقموع في آن معاً ، ومضاد للتيار الوجداني . وهذه هي البيئة الخصبة لولادة انهيار التجمعات البشرية .
     وتستمر تجارة الفتن في الانتقال من خلفية واقعية دموية ضمن المواجهة العسكرية إلى خلفية أخرى أشد تأطيراً لحالة الانبجاس الذهني الصاعق،وهي خلفية الفتن على المستوى الداخلي العقلي، أي إن الفرد يصل إلى حالة الفتنة الداخلية ، فيفقد السلام مع ذاته الداخلية . وهذه الفتنة الداخلية مبنية على تضارب الأفكار والتوجهات دون الوصول إلى بَر الأمان ، فيصير الفردُ جزءاً من تيار دينامي عنيف يتقاذفه ، فحينما تراه تعتقد أنه متماسك ، ولكن ناراً تتأجج في داخله المضطرب المستسلم لأمواج الفتن ، وتداعياتِ الشبهاتِ ، وشراسةِ إغراء الشهوات .
     ومن غير المستبعد أن تكون الفتنة الداخلية هي الأساس النظري للفتنة الخارجية ، لأن تنفيذ التطبيقات المناظرة لهالة الوعي المتصدع على أرض الواقع ، إنما تنبع من فكرة مسبقة مرسومة في تفاصيل الحس الشعوري الداخلي . فكل خارجٍ عبارة عن صورة الداخل ضمن متوازيات حالمة فاقدة لذهنية سريان الأفكار ، لأن التطبيقات الخارجية ليست أساساً نظرياً كلامياً ، وإنما صورية المشهد المرئي . أمَّا علاقة هذا المشهد المرئي بما وراء القدرة الذهنية على الرؤية فمسألة أخرى قد تكشفها إشارات الوجدان الإنساني ، وانعكاساتها على بؤرية صدام المعاني مع الألفاظ ، أو بعبارة أشد تكثيفاً صدام المتخيَّل النَّفسي مع إشاراته الدالة عليه ( مواجهة الدال النَّفسي غير الملموس مع المدلول الواقعي الملموس ) .
     وفي زحمة هذه الصدامات الداخلية والخارجية يفقد الفردُ جزءاً كبيراً من متوازيات صياغة حُلمه الطموح، لأن نفْسه التي بين جنبيه تضغط عليه ، وواقعه المحال إلى تكوينات رقمية استهلاكية يضغط عليه . لكن الفتن عموماً هي فن تحويل الضغوطات ، وإعادة هيكلتها بما يتلاءم مع المستوى العاطفي لعقلية البشر ، وإمكانيةِ رضوخهم أمام صعوبات الحياة ، وإغراءاتِ الأدوار الحيوية للتجارب الإنسانية المختلفة . وكلما أبدى الفرد استعداداً للتنازل انزاح مستوى تأسيسه العاطفي نحو إشكاليات تغييب الوعي ذي العلاقات مع الأنا والآخر لصالح مشروعه الاختزالي الانكساري حيث تتحول الكتلة البشرية من واحدية رموزها المتفرِّدة إلى طبيعة الآلة الصناعية التي تعمل دون كللٍ أو مللٍ، ليس بدافع الانتماء الحقيقي، بل لأنها لا تملك خياراً آخر بسبب وجود برمجة ضاغطة عليها ، ومسيطرة على مسارها بالكلية . لذا فإن ظروفاً معيشية بهذا المستوى الصاعق من الضغط النافذ إلى كينونة النواة الفردية حوَّلت الفرد من مستوى الحس الشعوري النبيل لإعمار الأرض إلى رَجل آلي لا أكثر ولا أقل ، يُبَرْمَج وفق مبادئ محددة لا دخل له في الحكم عليها من ناحية الصواب والخطأ ، ومن ثم تبدأ مسيرة العمل بلا اعتراض . وهذا التدجين أحال القيمةَ السلوكية الاجتماعية للفرد ، والنمو العاطفي لمراحل حياته ، إلى إجراء آلي ميكانيكي وحشي يعتمد على الأخذ ثم الأخذ دون التفكير في العطاء ولو لمرة واحدة .
     إن المنحى الميكانيكي مطلوب بقوة لتفعيل دور الفتن في فرض شروطها ، وشروطِ صانعيها على أرض الواقع. إذ إن إحلال العوالم سالبية الأجزاء المفروضة من الخارج الذهني على وقائع سير أحداث التاريخ المصنوع مسبقاً ، أو الذي يُصنَع حالياً ، من شأنه تكثيف تكتلات فرض تجارة الفتن على المستويات الشعورية للجماعة الإنسانية ، الأمر الذي يقود إلى صناعة متواليات هندسية من الابتزاز باسم الشعب الغافل عن أنوية التسييس المفتعَلة برمتها . وبما أن حالة التشويش في أدبيات صناعة الفتن هي ذاتها حالة تفصيل أزمنة المعنى على مقاس المكان الحاضن للخديعة ، فإن قيمة تحويل التكريس السَّلبي النَّفعي المحض من بنائية الداخل الفكري إلى أرض الواقع ستكون مستحيلة ومقتولة في مهدها في ظل وجود مجتمع حيوي دينامي مفكِّر . فالحل من وجهة نظر النخبوية السياسية الحاكمة لتمرير مشروع الفتنة ، أية فتنة ، وتكريس مشروعها الابتزازي المسيطر عليه روحياً ومادياً ، مدنياً وعسكرياً ، هو تحويل الفرد المجتمعي إلى رَجل آلي ميكانيكي الطابع والصفات والتطبيقات ، يتلقى الأوامر ويُنفِّذ دون أدنى اعتراض . وبشكل تلقائي انسحابي سوف يتحول المجتمع بأكمله إلى دلالة جدلية آلية ميكانيكية تَسحب عمقَ الصفات البشرية من كينونة الانتماء إلى التنوير والتثوير ، وتسكبها في ثنائية الارتداد الآلي : الفعل ورد الفعل .
     وتأتي ضرورة الاختزال المعنوي في السياق الطبيعي للرأي العام كضرورة هامة من أجل إيجاد منظور منطقي شعبي يقوم بعمل حاجز يَحول دون امتداد التسييس المغرِض طبقياً إلى الرأي العام ، فالسلوك الاجتماعي للفتن هو سلوك تمزيقي بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، ودائماً فإن الشعب هو الذي يدفع الثمن لأن النخبوية السياسية قادرة على الهرب في أية لحظة ، والعيشِ في أكبر عواصم العالَم ، ومن ثم ترك الشعب يواجه مصيره المحتوم، حيث القتل والتجويع والحصار وضياع التاريخ الشخصي والعمومي واختفاء أية خارطة للمستقبل واضمحلال هوية الوطن والمواطن .
     وفي ظل هذا الأفق المسدود تبرز نظرية التراكمية المخيالية ، وهي عبارة عن حِراك اجتماعي داخلي يتخذ من نفْسه حكومةً في الوقت الذي اختفت فيه الحكومة ، فيصبح الشعب حاكماً ومحكوماً في آن معاً . وهذه الثنائية غير المتجانسة هي تركيز اختزالي لعمق المأساة التي تعيشها المجتمعات التي صار مستقبلها جزءاً من الماضي ، على الأقل في المدى المنظور . لكن قوة أي مجتمع تكمن في قدرته على توليد حِراك اجتماعي حيوي وفعال ، من أجل تجذير مبدأ تداول الطبقية الاجتماعية بكل تفريعاتها ، وهذه هي الضمانة لبث الأمل في النفوس ، وتعميق فلسفة التغيير في ذهنية الفرد الروتينية القاتلة ، وعقليةِ المجتمع الاعتيادية الخانقة .
     واعتماداً على مدلول الرؤى الرمزية في سبر أغوار فلسفة الفتن نكتشف أن الطراز المعماري  في تقاطعات المجتمع مع الشخصانية الفردية مرتبط بشكل وثيق بالتكوين النَّفسي للفرد، وتكويناتِ الدولة الحاكمة من ناحية فلسفتها الأخلاقية ، ودورِها في تطبيق الذاكرة الوجدانية على الشعور الأساسي المساهم في تأسيس بنية دينامية حاسمة متعددة الاستخدامات . وإذا أردنا دراسة الطبيعة الفكرية للدولة أو نواتها الأساسية ينبغي تحديد مجال استخدام البنية الدينامية المنسوجة من العقل الجمعي المجتمعي للأفراد الذين هم الشعب، والعقل السُّلطوي الحاكم الذي تمثِّله المؤسسة الحاكمة.
     وهذا التحديد التأسيسي ضروري جداً إذا أردنا وضع التلاحم النَّسقي في صورته الطبيعية من حيث التوفيق بين خصائص النَّسق السياسي ، وتقاطعاتِ المجتمع البشري . إذ إن فردية المنظور الذاتي البحت للانضباط الأخلاقي في مجتمع تتلاعب به سياسات الابتزاز الحكومي ، والخديعةِ الحاكمة عن طريق دغدغة عواطف الناس ، وتسييسها لخدمة الطبقة المتنفذة ، حيث يوضع الرَّجل المناسب في المكان المناسب لخدمة الحاكم غير المناسب ، إنما هي فردية هشة تذوب في تصدعات العمود الفقري للمجتمع .
     وضمن سوسيولوجيا الفتن تنبثق فرضيات قد تُقدَّم على أنها نظريات ترمي إلى اكتشاف كُنه الماوراء السياسي ، أو النية المختفية في خلفية الأحداث ، فتضافر الظواهر الشَّيْئية في نظام نسقي محدود ومحدَّد يُبرِز لنا بشكل صاعق النوايا المبيَّتة مسبقاً ومساراتِها الموضوعة في ذاكرة الشعور التطبيقي، مع الانتباه إلى أن النية الصالحة لا تصلح العملَ الفاسد، فالطريق إلى جهنم معبَّدة بالنوايا الصالحة ، ولكن غياب المنهج المستقيم المعتمَد جعل من تلك النوايا لا وزن لها . وهناك مقولة مفادها أن الشيطان يكمن في التفاصيل . وهذه المقولة يجب تفسيرها على مستوى الزخم السياسي لكي نفهم أبعادها التطبيقية على أرض الواقع ، ونتمكن من ربطها بكافة الاتجاهات البحثية التي تكشف لنا أهمية المحيط الداخلي والحس الخارجي في تثبيت التوازي المعنوي الذي يطمح إلى تجذير إدراك الذات عن طريق إلغائها، أي إن " مَن يَخسر نَفْسَه يجدها ".وهذه العبارة المتفردة في دهشتها تُفهَم على صعيدَيْن : إيجابي وسلبي . ونحن نريد أن ندرس الجانب السلبي لها ، لأنه هو المقصود نتيجة وجود الزَّخم النخبوي الحاكم الذي يقف وراءها ، ويُجذِّرها كفلسفة تتضمن التضحية بالشعب وهو صامت مستسلم للمهانة ، مقابل أن ينال نصيبَه من الطعام والشراب . أي إن الفرد يخسر نفْسَه ويمتهنها لكي يحميَ حياته، وخوفاً من التعرض لمضايقات أزلام النظام البوليسي الحاكم.
     وفي ظل المجتمعات القامعة المقموعة ذات الصبغة البوليسية، سواءٌ في العقل الجمعي أو الفردي،  تؤول السُّلطوية النخبوية إلى إرهاصات فتن على كل الأصعدة ، لأن العيش في مجتمع متخلف هو شُبْهة الشَّهوة أو شهوة الشُّبهة. وبالتالي فإن غياب حقوق الإنسان ، وحقه في المشاركة السياسية ، والتدخلِ في الأمور العامة لمن امتلك الأهلية لذلك ، كل هذه العوامل وتفريعاتها تساهم في جعل الفرد مواطناً من الدرجة الثانية، وأن وجوده كعدمه. وهذا تجسيد حقيقي مؤلم للانكسار في روح الفرد، والتصدع في طبيعية العلاقات المجتمعية. فالإنسان مدني بطبعه، وقيمة المدنية هي قيمة الذات الفردية وتوظيفها في مجتمع يحترم الذاتية الخصوصيةَ في إطارها النَّفسي المحدود ، والكلي المجتمعي العمومي .
     إن مجتمع الفتن يُنتِج خطاً بيانياً متصاعداً من الأوهام الجاهزة ، والخرافاتِ الموضوعة خصيصاً للقولبة المسيَّسة ، إذ إن القدرة التوحيدية الرامية إلى جعل الفرد والوهم شيئاً واحداً خاضعاً _ بلا تفكير_ لمعطيات الإفراز الحاكم ، هي ذاتها القدرة التي تصوِّر الفتن على أنها تهديد لوجود الكيان الفردي أو الجماعي . ومن هنا نفهم دور القدرة التوحيدية التي تعيد إنتاج الإنسان مع كامل الإضافات الواهية لتعزيز دوره كحجر شطرنج يُستخدَم متى شاء اللاعب الذي يمسكه .

     وكما أن صناعة أبجدية الأطوار التوليدية لأنساق النواة الداخلية المجتمعية بحاجة إلى تفعيل أدوار الكيانات المستقلة من ناحية التفكير الشخصاني ، فإن مفردات التعليل السياسي لحالة الانهيار تظل جاهزةً على الدوام لتجذير الخديعة ، والتلبيسِ على العوام ، وإلقائهم في الشارع بعد أن تم استنزافهم روحياً ومادياً . لكن الثقل الوجداني المصبوغ باسم الوطن ما زال يُؤطَّر لخدمة المنظور الاجتماعي الضيق الذي يمثِّله عِلْية القوم بما يضمن مصالحهم الجزئية على حساب المصلحة الكلية المجتمعية . وهكذا يتحول الفرد من جزء أساسي في العملية التنموية الشاملة إلى جزء أساسي من الانهيار المجتمعي ، وسقوطِ الأحاسيس الرمزية المنسحبة على التداعيات المشاعرية في مجتمع لا قلب له بفعل الحشد المتواصل من التكثيف المادي الابتزازي ، حيث يغدو دم الفرد العادي جزءاً من ألوان العلم الوطني غير شاعر بالانتماء إلى أنويته الاجتماعية المركزية ، لأن الانتماء في عقلية الكينونة الإنسانية الرائية عملية متبادلة بين الفرد المصدري ( الجزئي العِلَّة ) والتجمعِ البشري الناتج( الكلي المعلول ). لكن الإشكاليات التي تظهر في المجتمعات بسبب التكثيف الهستيري للفتن، وتوظيفها في مساقات انهيار النواة الإنسانية ، وتحويلِ الكائن الحي إلى شيء استثماري متقوقع حول بؤرة التشيؤ الرمزي ، أي انكسار العاطفة الإنسانية ثم تحولها إلى إجراء ميكانيكي وتعليماتٍ عسكرية مفرغة من قيمة الروحانية التي تمنح المجتمع مداه ، إنما هي إشكاليات في مستوى الوعي المجتمعي ككل ، لأن الثالوث : الحُكم والحاكم والمحكوم ، هي علاقة اجتماعية قد تدخل في حيز الانهيار الاجتماعي ، إلا أنها تظل الصيغة التي لا يُستَغنَى عنها من أجل إدارة عجلة المجتمع سواءٌ إلى الأمام أم الخلف .
facebook.com/abuawwad1982