سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

25‏/02‏/2016

شوبنهاور وكراهية النساء

شوبنهاور وكراهية النساء

للكاتب / إبراهيم أبو عواد

جريدة القدس العربي

لندن ، 24/2/2016

..........................

    يُمثِّل الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور ( 1788م _ 1860م ) حالة فلسفية خاصة في النسق الفكري العالمي . فقد بنى أفكاره على التشاؤم المطلق ، بحيث كان يرى الوجود بؤرةً للحزن والكآبة ، ويعتبر الحياة شراً كاملاً، لا مكان فيها للفرح والسعادة . وما يُسمَّى بالسعادة عبارة عن تقليل كمية الأحزان والمصائب لا أكثر.
وهذه النظرة العدمية الشاملة لا بد من تحليلها في ضوء تفاصيل حياة هذا الفيلسوف العالمي ، للوقوف على المنعطفات الخطيرة في حياته الشخصية ، والتي أدَّت إلى توليد فلسفته التشاؤمية الصارخة .
     درس شوبنهاور الفلسفة في جامعة جوتنجن في الفترة ( 1809م _ 1811م ) ، وحصل على الدكتوراة في الفلسفة من جامعة برلين عام 1813م ، ( وهو في الخامسة والعشرين ) . ولا شَكَّ أن الحصول على الدكتوراة في الفلسفة في هذه السن الصغيرة ، مؤشر واضح على عبقرية شوبنهاور ، وأنه قد كرَّس حياته للعِلْم والفلسفة ، والتفتيش عن ماهيات المعنى في عالَم يتساقط حَوْلَه ، والبحث في تفاصيل الوجود ضمن حياة تنهار في داخل جسمه وخارجه ، وإيجاد أجوبة منطقية للأسئلة الوجودية المتكاثرة في وجدانه . وربما كان توجهه إلى طريق الفلسفة محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، وتعويضاً عَن خيبات الأمل في طفولته وشبابه المبكِّر، وانتقاماً مِن أحزانه وأحلامه الضائعة ، وهذا الأمر يتَّضح إذا عَلِمْنا أن أباه قد مات مُنتحراً عام 1805م . وبعبارة أخرى ، لقد تلقى الشاب شوبنهاور الذي كان في السابعة عشرة صدمةً وجدانية هائلة ، وهي انتحار أبيه . وغيابُ الأب بهذا الشكل المأساوي ترك جُرحاً عميقاً في نفس شوبنهاور ، الذي كان في تلك الفترة شاباً يتحسس طريقَه في هذه الحياة . وسقوطُ رمزية الأب بهذه الصورة المؤلمة والمفاجئة ، له تداعيات كارثية على الأسرة. وبما أن شوبنهاور كان وحيد أبويه ، فقد ازدادت حِدَّةُ هذه التداعيات . وكما يُقال : المصائب لا تأتي فُرادى . فقد خسرَ أباه معنوياً ومادياً ، ثم ما لبث أن خسر أُمَّه معنوياً ، حيث لم يجد فيها مثالاً للحب والحنان والاحتضان . ومن الواضح أن أُمَّه قد استغلت هذا الانتحار ، لتعيش حياتها بالطول والعَرْض بلا ضوابط . لقد تحررت من كل القيود الاجتماعية ، ورفضت كل معاني الفضيلة ، وراحت تُقيم علاقات مع الرجال بلا وازع ديني أو أخلاقي . وتصادمَ الشاب شوبنهاور مع أُمِّه بسبب أسلوب حياتها المتحرر ، وحدثت قطيعة تامة بينهما حتى ماتت ، ولم يَرها .
     إن صورة الأم تحطمت في نفس شوبنهاور، فقد كان ينتظر أن تحتضنه أُمُّه بعد انتحار أبيه ، وتُوفِّر له الأمن والأمان والمشاعر الدافئة ، وتُعوِّضه عن فقدان أبيه ، لكن هذا لم يَحدث . إن أُمَّه عاشت حياتها كما يَحلو لها، وكأن ابنها غير موجود أصلاً في عالَمها . عاشت لنفْسها بكل أنانية وتحرر ، دون أي اعتبار لابنها المكسور ، الذي حَوَّلَ شقاءه الحياتي وصِدامه مع أُمِّه إلى كَراهية شديدة للنساء بلا تمييز . اعتبرَ المرأةَ مثالاً للخيانة والاستغلال والشهوة ، لذلك لم يَرتبط بأية امرأة طيلة حياته ، ولم يُقِمْ أية علاقة نسائية ، لا داخل الزواج ولا خارجه .
     وانتقلَ فشلُه العاطفي وانكساره العائلي إلى ميدان العمل ، فأخفقَ في حياته التدريسية ، حيث عمل أستاذاً في جامعة برلين ( 1820م _ 1831م ) . ولم يَحْظَ بأي تقدير ، سواءٌ من طلابه أو زملائه . ولم يحقق نجاحاً من أي نوع . لم تَحْظَ شخصيته بالاحترام ، ولم تكتسب أفكاره تقديراً وانتشاراً ، ولم يُقبل أحد على مؤلفاته. لقد انتقل من فشل إلى فشل ، لذلك آثرَ العزلة والابتعاد عن الناس والاختفاء عن الأنظار ، فحصل على غرفتين في فندق متوسط ، وعاش فِيه الثلاثين سنة الأخيرة من حياته . عاش وحيداً وبائساً .  
     لقد كره هذا الفيلسوف النساء، واعتبرَ المرأة منبع الشرور ، ومثالاً لجنون الشهوة ، وتجسيداً للخيانة والغدر والحقد . وحصرَ المرأة في زاوية الجسد ، ولم يرها إلا من خلال بؤرة الجنس ، لذلك كان يُعلي من شأن الغريزة الجنسية ، ويجعل منها المحور الأساسي في حياة الإنسان ، ويَعتبر أن كل سلوك اجتماعي يمكن تفسيره بالكامل وفق الدافع الجنسي . وهذا يعني أنه جرَّد المرأة من كل فضيلة ، واعتبرَها آلةً للتكاثر وبقاء النَّوع البشري ، والحفاظ على الحياة في وجه الموت .
     لقد ترك شوبنهاور عدة مؤلفات، من أبرزها: 1_ الأصول الأربعة لمبدأ السبب الكافي ( رسالة الدكتوراة) ( 1813م ). 2_ الإرادة في الطبيعة ( 1836م ). 3_المشكلتان الأساسيتان في فلسفة الأخلاق ( 1841م). وبدأت مؤلفاته في نهاية حياته تثير الاهتمام ، وتلقى نوعاً من الرواج .

     وبعيداً عن مؤلفاته ، فإِن فلسفة شوبنهاور الاجتماعية تجاه الإنسان والمرأة تحديداً ، يمكن تلخيصها وفق مقولاته الشخصية . ووفق تقديري البسيط ، فإِن هناك خمس مقولات لشوبنهاور تلخص فلسفته الاجتماعية كاملةً . المقولة الأولى : " حياة الوحدة مصير كل الأرواح العظيمة " . وهذا يعني أن العزلة هي طريق السُّمو الأخلاقي ، وأن الابتعاد عن الناس يدل على المجد والعَظَمة، وأن التعامل مع الناس سبب كل الشرور . والمقولة الثانية : " كل مآسينا تقريباً تنبع من صِلاتنا بالآخرين " . وهذه العبارة مترابطة تماماً مع قناعته بأن العلاقات مع الآخرين سبب للشقاء والتعاسة والأحزان، وأن الانفراد بالذات طريق السعادة وراحة الضمير. والمقولة الثالثة: " يمكن للمرء أن يكون على طبيعته فقط عندما يكون وَحْدَه " . لقد اعتبرَ الحياة الاجتماعية قائمة على النفاق والرياء وارتداء الأقنعة ، ولا يمكن للمرء أن يجد نفْسَه الحقيقية ، ويرى وجهه بلا قِناع ، إلا إذا كان وحيداً ومنقطعاً عن الناس . والمقولة الرابعة : " التضحية باللذة في سبيل تجنب الألم مكسب واضح " . يُشدِّد على أهمية النظر إلى ما وراء الأمور ، وعدم التخندق في اللذة الآنية الزائلة ، فقد تَكون اللذةُ المؤقَّتةُ سبباً للشقاء الأبدي ، لذلك يُركِّز على فكرة التضحية باللذة من أجل تجنب الألم . وهذه المقولة قد تُفهَم في سياق العلاقة الزوجية . حيث إِن شوبنهاور يَعتبر المرأة منبع الشرور ، ويعتبر الحياة جحيماً من المصائب والكوارث . والمرأةُ والحياة وحدة واحدة لا تتجزَّأ ، لأن المرأة هي الحاضنة للجنس البشري ، وهي التي تحفظ بقاء النَّوع الإنساني من الانقراض . وهذا يَعني أن المرأة هي السبب في شقاء الإنسان وعذابه ، لأنها السبب في مجيئه إلى الأرض . لذلك من الذكاء _ وفق شوبنهاور _ التضحية باللذة الجنسية التي تؤدي إلى ولادة الإنسان ، من أجل تخليص الإنسان من العذاب ، وتجنب الشقاء والمعاناة والآلام . والمقولة الخامسة والأخيرة : " الرجال بطبيعتهم لا يُبالون ببعضهم البعض ، أمَّا النساء فأعداء بطبيعتهم ". إنه فاقد الثقة بالرجال والنساء على السواء ، فالعلاقات الاجتماعية يحكمها الرياء والحقد والعداوة ، وتفتقد إلى المشاعر الدافئة ، والأحاسيس البريئة . لا أحد يحب أحداً في هذا العالَم القائم على الحقد والشر والكراهية والعدم. لذلك، حسمَ شوبنهاور أمرَه ، وقرَّر اعتزالَ الناس، والاكتفاء بمعرفة نفْسه بعيداً عن الأنظار. لقد أرادَ أن يَكون على طبيعته ، فعاشَ وَحيداً ويائساً .

19‏/02‏/2016

الجيوش عندما تحارب البعوض

الجيوش عندما تحارب البعوض

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

https://www.facebook.com/abuawwad1982

https://twitter.com/abuawwad1982

.........................

     إن العالم المضطرب الذي نعيش فيه ، لم يُغيِّر الأنماط السياسية فَحَسْب ، بل أيضاً غيَّر السلوكَ الإنساني ، وبدَّل الوظائفَ المجتمعية . وصار الانتقال من الضد إلى الضد ، أو من النقيض إلى النقيض ، أمراً عادياً في ظل الانهيار الاجتماعي ، والانكسار السياسي ، والمأزق الوجودي الذي يعيشه الفردُ والجماعة على حَدٍّ سَواء .

     ومن أبرز التحديات التي طَفَت على السطح مؤخراً ، انتشار فيروس"زِيكا "، وهو فيروس جديد ينتقل بواسطة لسع البعوض ، ويُسبِّب مرضاً غامضاً ، لا يزال العلماء يحاولون جاهدين فك شيفرته ، ومعرفة كيفية التعامل معه . ويعتقد البعض أن الأمر عادي ، ولا يَدعو إلى القلق ، حيث إِن البشرية تعوَّدت على ظهور أمراض غامضة بين الحين والآخر . وقد يكون هذا الاعتقاد صحيحاً . لكن المقلق في الموضوع عِندما تُجنِّد دولة عظمى مثل البرازيل ( خامس أكبر دولة في العالم ) قواتها المسلحة لمحاربة البعوض . فالجيشُ البرازيلي في أقصى حالات التأهب ، وأفراده يستعدون لخوض حرب غير تقليدية . إنها حرب من نوع خاص ضد البعوض الناقل لفيروس " زيكا " . حوالي 220 ألف جندي برازيلي بشاركون في حملة حكومية من أجل التوعية ضد الفيروس الفتاك، وذلك من خلال طرق أبواب المنازل، وتوزيع ملايين المنشورات لإخبار السكان عن أفضل وسيلة للتصدي لهذا الفيروس الذي لم يكن في الحُسبان . صحيحٌ أن هذا الجيش يقوم بمهمة إنسانية سامية لإنقاذ أبناء بلده . لكن السؤال الذي يطرح نفسه : أين مؤسسات الدولة المختصة بشؤون الصحة والسلامة العامة ؟ .

     لقد تغيَّرت تفاصيل البُنى الاجتماعية ، واختلفت طبيعةُ الإنسان المعاصر ، وتبدَّلت وظائف المكوِّنات المركزية في المجتمع. فالجيشُ الذي يتم بناؤه للدفاع عن حدود الوطن ضد الأعداء، ويتم تدريبه على خوض الحروب، صار يحارب الحشرات، ويخوض حرباً غامضة غير تقليدية ، لا تُدرَّس في الكليات والمعاهد العسكرية. وهذا التغيير الجذري في وظيفة المؤسسة العسكرية يُشير إلى تعقيدات العالم المعاصر ، والتحديات المصيرية المفروضة على النظام الإنساني بِرُمَّته ، وأن الوجود البشري دخل في مرحلة حرجة للغاية ، لا قانون يَضبطها ، ولا قاعدة تُنظِّم عملها .

     ولوْ جِئنا إلى المنطقة العربية لوجدنا الجيش المصري في أواخر عهد مبارك ، قد تدخل لحل مشكلة الخبز     ( العيش )، فعندما صار الناس يموتون في طوابير الخبز ، وتظهر فتاوى تعتبر الشخص الذي يموت في طابور الخبز شهيداً ، حدثت ضجة هائلة داخل مصر وخارجها ، مِمَّا اضطر الجيش أن يتدخل بنفْسه في هذه القضية الغذائية ، وقام بفصل المخابز عن أماكن توزيع الطحين ، وساهم في حل هذه المشكلة . وقد قام بمهمة إنسانية جليلة . لكن السؤال الخطير : هل وظيفة الجيوش توزيع الخبز على الناس ؟ ، وأين مؤسسات الدولة المختصة بالغذاء والتموين ؟ .

     إن هناك فلسفة شديدة الخطورة يمكن استنباطها من هذا الأمر . فالعالم الذي نعيش فيه شديد التعقيد ، وهذا يعني أن الحروب ستنتقل من المعنى التقليدي إلى المعنى غير التقليدي ، وأن وظيفة الإنسان تتغير بحسب شدة المأزق الوجودي الذي يتفشى في الأنساق الاجتماعية. كما أن الدول التي تفتقد إلى مؤسسات المجتمع المدني القوية ، ولا توجد فيها مؤسسات سيادية راسخة ، سوف تلجأ إلى الاستثمار في المؤسسة العسكرية ، وسوف تضع كل بَيضها في سلة الجيش ، باعتبار أن الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي تتمتع بالتماسك والنفوذ في مجتمع مُفكَّك ومنهار . وهذه الثقة المفرِطة في المنظومة العسكرية لها جوانب سلبية ، فهي تجعل الجيش فوق مؤسسات الدولة ، وفوق المساءلة والحساب. مما يؤدي إلى عسكرة المجتمع ، وبث الروح العسكرية في الروح الإنسانية ، وأنساقِ المجتمع المدني . كما أنها تُعطي رسالة خاطئة وغير مباشرة لأفراد الشعب ، مفادها أن الجيش يسيطر على كل المجالات ( السياسة ، الاقتصاد ، الثقافة ، الإعلام ، ... إلخ ) ، ولا داعي أن يَعمل الناس أو يَجتهدوا ، لأن وجودهم كعدمه بسبب عجزهم عن التغيير ، لأن التغيير بيد الجيش وَحْدَه . وهكذا تنتشر فكرة " انتظار الْمُخَلِّص " . وهذه الفكرة تتجلى في انتظار الجيش القادر على عمل كل شيء . فإذا انهار الاقتصاد فانتظروا الجيش لأنه يسيطر على المجالات الاقتصادية ، وسيجد حلولاً فعال لمشكلة الاقتصاد . وإذا انهار التعليم ، فانتظروا الجيش ، لأنه مثال للعِلْم والشرف والوطنية ، وسيجد الحل لمشكلة التعليم . وإذا انهار النظام الصحي ، فانتظروا الجيش ، لأنه يملك الخبرة بما لديه من مستشفيات وأطباء وعلماء ، وسيجد الحل لكافة الأمراض . وإذا انهيار النظام السياسي، فانتظروا الجيش ، لأنه حريص على الوطن ، ولا يطمع في ثرواته ، وسيجد نظاماً سياسياً مناسباً للشعب .


     إن هذه الأفكار شديدة الخطورة، ولها تأثيرات سلبية على مسار الوجودي الإنساني بكل تفاصيله. صحيحٌ أن الجيوش لها مهمات إنسانية جليلة ، ولكن ينبغي وضع الأمور في سياقها الطبيعي، والإيمان بأنه ليس بالجيش وَحْدَه يحيا المجتمع .  

13‏/02‏/2016

القيم الإيجابية والسلبية في شعر المعلقات

القيم الإيجابية والسلبية في شعر المعلقات

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

https://www.facebook.com/abuawwad1982

https://twitter.com/abuawwad1982

.......................


تمهيد
     يمتلئُ شِعْرُ المعلَّقات بالقيم الإيجابية والسلبية على حَدٍّ سَواء ، وهذا أمرٌ متوقَّعٌ، فالإنسانُ تتنازعه قُوى الخير وقُوى الشَّر.فتارةً يَكون صالحاً في أعلى درجات النقاء، وتارةً أخرى يَكون فاسداً في أحط دركات الشقاء .
     ومِن القِيَم الإيجابية البارزة في شِعْر المعلَّقات : الإقدام والشجاعة والجرأة وما يرتبط بها من قُوَّة ونُبْل وتضحيات جسيمة . وتتَّضح ثقافةُ إغاثة اللهفان ، ومَد يد العَوْن للمحتاجين والطبقات المتدنِّية في المجتمع ، ومساعدة الناس، وتفريج كُرباتهم ، وحَل مشكلاتهم . وتَبْرز أهميةُ الثبات عند الشدائد ، والصمود في وجه المِحَن والأزمات . وتتجلى قِيَم الإحسان والوفاء وإنصاف الخصوم ومدحهم ، وهذا يدل على الرُّجولة واعتناقِ الحق . ولا يمكن نِسيان تعظيم الضيف وإكرامه، فهذه الصِّفةُ ثقافة اجتماعية عامة . وتتجلى معاني الإيثار والكرم والأمانة والشرف وحفظ العهد والعِزَّة، وكلُّ هذه الصفات تُشكِّل كِيانَ الإنسان العربي روحياً ومادياً.
     وعلى الضِّفة الأُخرى، تتَّضح القِيَمُ السلبية التي تشير إلى تناقض بعض الأفراد. فنجد البخلَ صِفةً لازمة للبَعض مع أنها مذمومة في الثقافة العربية ، كما تَظْهر ماهية الذل والخضوع والانكسار في المجتمع العربي . وعلى الرغم مِن نُدرة هذه المعاني السلبية إلا أنها موجودة لدى شريحة من الأفراد والقبائل . وتَبْرز قضيةُ الإحسان في غَيْر مَوْضعه ، ومدى خطورتها. ومن المعاني السلبية الثابتة في الشخصية العربية ، الظلم والتكبر والثأر والتبذير ، فهذه معانٍ أساسية ومنتشرة بصورة هائلة ، بحيث صارت ثقافةً عامة يُفْتَخَر بها، ويتم تقديمها كَقِيَم إيجابية رائعة. وهذا يُشير إلى اختلال الموازين، وانقلاب المفاهيم . وبالإضافة إلى هذا ، تتكرَّسُ الغِيبة والحقد والذم والانتقاص باعتبارها ماهياتٍ سيئة، وأسلحةً للعاجزين والضعفاء الذين لا يَقْدرون على المواجَهة ، ومقارعةِ الحُجَّةِ بالحُجَّة .
أ _ القِيَم الإيجابية
1_ الإقدام :
     هناك فَرْقٌ جوهري بين الإقدام والتَّهور . فالإقدامُ تسيطر عليه رُوح المبادَرَة ، أمَّا التَّهور فهو خاضعٌ لِنَزْوة طائشة .
     يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
إذا القومُ قالوا مَن فَتَىً خِلْتُ أنني          عُنيتُ فلمْ أَكْسَلْ ولَمْ أَتَبَلَّــدِ
     إذا وَقَعَ أمرٌ خطير ، وهَجَمت المصائبُ من كل الجهات ، فلا بد أن تتكاثف العشيرةُ، ويجتمع القومُ من أجل اتخاذ القرارات المصيرية . ومن الطبيعي أن يَبْحث القومُ عن مُنقِذ ومُخلِّص . ففي الشدائد تتَّجه الأنظارُ نحو الفارس المغوار القادر على حماية القوم ، وتفريجِ كُرباتهم ، وتخليصهم من مأزقهم .
     وإذا القومُ قالوا : مَن فتىً يَدْفع شَرَّاً ويَجْلب خيراً ؟ ، اعتقدَ الشاعرُ أنه المراد بقَوْلهم ، والمقصود بكلامهم . فلم يَتأخر عن تقديم العَوْن ، ولم يتهرب من تحمُّل المسؤولية الجسيمة ، ولم يَكْسَلْ في دَفْع الشر ، ولم يتبلَّد فيهما .
     يتمتَّعُ الشاعرُ بِرُوح المبادَرَة ، ويتقدمُ الصفوفَ بكل حماسة . فأخلاقه العاليةُ تَدْفعه إلى نجدة قَوْمه بأسرع وقت ممكن ، ومَدِّ يد المساعدة دون تأخير . وهذا يدل على استعداده الفِطْري للتضحية،وتقديم حياته رخيصةً من أجل حياة قَوْمه ومجدهم.

2_ إعانة القوم :

     يُوظِّف الشاعرُ كلَّ إمكانياته للدفاع عن قَوْمه ، ورفع اسمهم في كافة المحافل ، وإعانتهم في دَفْع الشرور ، وجلبِ المنافع . إنهُ يُسخِّر طاقته بشكل كامل في سبيل صيانة شرف القَوْم ، وإعلاء شأنهم في المجتمع .
     يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
 
ولَسْتُ بِحَلالِ التِّلاع مَخافةً          ولكنْ متى يَسْتَرْفِدِ القَوْمُ أَرْفِدِ

     يُمجِّد الشاعرُ نَفْسَه ، ويُحيط شخصيته بهالةِ الشرف والرِّفعة . فيقولُ : أنا لا أَحُلُّ التِّلاعَ ( الأماكن العالية ) مخافة حُلول الضيوف بي ، أو غزو الأعداء إِيَّاي . ولكني أُعين القومَ إذا استعانوا بي ، وأُساعدهم بكل ما أَمْلك إذا طَلبوا مساعدتي . والاسترفادُ الاستعانة .
     لا يَهْرب الشاعرُ من تحمُّل المسؤولية ، فهو دائماً في المقدِّمة . لا يَحُلُّ الأماكنَ العالية هرباً من الضيوف ، فهو يُكرِم الضيوفَ ولا يُهينهم . ولا يخفَى أن التَّهرب من الضيوف يدل على البُخل واللؤم . وفي نفْس الوقت ، لا يَهْرب من مُواجَهة الأعداء ، فهو يُواجِههم بكل بسالة ، ولا يتهرَّب من لقائهم . وبالطبع ، إن الهروب من الأعداء دليلٌ على الضعف والخوف . إذن ، لقد نَفَى الشاعرُ عن نفْسه البخلَ والخوفَ . وها هُوَ يَضع كلَّ جهوده تحت أمر قَوْمه ، ويُسخِّر إمكانياته لخدمتهم ، إذ إنه يُعينهم إذا استعانوا به ، إِمَّا في إكرام الضيوف ، وتقديم الطعام لهم ، وإمَّا في قتال الأعداء، ورَدِّهم خائبين خاسرين . وهكذا ، نجد أن الشاعر يَلْعب دوراً حيوياً في نصرة قَوْمه ، ومساندتهم . وهو ثابتٌ في مُقدِّمة الصفوف ، لا يتهرب من تحمُّل الأعباء العظيمة ، ولا ينسحب من المواقف الحاسمة .

3_ نجدة المستغيث :

     تُعتَبَر إغاثة الملهوف ، ونجدة المستغيث ، ومساعدة المحتاج ، من المعاني السامية في المجتمع العربي ، ولا يمكن تجاوز هذه القِيَم الأساسية التي تَمْنَح الشرعيةَ الأخلاقية للإنسان العربي ، وتعزِّز الروابطَ الاجتماعية في البيئة الصحراوية القاسية ، وتُلمِّع صورةَ القبيلة ، وترفع من أسْهمها في هذا الفضاء القَبَلي المغلَق .
     يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وَكَرِّي إذا نادى المُضافُ مُحَنَّباً          كَسِيدِ الغَضا نَبَّهْتَهُ المُتَــوَرِّدِ

     مِن الصفات الراسخة في كيان الشاعر،والتي يَمْدح نَفْسَه بها، إغاثته المستغيث، ومساعدة اللاجئ إليه ، وإعانة الشخص الذي يَسْتنجد به .
     لا يَقْدر الشاعرُ أن يتجاهلَ نداءَ المستغيث، ولا يستطيع أن يُهمِل حاجةَ الملهوف. فإذا ناداه الخائفُ المذعورُ ( المُضاف ) طالباً العَوْن والاستغاثة ، فإن الشاعرَ يَسْتجيب له على الفَوْر ، ويُحوِّل وُجهته . يُقبِل بِفَرَسه ( يَكُرُّ ). إنهُ يَعطف فَرَساً مُحَنَّباً ( بعيد ما بين الرِّجْلَيْن ) ، وهي صِفةٌ محمودة في الفَرَس إذا لم تتجاوز الحدَّ، كما أنها تُشير إلى شِدَّة بأس الفارس.وكما هو معلوم، فإن الفَرَسَ مِن الفارس.  
     وهذا الفَرَسُ المتفوِّق سريع للغاية ، فهو يُسرِع في عَدْوه إسراع ذِئب( سِيد ) يَسْكن بين الغَضا ( الشجر ) إذا نَبَّهْتَهُ ، وهو يُريد الماءَ ( المُتَوَرِّد ) .
     وقد شَبَّه الشاعرُ فَرَسَه بذئب له ثلاث صفات : الأُولى _ أنه ذئب يَسْكن بين الشجر ( الغَضا ) ، وذِئبُ الغَضا أخبث الذئاب ، لأنه لا يُباشِر الناسَ إلا إذا أرادَ أن يُغِير . والثانية _ إثارة الإنسان إيَّاه . والثالثة _ وروده الماء .
     والمقصودُ من تشبيه الفَرَس بهذا الذئب ذي الصفات الثلاث ، هو التشديد على سُرعةِ الفَرَس ، وشِدَّةِ عَدْوه .

4_ الجُرْأة :

     يَحْرص الشاعرُ على إظهار جُرْأته ، والإشادة بخصائصه المتفرِّدة المرتبطة بهذه الجرأة . يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
ولكنْ نَفَى عَنِّي الرِّجالَ جَرَاءتـي          عَلَيهم وإقدامي وَصِدقي ومَحْتِدِ

     يَبْتعد الشاعرُ عن الصُّوَر الشِّعرية ، وذلك لكي يُقرِّر ما يُؤمِن به ، ويُثبِّت ما يراه حقيقةً لا تَقْبل الجِدال. لذلك، من الطبيعي أن تأتيَ كلماته _ في هذا السياق _ تقريرية مُباشِرة وشعاراتية .  
     يقولُ: ولكنْ نَفَى عَنِّي مُواجَهة الرِّجال ومجاراتهم ، شجاعتي في المواقف الحاسمة، وإقدامي في الحروب والشدائد ، وصِدق عزيمتي ، وطِيب أَصْلي ( مَحْتدي ) .
     إن صفات الشاعر تتحدث عنه ، والمزايا الكثيرةُ التي يتمتع بها هي أكبر دليل على تفوُّقه على أقرانه وخصومه . لقد نُفِيَت الصفاتُ السلبية ، وأُثْبِتَت الصفات الإيجابية . ومِن أفعالهم تَعْرفونهم ، وكلُّ شجرةٍ تُعرَف بثمارها .

5_ الثبات عند المصائب :

     الرِّجالُ يُعرَفون عند الشَّدائد . والمصائبُ تَكْشف عن معادن الناس. وكلُّ شِدَّة هي امتحان فِعْلي يُظهِر الناجحين والفاشلين على السَّواء ، وكلُّ مصيبة هي مَحَك حقيقي يُميِّز الناسَ ويُغَرْبِلهم . والعاقلُ يُدرِك أن المصيبةَ عَرَضٌ زائل ، وما عَلَيْه إلا الثبات، وكلُّ ضَرْبةٍ لا تَقْتل الإنسانَ ، فهي تَزيده قُوَّةً وخِبرةً . 
     يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

لَعَمْرُكَ ما أَمري عليَّ بِغُمَّـةٍ         نهاري ولا لَيْلي عليَّ بسَرْمَدِ

     يُقْسِم الشاعرُ أن أَمْرَه لا يَغُمُّ رَأْيَه ، فلا تُغطِّي الهمومُ قراراتِه ، ولا تُحطِّم التحدياتُ معنوياتِه في نهاره ، ولا يَطول عليه الليلُ حتى كأنه دائم ( سَرْمدي ) .
     وهو يَمْدح نَفْسَه بالثباتِ عند المصائب ، والصمودِ في وجه الشدائد ، وشِدَّةِ الشكيمة ، وقوةِ الإرادة ، وعُلُوِّ الهِمَّة . فلا تَغُمُّه الأزماتُ ، ولا تُغطِّي على عقله وحواسِّه ، فَيُظْلِم نهارُه ، ويَطُول لَيْلُه . إنهُ جبلٌ ثابتٌ لا تهزُّه رِياحُ المشكلات ، ولا يتأثر بالمصائب والكوارث .

6_ بذل المعروف :

     إِنَّ بَذْلَ المعروف يُشكِّل دِرعاً واقيةً ضد طعن الطاعنين ، وحَسدِ الحاسدين . فالمعروفُ يَحْمي صاحبَه من النقائص ، ويَصونه مِن كلام الناس الذي لا يَرْحم .
     يقولُ الشاعرُ زُهَيْر بن أبي سُلمى :

وَمَن يَجْعل المعروفَ مِن دُون عِرْضِه          يَفِرْهُ وَمَن لا يَتَّقِ الشَّتمَ يُشْتَــمِ

     مَن جَعَلَ مَعْروفَه سُوراً يَحْميه من انتقاص الناس ، وجعلَ إحسانَه دِرعاً تَصون عِرْضَه من الذَّم والقدح، وَفَرَ مكارَمه ( أَكْثَرَها )، فهو وافر العِرْض ، كريم الأخلاق ، كثير المحامد . ومَن لا يَتَّقِ شَتْمَ الناس إيَّاه شُتِم .
     مَن بَذَلَ مَعْروفَه حَمَى عِرْضَه من الإهانة ، وصانَ شَرَفَه من الانتقاص ، وصارَ ذا مَنْزلة اجتماعية سامية . ومَن بَخِلَ بمعروفه عَرَّضَ شَرَفَه للذَّم ، وَوَضَعَ عِرْضَه في دائرة القدح ، وأهانَ نَفْسَه بأن جَعَلَها في مَوْضع الشتم .

7_ الوفاء بالعهد :

     لا يمكن التساهل بقيمة الوفاء بالعهد بأي شكل من الأشكال . فهذه القيمةُ الرفيعة مقترنة بشرف الرجولة ، وشرفِ القبيلة ، والتقاليدِ العربية الراسخة .
     يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :
ومَن يُوفِ لا يُذْمَمْ ومَن يُهْدَ قَلْبُه          إلى مُطمئنِّ البِرِّ لا يَتَجَمْجَــمِ

     مَن أَوْفى بعهده ، فقد حَمى عِرْضَه من الذَّم ، وصانَ سُمعته من الشوائب . فلا يمكن لأحد أن يَذُمَّه ، أو يَنتقص من مكانته . بل على العكس ، فالناسُ سَيَمْدحونه، ويَنْشرون فضائلَه في الآفاق . فالوفاءُ بالعهدِ طريقُ الشرفِ الموصِلُ إلى المكانة الاجتماعية العالية . وَمَن هُدِيَ قَلْبُه إلى بِر ( خير ) تطمئن النَّفْسُ إليه ، وترتاح إلى رؤيته ، وتَسْعد بِجَماله، لم يمتنع من تقديمه وبذله بكل صدر رحب، ولم يَشْتبه أمرُه عليه، فيتجمجم ( يتردَّد فيه ). سَيُسارِع إلى بذل الخير دون تردد أو إبطاء ، متحلِّياً بِرُوح المبادَرَة ، وقوةِ الإرادة ، والإِقدامِ الواثق .
     ويقولُ الشاعرُ الحارث بن حِلِّزَة :

واذكُروا حِلْفَ ذي المَجازِ وما          قُدِّمَ فيهِ العُهودُ والكُفَلاءُ

     يَحْرص الشاعرُ على التذكير بأهمية حفظ العهود ، وضرورةِ الوفاء بها على أكْمل وجهٍ . إنهُ يُشدِّد على الالتزام بالعهد الذي كان في ذي المجاز ( مَوْضع ) ، وتقديم الكفلاء فيه . فلا يَجوز إهمالُ العهد ، أو التلاعب به ، أو الالتفاف عليه . فالعهدُ قد وُجِدَ لكي يتم الالتزام به حرفياً دون مُراوَغة أو تحايل .
     و" ذو المجاز " مَوْضع، جمع به الْمَلِكُ عمرو بن هند بَكراً وتَغْلِب ( وهما قبيلتان متناحرتان ) ، وعقدَ صُلْحاً بينهما ، وأخذَ مِنهما العهود والوثائق والرُّهون .

8_ مدح الخصوم :

     مدحُ الخصوم ، والاعترافُ بقُوَّتهم ورباطةِ جأشهم ، وإبرازُ مكانتهم العالية ، تُعْتَبَر قضايا حسَّاسة ، وهي تَعْكس الثقة بالنَّفْس، والحرص على إعطاء كل ذي حقٍّ حقه، حتى لو كان عَدُوَّاً أو خَصْماً ، وهذا منتهى الإنصاف. ولا شكَّ أن الاعترافَ بمنْزلة المنافِسِين وتقديرهم أمرٌ شائك لا يُقدِم عليه إلا الواثق بنفْسه وقدراته .
     يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

غُلْبٌ تَشَذَّرُ بالذُّحولِ كأنها          جِنُّ البَدِيِّ رَوَاسِياً أَقْدامُها

     يَمْدح الشاعرُ خصومَه ، ويُبرِز قُوَّتهم الفائقة ، فيقول : هُم غُلْب ( رِجال غِلاظ الأعناق ) كالأُسود في شجاعتها وقوتها وبُنْيتها الجِسمية، يُهدِّد بعضهم بعضاً، ويَقْضون حياتهم في التَّوعُّدِ والتَّهدُّدِ ( التَّشَذُّر ) بسبب الأحقاد ( الذُّحول ) التي بينهم . وبالتأكيد ، إن الأحقاد هي وقود الغضب والوعيد والتهديد .
     ثُمَّ شَبَّهَ هؤلاء الرجالَ الأشداءَ بِجِنِّ البَدِيِّ ( مَوْضع ) في رسوخهم في الجِدال ، وثباتهم في الخِصام، فأقدامهم ثابتة رواسي في المواقف الحرجة ، لا يَتزحزحون ، ولا يَميلون ، ولا يَرْتبكون .
     ومن المعلوم أن الخصمَ كلما كان قوياً وشديداً ، كان قاهرُه أقوى وأشد . وهذه الحقيقة تُوضِّح الفلسفة الكامنة وراء مدح الخصوم وتعظيمهم . فالأعداءُ أو الخصوم إذا كانوا أقوياء وأصحاب إمكانيات عالية ، فلا يمكن التغلب عليهم إلا بوجود قوة أكبر من قوتهم ، وتوفير إمكانيات أعلى من إمكانياتهم . وهكذا ، فإن تعظيمَ الخصوم هو تعظيمٌ ضِمني لقاهرهم وغالبهم الذي يَفوقهم قُوَّةً ، ولو لم يكن كذلك لَمَا استطاعَ التغلبَ عليهم وقَهْرَهم .

9_ تعظيم الضيف والجار :

     يُشكِّل احترامُ الضيفِ والجارِ وإكرامهما قضيةً حيوية في المجتمع العربي ، ودليلاً على سُمُوِّ الأخلاق ، وطِيب الأصل .
     يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

فالضَّيفُ والجارُ الجنيبُ كأنما          هَبَطا تَبالةَ مُخْصِباً أَهْضَامُها

     إن الضيف والجار الجنيب ( الغريب ) لهما كل التقدير والاحترام ، ويستحقان كلَّ إكرام ، ومُرَحَّبٌ بهما دائماً ، وكأنما قد نَزَلا وادي تَبالة ( وهو وادٍ مُخْصِب من أودية اليَمَن ) في حال كثرة نبات أماكنه المطمئنة. والهضيمُ المطمئن من الأرض.
     والشاعرُ يَمْدح نَفْسَه،حيث إنه شَبَّهَ ضيفَه وجارَه في الخصب والسَّعة بالشخص الذي يَنْزل في هذا الوادي الخصيب أيام الربيع. وبالطبع، إن شعورَ الضيف بالراحة والسعادة يدل على كَرَمِ المضيف ، وأخلاقه الرفيعة ، ومكانته الاجتماعية العالية . أمَّا إذا شَعَرَ الضيفُ بالضيق والألم ، فهذا يدل على سُوء أخلاق المضيف ، ولُؤمه ، وتصرفاته غير اللائقة . وهكذا ، يَكون التعاملُ مع الضيف مقياساً للأحكام الاجتماعية والأخلاقية ، وميزاناً تُعرَض عليه التصرفات الإنسانية .

10_ مساعدة الأيتام والفقراء والمساكين :

     مساعدةُ الطبقات المتدنِّية في المجتمع تُمثِّل لبنةً أساسية في البناء الاجتماعي ذي الصِّبغة القَبَلية ، وتدل على نخوة الإنسان العربي ، ومبادرته إلى مساعدة الآخرين .
     يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

وَيُكَلِّلونَ إذا الرِّياحُ تَناوَحَتْ          خُلُجاً تُمَدُّ شَوارِعاً أيتامُهـا

     يَفتخرُ الشاعرُ بنفْسه وعشيرته ، ويَحْرص على ذِكر أمجادهم وإنجازاتهم في مجال مساعدة الأيتام والفقراء . وكما هو معلومٌ ، فإن أهلَ الجاهلية كانوا يُساعِدون الطبقات المتدنِّية طلباً للمجدِ والمديحِ، وانتشارِ الصِّيت بين قبائل العرب . فلا تُوجَد في قلوبهم معنى الإخلاص لله تعالى ، أو نَيْل الأَجْر في الآخِرة . فالدنيا هي البدايةُ والنهاية بالنسبة إليهم ، ولا توجد في عقيدتهم إيمانٌ بحياة بعد الموت . إذن ، هُم محصورون في قِيَمٍ إنسانية مُحاطة بالرِّياء والسُّمعة ، وهذه القِيَم منفصلة تماماً عن المعاني الدِّينية       ( الغَيْبِيَّة وغير الغَيْبية ) .
     يَظْهر الدَّوْرُ المركزي للشاعر وجماعته في مساعدة المحتاجين إذا الرياح تناوحتْ    ( تقابلتْ واشتدَّ هُبوبُها ) . وهذه الصورة تشير إلى فصل الشتاء الذي يكون قاسياً على الفقراء والمساكين، وشديدَ الوَطْأة عليهم . وفي الشدائد يَظْهر مَعْدن الرجال . ففي وقت الشِّدة هذا ، يُكلِّلون للفقراء والمساكين والجيران جِفاناً ( جَمْع جَفْنة وهي الآنية التي يُوضَع فيها الطعام ) . وهذه الجِفان الكبيرة تُمَدُّ ( تُزاد ) فيبدو مَنْظرها في غاية العَظَمة ، كما أنها تمتاز بكثرة مَرَقِها كأنها أنهار ( خُلُج ) يَشْرع الأيتامُ فيها لسدِّ جُوعهم . يَغْرسون أكفَّهم فيها بكل انفعال ، ويَغوصون في عالَمها المبهِر ، وقد كُلِّلت بِقطع اللحم الشهية .
     إنهُ الفخرُ بإطعام الأيتام والفقراء . يَبْذلون للمحتاجين جِفاناً عظيمة مليئة باللحم والمرَق في قَسْوة الشتاءِ ، حيث تتجلى صعوبة المعيشة، وذلك لِيَقْتلوا الجوعَ الذي يحتل وجوهَ المحتاجين ، ويَنْقلوهم من آلامِ الحرمان والفاقة إلى لَذَّة الشَّبع . إنهم حريصون كل الحرص على إطعام الجوْعى ، وتحويل كل جائع إلى شَبْعان ، وذلك لكي يتناقل العربُ هذا الإنجازَ الهائلَ، ويَنْشرونه في الآفاق ، وتتناقله الأجيالُ جِيلاً بعد جِيل، فترتفع أسهمُ العشيرة بين العشائر، وتَبْرز صورتها في قمة المجد واللمعان .
   
11_ الإيثار :

     لا شَكَّ أن الشخصَ المنتمي لعشيرته قَوْلاً وفِعلاً ، يُقدِّم مصلحةَ عشيرته على مصلحته الشخصية ، ويُؤْثِر منفعةَ الجماعة على منفعته الذاتية، ويتنازل عن حقوقه من أجل رِفْعة عشيرته وحفظِ حقوقها .
     يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

وَمُقَسِّمٌ يُعْطي العَشيرةَ حَقَّها          وَمُغَذْمِرٌ لِحُقوقِها هَضَّامُها

     تَبْرز ثلاث صِفات لِسَيِّد القَوْم : الصِّفةُ الأُولى ( مُقسِّم ) ، يُقسِّم الغنائمَ بكل أمانة ، فيُعطي العشيرةَ حَقَّها بشكل كامل غير منقوص، ويَصون حقوقَ الأفراد والجماعة ، ولا يَسْمح بأكلِ حقوقهم ، أو التلاعب بممتلكاتهم . والصِّفةُ الثانيةُ        ( مُغَذْمِر ) ، والتَّغذمر هو الغضب . أي إنهُ يَغْضب في حال إضاعة شيء من حقوق العشيرة ، وتَثور ثائرته إذا تَمَّ انتقاص العشيرة ، والنيل مِن مكتسباتها ، والاستحواذ على مستحقاتها. والصِّفةُ الثالثةُ ( هَضَّام ) ، يَهْضم حقوقَ نَفْسِه من أجل سِيادة العشيرة ونَيْلِ حقوقها كاملةً . فالسَّيدُ هو الذي يَحْفظ حقوقَ عشيرته بالهضمِ من حقوق نفْسه ، ويُعْلي أمرَ جماعته على أمر نفْسه ، ويُضحِّي بمجده الشخصي من أجل مجد الجماعة .
     والجديرُ بالذِّكر أن السَّيد يَمْلك أمورَ قَوْمه ، ويتصرف فيها إثباتاً ونَفْياً ، جَبْراً وهَضْماً ، على اختلاف الظروف والأوقات . فإن أساؤوا هضمَ حَقَّهم عقوبةً لهم ، وإن أحْسَنُوا غَضِبَ لهم ( تَغَذْمَرَ لهم ) ، ودافعَ عن حقوقهم بكل ما أُوتيَ مِن قُوَّة .

12_ الكَرَم :

     الكَرَمُ صِفةٌ ملتصقةٌ بالإنسان العربي ، وهي تشير _ بكل وضوح _ إلى أخلاقه العالية رغم وجوده في بيئة صحراوية قاسية يتجلى فيها الصراع على الموارد الشحيحة. يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

فَضْلاً وَذُو كَرَمٍ يُعينُ على النَّدى          سَمْحٌ كَسوبُ رَغائبٍ غَنَّامُهـا
     إن السَّيد هو الذي يتحلى بمكارم الأخلاق ، ويقوم بالأفعال الحميدة، ويحفظ حقوقَ العشيرة، ويُضحِّي بحياته من أجل حياة الجماعة، إنما يَفْعل ذلك تفضُّلاً مِنه، وانطلاقاً من قناعاته الشخصية ، دون إكراه مِن أحد . إنهُ يقومُ بالأعمال الجليلة عن طِيب نَفْس مِنه ، ولا أحد يَضْغط عليه . وبالإضافة إلى هذا ، فما زالَ في العشيرة كريمٌ يُعين أصحابه على الكَرَم ( الندى )، صاحبُ سماحة ( سَمْح ) حريصٌ على كَسْب رغائب المعالي واغتنامها .
     إنهُ يغتنم الخِصالَ الشريفة ( الرغائب ) لتلميع صورته، ونشرِ صِيته بين القبائل، وصناعةِ المجدِ والتاريخِ ، ونَيْلِ الخلود في الدنيا . وهكذا ، يصبح الشخصُ مشهوراً ذا مكانة سامية في المجتمع العربي ، يُشار إليه بالبَنان ، ويُذكَر اسمه في كل المحافل .

13_ الأمانة :

     الأمانةُ خُلُقٌ رَفيع لا يتحلى به إلا الرِّجال الواثقون بأنفسهم ، الذين يَحترمون مكانتهم الاجتماعية ، ويَعْرفون قيمةَ شرف الرُّجولة .
     يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

وإذا الأمانةُ قُسِّمَتْ في مَعْشَرٍ          أوْفَى بأوْفَرِ حَظِّنا قَسَّامُهـا

     إِذا قُسِّمت الأماناتُ بين أقْوام،فإنَّ قَوْمَ الشاعرِ سَيَكون لهم نصيبُ الأسد مِنها، حيث إنَّ حِصَّتهم من الأمانة سَتَكون كاملةً ومتفوِّقةً على حصص الآخرين . وذلك لمكانتهم الرفيعة ، وأخلاقهم العالية ، وسُمعتهم الطَّيبة بين القبائل . فَهُم _ دائماً _ في مُقدِّمة الصفوف ، ويتمتَّعون بالسِّيادة والرِّيادة ، ولا يمكن لأحد أن يتجاوزهم .

14_ الشَّرف والمجد :

     لا يمكن للإنسان العربي أن يتنازل عن الشرف والمجد . فهاتان القِيمتان هما الرِّئتان اللتان يتنفس من خلالهما. وهو مستعد أن يَبْذل حياته رخيصةً في سِبيلهما .
     يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

فَبَنى لنا بَيْتاً رَفيعاً سَمْكُـهُ          فَسَما إلَيْهِ كَهْلُها وغُلامُها

     يَحْرص الشاعرُ على بَيانِ وَضْعه الاجتماعي المتميِّز ، وتوضيحِ مكانة قبيلته الراقية. فيقول إِنَّ اللهَ بَنى لهم بَيْتَ شَرفٍ وعِزٍّ ومجدٍ عالي السَّقف ، وهذا يدل على المنْزلة السامية التي وَصلت إليها قبيلةُ الشاعر . فَسَما ( ارتفع ) إلى ذلك الشَّرفِ العظيمِ كَهْلُ العشيرةِ وغُلامُها . أي إنَّ جميعَ أفراد القبيلة على اختلاف أعمارهم ينتمون إلى المجد والمكارمِ ، وقد وَرِثوا الشرفَ والرِّفعةَ كابراً عن كابر .

15_ الصمود والثبات :

     الشخصُ القويُّ الواثقُ بنفْسه لا تهزُّه رياحُ الأزمات ، ولا ينهار أمام المصائب، ولا يَقف محتاراً مذعوراً ، وإنما يتحلى بالصَّبر والثبات ، ويُوظِّف المشكلاتِ لِتَكون نِعمةً تزيده قوةً وإصراراً .
     يقولُ الشاعرُ الأعشى الأكبر :

كَناطِحٍ صَخْرةً يَوْماً لِيُوهنَهـا          فلم يَضِرْها وأَوْهى قَرْنَه الوَعِلُ

     لا يتأثرُ الشاعرُ بحسد الحاسدين ولا عداوة الأعداء ، فهو ثابتٌ لا يمكن استفزازه ولا إخراجه عن طَوْره . وكلُّ مَن يُحاول النَّيْلَ مِنه بأية صورة ستذهب جهوده أدراجه الرياح. وهو بعمله هذا كَوَعِل ( تَيْس الجبل ) يَنْطح صخرةً لِيُوهنها ويُضعِفها ويَقضيَ عليها ، فما كانت النتيجة إلا أنه أضعفَ قَرْنَه ، وأنهكَ قُوَّتَه ، وأنحلَ جِسْمَه، ولم يتسبَّب بأي ضرر للصخرة ، وإنما ألحقَ الأذى بنفْسه . لقد قضى الوعلُ على نفْسه، وفَرَّطَ بنقاط قُوَّته ، وذلك لأنه تحدَّى الصخرةَ التي تَفوقه صَلابةً وثباتاً . والمقصودُ بهذا الكلام أن الشاعر لا يتأثر بطعن الأعداء ، فهو ثابتٌ راسخٌ كالصخرة ، لا أحدٌ يُزَحْزِحُه ، ولا أحدٌ يتفوق عليه .

16_ مساعدة الناس :

     لا بُدَّ أن يتحلى المرءُ بِرُوح الانتماء إلى مجتمعه ، والولاءِ للأخلاق الحميدة والمعاني الفاضلة ، وأن يُبادِر إلى فِعْل الخير . ومن أبرز التطبيقات الفِعْلية على ذلك، مساعدة الناس ، ودفع الشرور عنهم ، وبذل المعروف لهم .
     يقولُ الشاعرُ عُبَيْد بن الأبرَص :

سَاعِدْ بأرضٍ تَكونُ فيها          ولا تَقُلْ إنَّني غَريــبُ

     إِنْ حَلَلْتَ في أرضٍ ، فابذل النُّصحَ لأهلها ، وقَدِّمْ لهم كلَّ أشكال العَوْن ، وَسَاعِدْهم على إصلاح شؤونهم، وإعمارِ أرضهم، ولا تمتنع عن إعانتهم ومساعدتهم بِحُجَّة أنكَ لَسْتَ مِنهم ، وأنكَ غريبٌ عن ديارهم وأرضهم . فيجب التَّحلِّي بِحِسِّ المسؤولية ورُوحِ المبادَرة ، والاشتراك مع الناس في رعاية أمورهم ، وتحسين حياتهم، والارتقاء بمستوى معيشتهم، وهذا واجبٌ إنساني اجتماعي لا علاقة له برابطة الدَّم.
17_ العِزَّة :

     لا يمكن للإنسان العربي إلا أن يَكون عزيزاً ، فالنَّفْسُ العربيةُ المتشرِّبةُ لِقَسْوة الصحراء وحرارةِ الرمال، والمحلِّقةُ في الفضاء الواسع، هي نَفْسٌ حُرَّة لا تَقبل الذلَّ ، فالذلُّ يتعارض مع فلسفة العربيِّ جُملةً وتفصيلاً .
     يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

إذا ما المَلِكُ سَامَ الناسَ خَسْفاً           أَبَيْنا أنْ نُقِرَّ الذُّلَّ فِينــــا

     إِذا أَجبرَ الْمَلِكُ الناسَ على الخضوع والاستسلام ، وأَكْرههم على الخِزْي والعارِ والذُّلِّ، وسَامهم خَسْفاً ( حَمَّلهم ما فيه ذُلُّهم )، رَفَضْنا ( أَبَيْنا ) الانقيادَ له، وأَلْقَيْنا أوامرَه وراء ظُهورنا ، وَوَقَفْنا في وجهه بكل ثباتٍ .  
     وهذا البَيْتُ الشِّعريُّ يَعكس عِزَّةَ العربيِّ ، وحِرْصَه على الالتزام بِمعاني الشرف والحرية والسِّيادة ، فهو لا يَقبلُ العارَ ، ولا يَرضى بالذُّل ، ويُفضِّل الموتَ على أن تتلطخ سُمعته وسُمعة قبيلته بالمذلة .
     ولا يخفَى أن الْمَلِكَ هو رأس الهرم السياسي والاجتماعي في أي مكان ، وبيده القوة المادية ( المال ، السلاح ، الرجال ) ، ورفضُ أوامره يَعكس قيمةَ التَّحدي والإصرار. ومَن يَرفض الخضوعَ للمَلِك ، فلا يمكن أن يَقْبل الخضوعَ لمن هو دُونه ، وهذا يدل على أن قيمة " العِزَّة " تستحق التضحية ، ولا يمكن المساوَمة عليها .



ب _ القِيَم السلبية
1_ التناقض وازدواج الشخصية :

     إن البيئةَ العربية القديمة كانت تغصُّ بالتناقضات والأضداد . وهذه البيئة الصحراوية القاسية أثَّرت على شخصية الفردِ، وكيانِ الجماعة. لذلك ، من الطبيعي أن يَكون الشخصُ مصاباً بانفصام الشخصية ، ليس بمعنى المرض النَّفْسي ، وإنما بمعنى السلوك الاجتماعي . فالعربيُّ في الجاهلية كانوا يَعتني بالأنعام أشد العناية ، وفي نفْس الوقت يَئِدُ بناتِه ، وتراه حريصاً على الشِّعْر والفصاحة والحِكمة ، وفي ذات الوقت يُدمِّر عقلَه بِمُعاقرة الخمر ... إلخ .  يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

 فَإِنْ تَبْغِني في حَلْقَةِ القَـوْمِ تَلْقَني          وإِنْ تَلْتَمِسْني في الحَوانِيتِ تَصْطَدِ

     إِنْ طَلبتَ الشاعرَ في مَحْفِل القَوْم(مجلس الناس الذي تُناقَش فيه القضايا المهمَّة) تجده هناك، وإِن طَلَبْتَه في بيوت الخمَّارين ( الحوانيت ) تَعْثر عليه هناك( تَصْطَده ) .
     وهكذا ، فإن الشاعرَ يُشارك الجميعَ في أفعالهم ، بغض النظر عن صلاحها أو فسادها ، فهو يَجْمع بين الجِد والهَزْل . فَمَن بَحَثَ عن الشخصية الجِدِّية الواثقة بنفْسها والمتحلِّية بالحِكمة والرأي الصائب ، فسوفَ يَجدها متجسِّدةً في الشاعر ، ومَن بَحَثَ عن اللهو والمتعة والعبث والتبذير ، فَسَيَجِد هذه المعاني في شخصية الشاعر . وهو _ بالتأكيد _ سعيدٌ بشخصيته الموزَّعة بين التناقضات والأضداد ، ولا يرى في ذلك حَرَجاً أو عَيْباً . فهو يَعْتبر أن هذا الأمر مؤشر على حيويته وثقته بنفْسه وقُدرته على لعب كل الأدوار الاجتماعية، والتعامل مع جميع الناس. وهكذا، تُصبِح الشخصيةُ الْمُزْدَوَجَةُ مَنْبعاً للفخر والمديح ، ودليلاً على النجاح الاجتماعي ، وإقامةِ العلاقات الإنسانية بكل سلاسة ، ودون أيَّة تعقيدات .
2_ البُخْل :

     البُخْلُ صِفةٌ مذمومة في المجتمع العربي، ولا يمكن التحايل عليها ، أو التلاعب بها . فهي صِفةٌ مكشوفة ظاهرة للعَيان ، وهي وصمةُ عارٍ أبديةٌ ، يَحْرص كلُّ فردٍ على ألا تلتصق به حتى البخيل نفْسه . يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

أرى قَبْرَ نَحَّامٍ بَخيلٍ بمالِـهِ          كَقَبرِ غَوِيٍّ في البَطالةِ مُفْسِدِ

     إِنَّ قَبْرَ البخيل ( النحَّام ) الحريص على جَمْع المال وتكديسه ، كقبرِ الغَوِيِّ        ( الضال ) في بطالته ، اللاهثِ وراء اللهو والجهالة ، المفْسِدِ بماله .
     لقد سَاوَى الموتُ بين الضِّدين، فلا فَرْقَ بين البخيل والجواد بعد الوفاة ، وبالتالي ، لا معنى للبُخل وتخزينِ الأموال . وعلى المرْءِ أن يَكون جواداً كريماً ما دَامَ الموتُ لا يُفرِّق بين بخيلٍ وكريمٍ . ويقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

وَمَن يَكُ ذا فَضْلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضْلِه          على قَوْمه يُستَغْنَ عَنهُ وَيُذْمَـمِ

     البُخلُ مذمومٌ في كل الأحوال ، خصوصاً إذا انتقلَ من الصِّيغة الفردية إلى الصِّيغة الجماعية . فَمَن كان صاحبَ فضلٍ ومالٍ ، وبخلَ به على عشيرته ، فلا شَكَّ أن العشيرة سَتَنْبذه، وتُصنِّفه كفردٍ فاسدٍ لا يتحلى بروح الانتماء ، ولا يَمْلك معنى الولاء لجماعته ، فيجد نَفْسَه منبوذاً مَطْروداً ، لا أحدٌ يُحِبُّه ، ولا أحدٌ يَحْترمه .
     ومَن يَرْفض مُساعدةَ قَوْمه بالمال ( يَبْخل بفضله عليهم )، فسوفَ يُسْتَغْنَى عنه ، ويُذَمُّ ( يُذْمَم ) ، حيث إن الجميعَ سَيَنالون مِنه ، ويَصُبُّون عليه الشتائمَ واللعناتِ ، فتصبح سِيرته في الوحل،ويُصبح كالغصن المقطوع من الشجرة، مُلقَى على الأرض، لا وَزْن له، ولا أحد يَعْبأ به. وهنا تتجلى قُدرةُ العشيرة على معاقبة الفرد ومحاصرته.
3_ الذُّل :

     يتعارض الذُّلُّ مع الكرامة الإنسانية جُملةً وتفصيلاً. فالإنسانُ كائنٌ حُر وعزيز، يَمْلك حريةَ الاختيار ، ويتحمَّل المسؤولية كاملةً عن اختياراته . كما أنه كائن عزيز يستمدُّ عِزَّه من إنسانيته وكيانه الشرعي .
     يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

بَطيءٍ عَن الجُلَّى سَريعٍ إلى الخَنَا          ذَلولٍ بأجماعِ الرِّجالِ مُلَهَّــدِ

     يُخاطِب الشاعرُ ابنةَ أخيه القريبةَ إلى قَلْبه، فيقول : ولا تجعليني كَرَجُلٍ يتهرَّب من التحديات المصيرية، ويتقاعس عن تحمُّل المسؤولية ، ويُبطِئ عن الأمرِ العظيمِ ( الجُلَّى)، ويُسرِع إلى الفُحْش ( الخَنا )، وهو ذليلٌ يَدْفعه الرِّجالُ بأَجْماعهم ( بجميع أَكُفِّهم ) .
     يَحْرص الشاعرُ على إِبراز مكانته الاجتماعية ، وإِظهار كرامته وعِزَّته وصفاته الحميدة المضادَّة لصفات الشخص الذليل . وهو يَطْلب من ابنة أخيه أن تَعْرف قَدْرَه السَّامي ، ومَقامَه الرفيعَ .
     إِنَّهُ سَيِّدٌ عزيزٌ كريمٌ ، يُسارِع إلى اقتحام الصِّعاب ، وتحمُّلِ المشاق ، ومواجهةِ الأخطار، وهو بعيدٌ كُلَّ البُعد عن الفُحش ، يَفْرض احترامَه على الرِّجال ، فيهابونه ويُقدِّرونه ، وليس شخصاً بطيئاً عن الخطْبِ الجليلِ، والأمرِ العظيم، وسريعاً إلى الفُجور وسُوءِ الأخلاق والفُجورِ ، ومِن ذُلِّه يَضْربه الرِّجالُ بأيديهم ( بأجماعهم ) فهو مُلَهَّد مُدَفَّع ، قد وصلَ إلى غاية الخزي والعار والمذلة. واللهدُ هو الدَّفْعُ الشديد في الصَّدْر .
     لقد رَسَمَ الشاعرُ هذه الصورةَ للشخص الذليل الحقير، لِيَقول إِنه عَكْسها تماماً. وكما قِيل : بِضِدِّها تتبيَّن الأشياءُ .
4_  الإحسان في غَيْر مَوْضعه :

     مِن المعاني الأساسية في المجتمعات الإنسانية، الإحسان إلى الآخرين وتقدم العَوْن لهم ، والأخذ بأيديهم إلى بَر الأمان . ولكنْ إِذا وُضع الإحسان في غير مَوْضعه ، وتَمَّت مساعدة اللئام والأشرار، فإن قيمة الإحسان ستفقد معناها، وتؤول إلى ضِدِّها ، وعندئذ تختلُّ الموازين ، وتنقلب الأمور رأساً على عَقِب .
     يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

ومَن يَجعل المعروفَ في غَير أَهْلِه          يَكُن حَمْدُه ذَمَّاً عَلَيْه ويَنْــدَمِ

     مَن أَحسنَ إلى اللئام وغير المستحقِّين للإحسان، وَوَضَعَ المعروفَ في المكان الخطأ ، وقَدَّمَ المساعدةَ لمن لم يكن أهلاً لها ، ذَمَّه الذي أحسنَ إليه ، ولم يَحْمده ، ولم يُقدِّر هذا المعروفَ ، وَقَابَلَ إحسانه بالإساءة . وعندما يرى المحسِن أن أعماله ذَهَبت أدراجَ الرياح ، فلا شَكَّ أنه سَيَنْدم ويتحسَّر لأنه وَضَعَ الإحسانَ في غَيْر مكانه .

5_ الظُّلم :

     الظُّلمُ صِفةٌ سيئة للغاية ، وانتكاسةٌ بشرية مُرعِبة ، تُدمِّر القِيَمَ الإنسانية ، وتُفتِّت الروابطَ الاجتماعية ، وتقضي على وَحدة المجتمع وتماسكه . والظلمُ مرتعه وخيم .
     يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

ومَن لم يَذُدْ عن حَوْضِه بسِلاحه          يُهَدَّم ومَن لا يَظلمِ الناسَ يُظلمِ

     مَن لم يَكُف أعداءَه عن حَوْضه ( حَريمه ) بالقوة واستعمالِ السلاح ، هُدم حَوْضُه. ومَن امتنعَ عن ظُلم الناس ظَلمه الناسُ . والمعنى : مَن لم يَحْمِ حَرِيمه وعِرْضَه بسِلاحه ودمه ، اسْتُبيح حَريمه ، وأُهين عِرْضُه .
     ويقولُ الشاعرُ عَنْترة بن شَدَّاد :

وإذا ظُلِمتُ فإن ظُلمي باسِلٌ          مُرٌّ مَذَاقَتُه كَطَعْمِ العَلْقــمِ

     الشُّعورُ بالظُّلم شُعورٌ مؤلم للغاية ، فالظلمُ يَكْسر النَّفْسَ البشريةَ ، ويُولِّد فيها آلاماً عميقةً ، وجروحاً لا تَنْدمل .
     والشاعرُ إِذا ظُلِمَ فإنه يتحوَّل إلى إنسان آخر ، وعندئذٍ تَغيب المعاني الرقيقة ، وتَظْهر المعاني القاسية. وهذا نتيجة طبيعية للإِساءة إليه . إِذ إِن ظُلْمَه كَريهٌ ( باسل ) مُرٌّ كَطَعْم العَلْقم . وهذه المرارةُ ستتحول إلى كراهية وانتقام .
     وكلُّ مَن يَظْلم الشاعرَ فإِنه يُعرِّض نَفْسَه للهلاك . فالشاعرُ سَيُعاقِبه عقاباً شديداً يَكْرهه ، كما يَكْره طَعْمَ العلقم مَن ذاقه .

6_ التكبر :

     التَّكبرُ هو احتقارُ الحق ، ورفضُ الخضوع له . وهو شديد الخطورة ، لأنه يَقْلب الموازين ، ويُعمِي البصرَ والبصيرةَ معاً .
     يقولُ الشاعرُ الحارث بن حِلِّزَة :

فاتْرُكوا الطَّيْخَ والتَّعاشِي وإمَّا          تَتَعَاشَوْا ففي التَّعاشي الـدَّاءُ

     يَنْصح الشاعرُ خُصومَه بأن يَتْركوا الطَّيْخَ ( التكبر ) والتعاشي ( الجهل ) . فهذان الأمْران يُدمِّران إنسانيةَ الإنسان ، ويَقودانه إلى الهلاك الحتمي ، ويُؤدِّيان إلى انهيار المجتمع. يَنْصحهم بأن يَتْركوا التَّكبرَ والغطرسةَ والجهلَ، وأن يَسْتسلموا للحق والعدلِ والفضيلةِ. أمَّا إِذا رَفضوا ذلك ، وتمسَّكوا بغرورهم وجَهْلهم ، فقد أَهْلَكوا أنفسهم ، وقادوها إلى الشرور والمفاسد . ففي الجهلِ يَكْمن الداء ( المرض ) . إِنهُ مَرَضٌ اجتماعي قاتل يَقود إلى الضياعِ الحتمي ، والانتحارِ البطيء ، والشَّرِّ العظيم .

7_ الغِيبة :

     الغِيبةُ هي أن يتكلم أحدُهم عن إنسان أثناء غيابه بالسُّوء ، حتى لو كان صِدْقاً. وهي سِلاح الضعيف العاجز الذي لا يَقْدر على المواجَهة ، فَتَرَاه يستغل غيابَ خَصْمِه من أجل انتقاصه والطعنِ فيه .
     يقولُ الشاعرُ الأعشى الأكبر :

أَبْلِغْ يَزيدَ بَني شَيْبان مَأْلُكَةً          أبا ثُبَيْتٍ أَمَا تَنْفَكُّ تأْتَكِلُ

     " يَزيد بني شَيْبان" هو يزيد بن مسهر، وكُنيته " أبو ثُبَيْت " ، وهو أحد خُصوم الشاعر .
     يقولُ الشاعرُ: أَبْلِغْ هذا الرَّجلَ رِسالةً ( مألكة ) ، أمَا تنفكُّ يَأكلُ بَعْضُكَ بَعْضاً من الحقد والغيظِ وحُبِّ الانتقام. أمَا زِلْتَ تغتابنا وتأكل لحومَنا ( تأتكل ) كُرْهاً لنا، وحِقْداً عَلَيْنا .
     لقد وَصَلَت العلاقة بين الرَّجُلَيْن إلى نقطة اللاعودة ، مِمَّا جعلَ الشاعرَ يَفْضح خَصْمَه ، ويَكشف أمرَه أمام الناس . فالحقدُ يملأ قَلْبَ الخصمِ ، والكراهيةُ تَحْرق أعصابَه ، والغيظُ يحقن عقلَه بالانتقام، وكلُّ هذا أدى إلى اعتماد الغِيبة كسلاحٍ ضد الشاعر، والالتزام بأكل لحمه ، والانتقاص مِن عِرْضه . وبالتأكيد ، إِنَّ ذِكْرَ شَخْصٍ بالسُّوء في حال غِيابه ، هو بِمَنْزلة أكلِ لحمه .

8 _ الذَّم والانتقاص :

     الذَّم والانتقاص منتشران في كل المجتمعات ، حيث يتم التسلحُ بهما لمواجهة الخصوم ، والطعنِ فيهم ، والاستعلاءِ فَوْقهم . يقولُ الشاعرُ الأعشى الأكبر :

ألستَ مُنتهياً عَن نَحْتِ أَثْلَتِنا          وَلَسْتَ ضَائرَها ما أطَّت الإبلُ

     يُخاطب الشاعرُ خَصْمَه بمرارة : ألستَ مُنْتهياً عن ذَمِّنا وانتقاصنا ( نَحْتِ أَثْلَتِنا) ، ولَسْتَ ضائرَها ( ضَارَّاً بها ) ما حَنَّت الإِبل ، والأطيطُ هو صوتُ الإِبل .
     والشاعرُ يُريد القولَ إِنَّكَ لا تضرُّ بنا إِطلاقاً ، ولا تَقْدر على إلحاق الأذى بنا مهما طَعَنْتَ فِينا ، ولا تستطيع أن تنالَ من مكانتنا الاجتماعية مهما تَنَقَّصْتَنا ، لأن الناسَ يَعْرفون حقيقتنا ، فلا يُعيرونكَ أيَّ اهتمامٍ ، ولا يَأبهون لحقدكَ وذَمِّكَ .

9_ الثأر :

     يحتلُّ الثأرُ مَوْقعاً رئيسياً في ثقافة المجتمع الجاهلي ، حيث يُنظَر إليه كرمز للقوة والشرف والبطولة . يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

وقالَ سَأَقْضي حَاجتي ثم أتَّقي          عَدُوِّي بألفٍ مِن وَرَائي مُلْجَمِ

     يُخْبرنا الشاعرُ عن رَجُل ( حُصَيْن بن ضَمْضم ) سَيْطَرَ على عَقْله الثأرُ ، واحتلَّ قلبَه معنى الانتقام ، فلم يَعُدْ يُفكِّر بأي شيء آخر . وقد قالَ : سأقضي حاجتي مِن قتل قاتل أخي أو قتل نظيرٍ له ، واغسلْ دَمَ أخي بهذا الثأر ، حتى تَعْرف العربُ أن دَمَه لم يذهب هدراً ، ثم أجعل بَيْني وبَيْن عَدُوِّي ألف فارس مُلجِم فَرَسه .
     يَحْرص على إدراك ثَأْره، والانتقامِ لقتل أخيه، وإطفاءِ النار المتأججة في صدره، وغسلِ العار بدم القاتل . وبعد أن يُدرِك ثأره ، سيتَّقي العدوَّ ، ويحتمي بألف فارس يُلجِمون خيولَهم ، وهُم مستعدون للدفاع عنه حتى آخر رَجل .
     ويقولُ الشاعرُ الحارث بن حِلِّزَة :

إن نَبَشْتُم ما بَينَ مِلْحَــــةَ           فالصَّاقِبِ فيه الأمواتُ والأحياءُ

     يقول : إِنْ بَحثتم عن الحروب التي كانت بَيْننا وبين هذين الموْضِعَيْن ( مِلْحة والصاقب ) ، وَجَدْتُم قَتلى لم يُثْأر بهم ( الأموات ) ، وقَتْلى قد ثُئِرَ بهم ( الأحياء ) .
     اعتبرَ الشاعرُ أن القَتْلى الذين لم يُثأر بهم أمواتٌ ، ذَهبت دماؤهم هَدراً ، فلا أحدٌ طالبَ بها، ولا أحدٌ اهتمَّ لأمرهم. لقد قُتلوا مجاناً، وذَهبت جُثثهم هباءً منثوراً ، وذَهبت دماؤهم مع الرِّيح ، ولم يجدوا رِجالاً يأخذون بثأرهم . لقد ماتوا مَرَّتَيْن .
     أمَّا الذين ثُئِرَ بهم فاعْتَبَرَهُم أحياء ، لأن قاتليهم قد قُتلوا ، وأعداءَهم لقوا نَفْسَ المصير . وبالتالي ، فكأنهم قد عادوا أحياء ، فلم تذهب دماؤهم هدراً بسبب وجود رِجال أشداء انتقموا لهم ، وقَتَلوا أعداءهم شَرَّ قِتْلة .
     والمقصودُ أن قَوْمَ الشاعر قد ثأروا بقتلاهم، أمَّا خصومُهم ( تَغْلِب ) فلم يثأروا بقتلاهم . وهكذا ، فإن الشاعرَ يُعيِّر الأعداءَ بعدم الأخذ بالثأر . وهذا الأمر في المجتمع الجاهلي يُعْتَبَر ذِرْوةَ العار ، وقِمَّةَ الخزي .

     ويقولُ الشاعرُ الحارث بن حِلِّزَة :

ما أصابوا مِن تَغْلِبيٍّ فَمَطْلولٌ          عَلَيْهِ إذا أُصِيب العَفَـــاءُ

     يُهاجمُ الشاعرُ أعداءَه ( بني تَغْلِب ) بلا هَوادة ، فيقول : ما قَتلوا ( أصابوا ) من بني تَغْلِب أُهْدرت دماؤهم . فدماؤهم مهدورة ( مَطْلولة ) لا أحدٌ يُطالِب بها . وهذه الدِّماءُ المهدورةُ كأنها غُطِّيت بالتراب وَدَرَسَت ( زَالَ أَثَرُها ) . والعَفاءُ هو الهلاك والزوال . والمعنى الكامنُ هو أن دماء بني تَغْلِب تُهدَر بشكل مجاني ، وتَذْهب أدراج الرياح، وليسَ لها طالب. أمَّا دِماءُ قَوْمِ الشاعر فلا تَضيع أبداً ، لأنهم يُدركون ثأرهم ، ويَنتقمون من أعدائهم . والشاعرُ يُركِّز على تعييرهم بعدم الأخذ بالثأر ، لكي يَصبغ صورتهم بالخزي والذل والعار . 

10_ التبذير :

     يُعَدُّ التبذيرُ مَرَضاً نَفْسياً واجتماعياً في آنٍ معاً ، يؤدي إلى هَدْرِ الإِمكانيات ، وإضاعةِ الممتلكات ، وتشتيتِ الجهود ، وإضعافِ الفردِ والمجتمعِ .
     يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

كِلانا إذا ما نالَ شيئاً أفاتَـــهُ         وَمَن يَحترِث حَرْثي وَحَرْثَكَ يَهزِلِ

     تتجلى الحسرةُ في كلام الشاعر ، وتَظْهر اللوْعةُ في حُروفه . ومِن شِدَّة الألم والذهول ، راحَ يُخاطب الذئبَ فيقول : كلُّ واحدٍ مِنَّا ، إذا نالَ شيئاً ، أضاعَه وفَوَّته على نَفْسِه. وكِلانا إذا مَلَكَ شيئاً أنفقَه . ثم قال : وَمَن عَمِلَ عَمَلي وعملكَ، أضاعَ نَفْسَه ، ودَمَّرَ حياته، وغرقَ في الفقر، وعاش ضعيفاً هزيلاً ، يعاني من خشونة العَيْش ، وقَسْوةِ الحياة ، وقِلَّةِ الإمكانيات .
     وهذه هي النتيجةُ الطبيعية للتبذيرِ، وإِنفاقِ المال في الفساد واللهو ، والالتزامِ بنظام استهلاكي مُبَالَغ فيه . وعلى المرْءِ أن يَعتمد الادِّخارَ فلسفةً له ، لأنه لا يَعْرف ماذا تُخَبِّئ له الأيام. ومن المعلوم أن الزَّمان مُتقلِّب ، وأيام الرَّخاء _ مَهْما طالت _ فلا بُدَّ أن تنتهيَ ، كما أن النِّعَم لا تَدوم .
     ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وما زالَ تَشْرابي الخمورَ وَلَذَّتي         وَبَيْعِي وإنفاقي طَريفي وَمُتْلَدي

     أضاعَ الشاعرُ صِحَّته وأموالَه في عالَم الخمر. فما زالَ يَشْربها، ويشتغل باللذات ، وبيعِ الأشياء الثمينة ، وإتلافها ، حتى كأن هذه الأشياء مالٌ مُسْتَحْدَثٌ مَوْروث . والطارفُ هو المال الحديث . والْمُتْلَد هو المال القديم الموْروث .
     أنفقَ الشاعرُ أموالَه على شُرب الخمر، وأضاعَ ممتلكاته النفيسةَ من أجل إِشباع غرائزه ، وإِطفاءِ نار شهواته ، والحصولِ على المتعة واللذةِ . وقد تمسَّك بهذه الأشياء كما يتمسَّك الآخرون باقتناء المال واستثماره . إنهُ يَحْرص على تبذير أمواله ، وإضاعة ممتلكاته ، كما يَحْرص غَيْرُه على حَفظ المال ، وتنميته ، وحماية الممتلكات من العبث والفسادِ . وهكذا ، فإِن هَوَسَ التبذير قد قلبَ كلَّ الموازين .