سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

02‏/02‏/2016

المرأة في شعر المعلقات/ الجزء الثاني

المرأة في شعر المعلقات/ الجزء الثاني

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

https://twitter.com/abuawwad1982

https://www.facebook.com/abuawwad1982

..................

12_ إرجاع القلب :
     العِشقُ هو سرقةٌ متبادلة للقلوب . وكلُّ عاشقٍ يَعرف في قرارة نفْسه أنه مسلوب القلب ، وأن جوارحَه متمردة عليه ، وخارجة عن نطاق سيطرته . وهذا الأمرُ هو الأساس الفلسفي لضَغف العاشق ، وأحزانِه المتكاثرة . ومهما شَعر العاشقُ بالفرح والسعادة ، فلا يمكنه أن يتخلص من انكساره المتجذر ، وحُزنه العميقِ.
     يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
وَإِن تَكُ قد ساءتكِ مني خَليقةٌ          فسُلِّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُـلِ
     يقدِّم الشاعرُ سبيكةً شِعرية معتمدة على السبب والنتيجة ، ويحاول جاهداً بناءَ منطقٍ عاطفي وفلسفي . فهو يقول لعشيقته : إن ساءكِ خُلقٌ من أخلاقي ، وكَرهتِ صفةً من صفاتي ، فَرُدِّي عليَّ قلبي أُفارقكِ . وفي هذا السياق يُمكن تفسير الثياب بالقلب .
     يُراجِع الشاعرُ نَفْسَه ، ويعترف بإمكانية وجود خِصلة فيه نَفَّرت العشيقةَ ، وجَعَلَتْها تبتعد عنه . وكلُّ خِصلةٍ سيئة لا بد أن تكون سبباً في القطيعة أو الهجران أو انعدام الانسجام بين العاشقَيْن . وهذا اعترافٌ من الشاعر بأنه غير معصوم ، وغير مُنَزَّه عن العيوب. وهو لا يُبَرِّئ نَفْسَه ، ولا يُكابِر ، ولا يَستعرض عضلاته أو بطولاته الوهمية . إنه يَستمع لصوت العقل ، ويضعُ نَفْسَه في موضعها الحقيقي بلا أقنعة ، أو محاولات تجميل ، أو حركات التفافية لإخفاء العيوب .
     وإذا كَرهت العشيقةُ خُلقاً من أخلاقه ، فإن هذا الفِعل يترتب عليه نتيجةٌ خطيرة تؤثر على طبيعة العلاقة بين العاشقَيْن . وهذه النتيجةُ التي يقرِّرها الشاعرُ ، ويَفرضها واقعاً ملموساً ، هي : أن تردَّ عليه قلبَه ، وبعبارة أخرى ، أن تستخرجَ قلبَه من قلبها لكي يَسهل الفراق ، ويصبح حقيقةً ماثلة للعَيان . وهذا مؤشرٌ باهر على أن الشاعر لا يَملك قلبَه،وأن عشيقته هي التي استحوذتْ على قلبه ومشاعره.
     ومن جهة أخرى ، يُمكن حمل الثياب على معناها الحقيقي الظاهري . فيصبح المعنى : إِن ساءكِ شيءٌ مِن أخلاقي ، فاستخرجي ثيابي من ثيابكِ .
     لقد اندمج العاشقان، وانصهرا في بَوْتقة العِشق ، فصارا جِسماً واحداً ، ورُوحاً واحدة . ومن الصعب التفريق بينهما ، أو فَصلهما عن بعضهما البَعض . ولكنْ ، إذا كَرهت العشيقةُ صفةً من صفاته ، فعليها أن تَفصل هذين الجسدَيْن ، وتَستخرج ثيابه من ثيابها ، أي تفارقه ، وتقطع كلَّ صلةٍ به . وإذا كان هذا قرار العشيقة الذي يُريحها، فإن العاشق سيخضع له ويُؤْثر رغبتها على رغبته، ولا يَختار إلا ما اختارتْ بسبب سيطرتها على قلبه وجوارحه . وسَيَشربُ هذه الكأس المُرَّة حتى لو أَهْلَكَتْهُ .
13_ سلاحُ المرأةِ دموعُها :
     القوةُ الضاربة للمرأة كامنةٌ في ضَعفها . وعنوانُ ضَعفها هو دموعها ( المِصيدة الجاذبة لقلب الرَّجل ) . فهذه القطراتُ اللامعة النازلة من عُيون المرأة، والتي تَحرق الخدودَ ، لها تأثيرٌ هائل على قلب الرَّجل ، وأحاسيسه ، وأفكاره .
     يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
ومَا ذَرَفَتْ عَيْناكِ إلا لتضربِي          بِسَهْمَيْكِ في أعشارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ
     وَصلت العشيقةُ إلى مرحلة البكاء . وها هِيَ دموعُها القاتلة تتأجج بلا رحمةٍ ولا هَوادة . دموعٌ تَصيدُ قلبَ العاشقِ المكسورَ ، وتجرحَ مشاعرَه بكل قَسْوةٍ .
     يقولُ الشاعرُ : وما دَمعت عَيناكِ وما بَكيتِ إلا لتصطادي قلبي بسهمَي دموعكِ ، وتَجرحي أجزاءَ قلبي المقتَّل ( المذلَّل بعشقكِ غاية التذليل ) .
     إذن ، فالعشيقةُ تَعرف نقطةَ قوَّتها ، ونقطةَ ضَعف عشيقها . فقرَّرت أن تَضرب ضَربتها ، وتستخدم سلاحَها الفعَّال ( الدموع ) . وما دَمعت عَيْناها إلا لِتَنْصبَ لقلبِ الشاعر فَخَّاً، وتصطادَ قلبَه الذابل بسهمَيْن قاتلَيْن، هُما سَهْما دُموعِ عَيْنَيْها . وهذان السَّهمان المنطلقان من دموعها، يمثِّلان سلاحَ العشيقةِ القاتلَ. وقد أَطْلَقَتْهُما على قلب عشيقها بلا شَفَقة ، وعن سَبْق الإصرار والترصُّد . فَجَرَحت قلبَه جُرحاً لا يَندمل . وقلبُه _ بالأساس _ قلبٌ ضعيف لا يَقْدر على المواجَهة أو الدفاع عن نَفْسِه ، لأنه قلبٌ مذلَّل بالعِشق ، ومُعبَّدٌ بآلام الحُبِّ ، وخاضعٌ لأوامر العشيقة .
     والعشيقةُ مَا بَكت إلا لِتَمْلكَ قلبَ عاشقها بكل أجزائه ، وتَحصلَ عليه كاملاً غير منقوص. وقد نَجحت في خطتها ، وانتصرتْ في معركتها ، ورفعَ عشيقُها الرايةَ البيضاء مستسلماً ، وراضياً بالأمر الواقع . وهذا النصرُ الباهر يُسجَّل للعشيقة التي عَرَفت كيف تَستخدم نقطةَ قوَّتها ( الدموع )، وكيف تَستغل نقطةَ ضَعف عاشقها .
14_ الطهارة والنقاء :
     لقد كانت العشيقةُ في أعلى درجات طهارتها ونقائها . وهذه الحالةُ من النقاء والصفاء متناسبة تماماً مع مناخ العِشق ، كما أنها تَحظى برضا العاشق الحريص على تخليد عشيقته وهي في قمة صفائها وعنفوانها . يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
وَبَيْضَةِ خِدْرٍ لا يُرامُ خِباؤُهـا         تَمتَّعْتُ من لَهْوٍ بها غيرَ مُعجَلِ
     يصفُ هذه المرأةَ بأنها طاهرة ونقية ورقيقة، لا تَشوبها شائبة . فهي كالبَيْض في طهارتها، وعفَّتها، وصفائها . وهي مُصَانَةٌ ، ومستورةٌ ، ومتمتعةٌ بالصحة والعافية والسلامةِ من الحيْض. وهي مُلازِمةٌ خِدْرَها، ولَيْست امرأةً خارجةً داخلةً تقضي وَقْتَها خارج بَيْتها ، ولا تستقر فيه . والخِدْرُ هو سِترٌ يُمَدُّ للمرأة في ناحية البيت . أمَّا الخِباءُ فهو البيت من القطن أو الصوف أو الوَبَر .
     إنها امرأةٌ تلتزم بَيْتَها ، ولا تَخرج منه إلا للضرورة القُصوى . فهي تَصون أُنوثتها، وتَستر نَفْسَها ، ولا يُطلَب بَيْتها ( لا يُرام خباؤها )، وذلك لشرفها وعزَّتها. وفي هذا مؤشرٌ على أنها محفوظة ومُصانة ، وليس لها علاقات مع البيئة الخارجية .
     وهذه المرأةُ _ بكل هذه الصفات _ يُفترَض بها أن تَصون نَفْسَها عن العِشق الممنوع. ومع هذا، خَضعت للشاعر العاشق ، فانتفع باللهو معها ، والاستمتاع بها، بكل هدوء أعصاب، بلا عَجَلة ولا ضغوطات خارجية . فقد أَخذ وَقْتَه كاملاً معها، فلم يتعجَّل ، ولم يَمَل منها ، ولم يُشغَل عنها بغَيْرها . إنه يُكرِّس صورته كزير نساء محترِف ، لا تَصمد أمامَه أيةُ امرأةٍ بسبب مواهبه المتعددة في الغرام، وجَمالِ صورته، وقوةِ بَدنه ، ومكانته الاجتماعية الرفيعة. حتى إن هذه المرأة التي وصفها بالطهارة والنقاء ، وَقعت في أحضانه بإرادتها ، ولم تستطع مقاومةَ سِحْره الجذاب .
15_ المجازفة بالحياة من أجل العشيقة :
     يحاول الشاعرُ رسمَ هالة أسطورية حَوْل شخصيته ، وصبغها بقيم التضحية والفِداء من أجل العشيقة. إنه على استعداد للتضحية بنفْسه من أجلها . فعشيقته أغلى من نفْسه التي بين جَنْبَيْه.لذلك لا يُبالي بكل الأهوال التي تَعترض طريقَه إليها.
     يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
تجاوَزتُ أحراساً إلَيْها وَمَعْشَراً          عليَّ حِراصاً لَوْ يُسِرُّونَ مقتَلي
     يقولُ : تجاوزتُ في ذهابي إليها وزيارتي إيَّاها مصاعب جمَّة ، وتحدياتٍ خطيرة ، وأهوالاً عديدة ، وعقباتٍ مرعِبة ، وقَوْماً يَحرسونها ، وقوماً حريصين أشد الحرص على قَتلي .
     إذن ، فطريقُ العِشق لم يكن مُعبَّداً بالورود والقصائد . إنه طريقٌ شاق محفوف بالمخاطر، وقد يُكلِّف الشاعرَ رُوحَه . ومع هذا لم يَعبأ العاشقُ بكل هذه الأهوال والشدائد ، لأنه يُؤمن أن عِشقه قادرٌ على تذليل جميع العقبات . والشاعرُ يُقدِّم نَفْسَه فدائياً من أجل عيون عشيقته ، ويُصوِّر نَفْسَه كشهيد محتمَل لحالة العِشق .
     لقد اجتازَ الحراسَ المكلَّفين بحراستها بكل مهارة ، وهُم الذين يَقفون سَدَّاً منيعاً بَيْنه وبين عشيقته ، ويُحاولون مَنعه من الوصول إليها بشتى السُّبل . إنهم حريصون على قَتْله لو قَدروا عليه في خُفية ، لأنهم لا يَملكون الجرأةَ على قَتْله جهاراً نهاراً ، لأنه مَلِكٌ ، ولا يمكن قتلُ الملوك علانيةً .
     ومن الواضح أن عشيقته تنتمي إلى الطبقة المخملية في المجتمع ، بسبب وجود حُرَّاس يُحيطون بها . والحرَّاسُ لا يَتواجدون إلا في العائلات الراقية التي تَملك السُّلطة والمال والنفوذ . ولو كانت امرأةً عادية لَمَا أحاط بها الحرَّاسُ ، ولكانَ الطريقُ إليها سهلاً وسالكاً بلا عقبات .
     وأيضاً ، يُخبِرنا الشاعرُ _ بشكل ضِمني _ أنه ليس شخصاً عادياً ، فهو مَلِكٌ ينتمي إلى عائلة ذات مكانة سامية . وهؤلاء الحرَّاسُ الحريصون على قَتله ، لا يَقدرون على تنفيذ رغبتهم إلا في الخفاء ، ولا يَجرؤ أحدٌ منهم على قَتله في وضح النهار ، فقتلُ مَلِكٍ علانيةً هو إعلانُ حربٍ ، وهذا يَعني دخول القبائل في حرب طاحنة ستأكل الأخضرَ واليابسَ . وامرؤ القَيْس كان يُدرك هذه الحقيقة ، لذلك تصرَّف بكل ثقة ، ودون خوف أو تردد ، فهو يَعْلم أن وراءه مَن يسنده ويَحميه .
16_ قميص النوم :
     الليلُ هو مملكة النساء. إنه ستارٌ كثيف يَستر البشرَ عموماً ، والمرأةَ خصوصاً.كما أنه ملتقى العشاق ، وأرشيف مغامراتهم . وبالتأكيد ، إن انتشارَ الظلامِ يُعطي الإنسانَ فُرصةً للتحرك بهدوء وسِرِّية دون مُراقَبة أَحد . والذين يتحركون في الظلام أقْدر على إنجاز أعمالهم ، لأنهم مُسلَّحون بالكُتمان والغطاءِ الطبيعي ( العَتمة ) . 
     يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
فَجِئتُ وقد نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثيابَها         لدى السِّترِ إلا لِبْسَةَ المُتَفَضِّلِ
     اقتحمَ الشاعرُ عالَمَ الليل بكل جُرأة، وأَتى عشيقتَه في مملكتها الخاصة بلا خَوْف ولا تردد. لقد وصلَ إلى هذا المكان الحسَّاس المحظور، وراحَ يَسبح في المنطقة العميقة ، وجاءها بكل شَوْق ولهفة ، وقد خَلعت ( نضَّت ) ثيابها عند النوم غير ثوب واحد تنام فيه ( لِبسة المتفضِّل ) .
     يفتخرُ الشاعرُ بهذه المغامَرة الخطيرة التي قد تكلِّفه حياته . فالوصولُ إلى مَعقل العشيقة وقلعتها الحصينة أمرٌ شديد الخطورة ، لأنه متعلق بقيم الشرف والعِرْض والتقاليد القَبَلية الصارمة. ولكنَّ الشاعرَ العاشقَ لا يَعبأ بكل هذه الأخطار، ففي سبيل لقاء العشيقة، تَهون الصِّعابُ ، وتصبح النَّفْسُ رخيصةً . ولا رَيْبَ أن هذه المرأة كانت تبادله عِشقاً بعِشق ، وقد سَمحت له بأن يَصول ويَجول دون أدنى شُعور بالخوف أو الرَّهبة . ولو كان العاشقُ يَعرف أنها رافضةٌ له لَمَا تجرَّأ على هذا الأمر، ولكنه واثقٌ كل الثقة بعِشقها له، وأنها عندما تراه لن تَصرخ ، أو تستنجد بأهلها ، فتُسبِّب للعاشق فضيحةً قد تُودِي بحياته . وفي هذا دلالةٌ باهرة على أنها فَتحت له قلبَها على مِصْراعَيْه ، وسَهَّلت له الوصولَ إلى قلعتها المحروسة جيداً، والتي تُعتبَر منطقةً يَصعب الوصول إليها ، ومن أرادَ الوصولَ إليها فهو بحاجة إلى " دعم لوجستي "، ومساندة داخلية ، وإجراءات شديدة التعقيد تتطلب وضع خُطة مُسْبقة ومُحْكَمَة .
     إذن، هناك خُطَّة مُسْبقة ، وتنسيق واضح بين العاشقَيْن ، ودراسة دقيقة للوضع المكاني، والفترةِ الزمنية. لقد خَلعت العشيقةُ ثيابها، واكتفت بثوب نوم رقيق لتخدعَ أهلَها ، وتُريهم أنها تريد النومَ . وبالتالي سيطمئنون عليها ، ويتركونها واثقين بأنها ستنام وتَغطس في سُباتٍ عميق .
     وهذا التمويه المدروس نتيجةٌ طبيعية لحالة العشق المشتعلة . وكلُّ قصص العِشق مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمؤامرات ، والخططِ السِّرية ، والمكر ، والخديعة ... إلخ .
     لقد خَدعت أهلَها ، وأَقْنعتهم بأنهم ستنام بدليل ارتدائها ثياب النوم ( قميص النوم )، فتركوها وشأنها. وبالتأكيد ، لقد تنفَّست الصعداء، وأَخذت رُوحَ المبادَرة، فَوَقَفَت عند السِّتر مترقِّبةً قدومَ الشاعر ، ومنتظرةً إيَّاه بفارغ الصبر .
17_ مكوِّنات النصف الأعلى من المرأة :
     يصنعُ الشاعرُ سبيكةً شِعرية مشتملة على الوصف الدقيق لجسد العشيقة . وفي هذا المقام يُركِّز على النصف الأعلى من جسدها ، فيصف مكوِّناتها المادية المحسوسة دون وجود أي أثر للمشاعر الرومانسية ، أو الخيالاتِ الحالمة .
     يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
مُهَفْهَفَةٌ بَيْضاءُ غيرُ مُفاضَـةٍ          ترائبُها مَصْقولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ
     إن الأوصافَ المذكورة في البَيْت الشِّعري هي أوصاف ماديةٌ بحتة لا مكان فيها للخيال أو الصُّورِ الفنية المبتكَرة. فهي امرأةٌ مُهَفْهَفَةٌ ، أي : دقيقة الخصرِ ، ضامرة البطن ، وهذه صفة عادية موجودة لدى الكثيرات . فَخَصْرُها دقيق ، وبَطنها لَيْس ضخماً، وإنما ضامر. مما يدل على أنها لَيْست شرهةً ، ولا تعاني من السُّمنة ، فأَكْلُها معتدل بلا إفراط ولا تفريط . وهذا سببُ ضُمور بطنها .
     كما أنها غير مُفاضَة ، أي : غير عظيمة البطن ولا مسترخيته . فبطنُها لا يتدلى بسبب ضخامته ، وعضلاتُ بطنها مشدودة ولَيْست مسترخية . إذن ، فهي امرأةٌ رشيقة ، تتمتع بقوام متناسق جذَّاب ، وبعيدة كل البُعد عن التَّرهُّل والسُّمنة . وقَطْعاً ، هذا الأمرُ يُحسَب لها ، ويدل على اعتنائها بصحتها ، وأن لها نظامَ تغذية مُعيَّناً، وأنها تراقب وَضْعها الصحي بصورة مستمرة، وتسيطر على تفاصيل جِسمها.
     ثم يأتي الشاعرُ على ذِكر صَدْرها. وكما هو معلومٌ ، فإن صَدر المرأة هو رمزُ أُنوثتها ، وعنوانُ شخصيتها ، والجزءُ الرئيسي في نِصفها الأعلى .
     وصِدرُ العشيقة ( الترائب ) مصقولٌ كالسجنجل ( المِرْآة ). فهو صَدرٌ براقٌ اللون، يمتاز بالصَّفاء والنقاء ، يتلألأ كالمِرْآة . وبالتأكيد، لا تعني كلمةُ " مَصْقولَة " أن صَدرها مستوٍ كالمرآة، لأن هذه صفةُ نقصٍ لا كَمالٍ . فَجَمَالُ صَدر المرأة يكمن في بُروزه واتِّساعه . إذن ، فكلمةُ " مَصْقولَة " تعني أن صَدرها قَد جَلاه اللمعانُ ، فهو يتوهج بكل أُنوثة ، ويَلمع مِن شِدة صفائه ، ويُنير بسبب بريقه المفعم بالحيوية .
18_ الإعراض عن العاشق واستقباله :
     كلُّ قصةِ عِشق لا بد أن تشتمل على الإعراض والإقبال ، أو الهجرِ والوصل ، أو الكَر والفَر . وذلك لأن نارَ العِشق المتأججة يَصعب السيطرةُ عليها ، ويَصعب إحكامُ القبضة على الشرر المتطاير في كل الجهات . وهذه الثورةُ الجنونية العارمة لا بد أن تشتمل على الأضداد ، والعناصرِ المتناقضة .
     يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
تَصُدُّ وتُبْدي عن أَسيلٍ وتَتَّقـي          بناظرَةٍ مِن وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِلِ
     تتأرجحُ العشيقةُ بين الصَّد ( الإعراض ) ، والاتِّقاء ( الاستقبال ) . إنها خاضعة لحالة العِشق بكل تناقضاتها.
     تصدُّ عن عشيقها ، وتُعرِض عنه بعد أن تعكَّرَ مزاجها ، وتُظهِر ( تُبدي ) في إعراضها خَدَّاً أسيلاً(طويلاً)، وكأنَّ هذا الخد الطويل الناعم قد صارَ رمزاً للصُّدود، وشِعاراً للإعراض. لقد ابتعدت عن عشيقها بملء إرادتها، واختارت أن تُعرِض عنه بمحض اختيارها دون إكراهٍ من أَحد .
     وإذا صفا ذهنُ العشيقة ، وتعدَّل مزاجُها ، فإنها تَبتعد عن حالة الصُّدود ، وتَدخل في حالة القبول والاستقبال ، حيث تَستقبل الشاعرَ ( تتَّقي ) بعَين مِثل عيون ظِباء وَجرة ( وَحش وَجرة ) التي لها أطفال . و" وَجرة " اسم مَوْضع .
     وهذا الاستقبالُ له طقوس مُعيَّنة تدل على الحُب الكبير بين العاشقَيْن. فالعشيقةُ تستقبل عشيقَها بَعين       ( ناظرة ) غاية في الحُسن والجَمال ، تُشبِه عيون ظِباء وَجرة ، وخَصَّ الشاعرُ هذه الظِّباءَ بالتي لها أطفال        ( مُطْفِل)، لأنها تَنظر إلى أطفالها بكل حُب وشَفقة وحنان. والعُيونُ المشتملة على معاني الشفقة والعطف هي _ بلا أدنى شَك_ أحسنُ العُيون .
     إذن ، فالعشيقةُ تَحشد المعاني الرقيقة في عَيْنها ، وتَستقبل عشيقَها بهذه العَين الممتلئة بالحنان والدفء العاطفي ، وكأنها تَعتبر الشاعرَ طِفْلَها المدلَّلَ ، فتُشفِق عليه، وتعامله بِعَطف بالغ ، وتأخذ بيده إلى بَر الأمان ، وعالَمِ الطمأنينة ، ولذةِ الحُب .
     والشاعرُ العاشقُ قد وَقَعَ أسيراً لهذه النظرة الحانية . وهذه العَيْنُ التي قَتَلَتْهُ بسلاح الوُدِّ والرأفة والرحمة ، سَيْطرت على أعضائه وجوارحه ، وقيَّدت مشاعرَه ، فصار قلبُه عَبْداً لعشيقته ، وحواسُّه خَدَماً لها بدون إكراه ولا إجبار .
19_ وصفُ العُنق :
     يمثِّل عُنقُ المرأةِ مَنبعاً للجَمال ، وهو واجهةٌ أساسية للأُنوثة ، وعنوانٌ رئيسي للنُّعومة . كما أنه مَكان الْحُلِيِّ التي تُعتبَر زينةً للمرأة ، ورمزاً لأناقتها وعنفوانها . وكلُّ امرأةٍ تَحرص على تزيين عُنقها ( رقبتها ) بالعقود والقلائد ، لكي تَكون في أبهى صُورة ، وأجمل مَنظر . لا سِيِّما وأن العُنق هو طابع البريد الذي يَكشف عن محتوى الرسالة . وإذا كان طابعُ البريد قبيحاً ، فسوفَ يشمئز الناسُ من الرسالة .
     يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
 وجِيدٍ كجِيدِ الرِّئْمِ ليْسَ بفاحشٍ          إذا هيَ نَصَّتْهُ ولا بِمُعَطَّـــلِ
     يُشبِّه عُنقَها ( جِيدها) بعُنق الظبي ( الرِّئم ) في نُعومته، وجَماله الآسِر، وتناسقه. وهذا العُنقُ ليس بفاحش، أي: ليس متجاوزاً قَدْرَه المحمود،فليس قصيراً ولا طويلاً، ولا دقيقاً ولا غَليظاً. وخَيرُ الأمورِ أوسطُها. إنَّه عُنقٌ لَيس بفاحش إذا رَفَعَتْه العشيقةُ ( نصَّته ) ، فهو معتدل ذو جَمال سَاحر ، وهو أيضاً غير مُعطَّل عن الحُلِيِّ. فالعُقودُ تحيط به ، وهذا ما يُميِّزه عن عُنق الظبية الخالي من الحُلِيِّ ( المعطَّل). إذن ، فعنقُ العشيقة المزيَّن بالحُلِيِّ أجمل من عُنق الظبية .
20_ وصفُ الشَّعْر :
     شَعرُ المرأةِ هو زِينتها الظاهرية . ويَزداد جَمالُ الشَّعر كلما كان طويلاً ، حيث ينساب على الظَّهر، ويُبرِز أُنوثةَ المرأة، ويَكشف معاني فِتْنتها. ولا شكَّ أن خِصلات الشَّعر المترامية الأطراف تَخلق عوالم سِحرية تستقطب الرَّجلَ وتأْسره .
     يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
وَفَرْعٍ يَزينُ المَتنَ أَسْوَدَ فاحِمٍ          أَثيثٍ كَقِنْوِ النَّخلةِ المُتَعَثْكِلِ
     تَظهر العشيقةُ في أبهى صُورة، وفي مُنتهى الجَمال . إنها تهتمُّ بنفْسها بصورة واضحة ، وتعتني بتفاصيل جِسمها أشد العناية ، وتُولِي شَعرها اهتماماً خاصاً .
     إِنَّ شَعْرَها الطويلَ التَّام ( الفَرْع ) يُزيِّن ظَهرها ( المَتن ) إذا أَطْلَقَت له العَنان ، وأَرْسَلَتْه على هَواه. شَعرٌ أَسْود فاحم (شديد السَّواد كالفحم ) يَنسابُ على ظَهرها بكل سلاسة وتدفق ، فتبدو العشيقةُ غابةً مِن السِّحر ، ومملكةً مِن عُذوبةِ الرُّوح ، وعالَماً مِن عُنفوان الأُنوثة . وفي تلك الحالة العامرة بالدفء العاطفي ، والسِّحر الأُنثوي ، لا يَملك الشاعرُ إلا أن يَرفع الرايةَ البيضاء مستسلماً أمام جَمال العشيقة وطَلعتها البهية ، ويَغرق في شَعرها الذي يَحفر مجراه في ظَهرها بكل نعومة ، كما لو كان نَهراً شديد العذوبة يشقُّ طَريقَه دون عقبات .
     ومِن صِفاتِ شَعرها المفعم بالسَّواد الباهر ، أنه كثيرٌ ( أثيث ) . ومِن كَثرته دَخل بَعضُه في بَعض (المُتَعَثْكِل )، وتدلَّى بكل دلال. وهكذا قِنْو النخلة ( العِذْق ) .
     استحضرَ الشاعرُ في ذِهنه صورةَ النخلة _ التي هي أساس البيئة العربية ذات الطبيعة الصحراوية القاسية _ حيث تتدلى عناقيدها وتتداخل معاً لكثرتها . وأَسْقطَ هذه الصُّورةَ على شَعر عشيقته التي شَبَّهَ ذؤابتَيْها ( والذُّؤابة هي الضَّفيرة ) بقِنو نخلةٍ . وهذه الذوائب ( الضفائر ) تُشبِه العناقيد من حِيث كثرتها وتداخلها .
     ويقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس في نَفْسِ السياق ( وصف شَعْرها ) :
 غدائرُه مُسْتَشْزِراتٌ إلى العُلا          تَضِلُّ العِقاصُ في مُثَنَّىً وَمُرْسَلِ
     لقد ضاعَ الشاعرُ في متاهة شَعْر عشيقته ، وحارَ فِكْرُه في جَمال خِصلات شَعرها السِّحرية الجذابة . وها هُوَ يصفُ ارتفاع شَعرها ، وكأنه دليلٌ على ارتفاع مكانة العشيقة ، وعُلُو منزلتها الاجتماعية . فغدائرُ شَعْرها مُسْتَشْزِرات ، أي : خِصلاتِ شَعْرها مرتفعات . ترتفع هذه الخِصلاتُ الجميلة إلى الأعلى . وهذا الشَّعْرُ الساحرُ يمتازُ بِعُلُوِّ المكانِ والمكانةِ في آنٍ معاً . ورَفْعُ الشَّعْر بهذه الصورة لا يتم إلا بشدِّه على الرأس بخيوط . مما يدل على عناية العشيقة بشَعْرها ، وحرصها على أن يبدوَ في أبهى صورة ، وأجمل مَنظر . وكأن هذا الأمر جزءٌ من " الموضة الجاهلية " المتفشية بين نساء ذلك العَصْر . أضفْ إلى هذا ، أن المرأةَ الغارقة في علاقةٍ غرامية تَحرص على الظُّهور أمام عشيقها بأحسن صُورة . فهي تَقضي وقتاً طويلاً أمام المِرْآة ، وتعتني بأدق التفاصيل في جِسْمها، وتهتمُّ بكل جزء في ملابسها ، وذلك من أجل نَيْل رِضا العاشق وحُبِّه ، والسيطرةِ على أحاسيسه ، واستمرارِ العلاقة على أحسن وَجْه دون مشكلات .
     ولا يتوقف جَمالُ شَعر العشيقة عند ارتفاعه إلى فوق ، بل أيضاً تَغيبُ ( تضل) العِقاصُ ( خِصلات الشَّعْر ) في بَعضها البعض، فشَعْرُها الغزيرُ المتكاثفُ غابةٌ من السَّواد ، يَبتلع هذه العِقاصَ بلا رحمة . ويمكن القولُ إنَّ شَعْرَها بَحرٌ عميق متلاطم الأمواج، تَغرق فيه خِصلاتُ شَعرها الذي بَعْضُه مُثَنَّى وبَعْضُه مُرْسَل .
21_ العشيقةُ الثَّرية :
     إن النساءَ الثَّرِيَّات لهنَّ طقوس مُعيَّنة في حياتهن الاجتماعية. وهذه الطقوسُ تَنبع من القوة المادية ( المال ، السُّلطة ، النَّسب ) . والمرأةُ الثَّريةُ عندما تَعشق ، فإنها تبتكر أسلوباً غرامياً خاصاً ناتجاً من مكانتها الاجتماعية السَّامية ، وثروتها المالية .
     يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
وتُضحي فَتيتُ المِسكِ فوقَ فِراشها          نؤُومُ الضُّحى لم تَنْتَطِقْ عن تفضُّلِ
     العشيقةُ الآنَ في وقت الضُّحى ، وأجزاءُ المِسك فوق فِراشها الذي باتت عليه. وهذا يدل على طِيب عَيْشها ، وثرائها الفاحش . فهي تُضحي ، أي تُصادِف وقتَ الضُّحى ، وفتاتُ المِسك على فِراشها ، يَنشر الرائحةَ الطَّيبة في المكان ، ويُحيله إلى عالَمٍ عِطري لا مكان فيه للغبار ، أو الروائح الكريهة . مما يُشير إلى اهتمامها البالغ بنظافة المكان ، ورائحته . ووجودُ أجزاءِ المِسك على فِراشها يَعكس هوسَها الاستهلاكي النابع من ثرائها . كما يَعكس اهتمامها بكل صغيرة وكبيرة في عالَمها الأرستقراطي . ولا يخفَى أن وجود فُتات المِسك على الفِراش ليس أمراً اعتيادياً ، ولا يُمكن اعتباره عادةً نسائية في المجتمع العربي الصحراوي القاسي . وفي هذا دلالةٌ باهرة على أن العشيقة ذات ثروة هائلة ، وتعيش في مناخ رومانسي حالم منقطع عن البيئة البدوية الجافة . ولا رَيْبَ أن ثروتها ( أو ثروة عائلتها ) تمكِّنها من شراء المِسك ، وإلقائه على فِراش نَوْمها . وهذا الفِعلُ السحري المبالَغ فيه يدل على أنها لا تَعرف أين تَذهب بمالها الكثير، مما جَعلها تُركِّز على الكَماليات ، وتحقيق الرفاهية المتجاوزة كل الحدود .
     وهذه المرأةُ_ العائشة في بُرجها العاجي المنفصل عن بيئتها الكئيبة القاسية _ كثيرةُ النوم في وقت الضُّحى( نؤوم الضُّحى)، فلا داعي أن تَستيقظ للعمل أو ما شَابَه ، لأن هناك مَن يَقوم بالعمل نيابةً عنها . لم تنتطق عن تفضُّل. يعني أنها لا تشدُّ وسطَها بنطاق بعد لَبْسها ثوب المهنة كما تفعل النساء اللواتي يَتحضرنَ للعمل . والفضلةُ هي ثوب واحد يُلبَس للخفة في العمل . والعادةُ المتَّبعةُ أن المرأة تشدُّ وسطَها بنطاق من أجل العمل في بيتها ، لِكَيْلا يُعيق ثوبُها حركتَها أثناء مباشرتها للأعمال البَيْتية التي تتطلب جُهداً وحركةً .
     وبالتأكيد، فهذه الصورةُ الشعرية لأحوال العشيقة تدل على أنها مخدومة مُنعَّمة، تُخدَم ولا تَخدِم ، ومُحاطة بالخَدَم والحَشَم والأُبَّهة ، وأن لها مَن يَخدمها ، ويَسهر على راحتها ، ويُنفِّذ رغباتها ، ويقوم على أُمورها وشؤونها ، فلا داعي أن تُباشِر عَملاً بنفْسها ، ولا داعي أن تَقلق على شؤونها ، فهناك مَن يَكفيها أُمورَها ، ويعتني بتفاصيل حياتها . وتفاصيلُ حياتها اليومية تُشير إلى أنها في نِعمة عظيمة ، وتَغرق في رغد العَيْش . فوجودُ المِسك على الفِراش ، وكثرةُ نَوْمها في الضُّحى ، وعدم شَد وَسطها بنطاق . كل هذه الأمور تدل على أنها امرأة ثرية مخدومة لا خادمة .
     ويقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس في نفْس السياق :
وتَعْطو برَخْصٍ غيرِ شَثْنٍ كأنـهُ          أساريعُ ظَبْيٍ أوْ مساويكُ إسْحِلِ
     العشيقةُ الثَّريةُ غارقةٌ في رَغد العَيْش ، وهي تتصرف بكل أُنوثة ونعومة . حيث إنها تتناول( تَعطو ) الأشياءَ ببنان لَيِّن ناعم( رَخْص) غير غليظ. والشثنُ هو الغليظ.
     إنها من " أصحاب الدماء الزرقاء ". وهذا اللقبُ يُقصَد به الأثرياء ، فإنهم يَعيشون حياةً مُترَفة ناعمة ، لا يُمارِسون أعمالاً شاقة ، ولا يَخدمون أنفسهم بأنفسهم ، وإنما لَدَيْهم جيش من الخَدم والحشم . ومِن فَرْط نعومة حياتهم ورقَّتها ، تَبدو جُلودُهم رقيقةً طريةً ، تَبْرز فيها عُروق الدم بلون أزرق . وهذا هو سبب تسميتهم بأصحاب الدماء الزرقاء .
     والعشيقةُ من هذا النوع . فهي تتناول الأشياءَ بأصابع ناعمة رقيقة بعيدة كل البُعد عن الخشونة والصلابة والغِلظة . وليس هذا بغريب، فهي لا تُباشِر الأعمالَ بيدها بسبب وجود مَن يَخدمها، وبالتالي فإن يَدَها بعيدة عن الاحتكاك بالأشياء ومصارعتها . الأمرُ الذي يَجعل أصابعَها ناعمةً طرية ، لا مكان فيها للقسوة أو التشقق أو التَّصلب .
     وقد تَمَّ تشبيه أناملها _ بسبب نعومتها _ بالأساريع ، وهو دُودٌ يتواجد في الأماكن النَّدية ، وتُشبَّه به أصابع النساء الرقيقة . و" ظَبي " مَوْضعٌ بِعَيْنه . وكما أن هذا الدُّود الناعم يتواجد في الأماكن النَّدية ، فكذلك أناملُ العشيقةِ الناعمةُ ، تتواجد في يَدٍ نَدِيَّةٍ شديدة الطراوة والنضارة . 
     إذن ، تُشبِه تلك الأناملُ هذا الصنفَ من الدُّود ، أو مساويك إسحل . وهي المساويك ( جَمع مسواك ) المأخوذة من أغصان شجر إسحل ( نوع مُعيَّن من الشجر ) . وهاتان الصورتان تَمَّ توظيفهما في البَيْت الشِّعري لتكريس نعومة أنامل العشيقة في الأذهان ، والتركيزِ على لطافة يَدِها ، ونضارةِ جِلْدها، وشبابِها الدائم .
22_ نورُ الوجه :
     يُمثِّل الوجهُ العنوانَ الرئيسي للإنسان. وجميعُ محاسن الإنسان مجموعةٌ في وجهه. والأمرُ يزداد أهميةً في علاقات العِشق والغرام ، فيصبح الوجهُ هو البوصلةَ المسيطرة على مسارات الحُب ، وانعطافاتِ العلاقة بين العاشقين . وكلُّ عاشقٍ يَرى في وَجه عشيقته نوراً هادياً في ظُلمات الحياة ، وطَوْقَ نجاةٍ ينتشله من بحر الآلام .
     يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
تُضيءُ الظلامَ بالعِشاء كأنها         مَنارَةُ مُمْسَى راهِبٍ مُتَبَتِّلِ
     يَقف الشاعرُ مبهوراً أمام نور وجه عشيقته . إنه وجهٌ وهَّاج ، ينبعث منه ضوءٌ باهر يمزِّق الظُّلمةَ المتفجرة في جَوْف الشاعر ، كما يمزِّق ظلامَ الليل الذي يَنشر أجنحته على المكان .
     تضيءُ العشيقةُ ظلامَ الليل بنور وجهها. هذا النُّورُ المتدفق يَزرع في قلب العَتمة لمعاناً مضيئاً مدهِشاً، فتتلاشى العَتمة، ويتحول الليلُ إلى نهار. وكأن العشيقةَ مصباحُ راهبٍ مُتبتِّل ( منقطع عن الناس ) .
     ولا تنحصر العشيقةُ في دائرة المشاعر والغرام . فبالإضافة إلى كَوْن العشيقة مَنبعاً للأحاسيس والعِشق ، فهي أيضاً مَنبع للنُّور الذي يُبدِّد الظلامَ ، ومَصدر للضوء الثاقب الذي يُنير العَتمة . وهذا الدَّوْرُ المركزي الذي تقوم به ، يُشبِه دَوْرَ مصباح الراهب المتفرِّغ للعبادة ، والمنقطع عن العالَم الخارجي . وهذا التشابه أو التشبيه مَرَدُّه إلى قوة مصباح الراهب ، حيث إنه يُضيئه أشد الإضاءة ليهتديَ به في متاهة الظلام ، ولكي يُرشِده عند الضلال والضياع في العَتمة . والمعنى العام أن نور وجه العشيقة يتفوق على العتمة ، ويَقهر ظلامَ الليل ويُبدِّده ، ويُنير الطريقَ ، تماماً كنُور مصباح الراهب الذي يَقوم بنفْس المهمة .
23_ طُول القامة :
     إن طُول قامة المرأة صفةٌ محبَّبة عند الرجال ، فالطُّول دليلٌ واضح على حُسن الجسم، واعتدالِ الخَلْق، وقوةِ البُنية، وبهاءِ المَنظر . والمرأةُ الطويلة مرغوبةٌ ، وتَكون في مَوْضع المدح والإطراء ، أمَّا المرأةُ القصيرة فلا تَسْلم من الذَّم والانتقاص .
     يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
إلى مِثلها يَرْنو الحليمُ صَبابـــةً          إذا ما اسبَكَرَّتْ بينَ دِرْعٍ ومِجْوَلِ
     لقد صُبَّ عليها المديحُ صَبَّاً ، فهي امرأةٌ تستحق كل ثناء ومدح وتبجيل . وإلى مِثلها ينبغي أن يَنظر العاقلُ الحليمُ ، صاحبُ الفِكر الثاقب ، والمتمتِّعُ ببُعد النظر . فهي كَنْز ثمين لا ينبغي تركُه ، وامرأةٌ مميَّزة يجب التمسك بها ، فلا يمكن تعويضها ، ومن غير المعقول تجاهلها .
     والعاقلُ يَرنو إليها صبابةً ، أي : يَنظر إليها بكُل حُب وحنين وشَوْق.ولن يَعرف قَدْرَ هذه المرأة إلا صاحبُ العقلِ العارفُ بصفات النساء، والخبيرُ بأحوالهن . أمَّا الجاهلُ فلن يعبأ بها لعدم معرفته بقيمتها السامية . والناسُ أعداءُ مَا يَجهلون .
     فعلى الحليم أن يَنظر إليها بكل حُب ولهفة إذا ما اسبكرَّت ، أي : إذا طالَ قَدُّها ، وامتدَّت قامتها . إذ إنها في تلك الحالة تبدو في أبهى صورة ، وأجمل مَنظر ، فامتدادُ قامتها يشتمل على محاسن جِسمها ، ويُبرِز جَمالَها ، ونقاطَ قوَّتها ، ويُلخِّص مفاتنها بشكل مكثَّف .
     والدِّرعُ هو قميصُ المرأة . والمِجْولُ ثوبٌ تلبسه الفتاة الصغيرة . والمقصود بالدِّرع في البيت الشِّعري هي لابسة الدِّرع ، أي التي أَدركت الحُلمَ . والمِجْول هي لابسة المِجول ، أي التي لم تُدرِك الحُلمَ . والمعنى أنها تمتاز بطُول القَامة وهي بَعْدُ لم تُدرِك الحُلمَ ، وقد ارتفعتْ عن سِن الفتيات الصغيرات .
24_ رسوخُ العِشق :
     هناك عِشقٌ أبدي يَدوم مع الزمن ، ويَعيش مع مرور الوقت . وهناك عِشق مؤقَّت يتساقط مع مرور الزمن كأوراق الخريف ، ويَذهب أدراجَ الرياح كأن شيئاً لم يكن. وبالتأكيد، إن هناك عوامل كثيرة تحدِّد طبيعةَ العلاقةِ الغرامية، وتأثيرها في العناصر المحيطة ، وأثرها في عالَم الزمان والمكان .
     يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
تَسَلَّتْ عَماياتُ الرجال عَن الصِّبا          وليسَ فؤادي عن هواكِ بمُنْسَـلِ
     يَعْقدُ الشاعرُ مقارنةً بَيْنه وبين باقي الرِّجال لِيُثْبِت عُلُوَّ كَعْبه ، ويُبرهِن على تفوقه عليهم في مجال العِشق والغرام ، وأنه يَفوقهم قَدْراً ومكانةً ، وأن عِشقه ثابتٌ على مَر الزمان بعكس باقي الرجال .
     فقد تسلَّت عماياتُ الرِّجال عن الصِّبا، أي : خَرج الرجالُ من ظُلمات الصِّبا، وودَّعوا مغامراتهم الطائشة في تلك الفترة الزمنية ( الصِّبا ) التي تمتاز بالطيش والرعونة والتهور . لقد بَطُلت ضلالاتُ الرجال بعد مضيِّ صباهم ، وذَهبت سلوكياتهم المتهورة إلى غير رجعة بفِعْل تقدُّمهم في السِّن ، وازدياد وَعْيهم . واختفى جنونهم الجامح المستند إلى الغريزة الملتهبة ، والمشاعرِ المتأججة ، وصاروا يَحتكمون إلى عقولهم لا عواطفهم . وقد خَرجوا من مرحلة الصِّبا بكل ما فيها مِن مُرَاهَقَةٍ وحماسةٍ زائدة عن الحدِّ المعقول ، وحركاتٍ صبيانية غير محسوبة ، ودَخلوا في مرحلة الرجولة التي تتميز بالعقلانيةِ ، والاتزانِ ، ووضعِ الأمور في نِصابها الصحيح.أمَّا الشاعرُ العاشقُ فقد ظَلَّ تائهاً في عوالم عشيقته . وفؤادُه ( قلبُه ) لم يَخرج من هواها وحُبِّها . وقد ظَلَّ فؤادُه في ضلالة هواها، يَغرق أكثر فأكثر. لقد زالَ عِشقُ العشاق وانتهت مغامراتهم ، أمَّا عِشقه فثابتٌ على مَر الزمان ، لا يَزول ولا ينتهي .
25_ رفض النصيحة واللوم :
     إذا سَيطرَ العِشقُ على الإنسان ، فإنه يُصبِح سجيناً في دائرة ضيقة ، لا يَقْدر على الخروج منها ، أو النظر أبعد منها . فالحبُّ أعمى ، كما أنه يُعمِي ويُصِم، أي يَجعل الإنسانَ لا يُبصِر عيوبَ محبوبته ، ولا يَسمع أيَّ نقدٍ لها . والأخطرُ من هذا رؤية أفعالها القبيحة أموراً حسنةً .
     يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
ألا رُبَّ خَصْمٍ فيكِ ألْوَى رَدَدْتُه          نَصيحٍ على تَعذاله غيرِ مُؤْتَـلِ
     يُقدِّم الشاعرُ أوراقَ اعتماده لعشيقته لكي يُثبِت لها مقدارَ عِشقه . فهو غارقٌ في بحر حُبِّها إلى شَحمة أُذنيه، فلم يَعُد يُرسِل أو يَسْتقبل . وهو لا يَرى إلا صورتها، ولا يَسمع إلا صوتَها . ومن أجل البرهنة على هذه الحقيقة ، يُقدِّم لها دليلاً واضحاً، وهو وجود خَصم شديد الخصومة ( أَلْوَى ) كان ينصحه بكل إلحاح ، ويَلومه أشد اللوم على حُبِّه لعشيقته غير مُقصِّر ( غير مُؤْتَل )، فما كان من الشاعر إلا أن رَدَّه ، ولم يستمع لنُصحه أو لَوْمِه ( تَعذاله ) .
     إنها شهادة براءة من كُلِّ ناصحٍ أو لائمٍ، يُحاول أن يَثْنِيَه عن عِشقها ، أو يُبعِده عنها. فهو يُحِبُّها رغم كلام الناصحين، ورغم لَوْم اللائمين . فلا يَردعه رادعٌ ، ولا ينزجر عن هواها بالعَذل أو النصح . وهذا برهان واضح على مقدار عِشقها ، وتغلغلِ حُبِّها في أجزاء قلبه .

     والشاعرُ سعيدٌ بإخبارها عن مَبْلغ عِشقه لها. وقد بَلغَ حُبُّه إياها رُتبةً عالية ، وَوَصَلَ عِشقه إلى الغاية القُصوى التي لا يُوجَد بعدها شيء ، واستقرت علاقتُه الغرامية في ذِروة المشاعر الإنسانية . فلا تُوجد أيةُ وسيلةٍ قادرة على رَدْعه ، وكلُّ محاولاتِ الناصحين أو اللائمين ذَهبت هباءً منثوراً ، ولم تُجْدِ نفعاً .