شوبنهاور وكراهية النساء
للكاتب / إبراهيم أبو عواد
جريدة القدس العربي
لندن ، 24/2/2016
..........................
للكاتب / إبراهيم أبو عواد
جريدة القدس العربي
لندن ، 24/2/2016
..........................
يُمثِّل الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور (
1788م _ 1860م ) حالة فلسفية خاصة في النسق الفكري العالمي . فقد بنى أفكاره على
التشاؤم المطلق ، بحيث كان يرى الوجود بؤرةً للحزن والكآبة ، ويعتبر الحياة شراً
كاملاً، لا مكان فيها للفرح والسعادة . وما يُسمَّى بالسعادة عبارة عن تقليل كمية
الأحزان والمصائب لا أكثر.
وهذه النظرة العدمية الشاملة لا بد من تحليلها في ضوء تفاصيل حياة
هذا الفيلسوف العالمي ، للوقوف على المنعطفات الخطيرة في حياته الشخصية ، والتي
أدَّت إلى توليد فلسفته التشاؤمية الصارخة .
درس شوبنهاور الفلسفة في
جامعة جوتنجن في الفترة ( 1809م _ 1811م ) ، وحصل على الدكتوراة في الفلسفة من
جامعة برلين عام 1813م ، ( وهو في الخامسة والعشرين ) . ولا شَكَّ أن الحصول على
الدكتوراة في الفلسفة في هذه السن الصغيرة ، مؤشر واضح على عبقرية شوبنهاور ، وأنه
قد كرَّس حياته للعِلْم والفلسفة ، والتفتيش عن ماهيات المعنى في عالَم يتساقط
حَوْلَه ، والبحث في تفاصيل الوجود ضمن حياة تنهار في داخل جسمه وخارجه ، وإيجاد
أجوبة منطقية للأسئلة الوجودية المتكاثرة في وجدانه . وربما كان توجهه إلى طريق
الفلسفة محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، وتعويضاً عَن خيبات الأمل في طفولته
وشبابه المبكِّر، وانتقاماً مِن أحزانه وأحلامه الضائعة ، وهذا الأمر يتَّضح إذا عَلِمْنا
أن أباه قد مات مُنتحراً عام 1805م . وبعبارة أخرى ، لقد تلقى الشاب شوبنهاور الذي
كان في السابعة عشرة صدمةً وجدانية هائلة ، وهي انتحار أبيه . وغيابُ الأب بهذا
الشكل المأساوي ترك جُرحاً عميقاً في نفس شوبنهاور ، الذي كان في تلك الفترة شاباً
يتحسس طريقَه في هذه الحياة . وسقوطُ رمزية الأب بهذه الصورة المؤلمة والمفاجئة ،
له تداعيات كارثية على الأسرة. وبما أن شوبنهاور كان وحيد أبويه ، فقد ازدادت
حِدَّةُ هذه التداعيات . وكما يُقال : المصائب لا تأتي فُرادى . فقد خسرَ أباه
معنوياً ومادياً ، ثم ما لبث أن خسر أُمَّه معنوياً ، حيث لم يجد فيها مثالاً للحب
والحنان والاحتضان . ومن الواضح أن أُمَّه قد استغلت هذا الانتحار ، لتعيش حياتها
بالطول والعَرْض بلا ضوابط . لقد تحررت من كل القيود الاجتماعية ، ورفضت كل معاني
الفضيلة ، وراحت تُقيم علاقات مع الرجال بلا وازع ديني أو أخلاقي . وتصادمَ الشاب
شوبنهاور مع أُمِّه بسبب أسلوب حياتها المتحرر ، وحدثت قطيعة تامة بينهما حتى ماتت
، ولم يَرها .
إن صورة الأم تحطمت في
نفس شوبنهاور، فقد كان ينتظر أن تحتضنه أُمُّه بعد انتحار أبيه ، وتُوفِّر له
الأمن والأمان والمشاعر الدافئة ، وتُعوِّضه عن فقدان أبيه ، لكن هذا لم يَحدث .
إن أُمَّه عاشت حياتها كما يَحلو لها، وكأن ابنها غير موجود أصلاً في عالَمها .
عاشت لنفْسها بكل أنانية وتحرر ، دون أي اعتبار لابنها المكسور ، الذي حَوَّلَ
شقاءه الحياتي وصِدامه مع أُمِّه إلى كَراهية شديدة للنساء بلا تمييز . اعتبرَ
المرأةَ مثالاً للخيانة والاستغلال والشهوة ، لذلك لم يَرتبط بأية امرأة طيلة
حياته ، ولم يُقِمْ أية علاقة نسائية ، لا داخل الزواج ولا خارجه .
وانتقلَ فشلُه العاطفي
وانكساره العائلي إلى ميدان العمل ، فأخفقَ في حياته التدريسية ، حيث عمل أستاذاً
في جامعة برلين ( 1820م _ 1831م ) . ولم يَحْظَ بأي تقدير ، سواءٌ من طلابه أو
زملائه . ولم يحقق نجاحاً من أي نوع . لم تَحْظَ شخصيته بالاحترام ، ولم تكتسب
أفكاره تقديراً وانتشاراً ، ولم يُقبل أحد على مؤلفاته. لقد انتقل من فشل إلى فشل
، لذلك آثرَ العزلة والابتعاد عن الناس والاختفاء عن الأنظار ، فحصل على غرفتين في
فندق متوسط ، وعاش فِيه الثلاثين سنة الأخيرة من حياته . عاش وحيداً وبائساً .
لقد كره هذا الفيلسوف
النساء، واعتبرَ المرأة منبع الشرور ، ومثالاً لجنون الشهوة ، وتجسيداً للخيانة
والغدر والحقد . وحصرَ المرأة في زاوية الجسد ، ولم يرها إلا من خلال بؤرة الجنس ،
لذلك كان يُعلي من شأن الغريزة الجنسية ، ويجعل منها المحور الأساسي في حياة
الإنسان ، ويَعتبر أن كل سلوك اجتماعي يمكن تفسيره بالكامل وفق الدافع الجنسي . وهذا
يعني أنه جرَّد المرأة من كل فضيلة ، واعتبرَها آلةً للتكاثر وبقاء النَّوع البشري
، والحفاظ على الحياة في وجه الموت .
لقد ترك شوبنهاور عدة
مؤلفات، من أبرزها: 1_ الأصول الأربعة لمبدأ السبب الكافي ( رسالة الدكتوراة) (
1813م ). 2_ الإرادة في الطبيعة ( 1836م ). 3_المشكلتان الأساسيتان في فلسفة
الأخلاق ( 1841م). وبدأت مؤلفاته في نهاية حياته تثير الاهتمام ، وتلقى نوعاً من
الرواج .
وبعيداً عن مؤلفاته ،
فإِن فلسفة شوبنهاور الاجتماعية تجاه الإنسان والمرأة تحديداً ، يمكن تلخيصها وفق
مقولاته الشخصية . ووفق تقديري البسيط ، فإِن هناك خمس مقولات لشوبنهاور تلخص
فلسفته الاجتماعية كاملةً . المقولة الأولى : " حياة الوحدة مصير كل الأرواح
العظيمة " . وهذا يعني أن العزلة هي طريق السُّمو الأخلاقي ، وأن الابتعاد عن
الناس يدل على المجد والعَظَمة، وأن التعامل مع الناس سبب كل الشرور . والمقولة
الثانية : " كل مآسينا تقريباً تنبع من صِلاتنا بالآخرين " . وهذه
العبارة مترابطة تماماً مع قناعته بأن العلاقات مع الآخرين سبب للشقاء والتعاسة
والأحزان، وأن الانفراد بالذات طريق السعادة وراحة الضمير. والمقولة الثالثة:
" يمكن للمرء أن يكون على طبيعته فقط عندما يكون وَحْدَه " . لقد اعتبرَ
الحياة الاجتماعية قائمة على النفاق والرياء وارتداء الأقنعة ، ولا يمكن للمرء أن
يجد نفْسَه الحقيقية ، ويرى وجهه بلا قِناع ، إلا إذا كان وحيداً ومنقطعاً عن
الناس . والمقولة الرابعة : " التضحية باللذة في سبيل تجنب
الألم مكسب واضح " . يُشدِّد على أهمية النظر إلى ما وراء الأمور ، وعدم
التخندق في اللذة الآنية الزائلة ، فقد تَكون اللذةُ المؤقَّتةُ سبباً للشقاء
الأبدي ، لذلك يُركِّز على فكرة التضحية باللذة من أجل تجنب الألم . وهذه المقولة
قد تُفهَم في سياق العلاقة الزوجية . حيث إِن شوبنهاور يَعتبر المرأة منبع الشرور
، ويعتبر الحياة جحيماً من المصائب والكوارث . والمرأةُ والحياة وحدة واحدة لا
تتجزَّأ ، لأن المرأة هي الحاضنة للجنس البشري ، وهي التي تحفظ بقاء النَّوع
الإنساني من الانقراض . وهذا يَعني أن المرأة هي السبب في شقاء الإنسان وعذابه ،
لأنها السبب في مجيئه إلى الأرض . لذلك من الذكاء _ وفق شوبنهاور _ التضحية باللذة
الجنسية التي تؤدي إلى ولادة الإنسان ، من أجل تخليص الإنسان من العذاب ، وتجنب
الشقاء والمعاناة والآلام . والمقولة الخامسة والأخيرة : " الرجال بطبيعتهم
لا يُبالون ببعضهم البعض ، أمَّا النساء فأعداء بطبيعتهم ". إنه فاقد الثقة
بالرجال والنساء على السواء ، فالعلاقات الاجتماعية يحكمها الرياء والحقد والعداوة
، وتفتقد إلى المشاعر الدافئة ، والأحاسيس البريئة . لا أحد يحب أحداً في هذا
العالَم القائم على الحقد والشر والكراهية والعدم. لذلك، حسمَ شوبنهاور أمرَه ،
وقرَّر اعتزالَ الناس، والاكتفاء بمعرفة نفْسه بعيداً عن الأنظار. لقد أرادَ أن
يَكون على طبيعته ، فعاشَ وَحيداً ويائساً .