المرأة في شعر المعلقات / الجزء الثالث
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
https://www.facebook.com/abuawwad1982
https://twitter.com/abuawwad1982
........................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
https://www.facebook.com/abuawwad1982
https://twitter.com/abuawwad1982
........................
26_ الرقص :
يُمثِّل الرقصُ اختزالاً
لأُنوثة المرأة، وتكثيفاً لمفاتنها،وتتويجاً لقدرتها على الإغراء، وتجميعاً بؤرياً
لكل فِتْنتها وجَمالها ودلالها . وفي نفْس الوقت ، يُجسِّد الرقصُ النظرةَ
الدونيةَ للمرأة ، حيث يتم تأطير المرأة في زاوية الإغراء ومتعةِ الجسد والاستمتاع
الغريزي الشهواني، فتتحول المرأةُ إلى شيء، مجرَّد شيء لمتعة الرجال، ونيل
إعجابهم، واحتضان شهواتهم.إنها تقدِّم لحمَها الرخيصَ كسِلعة تجارية في فوضى البيع
والشراء.
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن
العبد :
فَذالتْ كما ذالتْ
وَليدةُ مَجْلِسٍ تُرِي رَبَّها
أذيالَ سَحْلٍ مُمَـدَّدِ
بدايةً ، ينبغي القولُ إن الشاعرَ يصف ناقته
، وقد شبَّهها بالراقصة . وما يهمُّنا في هذا السياق هو الصورةُ العامة المرسومة
للراقصة . ولا يخفَى أن هذا العنصر (
الراقصة ) قد أخذه الشاعرُ مِن بيئته العربية . فهو ليس عنصراً خيالياً ، وإنما هو
عنصر واقعي مأخوذ من الواقع المحسوس المشاهَد بالعين المجرَّدة .
لقد تبخترت ( ذالت )
الناقةُ كما تتبختر جاريةٌ تَرقص أمام سَيِّدها ( رَبِّها ) . فوليدةُ المجلس ( الجارية الراقصة )
تتبختر أمام سَيِّدها ومالِكها، وتتكسَّر في مِشْيتها، وتحاول إبراز كل مواطن
فِتنتها من أجل نيل رِضا سَيِّدها ، ولكي يَصل إلى الغاية القُصوى في الاستمتاع
بها . إنها توظِّف حركاتِ جسدها المغرِي للسيطرة على حواسِّه، والاستحواذِ على
مشاعره، والاستئثار بحبِّه وإعجابه. وبالتأكيد، إن الإغراءَ هو السلاح الفعَّال
للمرأة ، وكلُّ امرأةٍ تَفقد قُدرتها على الإغراء ، إنما تَفقد جزءاً كبيراً من
أُنوثتها ، فَتَشْعر بالحزن والاكتئاب ، وأنها كيانٌ هامشي غير مرغوب فيه.
وهذه الراقصةُ لم تَقنع بالتبختر، بل _ أيضاً _ أرادت الوصول إلى ذِروة
المتعة والشهوة واللذة والإغراء ، فكانت حريصةً على أن تُرِي سَيِّدَها أذيالَ سَحْلٍ مُمَـدَّدِ. أي : تُرِيه ذَيلَ ثوبها الأبيض الطويل في
رقصها . وذَيْلُ المرأة ما وَقَعَ على الأرض مِن ثوبها .
إنها حريصةٌ على
الاعتناء بكل التفاصيل لزيادة حرارة الشَّبق ، وإشعال نار الرغبة والمتعة ، وعدم
ترك أي شيء للصُّدفة . تتبختر ، وتُبرِز مفاتنها بشكل مثير للغريزة ، وتحرص على أن
يرى سَيِّدُها ذَيلَ ثوب الرقص الحامل لمعاني الدلال والأنوثة والنعومة .
27_ الغِناء :
صوتُ المرأةِ هو
التاريخُ المختصَر للأُنوثة ، والمخزونُ الإستراتيجي للعُذوبة . وكلُّ العشاق
يَسْبحون في أصوات عشيقاتهم ، ويَسمعون رَجْعَ الصدى يتردد في دواخلهم . كما أن
الأشخاص الذين يَحضرون مجالس اللهو والطرب التي تُحرِّكها الراقصاتُ والمغنِّياتُ،
واقعون تحت سيطرة أصوات النساء ، تلك الأصوات الناعمة المعجونة بالتكسُّر
والتغنُّج والرِّقة والألحان العذبة .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن
العبد :
نَدامايَ بِيضٌ كالنجومِ وَقَيْنَةٌ تَرُوحُ عَلينا بينَ بُرْدٍ وَمِجْسَدِ
يَمدحُ الشاعرُ نداماه ( جَمع نديم )، وهُم
الذين يُرافقونه ويُشاربونه . فيصفهم بأنهم أحرار كِرام أبناء حرائر لا إماء .
ألوانُهم براقة ووجوهُهم مشرقة كالنجوم . ولا رَيْبَ أن هذه الصفات تشير إلى أن
هؤلاء الندامى مِن عائلات غنية وراقية ، لها وضعٌ اجتماعي مميَّز . وكثيرٌ من
أبناء الأُسَر الغنية يَبحثون عن المتعة واللهو ، وهُم قادرون على دُخول كل أماكن
الرقص والغِناء ، بسبب قوَّتهم المالية ، وقُدرتهم على الإنفاق والتبذير بلا عوائق
. وبالطبع ، فالراقصاتِ والمغنِّيات في أماكن اللهو ، يُركِّزْنَ جهودَهنَّ على
اصطياد الشباب الأغنياء المتمتعين بالصِّحة والحيوية والثراء .
وقَيْنةٌ ( جارية
مغنِّية ) تأتيهم رواحاً ( فترة بعد الزوال ) في أبهى صورة ، وأجملِ مَنظر . حيث
تَلبس بُرداً أو مَجْسداً ( وهو الثوب المصبوغ بالزعفران ) . إنها تعتني بمظهرها
وملابسها ، فتحرص على الظهور في أجمل صورة لسرقة أعين الحضور ، والسيطرةِ على
قلوبهم ، ودغدغةِ عواطفهم ، ونيلِ إعجابهم ومديحهم . وهي بذلك توظِّف نقاطَ
قوَّتها ( فِتنة الأنوثة ، وإغراء الجسد ، وجَمال الملابس ) من أجل السيطرة على
المشْهد ، وأَسْرِ الرجال ، والاستحواذِ على كل عناصر المكان ، فلا شيء يُفلِت من
قبضتها الناعمة .
ويقولُ الشاعرُ طَرَفة
بن العبد :
إذا نحنُ قُلنا أَسْمعينا انْبَرَتْ لنا على رِسْلِها مَطْرُوقَةً لم تَشَدَّدِ
لا يزال الشاعرُ في
مناخ الغِناء المفعم بالأحاسيس والذكريات والهواجس . وهو حريصٌ على إبرازِ صُورة
المغنِّية في شِعْره، وإظهارِ تفاصيل مجلس اللهو والغِناء الذي يَجلس فيه برفقة
نداماه الذين يُشارِكونه ويُشاربونه.
فإذا طَلبوا منها الغِناء، وقالوا لها : أَسْمعينا . أي : أَسْمعينا
غِناءكِ ، لم تتردد ولم تتلعثم . وعلى الفَوْر تنبري لهم ، أي تَعرض لهم وتنطلق
بالغِناء بلا عوائق . وهي _ أصلاً _ لا
تَمْلك رفضَ طلب الزبائن ، لأنها موجودة في هذا المكان لتحقيق رغباتهم ، وتنفيذ
أوامرهم. إذن، هي موظَّفة تقدِّم نفْسها كسِلعة استهلاكية في زاوية المتعة
والاستمتاع ، استمتاعِ الزبائن بجسدها وصوتها مقابل المال ( أُجرتها ) .
وهذه المغنِّيةُ لها طقوس معيَّنة في الغِناء
. فهي تُغنِّي على رِسْلها بلا عَجَلة ولا استعجال . وتمتازُ بالتمهُّل والتأني
والهدوء . وهذا يُشير إلى استمتاعها بالغِناء ، والاستغراقِ في معاني الكلمات ،
ودلالاتِ الألحان . إنها تَنحت غِناءها في ذاكرة المكان بكل تمهُّل، وتَحفر صوتَها
في أذهان السامعين بكل سلاسة ورَوِيَّة. وبالإضافة إلى هذا ، فإن نَغمتها في
الغِناء ضعيفة خافتة ( مطروقة ) لا تشدُّد فيها ولا صخب .
وهذه النغمةُ الضعيفة تنطلق من الأحاسيس المرهَفة للمغنِّية ، ورِقَّةِ
مشاعرها ، وأحزانِها الكامنة في قلبها . وكلُّ المشاعر الرقيقة تنعكس على صوتها ،
فتَخْفت النَّبرةُ ، وتَضْعف النغمةُ . وقَطْعاً ، هذا الضعفُ ذو تأثير عميق في
نفوس السامعين ، ويَحمل دلالاتٍ رمزية نابعة من الحزن والألم والانكسار
والرومانسية الحالمة .
ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد
:
إذا رَجَعَتْ في صَوْتِها خِلْتَ صَوْتَها تَجاوُبَ أَظآر على رُبَـــعٍ رَدِ
صوتُ المغنِّيةِ عالَمٌ من الأحاسيس
والذكريات والآلام . فإذا طَربتْ في صوتها ، وردَّدتْ نغمتها ( رَجَعَتْ )، عَمَّ
الحزنُ والألم، وتفشَّت الأحاسيسُ الدافئةُ، وانبعثت العواطفُ الجيَّاشة ، وانطلقَ
الوجعُ الإنساني ، وتفجَّرت المعاناةُ في كل الاتجاهات .
وإذا انبعث صوتُ
المغنِّيةِ الحاملُ لكل معاني الحزن والوجع ، حَسِبْتَ ( خِلْتَ ) صوتَها أصواتَ
نُوقٍ ( تجاوب أظآر ) تصيح على هالك . والأظآرُ جمع ظائر ، وهي التي لها ولد .
والرُّبَع من ولد الإبل مَن وُلد في أوَّل النتاج . والردى هو الهلاك .
وبالطبع ، فإن صوتَ
النُّوق _ في هذه الحالة _ يكون قد بَلغ الغايةَ القُصوى في الحزن والتحزين. ولا
توجد أحاسيس أكثر حزناً وألماً من أحاسيس لحظة الفِراق. فكيف إذا كان الفِراقُ
أبدياً ( الموت ) ؟! . وصوتُ المغنِّيةِ الحزينُ يُشبِه صوتَ النُّوق في التحزين
والتألم . فكلا الصوتَيْن حاملٌ لمعاني الألم والحسرة والوجع العميق والذكريات
الحزينة والفراق الأبدي . وقد يكون المقصودُ بالأظآر النساء ، والرُّبَع كناية عن
ولد الإنسان . وعندئذ يكون صوتُ المغنِّيةِ الحزينُ كأصوات النساء النائحات على
صبي هالك. لقد ظَهرَ صوتُ المغنِّية حاملاً لكل معاني الرِّقة والحزن . وكأنها
تَنوح على صغيرٍ هالك . وبشكل عام ، فالمشاعر الإنسانية في حالة الموت تكون
حقيقيةً بعيدة عن المجاملة أو التَّصنع ، لأن الموتَ قادرٌ على إحياء المشاعر
الدفينة ، وبعثِ الأحزان ، ونشرِ الآلام .
28_ التَّعري :
كان المجتمعُ الجاهلي
غارقاً في الإباحية والشهوانية ، منساقاً وراء الغريزة الجنسية بلا ضوابط . وقد
حَصر المرأةَ في دائرة المتعة المجرَّدة ، وأَدْخلها في عالَم السِّلع والبضاعة ،
فأضحتْ جسداً للمتعة ، ولحماً رخيصاً للقادرين على الدفع .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن
العبد :
رَحيبٌ قِطابُ الجَيْبِ منْها رَقيقةٌ بِجَسِّ النَّدامى بَضَّةُ
المُتَجَــرَّدِ
هذه المغنِّيةُ محصورةٌ في دائرة الشهوة،
وخاضعةٌ لرغبات الزبائن ، فلا تَقْدر على رفض أوامرهم ، ولا تستطيع حمايةَ جسدها
منهم . فوظيفتُها تحتِّم عليها أن تتحول إلى جسد شهواني لكي يَستمتع بها الرِّجال
. وهي تتقاضى أُجرتها على هذا العمل .
إنها مُغنِّيةٌ واسعة
الجيْبِ ، أي إن فتحة ثوبها من أعلى ( قِطاب الجيْب ) تمتاز بالرحابة والاتساع ،
وبالتالي فإن صَدرها مكشوفٌ للندامى ( الزبائن الحاضرين في مجلس المتعة واللهو ).
وهذا الفِعلُ ليس صُدفةً ، وإنما هو فِعل مقصود يستند إلى تخطيط مسبق ، فهي تَحرص
على توسيع فتحة ثوبها، وذلك لإدخال الندامى أيديهم في جَيْبها لِلَمس صدرها ،
ومُداعبةِ نَهْدَيْها . وهذه المتعةُ الناتجة عن اللمس تُلخِّص عملَ المغنِّية في
هذا المكان ، وهذا ما يَجذب الزبائن إليه .
والمغنِّيةُ رقيقةٌ
وناعمة على جَس ( لمس ) الندامى إيَّاها . وكأن أكفَّهم المارَّة على جِلْدها لم
تزده إلا نعومةً ، أو أن جِلْدها لم يتأثر بأكف الندامى التي تَلْمسه ، فبقي
ناعماً رقيقاً لا أثرَ للخشونة فيه . إنها امرأةٌ بَضَّةٌ ( تمتاز بنعومة البدن
ورِقَّة الجِلد ) . وما يَعْرى مِن جسدها (المُتَجَرَّد ) ناعمُ اللحمِ في أقصى
درجات الليونة ، ورقيق الجِلد لا أثر فيه للقَسْوة والخشونةِ ، وذو لونٍ مشرق
يمتاز بالصفاء والبهاء . ولا رَيْبَ أن هذه المغنِّية المتعرِّية حريصةٌ أشد الحرص
على الاعتناء بجسدها ، والاهتمامِ بمظهرها الخارجي . وهذا ليس مستغرباً ، لأن
وظيفتها تَفرض عليها أن تكون في أجمل صورة، وأشهى مَنظر ، وذلك لكي تَجذب الندامى
، ويستمتعوا بها، فتزداد أرباحُ صاحب " نادي العُري / الملهى الليلي " ،
وتحصل هي على أُجرتها ورضا الزبائن الهاربين من قسوة البيئة الصحراوية إلى نعومة
الجسد الأُنثوي ، والفارِّين من رمال الصحراء إلى أعضاء النساء . وهكذا ، صار
العُري والتَّعري أحدَ مصادر الدَّخل في المجتمع الجاهلي. وهذا الاقتصادُ قائمٌ
على أكتاف المرأة ( الضَّحية / القاتلة ) التي تُقدِّم جسدَها سلعةً رخيصة لمن
يَمْلكون المالَ .
29_ التَّمتع بالمرأة :
تستمر حفلةُ الاستمتاع
بالمرأة روحياً ومادياً ، مع الاهتمام بتفاصيل المكان والظروفِ الجوية المحيطة به
.
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
وتَقصيرُ يَوْمِ الدَّجْنِ والدَّجْنُ مُعجِبٌ ببَهْكَنَةٍ تَحْتَ الخِباءِ
المُعَــــمَّدِ
الدَّجْنُ هو انتشار الغَيم في الجَو . وهذه
الأجواءُ الرومانسية الحالمة هي التي تُخيِّم على مَشهد الاستمتاع بالحبيبة . فأقصر
يوم الغيم بالتمتع ببهكنة ، وهي المرأة الجميلة الناعمة الممتلئة . وقد تَمَّ
تحديدُ مكان الاستمتاع بهذه المرأة ، وهو تحت الخِباء المُعمَّد ( تحت البيت
المرفوع بالأعمدة ) .
هذه المرأةُ الحسناءُ
يستمتع بها الشاعرُ ضِمن مكانَيْن . المكانُ الأول هو فُسحةٌ سماوية ، حيث تنتشر
الغيومُ في الأفق الرَّحب ، فَتَصْنع مَشْهداً عاطفياً حالماً، ومفعماً بالمشاعر
والدفء الوجداني. وهذا الجَو العاطفيُّ يُعجِب الإنسانَ (الدَّجْنُ مُعجِبٌ )،
ويَبْعث في نفْسه السعادة والنشوة . والمكانُ الثاني هو بُقعةٌ أرضية ( تحت الخِباء
المُعمَّد ) ، وكأن الحبيبَيْن يتحركان ضمن بُعْدَيْن ( مكان خارجي ومكان داخلي )
.
لقد تحوَّل الزمانُ إلى
مكان. وغابَ الوقتُ، وحَلَّتْ مكانه المتعةُ الحِسِّية بالمرأة التي أَنْسَت
الشاعرَ شعورَه بمرور الزمن . وقد تمَّ التركيزُ على " تقصير اليوم " لأن
أوقات المتعة والطرب أفضل الأوقات ، ومِنها تنبعث المشاعرُ الجميلةُ ، والنشوةُ
العارمةُ . ولا يخفَى أن الأوقات السعيدة تمر بسرعة هائلة كأن شيئاً لم يكن ، وأن
لحظات الحُب والمتعة تَعبر مسرعةً ، فَتَذْهب لَذَّاتها ، وتبقى تبعاتها .
وبالتأكيد ، كان الشاعرُ يَعرف أن لحظات السعادة تمر كلمحِ البصر ، فأرادَ أن
يُقيِّدها ، ويُخلِّدها إلى الأبد . فذكرَ المكانَ الخارجي ( الفضاء الرَّحب ) ،
والمكان الداخلي ( الخِباء المُعمَّد ) ليكونا شاهدَيْن على استمتاعه المؤقَّت ،
ويقوما بأَسْرِ اللحظةِ الزمنية والإمساك بها بكل قوة . ومن هنا تَنبع القوةُ
الشعورية للمكان ، وحضورُه العاصف في الذاكرة والواقعِ على حَدٍّ سَواء .
30_ الحنين إلى النساء :
يُجسِّد الحنينُ جميعَ
الذكرياتِ الإنسانية المختبئة في زوايا الذاكرة السحيقة . وهذه الكُتلة الملتهبة (
الحنين ) تمر على القلب ، فتحرقه بلا هوادة ولا رحمة . وكلما غَرق الإنسانُ في
الحنين ، اقتربَ من عوالم الخيال والحزن والوهم .
يقولُ الشاعرُ زُهير بن
أبي سُلمى :
تَبَصَّرْ خَليلي هَلْ ترى مِن ظَعائنٍ تحمَّلْنَ بالعَلياءِ مِن فَوْقِ
جُرْثُـمِ
تحوَّل الشاعرُ _ مِن فَرْط الحنين والوَلَه
_ إلى مريض بالوهم . إنه يَطلب من خليله ( صديقه ) أن يتبصَّر ويَنظر بدقة . انظرْ
يا خليلي هل ترى نساءً مُرْتَحِلات (
ظعائن ) بالأرض العالية ( العلياء ) مِن فوق هذا الماء ( جُرْثم ) ؟ . دَقِّق
النظرَ يا صديقي : هل ترى نساءً في هوادج على ظُهور الإبل ؟. إنها لحظات الرحيل
القاتلة، والسَّفر بلا وداع ، ومغادرة المكان بكل ذِكرياته وأحلامه .
لقد وَقَعَ الشاعرُ
أسيراً في قَبضة الوجد والهيام ، وسَقَطَت أعصابُه تحت ضغط الحنين الجارف ، وخضع
قلبُه لسُلطة الحُبِّ العنيف ، فصارَ مريضاً بالوهم ، يَرى المستحيل واقعاً
ملموساً، ويَعتبر الماضي جزءاً من الحاضر المُعاش. فقد مضى عشرون سنة على رحيل
هؤلاء النساء ( الظعائن ) . ومن المستحيل أن يَراهنَّ خليلُه بعد مرور كل هذه
السنوات .
سَقط البصرُ والبصيرة في
قَبضة الحنين الحارق، وانتصرَ الزمنُ على الذكريات. ولا يمكن للماضي أن يَعود.
غابَ الماضي ، وخَلَّف في نَفْس الشاعر جُرحاً عميقاً، ولَوْعةً مشتعلة ، وأوهاماً
متكاثرة . وهذه هي ضريبةُ الحنينِ القاسيةُ التي يَدفعها العشَّاق في كل العصور .
31_ جَمال النساء الحِسِّي :
يَغرقُ المُحِبُّون في
تفاصيل النساء، حيث إن جَمالهن يُلهي القلب، ويُزيل الهموم، ويُقلِّل من وَطْأة
الضغوطات الحياتية والاجتماعية .
يقولُ الشاعرُ زُهير بن
أبي سُلمى :
وفيهِنَّ مَلْهىً لِلَّطِيفِ وَمَنْظَرٌ أنيقٌ لِعَينِ الناظرِ المُتَوَسِّـمِ
في هؤلاء النساء الجميلات مَلهىً ( مَوْضع
لَهْو ) للإنسان اللطيف الذي يتمتع بالأناقة والمنظرِ الحسن. فعندما يَنظر إليهن
يستمتع بجَمالهن المغرِي ، ويتلذذ بحُسنهن الفائق، فينسى همومَه، وتُزول مشكلاتُه
، وتختفي أزماته، ويَغرق في اللهو والشهوة واللذة ، فينتقل إلى العَيش في عالَم
آخر ، عالَمِ الخيال والأحلام والرومانسية.
وأيضاً ، في هؤلاء
النساء مناظر تُعجِب عَينَ الناظر . ولكنْ ، ينبغي أن يَكون الناظرُ مُتوسِّماً
حتى يستمتع بمناظر النساء اللواتي هُنَّ أَشْبه بلوحاتٍ فنية . والمتوسِّمُ هو
الذي يتفرس في مفاتنهنَّ، ويُدقِّق النظرَ في محاسنهن ، ويَغرق في صفات جَمالهن.
والشخصُ _ عندما يَمتلك هذه المهارة _ ، لا بد أن يَكتشف كلَّ نقاط حُسْنهن .
32_ الشوق إلى نساء القبيلة :
الشَّوْقُ نارٌ تأكلُ
أجزاءَ القلبِ ، وتَحرق عِظامَ الصدر . وقودُها الذكرياتُ والأحلامُ النابعة من
الماضي الجميل الذي رَحل إلى غير رَجْعة .
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن
أبي ربيعة :
شَاقَتْكَ ظُعْنُ الحَيِّ حِين تَحَمَّلوا فَتَكَنَّسوا قُطُناً تَصِرُّ
خِيامُهــا
لقد تأجَّج الشوقُ في قلبه ، وتفجَّر
الحنينُ في كيانه الرقيق . وسَببُ الشوقِ والحنين هو رحيل نساء القبيلة ( ظُعْن
الحَي ). شَاقَتْهُ ظُعْنُ الحَي، هؤلاء النِّساءُ الراحلاتُ زَرَعْنَ في قلبه
الشوقَ والحُرقةَ والحَسرةَ حِين تحمَّلوا ، أي : حِين دَخَلْنَ هوادجهنَّ جماعاتٍ
بهدف الانتقال إلى مكان آخر . إنه الرحيلُ المؤلِم ، وهجرةُ الذكريات ، ونسيانُ
أحلامِ الماضي العَذبةِ . وكأن دُخولهنَّ الهوادج بمثابة عملية إسدال السِّتار على
الأعمار الجميلة التي مَرَّتْ كلمح البصر. وقد أثَّر هذا المشْهدُ الجارحُ ( دُخول
النساء الهوادج بقصد الرحيل ) في نَفْس الشاعر ، وخلَّف في مشاعره لَوْعةً حارقةً
، وحَسرةً قاتلةً . فكان المشْهدُ صدمةً حقيقية ، وقفَ أمامها مشدوهاً وعاجزاً ،
لا يَمْلك إلا النظر والتألم ومراقَبة المنْظر المحزِن .
لقد ارتحلنَ ، ودَخَلْنَ
في الكِناس ( تَكَنَّسوا ) . والكِناسُ هو المكان الذي يأوي إليه الوَحشُ من
الظِّباء والبقر، ترتاح فيه من شِدة الحرارة . فهوادجُ النساء بمنزلة الكِناس
للوحش . هَجرت النساءُ الأحلامَ القديمةَ ، وهَاجَرْنَ من المكان جماعاتٍ في حال
صرير خيامهن المحمولة ، أو دَخلنَ هَوادج جُلِّلَتْ بالقُطن .
تَصِرُّ الخِيامُ،أي
تُخرِج صوتاً.وهذا الصوتُ مختلط بالأحلام والمشاعر المتضاربة. والهوادجُ غُطِّيت
بثياب القُطن. مما يدل على المكانة الاجتماعية الرفيعة للنساء ، لأن ثيابَ القُطن
ثيابٌ فاخرة ، لا يَقْدر على شرائها إلا الأغنياء .
33_ صعوبة الوصول إلى العشيقة :
في أحيان كثيرة يَكون
الوصولُ إلى العشيقة أمراً شديد الصعوبة ، وذلك بسبب وجود مشكلات زمنية أو مكانية
. وبالتأكيد ، إن هذه الصعوبة تَزرع في نَفْس العاشق ألماً متشظياً ، وحزناً
عميقاً ، وحسرةً متفجرةً .
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن
أبي ربيعة :
مُرِّيَّةٌ حَلَّتْ بِفَيْدَ وَجــاوَرَتْ أَهْلَ الحِجازِ فأينَ مِنكَ مَرَامُها
هذه
العشيقةُ مِن قبيلة مُرَّة ( مُرِّية ) ، وقد حَلَّت وأقامت ببلدة ( فَيْد ) ،
وجَاورت أهلَ الحِجاز . وذِكرُ هذه التفاصيل يُشير إلى سيطرة صورة العشيقة على
ذِهن الشاعر، واهتمامه البالغ بجذورها وسكناتها وحركاتها. ومن الواضح أنه
يُتابِعها أو يُتابِع أخبارَها بشكل دقيق . مما يدل على أنه مشغول بها ، وخاضعٌ
لعِشقها ، وغير قادر على إخراجها من ذاكرته. إنها تَحُل بِفَيْد في بعض الأوقات ،
وتجاور أهلَ الحِجاز في فصل الربيع وأيام الإنتاج . وذلك لأن المسافة بين فَيْد
والحِجاز طويلة ، فلا يمكن للمقيم بِفَيْد أن يكون مجاوراً أهل الحِجاز .
يُلاحِق الشاعرُ طَيْفَ
عشيقته من مكان إلى آخر، ويتتبَّع خطواتِها. وهو يَعرف الأماكنَ التي تتردد عليها
، ويَعرف كذلك أوقات الزيارة والإقامة . وقد ابتعدتْ عن بلاده ، وصارت المسافةُ
بين مكان العشيقة وبلاد الشاعر شاسعةً للغاية ، فكيفَ يَصل إليها وبينهما مراحل
جغرافية عديدة ؟ . كيفَ يَطْلبها وقد ابتعدت الديارُ وازدادت الحواجزُ الماديةُ
بينهما ؟ . وبشكل عام ، إن البُعد الجغرافي بين العاشقَيْن يُؤثِّر سلباً على
العلاقة الغرامية . ومهما كان العِشقُ راسخاً فلا بد أن يَضعف إذا ابتعدت الديارُ
ومرَّت الأيامُ . فالبعيدُ عن العَيْن بعيدٌ عن القلب . والزمنُ أقوى من الذكريات
. وطَبْعاً ، هناك حالات عِشق خاصة ونادرة ، والنادرُ لا حُكم له .
إن بُعْدَ المسافة بين العاشقَيْن هو الكابوس الذي يُلاحق العلاقةَ الغراميةَ ، ويُهدِّد وجودَها .
فالبُعدُ المكاني تهديدٌ حقيقي للقلوب العاشقة .
يقولُ الشاعرُ عنترة بن
شدَّاد :
كَيْفَ المزارُ وقَد تَربَّعَ أَهْلُها بعُنَيْزَتَينِ وأهلُنا بالغَيْلــمِ
إنها المعاناة مِن بُعد ديارِ العشيقة . لقد
نَأَت الديارُ ، وابتعدت الذكرياتُ ، وغابت الوجوهُ. يتساءل الشاعر بحسرة : كيف
يمكن أن أَزورَها وقد أقام أهلُها في فترة الربيع بعُنَيْزَتَين ( مَوْضعان )
وأهلُنا بمنطقة الغَيْلم ؟! . والتَّربعُ هو الإقامة زمن الربيع . وسؤالُ الشاعرِ
يدل على العجزِ التام ، وقِلة الحِيلة ، وشدَّةِ نار العِشق المتأججة في القلب .
لقد سَيْطرت اللوْعةُ على الشاعر ، فبَيْنه وبين عشيقته مسافةٌ بعيدة ، ولا
يمكن الوصول إليها إلا بمشقة هائلة بسبب بُعد المكان . فكيفَ يتأتى له زيارتها
وبَيْنهما مسافة طويلة وشاقة ؟!. سيظل هذا السؤالُ الحارقُ سابحاً في الفضاء بلا
إجابة.
34_ الوِصال والقطيعة :
إن الوِصال والقطيعة
مفردتان ثابتتان في قاموس العلاقات الغرامية . وهذا أمرٌ طبيعي، لأن الذوات
البشرية متغيرة، والقلوب متقلِّبة، مما يؤدي إلى انقلابات جذرية في العلاقات
الإنسانية _ عموماً _ ، والعلاقاتِ الغرامية _ خصوصاً _ . وفي كثيرٍ من الأحيان ، تكون
هذه الانقلاباتُ حادةً للغاية ، فتنتقل العلاقةُ من النقيض إلى النقيض ، فقد يتحول
الحبُّ إلى كراهية ، أو العكس . وقد يتحول الوِصال إلى قطيعة، أو العكس . وهذه
التحولات المصيرية نابعة من تحولات القلوب. وقد سُمِّيَ القلبُ قلباً من التقلب
والتغيُّر .
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن
أبي ربيعة :
أوَلَم تَكُن تدري نَوَارُ بأنني وَصَّالُ عَقْدِ حَبائلٍ جَذَّامُها
أوَلَم تكن تَعْلم نَوَار ( عشيقة الشاعر )
بأنني وصَّال عَقْد العهودِ والمحبةِ وقَطَّاعها ( جَذَّامها ) . والمقصودُ
بالحبائل هو العهود والمودَّات .
وهذا البَيْتُ يشتمل على
معاني الوعيد والتهديد والاستغناء ، ولكنْ بشكل ضمني. فالشاعرُ يَظهر في أقوى
حالاته، مالِكاً قلبَه،ومسيطراً على حواسِّه، ومتحرراً من جاذبية عناصر الغَرام.
وكلامُه يَدل على ثقته العالية بنفْسه ، فهو يقول إنه يَصل من يَستحق الصلةَ،
ويَقطع من يَستحق القطيعةَ . وهذا الكلامُ يثير تساؤلاتٍ عديدة لأنه يأتي في سياق
مخاطبة العشيقة. وعادةُ الشعراء عندما يُخاطبون عشيقاتهم أن يتذلَّلوا، ويَظهروا
في ثياب الانكسار، فيَطلبوا الرحمةَ والشفقةَ ، ويَستجدوا الوِصالَ وعدم القطيعة .
أمَّا الشاعرُ في هذا المَقام فَيَظهر قوياً للغاية ، ومُتحكِّماً بعواطفه بشكل
كامل. وهو يُعلِن _ بكل صراحة _ أنه لن يَمنح ثقتَه إلا لمن يستحقها . وبعبارة
أخرى ، سَيبني منظومةَ الوِصال والقطيعة على أساس عقلاني لا عاطفي .
35_ معاناة البِعاد :
مهما كان العاشقُ قوياً
ورابطَ الجأش ، فلا بد أن يتأثر بالبِعاد والفِراق . فالبُعد الجغرافي يشقُّ
القلبَ بصورة وحشية ، ويُورِث في النَّفْس حسرةً عميقة .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن
كلثوم :
قِفي قَبْلَ التَّفرُّقِ يا ظَعينا نُخَبِّرْكِ اليقينَ وتُخْبِرينا
يَطلبُ الشاعرُ بكل انكسار ولهفة من عشيقته
الظاعنة أن توقفَ مَطِيَّتها ( الدابة التي تَركب عليها ) . والظاعنةُ هي المرأة
في الهوْدج ، والتي قَرَّرت الرحيلَ .
وسَببُ هذا الطلبِ
النابعِ من قلب مكسور وأحاسيس ممزَّقة، هو تبادل الأخبار التي تُزيل الهمومَ
وتُطفِئ نارَ العِشقِ الملتهبةَ . يريد أن يُخبِّرها بما قاسى بعدها ، وكَم عانَى
جرَّاء ابتعادها عن عالَمه . وفي نفْس الوقت ، يريد أن تُخبِره بما لاقت بعده .
والإنسانُ حينما يتكلم ،
ويُخرِج كلَّ المشاعر التي تعتمل في داخله ، سَيَشْعر _ لا محالة _ براحةٍ ما بعدها راحة . والشاعرُ
يَريد محادثةَ عشيقته لإطفاء اللهيب الذي يأكل أضلاعَه ، وإخراج النار التي تَحرق
جَوْفَه. وأيضاً ، يُريد الاطمئنانَ على أحوال عشيقته لكي يرتاح قلبُه ، وتهدأ
أعصابُه ، ويَقتل الوساوسَ والأفكارَ السَّيئة.
36_ الخوف من الخيانة :
إن الخيانةَ تُفسِد
العلاقةَ الغرامية كما يُفسِد الخَلُّ العسلَ . وكلُّ عاشقٍ لا بد أن تهاجمه
هواجسُ الخوف من الخيانة مهما كان واثقاً بعشيقته . وذلك لأن حِرصه الشديد على
عشيقته يَحشره في زاوية الخوف والوساوس. وبسبب شدة تمسُّكه بها، يَشعر بالرُّعب من
فكرة الابتعاد عنه ، أو خيانته ، أو البحث عن عشيق آخر . وبالطبع ، إن الذي يَملك
كنزاً ثميناً لا بد أن تهاجمه فكرة اللصوص ليلاً نهاراً . أمَّا الذي لا يَملك
شيئاً فهو متحرر تماماً من هواجس السرقة ، وفكرةِ اللصوص ، فليس ما لَدَيْه ما
يَخسره .
والعاشقُ يَعتبر عشيقته
كنزاً ثميناً ، لذلك يَحرص عليه بكل ما أُوتيَ من قوة ، ويخشى أن يَخسره ، وهذا
الخوفُ يَخلقُ الوساوسَ القاتلةَ والخواطرَ القبيحة . ومَن خافَ مِن شيء سوف يَجده
ماثلاً أمامه، يُطارده في كل زمان ومكان مثل الكابوس. أمَّا غيرُ العاشق فهو مرتاح
ومتحرر من الشكوك وأفكار الخيانة، ولا يَشعر بأي نوع من القلق، فليس لَدَيْه كنزٌ
يخاف عليه ، وليس لَدَيْه ما يَخسره . وأفضلُ العِصمة ألا تَجِد . فعدمُ وجودِ
عشيقة سَيَعْصم الشخصَ من القلق ، والهواجس المَرَضية ، والوساوس القَهرية . يقولُ
الشاعرُ عمرو بن كلثوم:
قِفي نسأَلْكِ هَل أَحْدَثْتِ صَرْماً لِوَشْكِ البَيْنِ أم خُنتِ الأمينـا
يَطلبُ من عشيقته بكل تذلُّل أن تُوقِف
مَطِيَّتها لكي يتمكن من محادثتها . يُريد أن يسألها : هَل أحدثتِ صَرْماً (
قطيعةً ) لسرعة الفِراق ( لِوَشْكِ البَيْن ) أم هل خُنتِ عشيقكِ الأمين الذي تُؤْمَن
خِيانته ( لا يمكن أن يَخون ) ؟ .
والإجابةُ عن هذا السؤال
المصيري كفيلةٌ بإطفاء النار المتأججة في قلب الشاعر. إنه حريصٌ كلَّ الحِرص على
الاطمئنان على تفاصيل العلاقة الغرامية ، وملابساتِ الفِراق الصادم . والسؤالُ
يَعكس مدى القلق الذي يتلاعب بالشاعر ، فهل عشيقته أحدثت قطيعةً بسبب سرعة الفراق
الذي جاء مفاجئاً وصاعقاً بلا مقدِّمات ولا وداع ؟ . أم أن عشيقته خانتْهُ وأدارت
له ظَهرَها ونَسِيَتْ عهدَ المودة بينهما ؟ . وما يَبعث على الأسى والقلق أن
الشاعر لم يَتَلَقَّ أيَّةَ إجابة ، وبالتالي سيظل يَغرق في مستنقع وساوسه دون
وجود طَوْق نجاة .
وسيبقى سؤاله تائهاً في
الفضاء بلا إجابة ، متأرجحاً بين الصوت والصدى . إنه يسأل نفْسه بكل حُرقة : هل
دَعَتْكِ سُرعةُ الفراق إلى قَطع العلاقة الغرامية أَمْ إلى خيانة مودة الذي يَحفظ
ذِكراكِ ولا يَخونكِ أبداً ؟.
37_ ثدي المرأة :
يَملك ثدي المرأة حضوراً
أساسياً في أذهان النساء والرجال على حَدٍّ سَواء . فهو العنوانُ الرئيسي للمرأة ،
ورمزُ الأنوثة ، ومركزُ الشهوة الظاهر . ونهودُ الثدي صفة مرغوب فيها ، لأنها تدل
على كمال الأنوثة وحيويتها . وإننا لنجد كثيراً من الشعراء قد وصفوا الثدي بأجمل
الكلمات ، وهذا يدل على امتداد الغريزة والشبق في أبجدية الشِّعر .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن
كلثوم :
وثَدْياً مِثْلَ حُقِّ العَاجِ رَخْصاً حَصاناً مِن أَكُفِّ اللامِسينا
تخلى الشاعرُ عن الأحاسيس الحالمة المجرَّدة
، وتوغَّل في الناحية المادية الحسِّية .
إنه يَصِف ثدي عشيقته . هذه الكتلةُ اللحميةُ المستديرة التي تَنبع
منها براكينُ الفِتنة والشهوة ، قد سَيطرت على حَواس الشاعر ، فأصبح أسيراً لها ،
ودائراً في عوالمها .
تُريكَ ثدياً مِثلَ
حُقِّ العاج . هذا الثدي كأنه منحوت من العاج ( ناب الفِيل ). مما يدل على أن
ثَدْيها أملس ، ويمتاز بالبياض والاستدارة . كما أنه رَخْص ( لَيِّن ).
ورغمَ كل هذا فإن الشاعر
يصف عشيقته بأنه حَصان( مُحصَنة عفيفة ) مَحْمِيَّة مِن أكف مَن يَلْمسها. ومِن
الواضح أن نَظرَ الشاعر مُركَّزٌ على صَدْرها . وبسبب تدقيق النظر استطاع اكتشاف
صفاتِ ثَدْيها ، فهو أملس وأبيض ومستدير . وَصِفَتَا الملاسة والبياض تشيران _
بصورة جَلِيَّة _ إلى أن صدرها مكشوف . فلا يمكن معرفة هاتَيْن الصِّفتَيْن إلا
إذا كان الثدي _ أو جزءٌ منه _ ظاهراً أمام العَيْن . في حين أن صفة الاستدارة
يمكن إدراكها سواءٌ كان الصدرُ مكشوفاً أو مُغطَّى. وهذا الإدراك نسبي، وخاضع
لطبيعة الثوب الذي ترتديه المرأة . ويَبدو أن العشيقة لا تمانع من كشف صدرها ،
ولكنها ضد فكرة اللمس ، وتَمنع الرجالَ أن يَلمسوها .
38_ الطُّول وثقل الأرداف :
لا شَكَّ أن المرأة
الممتلئة أكثر جَمالاً من المرأة النحيفة ، فالامتلاءُ مُؤشِّر على الصِّحة
والعافية والحيوية، أمَّا النحافة فصفةٌ مقترنة بالمرض وسوء التغذية والضَّعف.
يقولُ الشاعرُ عمرو بن
كلثوم :
وَمَتْنَيْ لَدْنَةٍ سَمَقَتْ وَطَالَتْ رَوَادِفُها تَنوءُ بما وَلِينــا
هذا وصفُ جِسم العشيقة الذي أَذهلَ الشاعرَ
، وسيطرَ على حواسِّه . فهي طويلةٌ لَدْنة ( لَيِّنة ) ، ذات بُنية جسمانية
متماسكة ولَيِّنة في آنٍ معاً . والمقصود بالمتْنَيْن ظَهْرها. قامتها سامقةٌ (
طويلة ) تمتاز بالنعومة واللين، بلا خشونة ولا قَسْوة. والروادفُ هي الأعجاز ،
والرَّادفتان هما فَرْعا الأليتَيْن .
تُريكَ هذه المرأةُ
مَتْنَي قامة طويلة لَيِّنة. وطُولُها الفارعُ يَعكسُ جَمالها وأُنوثتها . لقد
سَمقتْ قامتها ( طَالتْ ) ، فصارتْ محطَّ الأنظار ، تَجذب الانتباهَ إليها . وهذا
الطُّول الناعم الليِّن هو مَجْمع المحاسن والمفاتن ، ومَخْزن الأنوثة والحيوية .
وينتقلُ الوصفُ إلى
الروادف. فهذه العشيقةُ الممتلئة في أعلى درجات الصِّحة والعافية. روادفُها تمتاز
بكثرة اللحم، فتثقل مع ما يَقرب منها ( تنوء بما وَلينا ) . وبعبارة أُخرى ، إن
عجيزتها ( مؤخرتها ) ضخمةٌ وثقيلة بسبب كثرة اللحم فيها .
لقد وصفَها بطُول القامة
وثقل الأرداف . وبالطبع ، فهاتان الصفتان يُحبُّهما الشاعرُ في عشيقته ، بدليل أنه
قد سَلَّط الضوءَ عليهما ، ومدحهما بشكل واضح . وفي هذا إشارةٌ باهرة إلى أنه كان
يُركِّز النظرَ على جسدها ، ويَفحص كلَّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في جِسمها . وبشكل عام ،
تمتاز منطقةُ الحوْض لدى المرأة بالاتساع وقوةِ العِظام ، وذلك لأنها مختصة بالحمل
، والولادة ، وحماية الأجنَّة في الرَّحم .
39_ الوِرك والخاصرة :
يَغرقُ الشاعرُ في وصف
تفاصيل جسد عشيقته . وبالطبع ، فهذا الوصفُ نابعٌ من الهيام والعِشق والإعجاب .
وهو يَصُبُّ المديحَ على أعضائها صَبَّاً .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن
كلثوم :
وَمَأكمةً يَضيقُ البابُ عَنْهـا وَكَشْحاً قَدْ جُنِنْتُ بهِ جُنونا
هذه العشيقةُ ممتلئة اللحم ذات جِسم مفعم
بقوةِ الأنوثة . فهي تُريكَ وِركاً يَضيق الباب عنها بسبب ضخامتها ، وامتلائها
باللحم . والمأكمةُ هي رأس الوِرك .
كما أنها تُريكَ كَشْحاً( خاصرةً )، يمتاز بالجَمال المذهِل، وقد
ذَهب بعقل الشاعر لِحُسْنه، فَجُنَّ به جُنوناً. ولا شَكَّ أن الشاعرَ يَسْبح في
لحم عشيقته الوافر ، ويَغوص في تفاصيل أعضائها ، بحيث صارَ عاجزاً عن التفكير بغير
مقاطع جِسمها المغرِي.
40_ الساقان والخلاخيل :
سَاقا المرأةِ هما
الرَّكيزتان اللتان تَحْملان الجِسمَ كُلَّه، وتَنهضان بالجسد الأُنثوي المفْعم
بالأماكن الحسَّاسة ، ومواطنِ الشَّهوة ، ومنابعِ الفِتنة . وإذا كانت السَّاقان
تتمتعان بالجَمالِ والقوةِ والامتلاءِ ، فهذا دليلٌ واضح على جَمال الجسد الأُنثوي
بِرُمَّته ، وتناسقِ الأعضاء . أمَّا الخَلاخيلُ ( جَمع خَلْخال ) ، فتُجسِّد
فلسفةَ الإغراءِ السمعي في منظومة الأنوثة والدلال .
فالمرأةُ كانت تلبس الخلاخيل ليجذب صوتُها
انتباهَ الرجال ، فيلاحقونها بنظراتهم ، وتسيطر عليهم بأنوثتها وزِينتها الظاهرة .
فالمرأةُ تُريد نَيْلَ إعجاب الرجال ، فتستخدم سلاحَ الإغراء الفعَّال لتحقيق
هدفها . والمرأةُ _ في
هذه الحالة _ تكون صائدةَ القلوب، وخلاخيلُها هي الطُّعم ، والرجالُ هُم الفرائس
أو الضحايا .
وقد كانت المرأةُ في
البيئة الجاهلية تَضع في رِجْلها خَلْخالاً ، فإذا مرَّت أمام الرجال ضَربت
بِرِجْلها الأرض، فَيَسْمع الرجالُ صَوْتَه المغرِي . وبالطبع ، إن سَماعَ صوت
الزِّينة أشد تحريكاً للشهوة من إظهار الزِّينة . لأنه في تلك الحالة ، يَسْبح
الرجالُ في عوالم الهيام ، والصُّوَرِ الخيالية ، وفضاءاتِ الشَّهوة ، وأحلامِ
الإغراء .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن
كلثوم :
وَسَارِيَتَيْ بِلَنْطٍ أوْ رُخـام يَرِنُّ خَشاشُ حَلْيِهما رَنينا
يَصفُ سَاقَي عشيقته بأجمل الكلمات،فهما
سَاريتان(عُمودان) مِن عاجٍ ( بِلَنْط ) أو رُخام. مما يدل على قوةِ ساقَيْها،
وجَمالهما المذهِل ، ونعومتهما . فهما مصقولتان تمتازان بوفرة اللحم، والبَياض ،
والملاسة . وما تشبيههما بالعاج أو الرخام إلا دليلٌ على البَياض والضخامة
والحُسْن .
ولا يَقفُ الأمرُ عند
الساقَيْن ، فأيضاً ، تَرِنُّ خلاخيلهما ( حَلْيِهما ) . فهذه الخلاخيلُ المغرِيةُ
لها خَشْخشةٌ ( صَوْت / رنين ) . وهذا الرنينُ العذبُ يَنبعث من عالَم الإغراء
والشهوة ، ويَقْرع قلوبَ السامعين بلا رحمة .