المرأة في شعر المعلقات / الجزء الرابع
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
https://www.facebook.com/abuawwad1982
https://twitter.com/abuawwad1982
...........................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
https://www.facebook.com/abuawwad1982
https://twitter.com/abuawwad1982
...........................
41_ الحزن
لفراق العشيقة :
يُعتبَر الفِراقُ مأساةً
حقيقية في عالَم العِشق والعشاق لأنه مَنْبع الأحزان والآلام. وابتعادُ العاشقَيْن
عن بعضهما البعض بمثابة قَتلهما . لذلك كان الفِراقُ هو الموتَ في الحياة، الذي
يُخرج المشاعرَ الدفينةَ، ويُهيِّج الأحاسيسَ الدافئة، ويَحرق الأعصابَ.
يقولُ الشاعرُ عمرو بن
كلثوم :
فما وَجَدتْ كَوَجْدي أُمُّ
سَقْبٍ أَضَلَّتْهُ فَرَجَّعتِ
الحنينــــا
يَغْرقُ الشاعرُ في بحر الأحزان العميق
وحيداً . لا أَحدٌ يُواسيه ، ولا أَحدٌ يُخفِّف عنه . لقد تفوَّق حُزنُه على حُزن
ناقةٍ ( أُم سَقْب ) أضلَّت وَلدَها فَردَّدت الصوتَ المتوجعَ ( الحنين ) . يقولُ:
فما حَزنتْ ( وَجدتْ ) كحُزني ناقةٌ أضاعتْ وَلدها فرَجَّعت الحنينَ، أي: ردَّدت
الصوتَ الجريحَ المتألِّمَ جرَّاء فَقْدها لولدها . والمقصودُ أن حُزنه لفراق
عشيقته أعظم من حُزن هذه الناقة الواله الثكلى التي فَقدت ولدَها، فصارت تُردِّد
الصوتَ المتوجِّع . ويقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :
ولا شَمْطاءُ لم يَتْرُكْ
شقاها لها مِن تِسْعةٍ إلا جَنينــا
ما زالَ الشاعرُ في مناخ الحُزن والألم بسبب
فِراق العشيقة . وهذه المرة ، تفوَّق حُزنُه على حُزن العجوز الثكلى التي فَقدت
أبناءها ، ورَأَت مَوْتَهم بأُم عَيْنيها .
يقولُ : ولا حَزنتْ
كحُزني عجوز ( شمطاء ) ، والشمطُ بياضُ الشَّعر ، لم يَترك شقاؤها لها مِن تِسعة
إلا مدفوناً في قبره ( جَنينا ) . لقد مات أبناؤها كلهم ودُفنوا . وهو يَقصد أن
حُزنه لفراق عشيقته أكبر من حُزن العجوز التي فَقدت تسعة أبناء ، ورأتْهُم
يَتساقطون واحداً تِلْوَ الآخر.فهذه المرأةُ الثَّكلى التي خَسرت فلذاتِ كبدها،
كلُّ أحزانها تظل دُون حُزن الشاعر عند فِراق عشيقته الغالية .
ويقولُ الشاعرُ عنترة بن
شدَّاد :
إنْ كُنتِ أَزْمعتِ الفِراقَ
فإنما زُمَّت رِكابُكم بلَيْلٍ
مُظْلِـمِ
سيظل الفِراقُ جُرحاً
عميقاً في النَّفْس العاشقةِ، لأنه هَدمٌ لتاريخ المودة ، وتحطيم للذكرياتِ
الجميلة ، وتمزيقٌ للقلوب الدافئة .
يُخاطبُ الشاعرُ عشيقته
بكل ألم وانكسار : إن كُنتِ عَزمتِ على الفِراق ، وقرَّرتِ الرحيلَ بصورة نهائية
لا رَجْعة فيها ، فإني قد شَعرتُ أنكم شَدَدْتُم رِحالَكم لَيْلاً . والرِّكابُ هي
الإبل ، وزَمُّها يدل على تجهيزها للرحيل .
تتفجرُ اللوْعةُ في كلام
الشاعر. لقد عَرَفَ بموضوع الرحيل من تِلقاء نفْسه ، وأدركَ أن عشيقته الغالية قد
أَزْمَعت الفِراقَ ، أي : وَطَّنَت نَفْسَها على الفراق بشكل نهائي وحاسم. إنه
قرارٌ مفاجِئ جاءَ بَغتةً بلا مقدِّمات. وقد تفاجأ الشاعرُ بالموضوع ، فلم يُخبِره
أحد بالأمر ، بل اكتشفه بنفْسه. إنه قرارٌ مصيري مستند إلى تخطيطٍ مُسْبق ،
وإصرارٍ راسخ . لقد أَخْفَت هذه المرأةُ نبأَ رَحيلها عن عاشقها ، ولم تُظهِر
عَزْمَها على الفِراق . لكنَّ الشاعرَ العاشقَ اكتشفَ الحقيقةَ المرَّةَ بنفْسه ،
والتي وَقعت على رأسه كالصاعقة ، وعَلِمَ أنهم قد شَدُّوا رِحالهم بليلٍ مُظْلم
لِيُخْفوا أمرَ رَحيلهم ، ولكي يَرحلوا بصمت تحت جُنح الظلام الجارح .
ويقولُ الشاعرُ
الحارث بن حِلِّزَة :
آذَنَتْنا ببَيْنِها أسمــاءُ رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ
تختلفُ هذه الحالة عن
الحالة السابقة . فالعشيقةُ هنا أَخْبرت عاشقَها بقرار الرحيل لِكَيْلا يتفاجأ .
لقد أَعْلَمَتْهُ ( آذَنَتْهُ ) بالبَيْن ( الفِراق ) لِكَيْلا يُصدَم فيَفْقد
أعصابه وينهار بصورة قاصمة . فهذا الخبرُ القاسي يتطلب تحضيراً مُسْبقاً ،
وتمهيداً واضحاً ، واستعداداً نَفْسياً وجَسدياً . يقولُ : أَعْلَمَتْنا ( أسماء )
بعَزْمها على فِراقنا .
إنه الفِراقُ الحاسم ،
والقطيعةُ الأبدية ، ونهايةُ المغامَرة العاطفية . فقد وَصلت قصةُ الحب إلى طريق
مسدود ، وآنَ للطرفَيْن أن يَبتعدا عن بعضهما البعض . وبالطبع ، لكل بداية نهاية .
وهذه النهاية جاءت جارحةً ودراميةً .
وعلى الرغم من قرار
العشيقة المصيري والقطعي ، والذي جَرحَ قلبَ الشاعرِ ، وأَوْرثه آلاماً وأحزاناً
لا حَصْر لها ، إلا أنه لا يَزال باقياً على عهد المودة ، وحافظاً للعِشق القديم .
فلم يُعاتِب العشيقةَ التي تَرَكَتْهُ ، ولم يُقرِّعها، ولم يَضع فيه عُيوباً، ولم
يَقُل لها سأجدُ أفضل منكِ. وإنما مَدَحها بأنها امرأة لطيفة وناعمة وخفيفة الظِّل
.
يقول في عجز البيت:
رُبَّ مُقيمٍ ( ثاوٍ ) تُمَلُّ إقامته. والثَّوَاءُ هو الإقامة. وبالطبع ، لم تكنْ
( أسماء ) منهم . حتى لو طالت إقامتها ، لا يمكن أن يَمَلَّ منها الشاعرُ لأنها
امرأة رائعة اسْتَوْلَت على مشاعره بقلبها الدافئ ، وعذوبةِ رُوحها ، وأُنوثتها
الرقيقة البعيدة عن التوحش والخشونة. وعندما تكونُ المرأةُ بهذه المواصفات النادرة
، فلا يمكن لعاشقها أن يملَّ مِنها ، أو يتمنى فِراقها ، أو يَسأم مِن رؤيتها .
42_ تذكُّر الهوى عند الرحيل :
لقد هيَّج الرحيلُ
ذكرياتِ الشاعر، وزرعَ الجمرَ في ذاكرته. فتذكَّرَ أيامَ الصِّبا، والأحلامَ
الغابرةَ ، والحُبَّ القديمَ . يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :
تذكَّرتُ الصِّبا واشْتَقْتُ
لَمَّا رأيتُ حُمُولَها أُصُلاً
حُدِينا
تذكرتُ الهوى والمودَّةَ
، وسيطرَ عليَّ الحزنُ والحنينُ ، واشتقتُ إلى العشيقة ، لَمَّا رأيتُ إِبِلَها
سِيقت عَشِيَّاً . والأُصُل جمع
أصيل ، والأصيلُ هو العَشِيُّ ، وهو ما بين العصر إلى مغرب الشمس . و " حُدِينا " أي سِيقت . والحُداءُ نوعٌ من الغِناء
تُساق به الإبل ، فتُسرِع في المشي .
هَاجت الذكرياتُ في
نَفْسِ الشاعر ، واشتعلت الأحلامُ في صَدره ، وغرقَ في الخيالاتِ السحيقة ، فصارَ
أسيراً للماضي الذي لا يَعود . لقد كان المشْهدُ الحزينُ الذي رآه أمامه باعثاً
على الحزن والألم والتذكُّر . رأى الحُمول ( الإبل ) قد سِيقت في وقت الأصيل (
العَشِيِّ ) . إنه وقتُ رَحيل العشيقة . وما إن رأى الشاعرُ هذا المنْظرَ المؤلم حتى عادَ
بالذاكرة إلى أيام الهوى والعِشق ، وتذكَّرَ وجهَ عشيقته التي سَتَرْحل إلى الأبد
.
43_ إقامة العشيقة في أرض الأعداء :
ابتعدت العشيقةُ عن
عالَم الشاعر ، فأضحى الشاعرُ محصوراً في مناخات الحَيْرة والقلق. بَيْنهما سُورٌ
عالٍ من المشاعر المحترقة. لقد حلَّت العشيقةُ في أرض الأعداء ، فصارَ صعباً على
الشاعر أن يَظفر بها . يقولُ الشاعرُ عنترة بن شدَّاد :
حَلَّت بأرضِ الزَّائرين
فأصبحتْ عَسِراً عليَّ طِلابُكِ
ابنةَ مَخْـرَمِ
نَزلت العشيقةُ بأرض
الأعداء( الزائرين ). إنهم شَديدو العداوة، وكأن أصواتهم زَئيرٌ.وما تَشبيه
توعُّدهم وتهدُّدهم بزئير الأسد إلا مؤشرٌ واضحٌ على شِدة عداوتهم، وتربُّصهم
بالشاعر ، وتعقُّد الصراع بين الطرفَيْن . فلا فرصة للحلول الوَسط ، ولا فرصة
لإنهاء النزاع . وهذا الأمرُ ينعكس سلباً على العلاقة الغرامية بين الشاعر وعشيقته
.
لقد استقرَّتْ في أرض
الأعداء ، وأيةُ محاولة للوصول إليها قد تُكلِّف الشاعرَ حياته ، وتتسبَّب في حرب
طاحنة . فكلُّ طَرفٍ يُضمِر العداوةَ للطرف الآخر، ويتربص به . وهذه الأجواءُ
الملبَّدةُ بالحقد والكراهية ، والعابقةُ برائحة الدم، والممزوجةُ بمذاق الحرب
والقتال ، تَخنق حالةَ العِشق ، وقد تُنهيها بشكل كامل .
وفي هذا المناخ المسموم
، يصبح من العسير رؤية العشيقة أو الالتقاء به . فهي في حِصْنٍ حَصين ، تُقيم في
منطقة مزروعة بالمخاطر، ومُسيَّجة برائحة القتل والقتال.
وقد عجز الشاعرُ عن
تخطِّي هذه العقبة الكأداء، ولم يجد أيَّ حَل لهذه المعضلة ، فاعترفَ بعَجْزه،
واكتفى بالابتعاد عن هذا المناخ الملغوم، وغرقَ في الحَسرة والحَيرة. وأصعبُ شيء
على العاشق أن يَشعر بالعجز ، وألا يَجد حِيلةً لرؤية عشيقته .
44_ العِشق رغم عداوة القبائل :
في أحيانٍ كثيرة يَكون
العِشقُ محاطاً بالكراهية والدِّماء ، فَيَنْبت في مناخ الخوف والألم والأضداد .
وهذه الظروفُ المأساوية تُعقِّد العلاقةَ الغرامية ، وتُجبِر العاشقَيْن على دفع
ضريبة العِشق بشكل مُضاعَف . يقولُ الشاعرُ عنترة بن شدَّاد :
عُلِّقْتُها عَرَضاً وأَقْتلُ
قَوْمَهـا زَعْماً لَعَمْرُ أبيكَ
ليسَ بِمَزْعَمِ
تعلَّقَ الشاعرُ بهذه المرأة بشكل مفاجئ (
عَرَضي ) دون تخطيط مُسْبق ، وأحبَّها من النظرة الأُولى بلا قَصد. لقد شَغُف بها
فجأةً ، وما إن رآها حتى استولت على جوارحه، واحتلت مشاعرَه . وهذه النظرةُ
الأُولى كانت السهمَ الذي اخترق قلبَه بلا رحمة . وهذا الحُبُّ من النظرة الأُولى
وُلد في ظروف صعبة ومُعقَّدة . فالنظرةُ العاشقةُ الجارحةُ جاءت في ظِل قَتل
الشاعر لقومها. مما يُشير إلى حالة التناقض الحاد بين المشاعر المرهَفة والواقعِ
الأليم ، فقد أحبَّها مع ما بَيْنهم من القتل والقتال . وكأن هناك سؤالاً داخلياً
يمزِّق أحشاءَ الشاعر : كيفَ أُحِبُّها وأنا أقتلُ قَوْمها ؟! .
إنه الحُبُّ المستحيل
المعجون بالأحاسيسِ المكسورة ، وجثثِ القتلى ، ورائحةِ الدَّم، ومَذاقِ الموت .
وبالتأكيد ، إن ولادةَ العِشق في هذا المناخ الموْبوء ، هي ولادة للأضداد . وهذه
الولادة القَيْصرية تَعمل على تمزيق المشاعر ، وزرعِ التناقضات في الخيال والواقع
معاً .
إن الشاعرَ يَطْمع في
المستحيل ، ويُؤسِّس مشاعرَه في الفراغ العميق . يَطْمع في عِشقها طَمعاً (
زَعْماً ) لا مكان له تحت الشمس ، ولا يُمكن أن يَرى النُّورَ . فهذا الزَّعْمُ
ليس بِمَزْعم ، أي : هذا الطَّمع ليس بِمَطْمع ، لأنه أملٌ كاذب ، وخيالٌ هلامي لا
حقيقة له ، ولا مَوْضع له على أرض الواقع . فلا يمكن للشاعر الوصول إلى العشيقة في
ظل القتال بين العَشيرَتَيْن . وسيبقى هذا الحُبُّ المستحيل مدفوناً في القلب ، لا
يمكن ترجمته إلى واقع محسوس ، بسبب تعقُّد الظروف المحيطة . وقَوْلُه : ((
لَعَمْرُ أبيكَ )) ، يَعني : أُقْسِم بحياة أبيكَ . وهذا القَسَمُ إنما جاء
للتأكيد على استحالة هذا الحُب ، وأنه وُلد مَيْتاً .
45_ منزلة العشيقة في القلب :
اسْتَوْلَت العشيقةُ على
قلب عاشقها ، وصارتْ مُتحكِّمةً به . وقد سَكنت فيه . إنها عمليةُ احتلال غرامية
بلا مقاوَمة . والمشاعرُ المتأججةُ فَرَّغت قلبَ العاشق من العناصر والمكوِّنات،
فأصبح خالياً . والقلوبُ تَرفضُ الفراغَ ، فلا بد أن يتم مَلْؤها بأي شيء . وقد
اختارَ الشاعرُ أن يَملأ قلبَه بصورة عشيقته شكلاً ومضموناً .
يقولُ الشاعرُ عنترة بن
شدَّاد :
ولقد نَزَلْتِ فلا تظنِّي
غَيْرَه مِنِّي بمنزلةِ المُحَبِّ
المُكْـرَمِ
لقد نَزلت العشيقةُ من قلب الشاعر مَنْزلة
المُحَبِّ المُكْرَم . إنه يُحبها ويُكرِمها ، لذلك فَتح لها قلبَه لتسكن فيه.وما
كان لها أن تصل إلى هذه المنزلة لَوْلا محبة الشاعر لها، وشغفه بها إلى أبعد حَد ،
وأقصى دَرجة . وعَلَيْها أن تُؤْمِن بصدق حُبِّه لها ، وتعتبره يقيناً لا يَقبل
الشَّك ، فلا تظن غَيْره . فليس في قلبه غير العِشق والإخلاص.
46_ الوَداع :
الوَداعُ هو القَطرةُ
التي أفاضت الكأسَ . إنه تتويجٌ للحزن والألم والمعاناة . ففي الوداع ، تَبرز
معاني القطيعة ، ونهاية الذكريات ، وانتهاء الحُلم الوردي .
يقولُ الشاعرُ الأعشى
الأكبر :
وَدِّع هُرَيْرَةَ إنَّ الرَّكْبَ
مُرْتَحِلُ وهَل تُطيقُ وداعاً
أيُّها الرَّجـلُ
لقد حانت ساعةُ الحقيقة
، وصار الوداعُ أمراً حتمياً ، وواقعاً ملموساً . ولا مفر من هذه النهاية الصاعقة
. و"هُرَيْرَة " اسم المرأة التي سَيطرت على أحاسيس الشاعر ، وسوفَ
تَرحل مع الرَّكب ( المسافرين على الإبل ).
لا بُدَّ من الوداع ،
وإغلاق هذا الملف إلى الأبد ، وإنهاء العلاقة الغرامية بشكل نهائي لا رَجعة فيه .
فعلى الشاعرِ العاشقِ توديع هذه المحبوبة بسرعة ، فهو في سِباق مع الزمن ، فقد
حانَ وقت الرحيل ، وها هُم المسافرون على الإبل سَيَرْتحلون عمَّا قليل . ولم
يَعُد هناك وقتٌ للعِتاب واللوْمِ ، أو استعادةِ الذكريات . الوقتُ الآن مُخصَّصٌ
للوداع ، ولا شيء غير الوداع .
ثُمَّ يَظْهر سؤالٌ حارق
يتعلق بمدى قُدرة الشاعر على الصمود أمام طوفان الوداع. هل يَقْدر على إلجام
عواطفه وكبتِ مشاعره وتهدئةِ أعصابه في حالة الوَداع الصعبة ؟ . إنه سؤال مركزي ،
قد يَعجز الشاعرُ عن الإجابة عليه ، وربما يتهرب منه . فالوَداعُ أمرٌ شديد
الصعوبة لأنه يتعلق بذكريات الزمان ، وتفاصيلِ المكان ، والمشاعرِ الداخلية ،
والذكرياتِ التي لا تُقدَّر بثمن . وسيبقى هذا السؤالُ الجارحُ شاهداً على شِدَّة
الخطْب ، وصعوبةِ الموْقف ، وسابحاً في فضاء التاريخ ، بل إجابة . ما أصعبَ أن تظل
الأسئلةُ المصيريةُ بلا إجابة ! . خصوصاً إذا كانت أسئلة متعلقة بالعِشق والأحاسيس
والقلوب المحترقة .
47_ هدوء العشيقة :
هدوءُ المرأةِ دليلٌ
واضح على ثقتها بنفْسها . فقوةُ الأنوثةِ كامنةٌ في السيطرة على الأعصاب
والحركاتِ. أمَّا الصراخ والجعجعة والثورة فَمُؤَشِّرات على غياب
العقل،والاستسلامِ للانفعالات العاطفية المؤقَّتة،والتي تُخلِّف وراءها الندمَ
والضياعَ.
يقولُ الشاعرُ الأعشى
الأكبر :
غَرَّاءُ فَرْعاءُ مَصْقولٌ
عَوارِضُهــــا تمشي الهُوَيْنا كما
يَمشي الوَجِي الوَحِلُ
يُقدِّم الشاعرُ عَرْضاً بمواصفات هذه العشيقة ، وبياناً بخصائصها
المتفرِّدة . فهي غَرَّاء ( بيضاء حسناء ) ، وفَرْعاء ( طَويلة الشَّعْر ) ،
وعوارضُها مصقولة ( أسنانها بيضاء نقيَّة ). وهذه الصفاتُ تَزيد الأنوثةَ بهاءً
ولمعاناً وإغراء ، وتُكسِب صاحبتها شموخاً ، وثقةً بالنَّفْس ، واعتزازاً
بالرُّوحِ والجسدِ معاً .
فَبَيَاضُ المرأةِ صفةٌ مرغوبة، لأنه يتضمن معنى الإشراق والحُسن والجَمال
الآسِر.
وطُولُ الشَّعْر يدل على حيوية المرأة ،
وأُنوثتها الملتهبة، واعتنائها بنفْسها . كأنها تَغرق في شَعْرها الذي ينساب
كالنهر المتدفق . والأسنانُ البيضاء تشيرُ إلى نظافة المرأة ، وحِرصها على مَظهرها
. ولا يخفَى أن الأسنان هي واجهة الفَم والوجه معاً ، وبياضُها يَمنح المرأةَ
رَوْنقاً خاصاً ، وجَمالاً أخَّاذاً .
وهذه الصفاتُ الأُنثويةُ المميَّزةُ تَزرع الثقةَ في نَفْس العشيقة ،
وتجعلها واثقةً بنفْسها وتفاصيلِ جِسمها ، وفخورةً بأُنوثتها وشخصيتها ، فتَظْهر
السَّكينةُ على مُحيَّاها، ويَبْرز الهدوءُ في سَكناتها وحركاتها . وبالتالي ،
فليس غريباً أن تمشي الهُوَيْنا ( على مَهل ) ، فهي واثقةُ الخطْو ، تمشي كما يمشي
الوَجِي الوَحِلُ . والوَجِي : مَن
رَقَّ قَدَمُه مِن المشي بلا نَعْلَيْن فهو بطيء المشي . والوَحِلُ : مَن وَقَعَ
في الوحل فهو يمشي على مهل خشية انزلاق قدمَيْه .
وبشكل عام ، إن الشاعرَ
أبرزَ نقاطَ قوة العشيقة ، والتي يَنْبع منها الجَمال ، ثم وَصفها بالتَّؤدة والتأني
في مَشْيها ، فهي واثقة بنفْسها ، وبصفاتها المتفرِّدة ، تَسيرُ بهدوء وطمأنينة ،
فليستْ خرقاء ولا طائشة . وهدوءُ أعصابها ، واتزانُ مِشْيتها ، استحوذا على قلب
عاشقها ، وسيطرا على ذهنه ، وأجبراه على تخليدهما شِعراً .
ويقولُ الشاعرُ الأعشى
الأكبر :
كأنَّ مِشْيَتَها مِن بَيْتِ
جارَتِهـا مَرُّ السَّحابةِ لا
رَيْثٌ ولا عَجَلُ
تتمتعُ العشيقةُ بهدوء لافت ، واتزان مُثير
. كما أنها حريصة على العلاقات الاجتماعية ، فهي على اتصال وثيق بجاراتها .
وهي عندما تمشي من بيت
جارتها ، كأن مِشْيتها مُرورُ سحابةٍ عابرة . مَشْيها هادئ ورَزين بلا طَيْش ،
ومرورُ هذه المرأة كمرور غَمامة ناعمة ، تَعْبر الأفقَ بكل سلاسة ، وبلا رعونة .
لقد انبهرَ الشاعرُ بطريقة مشي عشيقته . إنها تمشي باتزان ، وسَكِينة ، وتؤدة. لا
رَيْثٌ في مَشْيها ( لا بُطء ) ولا عَجَل ( ولا استعجال ) . وخيرُ الأمورِ أوسطُها
، والفضيلةُ هي اختيار الحالة الوسطى بين طَرَفَيْن كلاهما سَيِّئ . فالبُطْءُ
مذموم والعَجَلةُ كذلك . والعشيقةُ تتحرك في المنطقة الوُسطى المحمودة .
48_ عدم التجسس :
بعضُ النساء يَعشقنَ التجسسَ على الجيران ، ومعرفةَ أخبارهم ، واكتشافَ
أسرارهم . وهذه العادةُ القبيحة موجودة في أوساط النساء . فنجد المرأةَ منهنَّ
حريصة أشد الحرص على النظر إلى بيوت الجيران،وسماعِ الأحاديث التي تَدور فيها.
والشاعرُ الأعشى الأكبر يُخبرنا بأن عشيقته لَيْست من هذا الصنف، فيمدحها:
لَيْسَتْ كَمَن يَكْرَه الجيرانُ
طَلْعَتها ولا تَراها لِسِرِّ
الجارِ تَخْتَتـــلُ
هذه المرأةُ يُحِبُّها الجيران ، ولا
يَكرهون طَلْعتها . وهذا الحُبُّ ليس عفوياً أو صُدفةً ، وإنما هو انعكاس لأخلاقها
الحسنة ، وصفاتها الفاضلة . فهي لا تتسمَّع لسرِّ الجار ، ولا تحاول استراق
السَّمع أو اختلاس النظر . لذلك يُحبُّها الجيران بسبب أمانتها ، وحفاظها على عهد
الجِيرة ، وابتعادها عن التجسس . وكما هو معلوم ، فإن البيوتَ أسرار . إنها امرأةٌ
مأمونة في مَوْضع الثقة ، وبعيدة عن الشكوك والشُّبهات ، لا تَخْتتل ( لا تتسمَّع
) لأسرار القوم ، ولا تحاول فضحَ العلاقات الأُسرية، وكشفَ الروابطِ الاجتماعية .
والشاعرُ يَرْفع عنها عارَ التجسس والخيانة.
49_ العِشق في الكِبَر :
يرتبطُ العِشقُ والغَزَلُ بمرحلة الصِّبا والشباب والفُتُوَّة . وهذه
المرحلة هي مَنْبع القوة والمرح والإشراق واستقبال الحياة. وفترةُ الشبابِ هي
بُركان الشَّهوة ، وذات ارتباط وثيق بالحماسة والطَيْش . أمَّا فترة الشيخوخة
فَتَشْهد خموداً للشهوة ، وترتبط بالهدوء والسَّكينة والحساباتِ العقلية لا
العاطفية .
يقولُ الشاعرُ عُبَيْد بن
الأبرَص :
تَصْبو وأنَّى لَكَ التَّصابي أنَّى وقَد راعَكَ المَشيبُ
يَطرحُ الشاعرُ على
نفْسه سؤالاً مؤلماً : كيفَ تَصبو وتَميل إلى العِشق والغرام مثلما يَفعل الشبابُ
وأنتَ شيخٌ طاعن في السِّن ؟! . والتصابي هو الميل إلى الصَّبوة واللهو . وهذا
السؤالُ الحارقُ يَحمل في طيَّاته ألماً عارماً وحسرةً قاتلة . لقد مَضت فترةُ
الشباب إلى غير رَجعة ، وذَهبت معها مشاعرُ العِشق ، وعنفوانُ الغرام ، وبقي
الشَّعْرُ الأبيض شاهداً على مرور السنواتِ ، وانتهاءِ مرحلة اللهو والعبث والهيام
.
لم يَعُد الشاعرُ يرى
نفْسه مُؤهَّلاً للعِشق، فقد راعه المشيب ، أي أفزعه الشَّيبُ، وسلبَ حيويته ،
وجمَّد مشاعرَه ، فلا معنى للعِشق في الكِبَر . لقد انتهت المغامَرةُ .
50_ دموع العاشق وبكاؤه :
الدموعُ والبكاء هُما سلاحا العاشق في معركة الأحزان والآلام والذكريات .
والفائدةُ الأساسية للدموع والبكاء هي تخليص العاشق من الضغوطات النفسية والحياتية
. ومهما يكن مِن أمر ، فإن الدموعَ لن تُعيد عقاربَ الساعة إلى الوراء ، والبكاءَ
لن يُرجِع الأحِبَّةَ الذين غابوا في طوايا الزمن .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
ففاضَتْ دُموعُ العَينِ مِنِّي
صَبـابَةً على النَّحْرِ حتى
بَلَّ دَمعيَ مِحْملي
فاضت الدموعُ ، وتفجَّرت
الأحزانُ ، وانبعث الألَمُ من ينابيع القلب . هذه الدموعُ هي أرشيفُ العِشق ،
وتاريخُ الغَرام .
سالت دُموعُ الشاعر بسبب
شِدَّة الوَجْد ، ورقةِ الشوق ( الصبابة ) . إنه يَحِنُّ إلى عشيقته بشكل جنوني ،
فَغَلَبَتْه الدموعُ التي تُلخِّص معاناته الشديدة ، وشَوْقَه الجارفَ إلى هذه
المرأة التي قَلبت حياته رأساً على عَقِب ، وأَدْخَلَتْهُ في عوالم الحَسرة
والدموع . فاضت دموعُه على نَحْره المحترق بمشاعرِ الغرام ، وأحاسيسِ العِشق .
والنحرُ هو مَوْضع القِلادة . لقد وَصلت الدموعُ الهادرةُ إلى نَحْره ، مما يدل
على شِدَّةِ الخطْب ، وصعوبةِ الموْقف ، والحُرقةِ المرعِبة ، واللوعةِ العميقة .
ولم تتوقف أمواجُ الدموع عند منطقة النَّحْر. لقد اندفعت بكل حُرقةٍ وألم حتى
بَلَّ الدَّمعُ حَمَّالةَ سَيْفه ( المِحْمل ) . إنه مُغطَّى بالدموع ، ومُجلَّلٌ
بالألم . يَغرق في بحر الحزن والغرام وحيداً ، ولا وجود لطوْق النجاة .
ويقولُ الشاعرُ امرؤ
القَيْس :
وإنَّ شِفائي عَبْرَةٌ
مُهرَاقَـــةٌ فهلْ عِندَ رَسْمٍ
دارِسٍ مِن مُعَوَّلِ
إنه يَعرف مَرَضَه ودواءَه . وهو المريضُ
والطبيبُ في آنٍ معاً . ويُدرك تماماً أن شفاءه دَمعةٌ مصبوبة ( عَبْرة مُهراقة )
. إن شفاءه مِن دَائه ، وخلاصَه مما أصابه ، ونجاته من مشكلاته ، إنما يكون في
سَكب الدَّمع ، فهذه العمليةُ تنفيس للاحتقان الهائل في المشاعر ، وتفريغ للضغط
المرعب على الأعصاب .
وعلى الرغم من فائدة
البكاء ، إلا أنه لا يَرُدُّ حبيباً غائباً ، ولا يُعيد الماضي السعيد ، ولا يمكن
التعويل عليه . وهذه الحقيقة المرَّة يُدركها الشاعرُ تماماً ، لذلكَ تساءلَ
بحَسرة وألم : فهل عند رَسْم قد دَرس مِن مُعْتَمَد وبكاء ؟ .
والرَّسْمُ الدارسُ هو
المكانَ الذي زالَ أثرُه ، فلا طائل من البكاء عنده ، لأن البكاء لا يُعيد
الحبيبةَ ، ولا يُعيد الأيامَ الخوالي ، ولا يُعوَّل عليه ( لا يُعْتَمَد عليه ) ،
ولا تأثير له على أرض الواقع .
ويقولُ الشاعرُ الحارث
بن حِلِّزَة :
لا أرى مَن عَهِدْتُ فيها
فأبكي اليومَ دَلْهاً وما
يُحِيرُ البُكـاءُ
الحَسرةُ تَغرس
أوتادَها في قلب الشاعر . فهو لا يَرى عشيقته ( أسماء ) في هذه الأماكن . يقول :
إنني لا أرى مَن عَهدتُ في هذه المواضع الحزينة . فقد كان معتاداً على رؤية (
أسماء ) ، أمَّا الآن فقد غابت ، وزالت أفراحُ المكان . وعندما خَلت هذه الأماكن
العابقة بالعواطف والذكريات من العشيقة ، بكى الشاعرُ العاشقُ حُزناً وجزعاً لفراق
هذه المرأة التي سَيطرت على قلبه ، مع يقينه بأن البكاء لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر.
ولكنَّ الشاعرَ لا يَملك أيةَ حِيلة للتعامل مع هذه الصَّدمة سوى البكاء . فهو
يبكي اليومَ ذاهب العقل ( دَلْهاً ). ولكنْ للأسف، لا فائدة من البكاء.وهنا يَبرز
سؤال الشاعر المصيري الذي يَحمل معنى الجحود: (( وما يُحير البكاء ؟ )). يعني: وما
يَرُدُّ البكاءُ ؟ . إنه لا يَرُدُّ حبيباً غائباً ، ولا يُجدي نفعاً . وسيظلُّ
البكاءُ حِيلة مَن لا حِيلة له . إنه سلاحُ العاجز الذي لا يَملك مِن أمره شيئاً .
51_ صَبْرُ العاشق :
إن العاشقَ الذابلَ ليس
أمامَه إلا الصَّبر . ومع أن الصبر_ يبدو للوهلة الأُولى _ سهلاً وبسيطاً ، إلا
أنه شديد الصعوبة ، ولا يمكن أن يتأسس في قلب الإنسان ( العاشق ) ، إلا ببذل جهود جبارة على
الصعيد النَّفْسي والجسدي .
يقولُ الشاعرُ امرؤ
القَيْس :
وُقُوفاً بها صَحْبي عَليَّ مَطِيَّهُمْ يقولونَ لا تَهلِكْ أسىً وتَجَمَّلِ
يَصِفُ الشاعرُ أصحابَه الذين وَقفوا لأجله
من أجل تقديم النُّصح والإرشاد . لقد وَقفوا عليه رواحلهم يأمرونه بالتَّحلي
بالصَّبر ، والابتعاد عن الجزع .
وهؤلاء الصَّحْبُ لم
يَتركوه وحيداً لمواجهة آلامه وأحزانه ومشكلاته العاطفية ، بل حَاوَلوا جاهدين
التخفيفَ عنه ، وتقديم المشورة الصادقة. ولم يتخلوا عنه في أشد لحظات ضَعفه، بل
ساندوه والتفُّوا حَوْلَه من أجل انتشاله من مستنقع الألم واللوعة.
لقد وَقفوا على رأسه ،
وهو قاعدٌ عند رواحلهم ، وقالوا له : لا تَهلِك مِن شِدَّة الحزن ( الأسى )
وتجمَّل بالصَّبر .
أَمَرُوه بالصَّبر
لعِلمهم أن الصبر هو الدَّواء المر الذي لا بُدَّ من شُربه من أجل العلاج والشفاء
. ولو كان هناك علاجٌ آخر لِدَائه الغرامي لَذَكَرُوه . فالصبرُ هو السلاح
الفعَّال في معركة العِشق، وغيابُ الصبر يَقود العاشقَ إلى الهلاك الحتمي.
52_ عذاب العاشق :
العذابُ هو النتيجة
الطبيعية للعِشق. فالعِشقُ هو مَنبع الألم والذكريات ، والألَمُ هو فلسفة العذاب .
وهذا التشابك الحتمي يَنخر قلبَ العاشق ، ويُحيله إلى كَوْمة أنقاض، ويَجعل جسدَ
العاشق أرشيفاً للحزن والحسرة. يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
وَلَيْلٍ كَمَوْجِ البَحرِ أَرْخَى
سُدولَهُ عَليَّ بأنواعِ الهُمومِ لِيَبْتَلِـــي
يمرُّ الوقتُ على المعذَّبين بطيئاً جِدَّاً
. يَقضون نهارهم هائمين على وجوههم ، ويَقضون لَيْلَهم ساهرين ، يُراقبون النجومَ
، ويَسْبحون في الفضاء .
والليلُ في حياة العشاق
ذو حضور مركزي، فهو مَنْبعُ أحزانهم،ومأوى أفئدتهم، وتاريخُ أشواقهم ، وكتابُ
أحلامهم ، ووعاءُ عذاباتهم .
لَيْلٌ يُشبِه مَوْجَ
البحر في قَسْوته وتوحُّشه ، يَجرف القلوبَ بلا هَوادة ، ويُحطِّم الأجساد بلا
رحمة . هجمَ هذا الليلُ القاسي على الشاعرِ العاشقِ مثلما يَهجم مَوْجُ البحر على
الشاطئ . وأرخَى هذا الليلُ على الشاعر سُتورَ ظلامه الدامس ، فصارَ الشاعرُ
غارقاً في ظلام أحزانه ، وظلامِ الليل . إنه الظلامُ المركَّب النابع من الليل
الرهيب الذي نَشرَ أجنحة العَتمة والسَّواد في قلب الشاعر ، وفي قلبِ الفضاء .
لقد أرخى الليلُ العميقُ
على العاشق سِتارةَ الرعبِ والظلام مع أنواع الهموم ، وأجناسِ العذاب ، وأصنافِ
الأحزان ، من أجل امتحان الشاعر واختباره : هل يَصبر على أنواع العذاب والشدائد
أَم يَجزع منها وينهار أمامها ؟ .
إنه امتحان صعب ،
وابتلاء شديد . هَجمت أمواجُ الظلام على الشاعر بكل قَسْوة ، وبصورة متتابعة من
أجل اختباره ، وكشفِ قُدراته الحقيقية . هل يَقْدر على الصمود في وجه المِحَن
والأزمات أم سَيَسْقط فريسةً للشدائد والعذاب ؟. وهذا الامتحان المرعِب هو المحك
الحقيقي للكشف عن مَعْدنِ الشاعر ، واختبارِ صلابته الذهنية ، وشِدَّةِ بأسه ، وقوةِ
أعصابه ، ومتانةِ مشاعره . وبالطبع، فالشاعرُ أعْلم الناس بنفْسه، وهو وَحْدَه
الذي يَعْرف مستواه الروحي والمادي ، ونقاطَ قُوَّته وضَعفه . ولا يوجد أمامه أيُّ
خيار سوى النجاح في هذا الامتحان الصارم ، لأن الفشلَ يَعني السقوطَ في مستنقع
الأحزان الأبدية،ولا توجد عندئذ أيةُ فرصة للنجاة.
ويقولُ الشاعرُ امرؤ
القَيْس :
ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا
انْجَلي بِصُبْحٍ وما الإصباحُ
مِنكَ بأَمثَلِ
دَخل الشاعرُ في عوالم
الذهولِ، وآلامِ الحزنِ المخيفِ. ومِن شِدَّة الوَله والصَّدمة صار يُخاطبَ الليلَ
الذي لا يَعْقل. إنه يُكلِّم الليلَ الذي لا يَقْدر على فهم أحاسيس الشاعر، ولا
يَسْمع أنينَه، ولا يُبصِر مُعاناته . وهذا يدل على سيطرة الذهول القاتل على أعضاء
الشاعر وحواسِّه .
ألا أيها الليلُ الطويلُ
الذي يَحمل الألَمَ والعذابَ، ولا يُريد أن ينتهيَ، انْكَشِفْ بصُبحٍ.
وَلْيَذْهَبْ ظَلامُكَ بضياء من الصبح الذي يُبدِّد ظَلامَ الرُّوح، وعَتمةَ
المكان .
وللأسف ، يَذهب كلامُ
الشاعر أدراجَ الرياح ، فالليلُ لا يَسْمع أنَّاتِ الشاعر، ولا يَفْهم معاني هذه
الكلمات الحزينة ، ولا يَقْدر على تلبية هذا الطلب القادم من قلب مكسور، ومشاعر
مشقَّقة. ولا يخفَى أن لَيْلَ المعذَّبين طويل ، وأن أكثرَ المعذَّبين معاناةً هُم
العُشَّاق ، لأن عذابهم داخلي يتعلق بالرُّوح والقلبِ .
وحتى لو انجلى هذا
الليلُ وزالَ ظلامُه، فلن تنتهيَ مشكلةُ الشاعر ، لأنه يُقاسي الهمومَ نهاراً ولَيْلاً
. وبالتالي ، فليس الصُّبحُ بأفضل ( بأمثل ) من الليل . ففي كلا الحالتَيْن (
النهار والليل ) يَغرق الشاعرُ في بحر الألم والحزن والمعاناة . إنه واقع في
أَسْرِ العذاب سَواءٌ كانَ تحت ضوء القمر أَم تحت ضوء الشمس . وهذا العذابُ
الأبديُّ جعلَ لَيْلَ الشاعرِ ونهارَه شيئاً واحداً لا فَرْق بينهما . فالنهارُ في
عَيْنه صار مُظلماً بسبب احتوائه على الهموم والآلام . وفي واقع الأمر ، لم يَعُد
الشاعرُ مَعْنياً بقدوم النهار أو مجيء الليل ، لأنه غارق في المعاناةِ والعذابِ
على مَدار الساعة .
ويقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس
:
فَيَا لَكَ مِن لَيْلٍ كأنَّ
نُجومَهُ بأمراسِ كِتَّانٍ إلى
صُمِّ جَندَلِ
هذا الليلُ لا تَبدو له
نهاية . لَيْلٌ طويلٌ لا يُريد أن يَزول ، شديدُ الوَطْأة على العاشق المعذَّب.
كأن نجومه شُدَّت بِحِبال ( بأمراس ) من الكِتَّان إلى صخور صلبة . والجندلُ هو
الصخرة ، والأصم الصَّلب . وبسبب معاناته الشديدة شَعَرَ بأن الليلَ طويلٌ للغاية
، حتى إن نجومَه لا تختفي من أماكنها ، ولا تَزول من مواقعها ، كأنها مربوطة
بِحِبال إلى صخور صَمَّاء ( صَلبة ) .
إنهُ مَشْهدٌ مُرعِب
يَعكس حجمَ القلق الذي يسيطر على الشاعر العاشقِ ، ويُشير إلى معاناةِ الهموم،
ومقاساةِ الأحزان . ساعاتُ الألم تمرُّ بطيئةً جِداً ، وساعاتُ السعادة تمرُّ
مُسرِعةً جِداً . لقد تحوَّل هذا الليلُ القاسي إلى مسامير مغروسة في قلب الشاعر ،
تَجرحه وتُسبِّب له المعاناة والآلام. وهذا العذابُ الليليُّ دائمٌ بلا انقطاع ،
فالنجومُ لا تتزحزح من أماكنها كأنها مربوطة بحبال إلى الصخور . وهذه
الثنائيةُ الرهيبة ( الحِبال / الصخور ) تدل على تثبيتِ العذاب في قلب الشاعر ،
وتكريسِ الألم في جوارحه ، وترسيخِ المعاناة في حياته ، وتجذيرِ الحزن في تفاصيل
أيامه .
ويقولُ الشاعرُ عَنْترة
بن شَدَّاد :
تُمسي وتُصبحُ فَوْقَ ظَهْرِ
حَشِيَّةٍ وأبيتُ فَوْقَ سَراةِ
أَدْهَمَ مُلجَـمِ
هذا العذابُ من نوعٍ
مختلف . فالشاعرُ هنا يَدفع ضريبةَ الفروسية لا ضَريبة العِشق . فالعشيقةُ تُمسي
وتُصبِح فوق فِراش ناعم وثير ( ظَهْرِ حَشِيَّة ) . أمَّا الشاعرُ الفارسُ
فَيَبِيت فوق ظَهر( سَراة ) فَرَسٍ أدهم مُلجَم.والأدهمُ شديد السَّواد.
تَغرقُ العشيقةُ في
النَّعيم واللذةِ والرَّاحةِ . تستمتع بأنوثتها ونعومتها فوق فِراش لَيِّن يدل على
سَعة الرزق ، ورغد العيش ، ومنتهى السعادة . لا شيء يَشغل بالَها ، ولا شيء
يُعكِّر مِزاجَها .
وعلى الجهة الأخرى ، نجد
الشاعرَ المغوارَ يَقتحم عالَم الحروب والأسفار ، ويقاسي شدائدها ، ويعاني من
آلامها ووَيْلاتها . ولا وقتَ عنده لكي يَنام كما ينام باقي الناس . فهذه رفاهيةٌ
لا يَقْدر على تحصيلها بسبب الأخطار المحدِقة به مِن كل جانب. لذلك يَبيت على
ظَهْر فَرسه الأسْود الملجَم ( الواقع تحت سيطرة اللجام ) .
فالشاعرُ قد ألجمَ فرسه لمنعه من الحركة والانطلاق .
هذه المقارنةُ بين
الطرفَيْن تعكس الفرقَ الجوهري بين العشيقة والعاشق . فهي تتنعَّم بينما هو يتعذب
، ويُعاني من قَسْوةِ الأسفار ، ومآسي الحروب الطاحنة .