القبيلة في شعر المعلقات
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
https://www.facebook.com/abuawwad1982
https://twitter.com/abuawwad1982
........................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
https://www.facebook.com/abuawwad1982
https://twitter.com/abuawwad1982
........................
تُعْتَبَر العَشيرةُ ( القبيلةُ ) هي مركز التشريع في المجتمع الجاهلي ،
ومَنْبع القِيَم الروحية والمادية ، والحَكَم على أفكار الأفراد وسلوكهم الاجتماعي
. وبالتالي ، فليس غريباً أن تتكرس هذه الوَحدة الاجتماعية الأساسية ( العشيرة )
كنسقٍ شِعري وسياسي واجتماعي .
وبما أن
الشِّعرَ انعكاسٌ للواقع ، وثورةٌ على الواقع ، وصناعةٌ لواقعٍ جديد ، كان من الطبيعي
أن تَظْهر قيمة العشيرة في شِعر المعلَّقات . فبرزت سُلطةُ العشيرة وهيمنتها على
سلوك الأفراد وقُدرتها على عقاب الخارجين على قانون العشيرة .
وعلى الجانب
الآخر ، ظَهرت قضيةُ إنقاذ الأفراد للعشيرة ، وتضحيتهم بالغالي والنفيس من أجل
رَفْع شأنها بين العشائر، وصيانة شرفها ، وتقديمها في أجمل صُورة. وهذه القِيَم
مرتبطة بشكل وثيق بالدفاع عن العشيرة ، وحمايتها من كل الأخطار والتحديات الداخلية
والخارجية. وبالطبع ، فحمايةُ العشيرة لَيْست شِعاراً في الهواء. إنها منظومة
مُكوَّنة من القَوْل الصادق والفِعل التطبيقي على أرض الواقع ، يَحْملها فُرسان
العشيرة الذين هُم العَيْن الساهرة على حماية العشيرة وأفرادها وإنجازاتها ، وهُم
السُّور العالي الذي يَرْدع الأعداءَ الطامعين ، ويَرُدُّهم خائبين مكسورين .
وتتَّضح
فِكرةُ تماسك العشيرة ، وترابطها الاجتماعي ، وبُروزها كمنظومة مُوحَّدة خاضعة
لكلمة واحدة ، فلا تناقض بين مُكوِّنات هَرم السُّلطة القَبَلية ، فالتناسقُ
الدقيقُ هو السِّمة التي تَصْبغ هذا الهرم من القاعدة حتى الرأس .
ولا يمكن
تجاهل قِيمة الفخر بالآباء، والتمسكِ بتقاليدهم،والسَّيْر على خطاهم، فهُم القادة
المؤسِّسون لتراث القبيلة ، والصانعون لتاريخها. والافتخارُ بهم هو افتخارٌ
بالقَبيلة ومُنجَزاتها . كما لا يمكن تجاهل الصراع بين القبائل الذي هو عنوان
أساسي في المجتمع الجاهلي ، حيث الاحتكام لمنطق السيف ، وتكريس الغزو والغزو المضاد.
1_ سُلطة العَشيرة :
تتجلى سُلطة
العشيرة في قُدرتها على مُكافأةِ المحسِن ومُعاقبةِ المسيء . ويمكن القول إن
المنظومة السُّلطوية العشائرية هي منظومة الإمساك بالعصا والجَزَرة ، والسيطرة على
المال والسيف . يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
إلى
أَنْ تحامَتْني العَشيرةُ كُلُّها
وَأُفْرِدْتُ إِفْرادَ البَعيرِ المُعَبَّدِ
إن السلوكَ المنحرِف للشاعر قد سَبَّب له
المتاعب ، وجعله غارقاً في الهموم والتحديات . وهذا السلوكُ العبثي قد جَلب غَضَبَ
العشيرة ونِقمتها . فكانَ من الطبيعي أن تتم مُعَاقَبة الشاعر ، وذلك من أجل
إعادته إلى الحظيرة العشائرية . وقد اختار رِجالُ العشيرة أسلوب المقاطَعة والحصار
وفرض العُزلة . وبالطبع ، فهذا إجراء ذو تأثير قوي في النَّفْس البشرية لأنه
يُشعِرها بأنها معزولة ومرفوضة ومنبوذة. وبالتالي، فهناك فرصة كبيرة لمراجعة
الإنسان نَفْسه، والعودة إلى حِضن العشيرة ( الأُم الكبيرة). وهذا أمرٌ في غاية
الأهمية، ففي المجتمع القَبَلي البدائي القاسي ، من الصعب على المرء أن يتحرك بدون
عَشيرة تَحْميه، وتسانده، وتُوفِّر له الرعاية والأمن ، وتمنحه التاريخَ ، وتُحيطه
بمآثر الآباء والأجداد .
لقد تأثَّر الشاعرُ بالعُزلة التي
فَرَضَتْها عليه عشيرته ، فهو يَعترف_ بكل أسى _ أن عشيرته قد تَحَامَتْهُ (
تَجَنَّبَتْهُ وَاعْتَزَلَتْهُ ) . ولا بد أن هذا القرار المصيري قد اعتمده شيخُ
العشيرة ، فصارَ قراراً جَماعياً ساري المفعول على الكبير والصغير ، لأن العَشيرةَ
بأكملها قد تَجنَّبت الشاعرَ ، وهذا الفِعلُ الجماعي لا يمكن أن يتكرس بدون معرفة
شيخ العشيرة ورِجالاتها الكِبار وجميع أفرادها . وبعبارة أخرى ، إن طبقاتِ الهرم
الاجتماعي كلها قد صَادقت على هذا القرار المصيري . فلم يأتِ الأمرُ كَنزوة أو
حركة عفوية أو فِعل جزئي. إنهُ فِعْلٌ جماعي لا يَمْلك أحدٌ أن يخالفه.
يحسُّ الشاعرُ بألم كبير، وحَسرةٍ عارمة .
فعائلته الكبيرة ( العشيرة ) قد قاطعته، فصارَ وحيداً معزولاً ، يُقاتِل نَفْسَه
بِنَفْسه . كأنه غُصنٌ مقطوع من الشجرة ، أو عُضو فاسد مبتور من الجِسم .
اسْتَوْلَت عليه مشاعرُ الحزن والأسى ،
وَوَصَلَ إلى الحضيض ، واستقر في مكانة دُونية تُشبِه مكانةَ الحيوان ( البعير ) .
لقد تَجنَّبته عشيرته كما يُتجنَّب البعير المعبَّد ( المطلي بالقَطِران ) ، وأَفْرَدَتْهُ (
عَزَلَتْهُ ) بسبب سلوكه المتهور ، وأفعاله الطائشة ، فهو مستمر في إضاعة المال،
والاشتغالِ بالشهوات واللذاتِ،وعدم تحمُّل المسؤولية.
صارَ الشاعرُ فَرْداً معزولاً كالبعير (
الجَمَل ) الذي طُلِيَ بالقَطِران لِيُصبح ذليلاً خاضعاً مستسلماً لمصيره ، وهذه غاية
الامتهان . وبشكل عام ، إن البعير يُطلَى بالقطران إذا أُصيب بالجرب ، وذلك كوسيلة
علاج .
والحالةُ المزْرية التي وَصَلَ إليها
الشاعرُ بسبب سُوء أفعاله ، تعكس سَطْوةَ العشيرة وقُدرتها على معاقبة الخارجين
على قانونها، والمنحرفين عن النظام الاجتماعي القَبَلي. وما إحساسُ الشاعرِ بأنه
بعير مُعبَّد إلا مؤشر واضح على حُزنه، ويَأْسه ، واحتقاره لنفْسه، والمرارة
الكبيرة التي يَشعر بها .
2_ إنقاذ
الأفراد للعشيرة :
كلُّ عَشيرة تنتظر من أبنائها أن يُقدِّموا
لها الدعم والمساندة ، وأن يُساهموا في حمايتها ، ورفع رايتها بين العشائر ،
وصناعة تاريخ مشرق لها . وهذه الحقيقةُ كانت واضحةً في أذهان الأفراد ، لذلك
أَخذوا على عاتقهم أن يَرْتقوا بعشائرهم ، ويَصونوها من كل الأخطار .
يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :
وَقَدْ
قُلتما إن نُدرِك السِّلمَ واسعاً
بمالٍ ومَعروفٍ مِن القَوْلِ نَسْلـمِ
القائلان هُما اثنان من سادات العرب (
هَرِم بن سنان والحارث بن عوف ) .
وهذان
الرَّجلان أَخذا على عاتقهما وقف القتال الدموي بين قَبيلة
عَبْس وقبيلة ذُبيان ، وقد
ساهما بشكل فعَّال في حماية العشائر من الفناء. وهنا يتجلى دورُ الأفراد المركزي
في حماية العشيرة من كل المخاطر ، وعلى رأسها القتل ( قتل الرجال ) . فإذا قُتل
الرِّجالُ فقد انقرضت العشيرةُ ، وزالت القبيلةُ من الوجود .
وهذان
السِّيدان الكبيران قد قالا : إن أَدْرَكْنا السِّلمَ ( الصُّلحَ ) واسعاً بتقديم
المال ونشر الخير ( المعروف ) سَلِمْنا من تفاني العشائر .
لقد
سَيْطَرَ حُبُّ الخير على تفكير هذين الرَّجُلَيْن ، وقد كان بإمكانهما أن يَبتعدا
عن هاتَيْن القبيلتَيْن المتناحرتَيْن ، ولا يتدخَّلا في شؤونهما . ولكنَّ
النَّخْوةَ العربيةَ والسِّيادةَ القَبَليةَ والمكانةَ الاجتماعية،قادتهما إلى
اتخاذ موقف إيجابي فِعْلي لا شعاراتي.
إِن استطاعا
إتمامَ الصُّلحِ والمصالَحةِ بين القبيلتين بتقديم المال(الدِّيَات وغيرها)، ونشرِ
ثقافة التسامح ، وبذلِ المعروف ، وتعميقِ القيم الإيجابية ، فقد أَوْقَفا قَتْلَ
الرجال، وحَفِظا العشائرَ من الموت والفناء والنهاية الأليمة، وعندئذ يَعُمُّ
السلامُ في المجتمع، وتتكرس قيمُ الأمن والأمان .
وقد نجحا في
هذا المسْعى بسبب النِّية الصادقة، ووجود برنامج تطبيقي ذِهني تَمَّ تَنْزيله على
أرض الواقع . وبالطبع ، فهذا الصُّلح لَيْس مجانياً . فالأمرُ قد احتاجَ تنازلاتٍ
حقيقية من طَرَفَي النِّزاع ( قَبيلة عَبْس وقَبيلة
ذُبيان ) ، كما احتاجَ أموالاً هائلة لدفع دِيَات القتلى الكثيرين ، وتسكينِ جِراح
ذَويهم ، وإطفاء نار قلوبهم .
ويقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :
ولقدْ
حَمَيْتُ الحَيَّ تَحْمِلُ شِكَّتي
فُرُطٌ وِشاحي إذ غَدَوْتُ لجامُها
لقد حَمَى الشاعرُ الحيَّ ( القبيلة ) بكل
بسالة ، ودافع عن وجود عشيرته بكل قُوَّة . وقد كان مستعداً للتضحية بالغالي
والنفيس من أجل تاريخه وتاريخِ القبيلة .
يحرص الشاعرُ على إحاطة نفْسه بهالة
الفروسية والإقدام والتضحية في سبيل رِفعة القبيلةِ ومجدِ أبنائها. فقد ذَكَرَ دَوْرَه
المركزي في حماية قبيلته من كل الأخطار ، وأشادَ بهذا الدَّوْر ، ومدحَ نفْسَه
بشكل واضح ، ورسمَ صورةً بطولية لتضحياته الهائلة من أجل حماية القبيلة ( المنظومة
الاجتماعية الأساسية ) .
ثم أَخْبَرَنَا عن حقيقتَيْن تتعلقان بأجواء
الحرب والقتال والفروسية. الحقيقة الأُولى : إن فَرَساً سريعةً خفيفةً ( فُرُطاً )
تَحْمل شِكَّتَه ( سِلاحه ). والحقيقةُ الثانية : إن لِجامَ الفَرَس هو وِشاح
الشاعر .
وهاتان الصورتان تهدفان إلى تقديم الشاعر
كفارس مغوار ، وتصويره كنجم في عالَم الحروب والقتال. وهكذا تصبح الصُّوَرُ
الشِّعريةُ الحربيةُ وسيلةً إعلامية لصناعة نجومية الشاعر ، وتاريخِه الشخصي ،
وأمجادِ قبيلته . فكلُّ مجدٍ شخصي لا بد أن يتحوَّل _ في المجتمع العربي القَبَلي
_ إلى مجد للقبيلة بأسْرها ، والعكس صحيح .
والصورةُ الشِّعريةُ الأُولى تشير إلى
فروسية الشاعر وشِدَّةِ بأسه . فهو يَضَعُ سِلاحَه على فَرَس سريعة، وذلك لكي
يُقاتِل بكل كفاءة وسُرعة، وأيضاً لكي يَكون على أُهبة الاستعداد لأي طارئ ، وفي
أعلى درجاتِ الحِيطة والحَذَر . إنهُ المحارِبُ الأبدي الواثق بنفْسه ، والجاهز في
كل الأحوال . ففي احتدام القتال يَبْرز بكامل قُوَّته ، يُقاتِل بشراسة وسُرعة .
وفي حالة عدم القتال ، يَكون مستعداً وجاهزاً لكل الاحتمالات لئلا يُباغِته
الأعداء . وهكذا ، لا يَترك أيَّة فرصة للصُّدفة أو المفاجأة ، فكلُّ الاحتمالاتِ
تحت السيطرة .
والصورةُ الشِّعريةُ الثانية تشير إلى
صلابته الذهنية ، وقُوَّته البدنية ، فهو يُلقِي لِجامَ الفَرَس على عاتقه فيكون
بمثابة الوِشاح. وهو يتوشَّح باللجام ليكون على أُهبة الاستعداد ، فإذا حدثَ أمرٌ
ما ، ألجمَ الفَرَسَ وركبه بُسرعة دون إبطاء . وهكذا ، تتَّضح فُروسيةُ الشاعر،
فهو يَعتبر لِجامَ الفَرَس المصنوع من الحديد وكأنه وِشاح من القُماش الناعم الذي
يُغطِّي الوجهَ . إنهُ يتوشَّح بالحديد القاسي مثلما يتوشَّح الناسُ بالقماش
الناعم ، وهنا يَظْهر الفرقُ الجوهري بين الشاعر الفارس وغيره من الناس ، فهو
متفوِّق عليهم ، ولا يَقْدرون على الوصول إلى مكانته السامية في عالَم الشجاعةِ
والإقدامِ والحروبِ. كما أن قَوْلَه " إذ غَدَوْتُ " تدل على انطلاقه في
الصباح ، وهذا يدل على نشاطه ، وحيويته ، وتَمَتُّعه بروح المبادَرة .
3_ الدفاعُ
عن أبناء العشيرة :
تُعْتَبَر نُصرة القريب _ظالماً أو مظلوماً_
مِن أُسس المجتمع القَبَلي . إذ إن فلسفةَ العشيرة تقوم على أساس تضافر الجهود
الفردية ، وتعزيز منظومة الدفاع المشترك ، وذلك من أجل الوقوف في وجه باقي العشائر
كوَحدةٍ متماسكةٍ ، وقوةٍ رادعةٍ .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
وإنْ
أُدْعَ للجُلَّى أَكُنْ مِن حُماتها
وإنْ يَأْتِكَ الأعداءُ بالجَهْدِ أَجْهَدِ
يُقدِّم الشاعرُ أوراقَ اعتماده كناصرٍ
للقبيلة ، وصانعٍ لأمجاد العشيرة ، ومُدافِعٍ عن أبنائها. وها هُوَ يتعهد بالدفاع
عن قريبه إذا تعرَّض لأي خطر أو أذى ، فالدفاعُ عن القريب دفاعٌ عن الذات،
والدفاعُ عن الذات دفاعٌ عن شرف العشيرة .
يقولُ : وإن دَعَوْتني للجُلَّى ( الأمر
العظيم ) أَكُن مِن حُماةِ حياتكَ وشَرفكَ .
يتعهد بِحماية حياة قريبه ( ابن العشيرة )،
ونُصرته ، وصَوْنِ عِرْضِه ، والوقوفِ ضد أعدائه بكل ما أُوتيَ مِن قُوة . فالتعدي
على أحد أفراد العشيرة ، هو تَعَدٍّ على العشيرة بِرُمَّتها . وهذا الأمرُ لا مجال
للتهاون فيه ، فأيُّ تهاون سَيُؤَدِّي _ حتماً _ إلى تدمير اسم العشيرة، وجعلها
فريسةً سهلة لباقي العشائر ، وعندئذ سَيَطْمع بها الجميع . فلا بد _ في السياسة
الاجتماعية القَبَلية _ مِن توليد نظام رَدْع يُخيف الآخرين،وذلك لكي تظل العشيرةُ
مرهوبةَ الجانب، ومحافظةً على وَزْنها بين العشائر.
ويستمرُّ الشاعرُ في توضيح موقفه من نُصرة
قريبه والانتصارِ لعشيرته ، فيقول : وإن يَأتكَ الأعداءُ لقتالكَ أَجهد في حمايتك
ومقاومتهم غاية الجهد .
سَوْفَ يَبذل كلَّ ما بوسْعه لحماية ابن
العشيرة ، وقتالِ أعدائه ، والتصدي لهم بكل حَزم . سيتفانى في صيانة شرف العشيرة ،
وحفظِ عِرْضِ قريبه من كل أذى . إنهُ مستعد للقتال دفاعاً عن رابطة الدم ، ومن أجل
إعلاء راية العشيرة . وهكذا يُقدِّم الشاعرُ نفْسه كمواطن صالح يتحلى بروح
الانتماء للقبيلة ، والولاءِ للعشيرة.
ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
وإن
يَقذِفوا بالقَذْعِ عِرْضَكَ أَسْقِهم
بِكأسِ حِياضِ الموتِ قَبْلَ التَّهـددِ
يُبَرْهِن الشاعرُ على وَلائه المطْلق
لعشيرته ، ومساندته الكاملة لأبنائها ، ويضعُ كافةَ إمكانياته في خِدمة أبناء العشيرة
، والدفاع عنهم ، وحراسة اسم العشيرة .
يُصرِّح بالفم الملآن بأنه سَيُواجِه
الأعداء ويقضي عليهم إذا تعرَّضوا لقريبه بالكلام السَّيئ . فيقول : وإن أهانكَ
الأعداءُ بالكلام الجارح ، وقَذَفوا عِرْضَكَ بالقَذْع (
الفُحْش ) ، جَعَلْتُهم يَشْربون مِن حِياض الموت قبل تهديدهم .
إن أيَّةَ إساءة إلى العشيرة أو أحد أبنائها
، لا يمكن تبريرها ، أو تجاهلها ، ولا بد من التصدي لها بكل حَزْم . لذلك فقد
كَشَّرَ الشاعرُ عن أنيابه ، وتوعَّد كُلَّ مَن تُسوِّل له نَفْسُه الإساءة إلى
قريبه بالهلاك الحتمي والنهايةِ الأليمة .
فإذا قامَ الأعداءُ بالإساءة الكلامية إلى
قريب الشاعر ( ابن العشيرة )، ولَطَّخوا عِرْضَه بالفُحش والبذاءة ، فإن الشاعرَ
سَيَسْقيهم كأسَ الموتِ المرَّةَ . سَيُورِدُهم حِياضَ الموت فَيَشْربون مِنها
رَغْمَ أُنوفهم . والحِياضُ جَمْعُ حَوْض . سَوْفَ يُبيد الأعداءَ قبل أن
يُهدِّدهم ، فلن يُضيِّع وَقْتَه في تهديدهم ، واختيارِ الألفاظ القاسية
لمهاجمتهم، وإخبارهم بأن الهلاك يَنْتظرهم، وإنما سَيَقْضي عليهم مباشرةً بلا
مُقدِّمات. وهذا يدل على غياب المنطق العقلاني بشكل كامل، ورفضِ لغة الحوار بصورة
تامة. فهناك خيار وحيد ، وهو الاحتكام إلى السيف ، ولا شيء غَيْره .
4_ فُرسان
العشيرة :
كلُّ عشيرةٍ إنما تَقوم على كاهل فُرسانها ،
فهُم الذين يُدافعون عن وجودها ، ويَحْملون تاريخَها ، ويَصنعون حاضرَها
ومستقبلَها . وهؤلاء الصَّفْوةُ يَكونون محط الأنظار ، ويَكون التعويلُ عليهم في
كل المحافل بسبب إمكانياتهم الهائلة المتميِّزة .
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :
هُمُ
السُّعاةُ إذا العَشيرةُ أُفْظِعَتْ
وهُمُ فَوَارِسُها وَهُم حُكَّامُهـا
هذه العَشيرةُ لَيْست ورقةً في مَهَبِّ
الريح، أو شيئاً مُهمَلاً بلا وزن . إنها منظومةٌ اجتماعية ذات تاريخ عريق ، وحاضر
مُشرِق . تمتلئ بالرجال الأشداء الذين يتحمَّلون المسؤوليةَ في أصعب الظروف ،
ويَكونون على قلبِ رَجلٍ واحدٍ في وقت الشِدَّة ، ولا يتهرَّبون من التحديات
المصيرية. إنهم السُّعاة الذي يَسْعَوْن إلى حماية العشيرة إذا أُصيبت بأمرٍ فظيع
( أُفظِعت ) .
فإذا تعرَّضت العشيرةُ لأي خطر ، أو أصابها
أمرٌ عظيم سَعَى هؤلاء الرِّجالُ الأبطالُ إلى إزالته بكل قُوَّتهم ، وسَخَّروا
كلَّ قدراتهم لكشف المكروه عن عشيرتهم، وتفريجِ كُربتها ، وإنقاذِ أبنائها . وهذا
غير مستغرَب ، فهؤلاء الرِّجال هُم فرسان العشيرة ( فوارسها ) في المعارك، وهُم
القادة الشُّجعان عند القِتال، كما أنهم الحُكَّامُ أصحابُ الكلمةِ المسموعةِ في
مواطن النِّزاع ، وهُم رؤوس القَوْم الذين يُفزَع إليهم عند التخاصم .
والشاعرُ يَهدف _ مِن وراء هذا المدح _ إلى
تصوير أقاربه وعائلته الضَّيقة كسادةٍ للناس، وزعماء للعشيرة . فهؤلاء الفُرسان
الحُكَّام الذين يَحْملون تراثَ العشيرة بكل اقتدار ، ويُدافِعون عنه بكل تفانٍ ،
هُم أقارب الشاعر ، والدائرة الأُسرية المحيطة به . وكأن الشاعرَ يقول إن عائلتي
هي رأس العَشيرة .
5_ تماسك
العشيرة :
إذا كانت العشيرةُ متماسكةً ، فلا يمكن
اختراقها مِن أيَّة جِهة . وإذا كانت الجبهةُ الداخليةُ مُحصَّنةً ، فإن تأثير
العدو الخارجي يَنعدم _ مهما بَلَغَت قُوَّته _ . ولا يمكن للمنظومة الاجتماعية أن
تَسْقط ، إلا إذا سَقَطت من الداخل . كما أن الإنسان لا يمكن أن ينهار ، إلا إذا
انهارت معنوياته ( الجبهة الداخلية ) . لذلك فإن تماسك العشيرة ، وتعاون أبنائها ،
والتحام قاعدة الهرم الاجتماعي مع الرأس، أمورٌ في غاية الأهمية ، لأنها تساهم
بشكل فعَّال في توحيد كلمة العشيرة ، وحفظِ وجودها ، وضمانِ تواجدها على الساحة.
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :
وهُم
العَشيرةُ أن يُبَطِّئَ حَاسِدٌ
أوْ أنْ يَميلَ مَعَ العَدُوِّ لِئَامُها
استخدمَ الشاعرُ لفظَ " العشيرة " لِيُشير إلى
تماسك الأفراد في وجه التحديات المختلفة ، وأنهم وَحدةٌ اجتماعية مترابطة ، وكلمةٌ
واحدة . فهُم مُتوافِقون لا مكان للنِّزاع بينهم ، وهُم متعاونون لا يَعْرفون
الفُرقةَ والشِّقاقَ . إنهم عشيرةٌ متماسكةٌ حريصةٌ على التعاون لئلا يُبَطِّئَ
حاسدٌ بَعْضَهم عن نَصْرِ بَعْضٍ ، وكراهية أن يميل لئامُ العشيرة ( الطابور
الخامس ) مع العدو .
إن تعاونَ
أبناءِ العشيرة وتلاحمهم ضرورةٌ حتمية، ومصلحةٌ عليا . فهذا التعاون يَقطع الطريقَ
على الأعداء المتربِّصين بالعشيرة، ويُحاصرهم، ويمنعهم من الانقضاض على العشيرة
وتدميرها ، وبالتالي يَعْجزون عن تحقيق أهدافهم الخبيثة .
وإذا كانت
العشيرةُ متماسكةً فلن يَقْدر الحُسَّادُ على تشتيت كلمة الأفراد ، وتثبيط بعضهم
عن نَجْدةِ بعضٍ ، وبثِّ التقاعس والفُرقة بين الصفوف . وأيضاً ، لن يَقْدر الخوَنةُ
من أبناء العشيرة على مساندة العدو ضد أبناء جِلْدتهم، فَوَحْدةُ العشيرةِ تشلُّ
حركةَ الطابور الخامس، وعندئذٍ لا يستطيع لئامُ العشيرة أن يَنصروا الأعداءَ على
الأقاربِ . وهذا يَعكس الأهميةُ القُصوى لتماسك العشيرة ، فالأمرُ ليس رفاهيةً أو
تحصيلَ حاصلٍ . إنهُ أمرٌ مهم للغاية لأنه متعلق بالأمن القَوْمي للعشيرة، وأيُّ
تقصيرٍ في هذا المجال سيؤدي إلى عواقب وخيمة ذات تأثير مُدمِّر على الكيان
العشائري ، ووجودِه ، وحياةِ أبنائه .
6_
الافتخار بالآباء والسَّيْر على خُطاهم :
الآباءُ _
في المجتمع القَبَلي _ يُمثِّلون الركيزةَ الأساسية في التاريخ العائلي ، فَهُم
مَنْبعُ الشرعية الأُسرية، ومركزُ التُّراث، وحقيقةُ السُّلالة. ولا يمكن تجاوزهم
إطلاقاً.
يقولُ
الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :
مِن
مَعْشَرٍ سَنَّتْ لهم آباؤُهم
ولكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وإمامُهــا
تتَّضح قيمةُ الافتخار بالآباء، وتَبْرز أفعالهم السَّامية. وليس أمام الأبناء مِن خيار
سوى السَّيْر على خطى أسلافهم الذين شَقُّوا طريقَ المجد ، وصنعوا البطولاتِ .
إنهم مِن
مَعْشَر ( قَوْم ) سَنَّ لهم آباؤهم اكتسابَ الفضائل ، والمسارَعةَ إلى المجد،
والتحلِّي بِعُلُوِّ الهِمَّة، واقتناصَ البطولاتِ، والفوزَ بالمعالي. ولكلِّ قَوْمٍ
سُنَّةٌ (طريقة )، وإمام يُؤتم به فيها . وهذا أمرٌ طبيعي ، فكلُّ قَوْمٍ لهم
فلسفةٌ في الحياة، وطريقةٌ في فهم الوجود. ولكلِّ شيخٍ طريقةٌ وأُسلوب. وأيضاً ،
كُلُّ طريقةٍ تتطلب وجود إمام ( رأس ) يَسير الناسُ وراءه ، ويَقتفون آثارَه ،
ويَحْملون أفكارَه ، ويَنْشرونها في كل الأماكن . ولا توجد فِكرةٌ تُولَد من
العَدَم ، أو تأتي من الفراغ . فكلُّ فكرةٍ لها صاحبٌ ، ولها مُؤيِّدون مؤمنون بها
. وكما أنه لا يُوجد طفلٌ بلا أب ، فأيضاً لا
توجد فِكرة بلا أب . ويقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :
وَرِثْتُ
مُهَلْهِلاً والخيرَ مِنه
زُهَيْراً نِعْمَ ذُخرُ الذَّاخِرينا
يتجلى موضوعُ الافتخار بالآباء بصورةٍ واضحة ومُباشِرة . وكأن الشِّعرَ قد
تحوَّل _ في هذا السياق_ إلى إعلانٍ عشائري، أو خطابٍ للمديح، أو شَجَرةِ نَسَب.
يقول
الشاعرُ بكل فخر : وَرِثْتُ مَجْدَ مُهَلْهِل ، وحَملتُ رايته ، وصار شرفُه شرفاً
لي . وأيضاً ، وَرِثْتُ مَجْدَ الرَّجل الذي يتفوق على مُهَلْهِل ، وهو خيرٌ مِنه
، وهو زُهَيْر . إنهُ رَجلٌ شريفٌ كريمٌ ، وكَنْزٌ ثمين ، فَأَنْعِمْ بِه
وَأَكْرِمْ . فمجدُه وشرفُه صارا مَضْرب المَثَل ، يُفْتَخَر بهما في كل زمانٍ
ومكان .
7_
السَّطْوة العشائرية :
إن المجتمعَ العربي القديم خاضعٌ للسُّلطة
القَبَلية ، ومحكومٌ بالسَّطْوةِ العشائرية . كما أن قيمَ المجد والنفوذ والقوة
تعتمد على حَجم العشيرة، ومكانتها بين العشائر .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :
ونَشْربُ
إن وَرَدْنا الماءَ صَفْواً
وَيَشْربُ غَيْرُنا كَدِراً وَطِينـا
يَرسم الشاعرُ هالةً لامعةً حول عشيرته ، ويَحرص على
تصويرها كرأسٍ لباقي للعشائر . فهُم الذين يتقدَّمون الناسَ ويَقُودونهم ، فيشربون
الماءَ صافياً لأنهم أوَّل مَن يَشْرب ، أمَّا غَيْرهم فيشرب الماءَ مُلوَّثاً
بسبب كثرة الأيادي التي عَبَثت به .
والقضيةُ
لَيْست قضيةَ " الماء والشُّرب "، فهذه الصورةُ الشِّعرية رمزيةٌ
وشديدةُ التكثيف، وهي تَرْمز إلى سيادة عشيرة الشاعر على باقي العشائر . فهُم
يأخذون مِن كُل شيء أحسن ما فيه ، ويَتركون لغيرهم الشوائبَ والأوساخَ . مما يدل
على أنهم السادة والقادة ، وغَيْرُهم أتباع لهم .
وهذا المعنى
مهمٌ جِدَّاً في المجتمع القَبَلي المحكوم بِقِيَم السيادة والبطولة والزعامة.
فكلُّ شيخ قبيلة يَحرص على تصوير نفْسه كقائد للقبائل ، وزعيم للعَرَب . وكلُّ
قبيلة تُسمِّي نفْسها سَيِّدةً للقبائل . وهذا الصراعُ المحموم على المستوى الفردي
والجماعي يَعكس ثقافةَ السيادة والقيادة المتجذرة في العقل العربي .
ويقولُ
الشاعرُ عمرو بن كلثوم :
إذا بَلَغَ الفِطامَ لنا صَبِيٌّ تَخِرُّ لهُ الجبابِرُ ساجِدينا
يَرسم
الشاعرُ صورةً أسطوريةً لقوة عشيرته ، وتتجذر الهالةُ الجنونية المحيطة بالقبيلة .
لا مكان هنا للمنطق . لا وقت لصوت العقل . القوةُ أوَّلاً ، والقوةُ أخيراً.
يقولُ : إذا بَلَغَ صِبياننا وقتَ الفِطام سَجدتْ
لهم الجبابرة من القبائل الأخرى .
لا شَكَّ أن
هذه الصورة الممتلئة بالتحدي والفخر والسُّؤدد ، تكشف ماهيةَ الصراع العشائري،
وتُبرِز طبيعةَ البيئة العربية الصحراوية القاسية، حيث القبيلة القوية تَسْحق
القبيلةَ الضعيفة . وهؤلاء الصِّبيان _ الذين ليس لهم ناقة ولا جَمل في الصراعات
القَبَلية_ يتم إقحامهم في عالَم شديد الخطورة ، وغير متصالح مع نفْسه . وبمجرَّد
بلوغهم وقت الفِطام تتكرَّس زعامتهم وسِيادتهم على باقي القبائل ، حيث يَسْجد لهم
الجبابرةُ والفُرسانُ الأشداء والأشراف .
والشاعرُ
يَرمي إلى إبراز مكانة عشيرته وسِيادتها على باقي القبائل . وإذا كان الصِّبيان في
عشيرة الشاعر قد بَسطوا نفوذَهم على جبابرة القبائل ، فما بالك بالشجعان والرِّجال
الأشداء في عشيرة الشاعر؟!.وما بالك بالصِّبيان عندما يَكْبرون ويُصبِحون رِجالاً
؟!. لقد أثارَ الشاعرُ هذه الأفكار ضِمنياً، وأحاطَ عشيرته بهالة القداسة
والسِّيادة ، مُؤمناً بأن منطق القوة هو المنطق الوحيد في هذه البيئة القاسية.
8_
الافتخار بالنَّسَب والحَسَب :
النَّسَب والحَسَب هما الرِّئتان اللتان
يتنفس من خلالهما الفردُ في البيئة الجاهلية . فهذا الفردُ لا يَمْلك غير أسماء
آبائه وتاريخهم وأمجادهم ، والتغني بها. وهكذا يصبح الماضي منجمَ ذهب ، وإطاراً
شرعياً للوجود ، وذاكرة للحياة بكل تفاصيلها .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
وإنْ
يَلْتَقِ الحَيُّ الجميعُ تُلاقِــني
إلى ذِرْوَةِ البَيتِ الشَّريفِ المُصَمَّدِ
إذا اجتمع الناسُ للافتخار، وذِكر مناقب
الآباء والقبائل ، وتعظيمِ البطولات العشائرية، وتكريسِ الانتصارات القَبَلية،
وتمجيدِ الأنساب والأحساب. فإن الشاعرَ سيتفوق عليهم جميعاً ، فهو ينتمي إلى ذِروة
البيت الشريف المُصَمَّد ( المقصود ) .
إنهُ
ينتمي إلى قِمَّة الشرف، ويعيش في أعلى المجد، وقد وَرِثَ السُّؤددَ كَابِراً عن كَابِر
. وهذه السُّلالةُ الذهبيةُ من الصعب أن تتكرر . لقد أحاطَ الشاعرُ بالشرف من جميع
الجهات ، وحازَ المجدَ من جميع أطرافه . وهذا المكانةُ الساميةُ لم يصل إليها أحدٌ
من أبناءُ الحَي ، وهذا يعني أن الشاعر هو
الأوفر حظاً في الحَسَب ، والأعلى رُتبةً في عالَم الأنساب، فهو صاحبُ النَّسَب
الشريف ، والحَسَب الكريم ، والمنْزلة الرفيعة .
ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
وَيَوْمَ
حَبستُ النَّفْسَ عِندَ عِراكه
حِفاظاً على عَوْراته والتَّهــدُّدِ
تتجلى فروسيةُ الشاعر ، وتتَّضح مكانته
العظيمة . فقد حَبَسَ نَفْسَه عن القتال ( العِراك ) والمناوَشاتِ وتهدُّدِ الأقران،
وذلك من أجل المحافظة على حَسَبه الكريم ، ونَسَبه الشريف .
والشاعرُ لم يَتْرك القتالَ احتراماً
للنَّفْس البشرية، أو رحمةً بالبشر، أو حقناً للدماء ، أو حِفاظاً على المنجزات
الإنسانية . وإنما تَرَكَ القتالَ حِفاظاً على نَسَبِه الكريم ، ودفاعاً عن شرفه المقدَّس
. إنهُ غير مَعْنيٍّ بخصمه ، ولا يُقيم وزناً لحياته أو مَوْته . فدماءُ الخصوم لا
معنى لها في قاموس الشاعر. المهم هو أن يُحافِظ الشاعرُ على طهارة نَسَبه ، فلا
يُجرَح بِقَوْلٍ أو فِعْلٍ ، وأن يُحافِظَ على قَداسةِ حَسَبه ، فلا يُلوَّث ، ولا
يتم التطاول عليه .