سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

10‏/02‏/2016

القبيلة في شعر المعلقات

القبيلة في شعر المعلقات

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

https://www.facebook.com/abuawwad1982

https://twitter.com/abuawwad1982

........................

   تُعْتَبَر العَشيرةُ ( القبيلةُ ) هي مركز التشريع في المجتمع الجاهلي ، ومَنْبع القِيَم الروحية والمادية ، والحَكَم على أفكار الأفراد وسلوكهم الاجتماعي . وبالتالي ، فليس غريباً أن تتكرس هذه الوَحدة الاجتماعية الأساسية ( العشيرة ) كنسقٍ شِعري وسياسي واجتماعي .
     وبما أن الشِّعرَ انعكاسٌ للواقع ، وثورةٌ على الواقع ، وصناعةٌ لواقعٍ جديد ، كان من الطبيعي أن تَظْهر قيمة العشيرة في شِعر المعلَّقات . فبرزت سُلطةُ العشيرة وهيمنتها على سلوك الأفراد وقُدرتها على عقاب الخارجين على قانون العشيرة .
     وعلى الجانب الآخر ، ظَهرت قضيةُ إنقاذ الأفراد للعشيرة ، وتضحيتهم بالغالي والنفيس من أجل رَفْع شأنها بين العشائر، وصيانة شرفها ، وتقديمها في أجمل صُورة. وهذه القِيَم مرتبطة بشكل وثيق بالدفاع عن العشيرة ، وحمايتها من كل الأخطار والتحديات الداخلية والخارجية. وبالطبع ، فحمايةُ العشيرة لَيْست شِعاراً في الهواء. إنها منظومة مُكوَّنة من القَوْل الصادق والفِعل التطبيقي على أرض الواقع ، يَحْملها فُرسان العشيرة الذين هُم العَيْن الساهرة على حماية العشيرة وأفرادها وإنجازاتها ، وهُم السُّور العالي الذي يَرْدع الأعداءَ الطامعين ، ويَرُدُّهم خائبين مكسورين .
     وتتَّضح فِكرةُ تماسك العشيرة ، وترابطها الاجتماعي ، وبُروزها كمنظومة مُوحَّدة خاضعة لكلمة واحدة ، فلا تناقض بين مُكوِّنات هَرم السُّلطة القَبَلية ، فالتناسقُ الدقيقُ هو السِّمة التي تَصْبغ هذا الهرم من القاعدة حتى الرأس .
     ولا يمكن تجاهل قِيمة الفخر بالآباء، والتمسكِ بتقاليدهم،والسَّيْر على خطاهم، فهُم القادة المؤسِّسون لتراث القبيلة ، والصانعون لتاريخها. والافتخارُ بهم هو افتخارٌ بالقَبيلة ومُنجَزاتها . كما لا يمكن تجاهل الصراع بين القبائل الذي هو عنوان أساسي في المجتمع الجاهلي ، حيث الاحتكام لمنطق السيف ، وتكريس الغزو والغزو المضاد.
1_ سُلطة العَشيرة :

     تتجلى سُلطة العشيرة في قُدرتها على مُكافأةِ المحسِن ومُعاقبةِ المسيء . ويمكن القول إن المنظومة السُّلطوية العشائرية هي منظومة الإمساك بالعصا والجَزَرة ، والسيطرة على المال والسيف . يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

إلى أَنْ تحامَتْني العَشيرةُ كُلُّها          وَأُفْرِدْتُ إِفْرادَ البَعيرِ المُعَبَّدِ

     إن السلوكَ المنحرِف للشاعر قد سَبَّب له المتاعب ، وجعله غارقاً في الهموم والتحديات . وهذا السلوكُ العبثي قد جَلب غَضَبَ العشيرة ونِقمتها . فكانَ من الطبيعي أن تتم مُعَاقَبة الشاعر ، وذلك من أجل إعادته إلى الحظيرة العشائرية . وقد اختار رِجالُ العشيرة أسلوب المقاطَعة والحصار وفرض العُزلة . وبالطبع ، فهذا إجراء ذو تأثير قوي في النَّفْس البشرية لأنه يُشعِرها بأنها معزولة ومرفوضة ومنبوذة. وبالتالي، فهناك فرصة كبيرة لمراجعة الإنسان نَفْسه، والعودة إلى حِضن العشيرة ( الأُم الكبيرة). وهذا أمرٌ في غاية الأهمية، ففي المجتمع القَبَلي البدائي القاسي ، من الصعب على المرء أن يتحرك بدون عَشيرة تَحْميه، وتسانده، وتُوفِّر له الرعاية والأمن ، وتمنحه التاريخَ ، وتُحيطه بمآثر الآباء والأجداد .
     لقد تأثَّر الشاعرُ بالعُزلة التي فَرَضَتْها عليه عشيرته ، فهو يَعترف_ بكل أسى _ أن عشيرته قد تَحَامَتْهُ ( تَجَنَّبَتْهُ وَاعْتَزَلَتْهُ ) . ولا بد أن هذا القرار المصيري قد اعتمده شيخُ العشيرة ، فصارَ قراراً جَماعياً ساري المفعول على الكبير والصغير ، لأن العَشيرةَ بأكملها قد تَجنَّبت الشاعرَ ، وهذا الفِعلُ الجماعي لا يمكن أن يتكرس بدون معرفة شيخ العشيرة ورِجالاتها الكِبار وجميع أفرادها . وبعبارة أخرى ، إن طبقاتِ الهرم الاجتماعي كلها قد صَادقت على هذا القرار المصيري . فلم يأتِ الأمرُ كَنزوة أو حركة عفوية أو فِعل جزئي. إنهُ فِعْلٌ جماعي لا يَمْلك أحدٌ أن يخالفه.
     يحسُّ الشاعرُ بألم كبير، وحَسرةٍ عارمة . فعائلته الكبيرة ( العشيرة ) قد قاطعته، فصارَ وحيداً معزولاً ، يُقاتِل نَفْسَه بِنَفْسه . كأنه غُصنٌ مقطوع من الشجرة ، أو عُضو فاسد مبتور من الجِسم .
     اسْتَوْلَت عليه مشاعرُ الحزن والأسى ، وَوَصَلَ إلى الحضيض ، واستقر في مكانة دُونية تُشبِه مكانةَ الحيوان ( البعير ) . لقد تَجنَّبته عشيرته كما يُتجنَّب البعير المعبَّد     ( المطلي بالقَطِران ) ، وأَفْرَدَتْهُ ( عَزَلَتْهُ ) بسبب سلوكه المتهور ، وأفعاله الطائشة ، فهو مستمر في إضاعة المال، والاشتغالِ بالشهوات واللذاتِ،وعدم تحمُّل المسؤولية.
     صارَ الشاعرُ فَرْداً معزولاً كالبعير ( الجَمَل ) الذي طُلِيَ بالقَطِران لِيُصبح ذليلاً خاضعاً مستسلماً لمصيره ، وهذه غاية الامتهان . وبشكل عام ، إن البعير يُطلَى بالقطران إذا أُصيب بالجرب ، وذلك كوسيلة علاج .
     والحالةُ المزْرية التي وَصَلَ إليها الشاعرُ بسبب سُوء أفعاله ، تعكس سَطْوةَ العشيرة وقُدرتها على معاقبة الخارجين على قانونها، والمنحرفين عن النظام الاجتماعي القَبَلي. وما إحساسُ الشاعرِ بأنه بعير مُعبَّد إلا مؤشر واضح على حُزنه، ويَأْسه ، واحتقاره لنفْسه، والمرارة الكبيرة التي يَشعر بها .

2_ إنقاذ الأفراد للعشيرة :

     كلُّ عَشيرة تنتظر من أبنائها أن يُقدِّموا لها الدعم والمساندة ، وأن يُساهموا في حمايتها ، ورفع رايتها بين العشائر ، وصناعة تاريخ مشرق لها . وهذه الحقيقةُ كانت واضحةً في أذهان الأفراد ، لذلك أَخذوا على عاتقهم أن يَرْتقوا بعشائرهم ، ويَصونوها من كل الأخطار .
     يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

وَقَدْ قُلتما إن نُدرِك السِّلمَ واسعاً          بمالٍ ومَعروفٍ مِن القَوْلِ نَسْلـمِ

     القائلان هُما اثنان من سادات العرب ( هَرِم بن سنان والحارث بن عوف ) .
     وهذان الرَّجلان أَخذا على عاتقهما وقف القتال الدموي بين قَبيلة عَبْس وقبيلة ذُبيان ، وقد ساهما بشكل فعَّال في حماية العشائر من الفناء. وهنا يتجلى دورُ الأفراد المركزي في حماية العشيرة من كل المخاطر ، وعلى رأسها القتل ( قتل الرجال ) . فإذا قُتل الرِّجالُ فقد انقرضت العشيرةُ ، وزالت القبيلةُ من الوجود .
     وهذان السِّيدان الكبيران قد قالا : إن أَدْرَكْنا السِّلمَ ( الصُّلحَ ) واسعاً بتقديم المال ونشر الخير ( المعروف ) سَلِمْنا من تفاني العشائر .
     لقد سَيْطَرَ حُبُّ الخير على تفكير هذين الرَّجُلَيْن ، وقد كان بإمكانهما أن يَبتعدا عن هاتَيْن القبيلتَيْن المتناحرتَيْن ، ولا يتدخَّلا في شؤونهما . ولكنَّ النَّخْوةَ العربيةَ والسِّيادةَ القَبَليةَ والمكانةَ الاجتماعية،قادتهما إلى اتخاذ موقف إيجابي فِعْلي لا شعاراتي.
     إِن استطاعا إتمامَ الصُّلحِ والمصالَحةِ بين القبيلتين بتقديم المال(الدِّيَات وغيرها)، ونشرِ ثقافة التسامح ، وبذلِ المعروف ، وتعميقِ القيم الإيجابية ، فقد أَوْقَفا قَتْلَ الرجال، وحَفِظا العشائرَ من الموت والفناء والنهاية الأليمة، وعندئذ يَعُمُّ السلامُ في المجتمع، وتتكرس قيمُ الأمن والأمان .
     وقد نجحا في هذا المسْعى بسبب النِّية الصادقة، ووجود برنامج تطبيقي ذِهني تَمَّ تَنْزيله على أرض الواقع . وبالطبع ، فهذا الصُّلح لَيْس مجانياً . فالأمرُ قد احتاجَ تنازلاتٍ حقيقية من طَرَفَي النِّزاع ( قَبيلة عَبْس وقَبيلة ذُبيان ) ، كما احتاجَ أموالاً هائلة لدفع دِيَات القتلى الكثيرين ، وتسكينِ جِراح ذَويهم ، وإطفاء نار قلوبهم .

     ويقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

ولقدْ حَمَيْتُ الحَيَّ تَحْمِلُ شِكَّتي          فُرُطٌ وِشاحي إذ غَدَوْتُ لجامُها

     لقد حَمَى الشاعرُ الحيَّ ( القبيلة ) بكل بسالة ، ودافع عن وجود عشيرته بكل قُوَّة . وقد كان مستعداً للتضحية بالغالي والنفيس من أجل تاريخه وتاريخِ القبيلة .
     يحرص الشاعرُ على إحاطة نفْسه بهالة الفروسية والإقدام والتضحية في سبيل رِفعة القبيلةِ ومجدِ أبنائها. فقد ذَكَرَ دَوْرَه المركزي في حماية قبيلته من كل الأخطار ، وأشادَ بهذا الدَّوْر ، ومدحَ نفْسَه بشكل واضح ، ورسمَ صورةً بطولية لتضحياته الهائلة من أجل حماية القبيلة ( المنظومة الاجتماعية الأساسية ) .
     ثم أَخْبَرَنَا عن حقيقتَيْن تتعلقان بأجواء الحرب والقتال والفروسية. الحقيقة الأُولى : إن فَرَساً سريعةً خفيفةً ( فُرُطاً ) تَحْمل شِكَّتَه ( سِلاحه ). والحقيقةُ الثانية : إن لِجامَ الفَرَس هو وِشاح الشاعر .
     وهاتان الصورتان تهدفان إلى تقديم الشاعر كفارس مغوار ، وتصويره كنجم في عالَم الحروب والقتال. وهكذا تصبح الصُّوَرُ الشِّعريةُ الحربيةُ وسيلةً إعلامية لصناعة نجومية الشاعر ، وتاريخِه الشخصي ، وأمجادِ قبيلته . فكلُّ مجدٍ شخصي لا بد أن يتحوَّل _ في المجتمع العربي القَبَلي _ إلى مجد للقبيلة بأسْرها ، والعكس صحيح .
     والصورةُ الشِّعريةُ الأُولى تشير إلى فروسية الشاعر وشِدَّةِ بأسه . فهو يَضَعُ سِلاحَه على فَرَس سريعة، وذلك لكي يُقاتِل بكل كفاءة وسُرعة، وأيضاً لكي يَكون على أُهبة الاستعداد لأي طارئ ، وفي أعلى درجاتِ الحِيطة والحَذَر . إنهُ المحارِبُ الأبدي الواثق بنفْسه ، والجاهز في كل الأحوال . ففي احتدام القتال يَبْرز بكامل قُوَّته ، يُقاتِل بشراسة وسُرعة . وفي حالة عدم القتال ، يَكون مستعداً وجاهزاً لكل الاحتمالات لئلا يُباغِته الأعداء . وهكذا ، لا يَترك أيَّة فرصة للصُّدفة أو المفاجأة ، فكلُّ الاحتمالاتِ تحت السيطرة .
     والصورةُ الشِّعريةُ الثانية تشير إلى صلابته الذهنية ، وقُوَّته البدنية ، فهو يُلقِي لِجامَ الفَرَس على عاتقه فيكون بمثابة الوِشاح. وهو يتوشَّح باللجام ليكون على أُهبة الاستعداد ، فإذا حدثَ أمرٌ ما ، ألجمَ الفَرَسَ وركبه بُسرعة دون إبطاء . وهكذا ، تتَّضح فُروسيةُ الشاعر، فهو يَعتبر لِجامَ الفَرَس المصنوع من الحديد وكأنه وِشاح من القُماش الناعم الذي يُغطِّي الوجهَ . إنهُ يتوشَّح بالحديد القاسي مثلما يتوشَّح الناسُ بالقماش الناعم ، وهنا يَظْهر الفرقُ الجوهري بين الشاعر الفارس وغيره من الناس ، فهو متفوِّق عليهم ، ولا يَقْدرون على الوصول إلى مكانته السامية في عالَم الشجاعةِ والإقدامِ والحروبِ. كما أن قَوْلَه " إذ غَدَوْتُ " تدل على انطلاقه في الصباح ، وهذا يدل على نشاطه ، وحيويته ، وتَمَتُّعه بروح المبادَرة .
 
3_ الدفاعُ عن أبناء العشيرة :

     تُعْتَبَر نُصرة القريب _ظالماً أو مظلوماً_ مِن أُسس المجتمع القَبَلي . إذ إن فلسفةَ العشيرة تقوم على أساس تضافر الجهود الفردية ، وتعزيز منظومة الدفاع المشترك ، وذلك من أجل الوقوف في وجه باقي العشائر كوَحدةٍ متماسكةٍ ، وقوةٍ رادعةٍ .
     يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وإنْ أُدْعَ للجُلَّى أَكُنْ مِن حُماتها          وإنْ يَأْتِكَ الأعداءُ بالجَهْدِ أَجْهَدِ

     يُقدِّم الشاعرُ أوراقَ اعتماده كناصرٍ للقبيلة ، وصانعٍ لأمجاد العشيرة ، ومُدافِعٍ عن أبنائها. وها هُوَ يتعهد بالدفاع عن قريبه إذا تعرَّض لأي خطر أو أذى ، فالدفاعُ عن القريب دفاعٌ عن الذات، والدفاعُ عن الذات دفاعٌ عن شرف العشيرة .
     يقولُ : وإن دَعَوْتني للجُلَّى ( الأمر العظيم ) أَكُن مِن حُماةِ حياتكَ وشَرفكَ .
     يتعهد بِحماية حياة قريبه ( ابن العشيرة )، ونُصرته ، وصَوْنِ عِرْضِه ، والوقوفِ ضد أعدائه بكل ما أُوتيَ مِن قُوة . فالتعدي على أحد أفراد العشيرة ، هو تَعَدٍّ على العشيرة بِرُمَّتها . وهذا الأمرُ لا مجال للتهاون فيه ، فأيُّ تهاون سَيُؤَدِّي _ حتماً _ إلى تدمير اسم العشيرة، وجعلها فريسةً سهلة لباقي العشائر ، وعندئذ سَيَطْمع بها الجميع . فلا بد _ في السياسة الاجتماعية القَبَلية _ مِن توليد نظام رَدْع يُخيف الآخرين،وذلك لكي تظل العشيرةُ مرهوبةَ الجانب، ومحافظةً على وَزْنها بين العشائر.
     ويستمرُّ الشاعرُ في توضيح موقفه من نُصرة قريبه والانتصارِ لعشيرته ، فيقول : وإن يَأتكَ الأعداءُ لقتالكَ أَجهد في حمايتك ومقاومتهم غاية الجهد .
     سَوْفَ يَبذل كلَّ ما بوسْعه لحماية ابن العشيرة ، وقتالِ أعدائه ، والتصدي لهم بكل حَزم . سيتفانى في صيانة شرف العشيرة ، وحفظِ عِرْضِ قريبه من كل أذى . إنهُ مستعد للقتال دفاعاً عن رابطة الدم ، ومن أجل إعلاء راية العشيرة . وهكذا يُقدِّم الشاعرُ نفْسه كمواطن صالح يتحلى بروح الانتماء للقبيلة ، والولاءِ للعشيرة.
     ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وإن يَقذِفوا بالقَذْعِ عِرْضَكَ أَسْقِهم          بِكأسِ حِياضِ الموتِ قَبْلَ التَّهـددِ

     يُبَرْهِن الشاعرُ على وَلائه المطْلق لعشيرته ، ومساندته الكاملة لأبنائها ، ويضعُ كافةَ إمكانياته في خِدمة أبناء العشيرة ، والدفاع عنهم ، وحراسة اسم العشيرة .
     يُصرِّح بالفم الملآن بأنه سَيُواجِه الأعداء ويقضي عليهم إذا تعرَّضوا لقريبه بالكلام السَّيئ . فيقول : وإن أهانكَ الأعداءُ بالكلام الجارح ، وقَذَفوا عِرْضَكَ بالقَذْع        ( الفُحْش ) ، جَعَلْتُهم يَشْربون مِن حِياض الموت قبل تهديدهم .
     إن أيَّةَ إساءة إلى العشيرة أو أحد أبنائها ، لا يمكن تبريرها ، أو تجاهلها ، ولا بد من التصدي لها بكل حَزْم . لذلك فقد كَشَّرَ الشاعرُ عن أنيابه ، وتوعَّد كُلَّ مَن تُسوِّل له نَفْسُه الإساءة إلى قريبه بالهلاك الحتمي والنهايةِ الأليمة .
     فإذا قامَ الأعداءُ بالإساءة الكلامية إلى قريب الشاعر ( ابن العشيرة )، ولَطَّخوا عِرْضَه بالفُحش والبذاءة ، فإن الشاعرَ سَيَسْقيهم كأسَ الموتِ المرَّةَ . سَيُورِدُهم حِياضَ الموت فَيَشْربون مِنها رَغْمَ أُنوفهم . والحِياضُ جَمْعُ حَوْض . سَوْفَ يُبيد الأعداءَ قبل أن يُهدِّدهم ، فلن يُضيِّع وَقْتَه في تهديدهم ، واختيارِ الألفاظ القاسية لمهاجمتهم، وإخبارهم بأن الهلاك يَنْتظرهم، وإنما سَيَقْضي عليهم مباشرةً بلا مُقدِّمات. وهذا يدل على غياب المنطق العقلاني بشكل كامل، ورفضِ لغة الحوار بصورة تامة. فهناك خيار وحيد ، وهو الاحتكام إلى السيف ، ولا شيء غَيْره .

4_ فُرسان العشيرة :

     كلُّ عشيرةٍ إنما تَقوم على كاهل فُرسانها ، فهُم الذين يُدافعون عن وجودها ، ويَحْملون تاريخَها ، ويَصنعون حاضرَها ومستقبلَها . وهؤلاء الصَّفْوةُ يَكونون محط الأنظار ، ويَكون التعويلُ عليهم في كل المحافل بسبب إمكانياتهم الهائلة المتميِّزة .
     يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

هُمُ السُّعاةُ إذا العَشيرةُ أُفْظِعَتْ          وهُمُ فَوَارِسُها وَهُم حُكَّامُهـا

     هذه العَشيرةُ لَيْست ورقةً في مَهَبِّ الريح، أو شيئاً مُهمَلاً بلا وزن . إنها منظومةٌ اجتماعية ذات تاريخ عريق ، وحاضر مُشرِق . تمتلئ بالرجال الأشداء الذين يتحمَّلون المسؤوليةَ في أصعب الظروف ، ويَكونون على قلبِ رَجلٍ واحدٍ في وقت الشِدَّة ، ولا يتهرَّبون من التحديات المصيرية. إنهم السُّعاة الذي يَسْعَوْن إلى حماية العشيرة إذا أُصيبت بأمرٍ فظيع ( أُفظِعت ) .
     فإذا تعرَّضت العشيرةُ لأي خطر ، أو أصابها أمرٌ عظيم سَعَى هؤلاء الرِّجالُ الأبطالُ إلى إزالته بكل قُوَّتهم ، وسَخَّروا كلَّ قدراتهم لكشف المكروه عن عشيرتهم، وتفريجِ كُربتها ، وإنقاذِ أبنائها . وهذا غير مستغرَب ، فهؤلاء الرِّجال هُم فرسان العشيرة ( فوارسها ) في المعارك، وهُم القادة الشُّجعان عند القِتال، كما أنهم الحُكَّامُ أصحابُ الكلمةِ المسموعةِ في مواطن النِّزاع ، وهُم رؤوس القَوْم الذين يُفزَع إليهم عند التخاصم .
     والشاعرُ يَهدف _ مِن وراء هذا المدح _ إلى تصوير أقاربه وعائلته الضَّيقة كسادةٍ للناس، وزعماء للعشيرة . فهؤلاء الفُرسان الحُكَّام الذين يَحْملون تراثَ العشيرة بكل اقتدار ، ويُدافِعون عنه بكل تفانٍ ، هُم أقارب الشاعر ، والدائرة الأُسرية المحيطة به . وكأن الشاعرَ يقول إن عائلتي هي رأس العَشيرة .

5_ تماسك العشيرة :

     إذا كانت العشيرةُ متماسكةً ، فلا يمكن اختراقها مِن أيَّة جِهة . وإذا كانت الجبهةُ الداخليةُ مُحصَّنةً ، فإن تأثير العدو الخارجي يَنعدم _ مهما بَلَغَت قُوَّته _ . ولا يمكن للمنظومة الاجتماعية أن تَسْقط ، إلا إذا سَقَطت من الداخل . كما أن الإنسان لا يمكن أن ينهار ، إلا إذا انهارت معنوياته ( الجبهة الداخلية ) . لذلك فإن تماسك العشيرة ، وتعاون أبنائها ، والتحام قاعدة الهرم الاجتماعي مع الرأس، أمورٌ في غاية الأهمية ، لأنها تساهم بشكل فعَّال في توحيد كلمة العشيرة ، وحفظِ وجودها ، وضمانِ تواجدها على الساحة.
     يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

وهُم العَشيرةُ أن يُبَطِّئَ حَاسِدٌ          أوْ أنْ يَميلَ مَعَ العَدُوِّ لِئَامُها

     استخدمَ الشاعرُ لفظَ " العشيرة " لِيُشير إلى تماسك الأفراد في وجه التحديات المختلفة ، وأنهم وَحدةٌ اجتماعية مترابطة ، وكلمةٌ واحدة . فهُم مُتوافِقون لا مكان للنِّزاع بينهم ، وهُم متعاونون لا يَعْرفون الفُرقةَ والشِّقاقَ . إنهم عشيرةٌ متماسكةٌ حريصةٌ على التعاون لئلا يُبَطِّئَ حاسدٌ بَعْضَهم عن نَصْرِ بَعْضٍ ، وكراهية أن يميل لئامُ العشيرة ( الطابور الخامس ) مع العدو .
     إن تعاونَ أبناءِ العشيرة وتلاحمهم ضرورةٌ حتمية، ومصلحةٌ عليا . فهذا التعاون يَقطع الطريقَ على الأعداء المتربِّصين بالعشيرة، ويُحاصرهم، ويمنعهم من الانقضاض على العشيرة وتدميرها ، وبالتالي يَعْجزون عن تحقيق أهدافهم الخبيثة .
     وإذا كانت العشيرةُ متماسكةً فلن يَقْدر الحُسَّادُ على تشتيت كلمة الأفراد ، وتثبيط بعضهم عن نَجْدةِ بعضٍ ، وبثِّ التقاعس والفُرقة بين الصفوف . وأيضاً ، لن يَقْدر الخوَنةُ من أبناء العشيرة على مساندة العدو ضد أبناء جِلْدتهم، فَوَحْدةُ العشيرةِ تشلُّ حركةَ الطابور الخامس، وعندئذٍ لا يستطيع لئامُ العشيرة أن يَنصروا الأعداءَ على الأقاربِ . وهذا يَعكس الأهميةُ القُصوى لتماسك العشيرة ، فالأمرُ ليس رفاهيةً أو تحصيلَ حاصلٍ . إنهُ أمرٌ مهم للغاية لأنه متعلق بالأمن القَوْمي للعشيرة، وأيُّ تقصيرٍ في هذا المجال سيؤدي إلى عواقب وخيمة ذات تأثير مُدمِّر على الكيان العشائري ، ووجودِه ، وحياةِ أبنائه .
6_ الافتخار بالآباء والسَّيْر على خُطاهم :

     الآباءُ _ في المجتمع القَبَلي _ يُمثِّلون الركيزةَ الأساسية في التاريخ العائلي ، فَهُم مَنْبعُ الشرعية الأُسرية، ومركزُ التُّراث، وحقيقةُ السُّلالة. ولا يمكن تجاوزهم إطلاقاً.
     يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

مِن مَعْشَرٍ سَنَّتْ لهم آباؤُهم          ولكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وإمامُهــا

     تتَّضح قيمةُ الافتخار بالآباء، وتَبْرز أفعالهم السَّامية. وليس أمام الأبناء مِن خيار سوى السَّيْر على خطى أسلافهم الذين شَقُّوا طريقَ المجد ، وصنعوا البطولاتِ .
     إنهم مِن مَعْشَر ( قَوْم ) سَنَّ لهم آباؤهم اكتسابَ الفضائل ، والمسارَعةَ إلى المجد، والتحلِّي بِعُلُوِّ الهِمَّة، واقتناصَ البطولاتِ، والفوزَ بالمعالي. ولكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ (طريقة )، وإمام يُؤتم به فيها . وهذا أمرٌ طبيعي ، فكلُّ قَوْمٍ لهم فلسفةٌ في الحياة، وطريقةٌ في فهم الوجود. ولكلِّ شيخٍ طريقةٌ وأُسلوب. وأيضاً ، كُلُّ طريقةٍ تتطلب وجود إمام ( رأس ) يَسير الناسُ وراءه ، ويَقتفون آثارَه ، ويَحْملون أفكارَه ، ويَنْشرونها في كل الأماكن . ولا توجد فِكرةٌ تُولَد من العَدَم ، أو تأتي من الفراغ . فكلُّ فكرةٍ لها صاحبٌ ، ولها مُؤيِّدون مؤمنون بها . وكما أنه لا يُوجد طفلٌ بلا أب ، فأيضاً لا توجد فِكرة بلا أب . ويقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

وَرِثْتُ مُهَلْهِلاً والخيرَ مِنه          زُهَيْراً نِعْمَ ذُخرُ الذَّاخِرينا

     يتجلى موضوعُ الافتخار بالآباء بصورةٍ واضحة ومُباشِرة . وكأن الشِّعرَ قد تحوَّل _ في هذا السياق_ إلى إعلانٍ عشائري، أو خطابٍ للمديح، أو شَجَرةِ نَسَب.
     يقول الشاعرُ بكل فخر : وَرِثْتُ مَجْدَ مُهَلْهِل ، وحَملتُ رايته ، وصار شرفُه شرفاً لي . وأيضاً ، وَرِثْتُ مَجْدَ الرَّجل الذي يتفوق على مُهَلْهِل ، وهو خيرٌ مِنه ، وهو زُهَيْر . إنهُ رَجلٌ شريفٌ كريمٌ ، وكَنْزٌ ثمين ، فَأَنْعِمْ بِه وَأَكْرِمْ . فمجدُه وشرفُه صارا مَضْرب المَثَل ، يُفْتَخَر بهما في كل زمانٍ ومكان .

7_ السَّطْوة العشائرية :

     إن المجتمعَ العربي القديم خاضعٌ للسُّلطة القَبَلية ، ومحكومٌ بالسَّطْوةِ العشائرية . كما أن قيمَ المجد والنفوذ والقوة تعتمد على حَجم العشيرة، ومكانتها بين العشائر .
     يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

ونَشْربُ إن وَرَدْنا الماءَ صَفْواً           وَيَشْربُ غَيْرُنا كَدِراً وَطِينـا

     يَرسم الشاعرُ هالةً لامعةً حول عشيرته ، ويَحرص على تصويرها كرأسٍ لباقي للعشائر . فهُم الذين يتقدَّمون الناسَ ويَقُودونهم ، فيشربون الماءَ صافياً لأنهم أوَّل مَن يَشْرب ، أمَّا غَيْرهم فيشرب الماءَ مُلوَّثاً بسبب كثرة الأيادي التي عَبَثت به .
     والقضيةُ لَيْست قضيةَ " الماء والشُّرب "، فهذه الصورةُ الشِّعرية رمزيةٌ وشديدةُ التكثيف، وهي تَرْمز إلى سيادة عشيرة الشاعر على باقي العشائر . فهُم يأخذون مِن كُل شيء أحسن ما فيه ، ويَتركون لغيرهم الشوائبَ والأوساخَ . مما يدل على أنهم السادة والقادة ، وغَيْرُهم أتباع لهم .
     وهذا المعنى مهمٌ جِدَّاً في المجتمع القَبَلي المحكوم بِقِيَم السيادة والبطولة والزعامة. فكلُّ شيخ قبيلة يَحرص على تصوير نفْسه كقائد للقبائل ، وزعيم للعَرَب . وكلُّ قبيلة تُسمِّي نفْسها سَيِّدةً للقبائل . وهذا الصراعُ المحموم على المستوى الفردي والجماعي يَعكس ثقافةَ السيادة والقيادة المتجذرة في العقل العربي .
     ويقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

 إذا بَلَغَ الفِطامَ لنا صَبِيٌّ          تَخِرُّ لهُ الجبابِرُ ساجِدينا

     يَرسم الشاعرُ صورةً أسطوريةً لقوة عشيرته ، وتتجذر الهالةُ الجنونية المحيطة بالقبيلة . لا مكان هنا للمنطق . لا وقت لصوت العقل . القوةُ أوَّلاً ، والقوةُ أخيراً.
     يقولُ : إذا بَلَغَ صِبياننا وقتَ الفِطام سَجدتْ لهم الجبابرة من القبائل الأخرى .
     لا شَكَّ أن هذه الصورة الممتلئة بالتحدي والفخر والسُّؤدد ، تكشف ماهيةَ الصراع العشائري، وتُبرِز طبيعةَ البيئة العربية الصحراوية القاسية، حيث القبيلة القوية تَسْحق القبيلةَ الضعيفة . وهؤلاء الصِّبيان _ الذين ليس لهم ناقة ولا جَمل في الصراعات القَبَلية_ يتم إقحامهم في عالَم شديد الخطورة ، وغير متصالح مع نفْسه . وبمجرَّد بلوغهم وقت الفِطام تتكرَّس زعامتهم وسِيادتهم على باقي القبائل ، حيث يَسْجد لهم الجبابرةُ والفُرسانُ الأشداء والأشراف .
     والشاعرُ يَرمي إلى إبراز مكانة عشيرته وسِيادتها على باقي القبائل . وإذا كان الصِّبيان في عشيرة الشاعر قد بَسطوا نفوذَهم على جبابرة القبائل ، فما بالك بالشجعان والرِّجال الأشداء في عشيرة الشاعر؟!.وما بالك بالصِّبيان عندما يَكْبرون ويُصبِحون رِجالاً ؟!. لقد أثارَ الشاعرُ هذه الأفكار ضِمنياً، وأحاطَ عشيرته بهالة القداسة والسِّيادة ، مُؤمناً بأن منطق القوة هو المنطق الوحيد في هذه البيئة القاسية.    


8_ الافتخار بالنَّسَب والحَسَب :

     النَّسَب والحَسَب هما الرِّئتان اللتان يتنفس من خلالهما الفردُ في البيئة الجاهلية . فهذا الفردُ لا يَمْلك غير أسماء آبائه وتاريخهم وأمجادهم ، والتغني بها. وهكذا يصبح الماضي منجمَ ذهب ، وإطاراً شرعياً للوجود ، وذاكرة للحياة بكل تفاصيلها .
     يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وإنْ يَلْتَقِ الحَيُّ الجميعُ تُلاقِــني          إلى ذِرْوَةِ البَيتِ الشَّريفِ المُصَمَّدِ

     إذا اجتمع الناسُ للافتخار، وذِكر مناقب الآباء والقبائل ، وتعظيمِ البطولات العشائرية، وتكريسِ الانتصارات القَبَلية، وتمجيدِ الأنساب والأحساب. فإن الشاعرَ سيتفوق عليهم جميعاً ، فهو ينتمي إلى ذِروة البيت الشريف المُصَمَّد ( المقصود ) .
إنهُ ينتمي إلى قِمَّة الشرف، ويعيش في أعلى المجد، وقد وَرِثَ السُّؤددَ كَابِراً عن كَابِر . وهذه السُّلالةُ الذهبيةُ من الصعب أن تتكرر . لقد أحاطَ الشاعرُ بالشرف من جميع الجهات ، وحازَ المجدَ من جميع أطرافه . وهذا المكانةُ الساميةُ لم يصل إليها أحدٌ من  أبناءُ الحَي ، وهذا يعني أن الشاعر هو الأوفر حظاً في الحَسَب ، والأعلى رُتبةً في عالَم الأنساب، فهو صاحبُ النَّسَب الشريف ، والحَسَب الكريم ، والمنْزلة الرفيعة .
     ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وَيَوْمَ حَبستُ النَّفْسَ عِندَ عِراكه         حِفاظاً على عَوْراته والتَّهــدُّدِ

     تتجلى فروسيةُ الشاعر ، وتتَّضح مكانته العظيمة . فقد حَبَسَ نَفْسَه عن القتال    ( العِراك ) والمناوَشاتِ وتهدُّدِ الأقران، وذلك من أجل المحافظة على حَسَبه الكريم ، ونَسَبه الشريف .

     والشاعرُ لم يَتْرك القتالَ احتراماً للنَّفْس البشرية، أو رحمةً بالبشر، أو حقناً للدماء ، أو حِفاظاً على المنجزات الإنسانية . وإنما تَرَكَ القتالَ حِفاظاً على نَسَبِه الكريم ، ودفاعاً عن شرفه المقدَّس . إنهُ غير مَعْنيٍّ بخصمه ، ولا يُقيم وزناً لحياته أو مَوْته . فدماءُ الخصوم لا معنى لها في قاموس الشاعر. المهم هو أن يُحافِظ الشاعرُ على طهارة نَسَبه ، فلا يُجرَح بِقَوْلٍ أو فِعْلٍ ، وأن يُحافِظَ على قَداسةِ حَسَبه ، فلا يُلوَّث ، ولا يتم التطاول عليه .