نشرت في جريدة القدس العربي ، لندن 22/1/2010م
إن العالم العربي يعيش فترة ضياع كارثية بفعل الأنظمة القمعية التي تحكمه، حيث أعادته إلى العصر الحجري. وهذا ليس غريباً لأن الحاكم العربي غير مؤهل للقيادة، فهو لا يمتلك الشخصية القيادية القادرة على تحقيق آمال الجماهير، وليس عنده من الخبرة ما يمكنه من وضع خطة لانتشال البلاد من المستنقع العميق، فهو ليس بأكثر من شيخ قبيلة مغلوب على أمرها، وهو- أيضاً - موظف في الخارجية الأمريكية يقوم بتنفيذ الإملاءات الخارجية حرفياً، والالتزام بأوامر أسياده في البيت الأبيض الذين أحضروه إلى الحكم، وفرضوه على رقاب العباد. فلا انتخابات نزيهة، ولا حرية اختيار شعبي. وهذا الوباء السياسي المتفشي في الأمة العربية التي استقالت من التاريخ المعاصر، وخرجت من الحضارة العالمية الحالية، قد أدى إلى فراغ موحش في النظام العربي الرسمي. فصارت الشعوب أكثرضياعا من الأيتام على مأدبة اللئام، فالسفينة بدون ربان، والقطار يسير خارج السكة. والحاكم متحصن في قصره وحوله آلاف الحراس، حيث الدولة البوليسية في أبهى صور هلوستها. والطبيعة الفكرية للكيانات السياسية ترفض الفراغ، لذلك ستبحث عمن يقوم بملئه. ولا يمكن لأي دولة أن تملأ الفراغ السياسي إلا إذا كانت ذات ثقل نوعي، ووزن إقليمي، وحضور دولي. والدول الكبرى في الشرق الأوسط القادرة على تجاوز حدودها، والتأثير في محيطها بفاعلية كبيرة هي: تركيا وإيران والعدو الصهيوني. وقد رأينا قدرة العدو الصهيوني على التحرك بأريحية في المحيط العربي، فهو يسرح ويمرح من الخليج إلى المحيط، ويفرض أوامره على الأنظمة السياسية العربية. ومنتجاته تباع في الأسواق العربية إما بأسلوب مباشر أو باللف والدوران عبر تغطية عربية. وهذه الاختراقات إن لم تكن تحدث فوق الطاولة فهي تحدث تحت الطاولة، وإن لم تكن أمام كاميرات وسائل الإعلام فخلف الكواليس، وما خُفي أعظم. أما إيران فنفوذها يتجلى في ابتلاع العراق الذي صار لقمة سائغة على طبق من ذهب. فلا الجيش العراقي البدائي قادر على تأمين حدوده، وحماية حقول نفطه (مثل حقل الفكة)، ولا الحكومة العراقية التي ترضع الحليبَ الإيراني قادرة على رفع صوتها بالاحتجاج، حتى لو كان شكلياً أمام شعبها ووسائل الإعلام. وهنا تبرز فلسفة 'أطعم الفم تستحِ العين '. كما أن الاختلاف المذهبي بين الدول العربية وإيران يشكل عائقاً أمام التقارب، ويثير كثيراً من الشكوك، ويطرح العديد من الأسئلة، خصوصاً مع اتهام إيران بدعم المتمردين الشيعة في اليمن، ودخول السعودية على خط المواجهة المسلحة معهم. كما أن الطموحات النووية الإيرانية قد أثارت حالة من الرعب في أوساط دول الخليج، وليس أدل على ذلك من إنفاق أموال النفط الخليجي على شراء الأسلحة وتكديسها لتكون فريسة للصدأ في المستودعات. أما تركيا فليست غريبة على المنطقة، وتاريخها المشترك مع العرب يعود إلى قرون عدة. فالدولة العثمانية حكمت الوطن العربي لفترة طويلة. وعلى الرغم من الأخطاء التي ارتكبها العثمانيون في حكم العرب إلا أنهم أحاطوا العالم العربي بالحماية والأمان، وحرسوه من القوى المتربصة به كبريطانيا وفرنسا، ولم يسمحوا لأحد بالاعتداء عليه، بل إنهم خاضوا حروباً دفاعاً عنه، ودفعوا من دماء الجنود الأتراك ثمناً لحراسة الدم العربي. والمضحك المبكي أن تآمر بعض العرب مع الإنكليز ضد الدولة العثمانية إنما جاء لكي يحقق العرب استقلالهم وإقامة دولتهم المنشودة. لكن هذا لم يحدث، فذهبت الدولة العثمانية وجاء الإنكليز الذين ضحكوا على العرب، وسرقوا ثرواتهم، ومزَّقوا البلاد والعباد، وزرعوا الكيان الصهيوني في قلب هذه الأمة. وهذا يعود إلى غياب بعد النظر في المنظومة العربية، وعدم قراءة التاريخ السياسي للعالم، وحسن الظن بالإنكليز الذين لم يخدموا إلا أنفسهم. والحقيقة المرعبة في هذا السياق هي أن الأمة العربية لم تنجح في إقامة دولة منذ سقوط الخلافة العثمانية. وهي تعيش حالة يُتم مستمرة منذ وفاة الأم (الدولة العثمانية). لذلك فالطريق تبدو مفتوحة بكل سلاسة أمام عودة الدولة العثمانية المعاصرة، لأن العرب غرقى وبحاجة إلى طوق النجاة. ومن غير المنطقي التعويل على عبقرية الحاكم العربي الصوري الذي وجوده لعنة على البلاد والعباد. فالوطن العربي هو محميات أمريكية، والذي يحكم من الخليج إلى المحيط هو السفير الأمريكي، ولا يقدر الحاكم العربي أن يختار لون ربطة عنقه إلا بإذن مسبق من السفير الأمريكي. وتركيا دولة متماسكة ذات سيادة بعكس الدول العربية. كما أنها قوة اقتصادية عالمية ضمن قائمة العشرين، وهي قوة عسكرية ضاربة تأتي في المرتبة الثانية بعد أمريكا في قوات حلف الناتو. وهي كذلك قادرة أن تقول : ((لا)) في وجه الدول العظمى. فقد رفضت السماح لأمريكا باستخدام قواعدها الجوية لضرب العراق في حرب 2003م. وهذا يعيدنا إلى تاريخ الإنزال العسكري التركي في قبرص، حيث أدى إلى تقسيم الجزيرة رغم أنف الغرب كاملاً، لدرجة أن الكونغرس الأمريكي فرض حظر الأسلحة لتركيا منذ شباط (فبراير)1975م لإرغامها على الانسحاب، لكنها لم تنسحب، وبدأت بالاعتماد على قواها الذاتية في صناعة الأسلحة بمساعدة دول أخرى عن طريق إدخال الوسائل التكنولوجية المتقدمة إلى صناعاتها. ومنذ فترة قصيرة أجبرت تركيا الكيانَ الصهيوني على تقديم اعتذار خطي بسبب إهانة السفير التركي. وقد تم تقديمه بكل خزي صبغ صورة 'إسرائيل'. في حين أن وزير خارجية الكيان الصهيوني المتطرف ليبرمان قد شتم الرئيس المصري، وهدد بضرب السد العالي، أمام وسائل الإعلام. ومع هذا لم تطلب مصر اعتذاراً، ولم تقدم 'إسرائيل' أي اعتذار، وذلك لأن مصر هي محمية أمريكية يحكمها السفير الأمريكي، وفاقدة تماماً لأي معنى للسيادة. وما دبلوماسية الإهانة التي اعتمدتها 'إسرائيل ' إلا دليل واضح على ضعفها، واحتراقها الداخلي، وغيظها المكبوت، وأنها قاعدة عسكرية متقدمة للغرب، وليست دولة ذات حضارة أو تاريخ، ملتزمة بالأعراف الدبلوماسية. ومن نقاط قوة تركيا أن أوروبا رافضة لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي لأنه نادي المسيحيين، ودخول دولة مسلمة بحجم تركيا ذات العدد السكاني الهائل سوف يجعل للمسلمين موطئ قدم راسخاً في أوروبا، وهذا يرفضه الاتحاد الأوروبي جملةً وتفصيلاً، خصوصاً أن الدولة العثمانية وصلت في يوم من الأيام إلى بوابات فيينا، وقامت بتثبيت الإسلام في قلب أوروبا (ألبانيا، البوسنة والهرسك،...). فلا يريد الغــــرب أن يرفرف الهلال في علم تركيا في قلب أعلام أوروبا الحاملة للصلبان. فهـــم يريدون فقط استثمار مخالب تركيا العسكرية في حلف الناتو، لا أن تدخل الثقافة الإسلامية في مؤسسات الاتحاد الأوروبي وشعوبه، فهم لا يريدون استعادة كابوس محمد الفاتح - بالنسبة لهم - والذي يطاردهم في اليقظة والمنام. لذلك جاء الانفتاح التركي على الجنوب (سورية، إيران) من أجل نقل التأثير التركي إلى خارج حدودها، ولعب دور حيوي إقليمياً ودولياً يتناسب مع حجمها، وهذا كله يعطي إشارات واضحة على عودة الدولة العثمانية بشكل معاصر للدفاع عن قضايا المنطقة، وقيادة الأمة العربية العاجزة عن قيادة نفسها. وهنا يبرز معنى وجود شخص تركي على رأس منظمة المؤتمر الإسلامي، وفي هذا إشارة إلى قبول شعبي ورسمي بأن تكون الدولة العثمانية الجديدة هي قائدة الأمة، والراعية لمصالحهم.