إشارات أخرى موجَّهة ضد معاوية
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
[1] عن ابن عباس_رضي الله عنهما_أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (( اذهب وادع لي معاوية ))، قال : فجئتُ فقلتُ: هو يأكل، قال : قال لي : (( اذهب فادع لي معاوية ))، قال : فجئتُ فقلتُ : هو يأكل ، فقال : (( لا أشبع الله بطنه )) [رواه مسلم ( 4/ 2010) برقم ( 2604 ) ] .
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 152 ) : (( وفي حديث معاوية : لا أشبع الله بطنه ، ونحو ذلك ، لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء )) اهـ .
قلتُ : هذا الكلام فيه نظر، فالإمام النووي يحاول الدفاع عن معاوية بلا وجه حق ، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قاصداً الدعاء على معاوية ، بدليل أن دعاءه صلى الله عليه وسلم تمت استجابته . فقد قال ابن كثير في البداية والنهاية ( 6/ 169 ) عن معاوية : (( لا يشبع بعدها، ووافقته هذه الدعوة في أيام إمارته ، فيقال إنه كان يأكل في اليوم سبع مرات طعاماً بلحم ، وكان يقول : والله لا أشبع وإنما أعيى )) اهـ .
وعن مغيرة عن الشعبي قال : أول من خطب جالساً معاوية حين كبر ، وكثر شحمه ، وعظم بطنه[رواه ابن أبي شيبة ( 7/ 247 ) برقم ( 35735 ) ، والشيباني في الآحاد والمثاني من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق ( 1/ 380 ) برقم ( 521 ) . قال الحافظ في الفتح ( 2/ 401) : (( وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس قال : أول من خطب قاعداً معاوية حين كثر شحم بطنه ، وهذا مرسل يعضده ما روى سعيد بن منصور عن الحسن قال :... وأول من خطب جالساً معاوية )) اهـ. وقال القرطبي في تفسيره ( 18/ 114) : (( ويُروى أن أول من خطب قاعداً معاوية )) اهـ . قلتُ : وقد رُوِيَ من ثلاث طرق تشد بعضها بعضاً وتقوِّيه : أ) مغيرة عن الشعبي ، ب) إسرائيل عن أبي إسحاق ، ج) سعيد بن منصور عن الحسن . ] .
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 3/ 123) : [ فسره بعض المحبين قال: لا أشبع الله بطنه، حتى لا يكون ممن يجوع يوم القيامة لأن الخبر عنه أنه قال : (( أطول الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة )) _{ رواه الحاكم في المستدرك وصحَّحه ( 3/ 699) برقم ( 6545 ) . وابن ماجة ( 2/ 1112) برقم ( 3351) ، والطبراني في الكبير ( 6/ 236 ) برقم ( 6087 ) . قال المنذري في الترغيب والترهيب ( 3/ 99 ) : (( رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد . قال الحافظ : بل واهٍ جداً فيه فهد ابن عوف وعمر بن موسى ، لكن رواه البزار بإسنادين رواة أحدهما ثقات ، ورواه ابن أبي الدنيا والطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي )) اهـ . قلتُ : (( رواه الحاكم وصحَّحه ( 3/699) بسند ليس فيه فهد بن عوف ولا عمر بن موسى ، ويبدو أن الحافظ لم يطلع على هذا السند ، لأنه يتحدث عن سند آخر للحديث في المستدرك ( 4/ 346) صحَّحه الحاكم )) اهـ . وقال الهيثمي في المجمع ( 5/ 31) : (( رواه الطبراني في الأوسط والكبير بأسانيد ، وفي أحد أسانيد الكبير محمد بن خالد الكوفي ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات )) اهـ . }_ ] اهـ.
قلتُ : وهذا التأويل الذي أورده الذهبي على لسان بعض المحبين بعيدٌ جداً ، ومحاولة واضحة لتحميل النَّص ما لا يحتمل ، فعبارة " لا أشبع الله بطنه " دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم على معاوية ، وتمت استجابته كما وضَّحنا ، ومن الثابت أن معاوية كان معدوداً في الأكلة ، وهذا يدل على أن الدعاء عليه قد اسْتُجِيب .
[2] قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس عندما استشارته في الزواج من معاوية: (( وأما معاوية فصعلوك لا مال له )) [رواه مسلم ( 2/ 1114 ) برقم ( 1480 )].
وقد حاول البعض جعل الأحاديث السابقة منقبةً لمعاوية عن طريق لوي أعناق النصوص ، وإحالتها إلى معانٍ أخرى غير مقصودة، ظناً منهم أنهم بذلك يدافعون عن معاوية . فأوردوا الحديث الصحيح : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه_ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( اللهم إني أتخذ عندك عهداً لن تخلفنيه فإنما أنا بشر ، فأي المؤمنين آذيتُه شتمتُه لعنتُه جلدتُه ، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة )) [رواه مسلم ( 4/ 2008) برقم ( 2601)] .
ينبغي أن نفهم هذا الحديث الشريف في سياقه الحقيقي ، فالنبي صلى الله عليه وسلم كل أخلاقه حميدة ونقية وطاهرة، لا ينطق إلا بحق، فلسانه طاهرٌ نظيف، فليس فاحشاً ولا وقحاً ولا بذيئاً ، وكذلك كل الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام_ . وهذا الحديث الشريف يبيِّن شفقةَ النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين ، ورعايته لمصالحهم وشؤونهم في الدارين .
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 151و152) : { إنما يكون دعاؤه عليه رحمة وكفارة وزكاة ونحو ذلك إذا لم يكن أهلاً للدعاء عليه والسب واللعن ونحوه وكان مسلماً ، وإلا فقد دعا صلى الله عليه وسلم على الكفار والمنافقين ولم يكن ذلك لهم رحمة، فإن قيل كيف يدعو على من ليس هو بأهل للدعاء عليه أو يسبه أو يلعنه ونحو ذلك ؟! ، فالجواب ما أجاب به العلماء ومختصره وجهان : أحدهما أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله تعالى ، وفي باطن الأمر ، ولكنه في الظاهر مستوجب له، فيظهر له صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بأمارة شرعية ويكون في باطن الأمر ليس أهلاً لذلك ، وهو صلى الله عليه وسلم مأمور بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. والثاني: أن ما وقع من سبه ودعائه ونحوه ليس بقصود، بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية كقوله : (( تربت يمينك )) _ [متفق عليه. البخاري ( 4/ 1801 ) برقم ( 4518)،ومسلم ( 2/ 1070 )برقم ( 1445). وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 3/ 221) : (( والأصح الأقوى الذي عليه المحققون في معناه أنها كلمة أصلها افتقرت ، ولكن العرب اعتادت _ غير_ قاصدة حقيقة معناها الأصلي ، فيذكرون تربت يداك ، وقاتله الله ما أشجعه ، ولا أم له ، ولا أب لك ، وثكلته أمه ، وويل أمه ، وما أشبه هذا من ألفاظهم ، يقولونها عند إنكار الشيء ، أو الزجر عنه ، أو الذم عليه ، أو استعظامه ، أو الحث عليه ، أو الإعجاب به ، والله أعلم )) اهـ ] _ ، و(( عقرى حلقي )) _ [متفق عليه. البخاري ( 5/ 2280 ) برقم ( 5805) ، ومسلم ( 2/ 877) برقم ( 1211). قلتُ : ومعنى هذه الكلمة في هذا الحديث" إنك لحابستنا " والخطاب مُوَجَّه للسيدة صفية أم المؤمنين ] _ ...ونحو ذلك. لا يقصدون بشئ من ذلك حقيقة الدعاء فخاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيء من ذلك إجابة فسأل ربه _سبحانه وتعالى_ ورغب إليه في أن يجعل ذلك رحمة وكفارة وقربة وطهوراً وأجراً ، وإنما كان يقع هذا منه في النادر والشاذ من الأزمان، ولم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ولا لعاناً ولا منتقماً لنفسه، وقد سبق في هذا الحديث أنهم قالوا: ادع على دوس ، فقال : (( اللهم اهد دَوْسَاً )) _ [ متفق عليه. البخاري ( 3/ 1073) برقم ( 2779)، ومسلم ( 4/ 1957) برقم ( 2524)] _ ، وقال : (( اللهم اغفر لقومي )) _ [رواه البخاري ( 3/ 1282) برقم ( 3290 ) ، ومسلم ( 3/ 1417 ) برقم ( 1792) ] _ } اهـ .
وقال الحافظ في الفتح ( 11/ 172) نقلاً عن القاضي عياض : [ كان لا يقول ولا يفعل صلى الله عليه وسلم في حال غضبه إلا الحق، لكن غضبه لله قد يحمله على تعجيل معاقبة مخالفة، وترك الإغضاء والصفح ويؤيده حديث عائشة : (( ما انتقم لنفسه قط إلا أن تُنتهَك حرمات الله )) { رواه البخاري ( 6/ 2491) برقم ( 6404 ) }] اهـ .
قلتُ : وهذه الأحاديث الشريفة لا يمكن حملها على جعل الدعاء على معاوية من قبل النبي صلى الله عليه وسلم منقبةً له ، لأن معاوية أهلٌ أن يُدعَى عليه وفق الأدلة التي قدَّمناها وسنقدمها بإذن الله ، وخاصةً أن الدعاء عليه " لا أشبع الله بطنه " قد تمت استجابته ، وهذا دليلٌ ساطع على النبي صلى الله عليه وسلم كان قاصداً ما يقول حرفياً ، وليس وفق ما تعارف عليه من لغة العرب بأن يقولوا كلاماً ظاهره الدعاء على الشخص ، وباطنه غير ذلك .
وروى أحمد في مسنده ( 5/ 347 ) برقم ( 22991) بسند صحيح عن عبد الله بن بريدة قال : (( دخلتُ أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفرش ، ثم أتينا بالطعام فأكلنا ثم أتينا بالشراب فشرب معاوية ، ثم ناول أبي ثم قال : ما شربتُه منذ حرَّمه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ...)) اهـ . وقال الهيثمي في المجمع ( 5/ 42) : (( رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح )) اهـ .
كما أن معاوية قتل عدداً كبيراً من الصالحين من أجل شهوة الْمُلْك والاستبداد بالسُّلطة، منهم الصحابي الجليل حُجْر بن عدي _ رضي الله عنه_ لما أنكر على ولاة معاوية سبَّ سيدنا علي _ رضي الله عنه_ . قال ابن حجر في الإصابة ( 2/ 37) : (( وقُتِلَ بمرج عذراء بأمر معاوية )) .
وقال الذهبي في دول الإسلام ( 1/ 38) في أحداث سنة 51 هـ : (( أمر معاوية بقتل حُجْر بن عَدِي الكِنْدي وأصحابه ، فقُتِلوا بمرج عذراء _ رضي الله عنهم _، خاف معاوية من خروجهم عليه )) اهـ .
فعن أبي إسحاق قال : رأيتُ حُجْرَ بن عَدِي حين أخذه معاوية ، وهو يقول : هذه بيعتي ولا أستقيلها ، سماع الله والناس . [رواه الطبراني في الكبير ( 4/ 34) برقم ( 3569 ) ، والحاكم في المستدرك ( 3/ 532) برقم ( 5976) ، وسكت عنه الذهبي . اهـ . وقال الهيثمي في المجمع ( 5/ 218) : (( رواه الطبراني ، ورجاله ثقات )) اهـ . ] .
وقد عَنْوَنَ خليفة بن خياط في تاريخه ( 1/ 213) : (( سنة إحدى وخمسين ، مقتل حُجْر بن عَدِي ، فيها قتل معاوية بن أبي سفيان حُجْرَ بن عدي بن الأدبر ، ومعه محرز بن شهاب ، وقبيصة ابن ضبيعة بن حرملة القيسي ، وصيفي بن فسيل من ربيعة )) اهـ .
قال ابن كثير في البداية والنهاية ( 8/ 50) عن حُجْر بن عدي: (( شهد القادسية وافتتح برج عذراء ، وشهد الجمل وصفين ، وكان مع علي حُجْر الخير )) اهـ .
وذكر الحلبي في سيرته ( 3/ 162) : (( وكان ابن سيرين _ رحمه الله_ إذا سئل عن الركعتين قبل القتل، قال : صلاهما خبيب _رضي الله تعالى عنه_ وحُجْر ، وهما فاضلان . ويعني حُجْر ابن عدي _رضي الله تعالى عنه_ )) اهـ .
وقد عقد الحاكم في مستدركه ( 3/ 531) باباً أسماه" ذكر مناقب حجر بن عدي_ رضي الله عنه _ وهو راهب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وذكر مقتله " .
ومن الصفات الذميمة عند معاوية : أخذ الأمر بالسيف بلا مشورة مع وجود الصحابة ، وجعل الخلافة وراثية استبدادية بعد أن نقل الحكم إلى ابنه يزيد ذي السيرة السيئة، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الولد للفراش وللعاهر الحجر ))[ متفق عليه. البخاري ( 2/ 724) برقم ( 1948) ، ومسلم ( 2/ 1080 ) برقم ( 1457) ] وقتله حُجْراً.
قال الحافظ في الفتح ( 12/ 54) عن زياد بن سمية : (( ادعاه معاوية وأمَّره على البصرة ثم على الكوفة وأكرمه وسار زياد سيرته المشهورة وسياسته المذكورة ، فكان كثير من الصحابة والتابعين ينكرون ذلك على معاوية محتجين بحديث الولد للفراش )) اهـ .
وفي الحديث المتفق عليه ، البخاري ( 3/ 1292 ) ومسلم ( 1/ 79 ) : (( ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر )) ، وفي صحيح مسلم ( 2/ 995) برقم ( 1370) : (( ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً )) . ومعاوية ادعى زياداً فهو مشارك في هذا الإثم ، وداخلٌ في الوعيد ضمن هذا الحديث الشريف ، لأن من أعان على الجريمة فهو شريكٌ فيها .
قال ابن كثير في البداية والنهاية ( 8/ 54) : (( وقد ذكر ابن جرير وغيره عن حُجْر بن عدي وأصحابه أنهم كانوا ينالون من عثمان ، ويطلقون فيه مقالة الجور )) اهـ .
ولنحاول مناقشة هذه التهمة وفق التأصيل الشرعي الدقيق بعيداً عن التهم المفتقدة إلى أدلة مُعتبَرة . بدايةً إن سيدنا علياً _ رضي الله عنه_ قد وضع حُجْر ابن عدي _ رضي الله عنه_ على الميمنة في حربه ضد الخوارج [انظر تاريخ الطبري ( 3/ 121)، والبداية والنهاية ( 7/ 289 )] ، وكما هو معلومٌ فإن القادة الكبار الذين كانوا حول سيدنا علي _ رضي الله عنه_ هم باختياره وتحت إشرافه . ولو قلنا إن علياً يُوَلِّي المناصبَ الحساسة للذين يشتمون عثمان ، ويتطاولون عليه راضياً بأفعالهم الآثمة ، لكان هذا منقصةً كبيرة في حق علي _ وحاشاه _ . وما اعتماد علي بن أبي طالب على الأشتر النخعي ومحمد بن أبي بكر الصديق رغم دورهما الكارثي في قتل سيدنا عثمان _رضي الله عنه_ إلا أداء خاص في ظروف الفتن وتفرق كلمة المسلمين ووجود خطر حقيقي على الوجود الإسلامي في المنطقة،لا كما يظن البعض أن علياً يقرِّب أعداء عثمان حباً في الآثام التي ارتكبوها ، أو نكاية في عثمان . فسيدنا علي كان واضحاً وحازماً في الاقتصاص من قتلة عثمان الذين هم تحت إمرته بعد أن تهدأ الأمور وتستتب، وبعد أن يحقِّق في طبيعة قتل عثمان ، ومن الذين نفَّذوا القتلَ ، ومن الذين أعانوا على القتل ، ومن الذين أعانوا على الحصار. فلم تكن الأمور بتلك السهولة، لأن حالة قتل سيدنا عثمان معقدة للغاية، لتعدد الأشخاص والجهات والأحداث المحيطة بالموضوع ، وخصوصاً أسماء أعيان القتلة. ولم يرد أن يفتح جبهاتٍ عديدة ، ثم يختلط الحابل بالنابل ، وتنهار دولة المسلمين. فمعاوية يتربص بالخلافة لينقض عليها متاجراً بدم عثمان ، والخوارج دخلوا في شذوذهم العَقَدي وخطيئة التكفير حاملين السلاح في وجه علي بن أبي طالب الخليفة الشرعي. لكن الأمور لم تجر كما يريد علي ، وهذا ما جعله يعتمد على بعض أعداء عثمان في الحروب التي خاضها ، لأن الأمر كان أكبر من عثمان وأكبر من علي ، إذ إنه يتعلق بالإسلام كدين والوجود الإسلامي في هذه البقاع . فمثلاً يزيد بن معاوية قاتل الحسين كانت سيرته في الحضيض ، ومع هذا انضم تحت لوائه المسلمون حينما غزا القسطنطينية قائداً للمسلمين ، لأن مسألة بهذا الحجم أكبر من الحسين وأكبر من يزيد ، وليس لأن يزيد هو الإمام العادل . قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 4/ 36) عن يزيد بن معاوية : (( له على هناته حسنة ، وهي غزو القسطنطينية وكان أميرَ ذلك الجيش ، وفيهم مثل أبي أيوب الأنصاري )) اهـ. فانظر إلى الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري _ رضي الله عنه_ كيف انخرط تحت قيادة يزيد سيء السمعة من أجل نصر الإسلام ، فلا بد للناس من إمام بَر أو فاجر . وذكر الحافظ الذهبي بإسناده في سير أعلام النبلاء ( 2/ 404) عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: (( ما عليَّ من اسْتُعْمِلَ عليَّ )) اهـ . والأمر متعلق بغزو القسطنطينية ، وهو يقصد يزيد بن معاوية .
ولو ثبت على أحد أتباع علي أنه ينال من عثمان لقام علي فوراً بتصويب الوضع ، وطالما صحَّح مفاهيمَ الناس المغلوطة ، وهذا غير مستغرب عليه وهو أفصح العرب على الإطلاق بعد النبي صلى الله عليه وسلم . فمحالٌ أن يسمح علي بالتطاول على عثمان، وهذا ما تؤيده كل الروايات التاريخية على الإطلاق. وصحابي جليل مثل حُجْر ابن عَدِي لم أر في كلام الذين ذكروه ما يفيد أنه ينال من سيدنا عثمان سوى الكلام الذي تفرَّد به ابن جرير، بل إنهم ذكروا فضائله وتقواه وعبادته ، ولو أنه ينال من سيدنا عثمان _ رضي الله عنه_ لانتشر هذا الأمر في الكتب وأقوال العلماء ، وهذا غير موجود . كما أن حُجْراً لم يُعن على قتل عثمان، ولم يسعَ مع الرعاع من أجل النيل منه، مع أن الأمر كان في متناول اليد . ولم يثبت أن صحابياً تورَّط في دم عثمان ، وهذا ثابتٌ في كل الروايات التاريخية . فالله تعالى طهَّر أيدي الصحابة _ رضي الله عنهم_ من دم عثمان . ولو سلَّمْنا جدلاً بأن حُجْراً نال من عثمان ، فهذا سيكون في موضع معيَّن ، وليس وفق منهجية شتم مستمرة كما فعل معاوية وشيعته تجاه علي . ونحن هنا لا نستهين بشتم الصحابة _ رضي الله عنهم_، ولكن حصل بين أكابر الصحابة أصحاب الفضائل الثابتة احتكاكات وصلت إلى حد الضرب أو الشتم وغير ذلك ، وهذه كارثة بالطبع ، لكننا ينبغي أن ندرك أن الصحابة مجتمع بشري يصيب ويخطئ لا ملائكي معصوم ، لكن الصحابة المستقيمين يرجعون إلى الحق فوراً ، ويتوبون ، ويستغفرون اللهَ تعالى ، ولا يجعلون من الكبائر منهجيةَ حياةٍ . فالمشكلة هي استمراء الإثم وعدم التوبة . كما أن الملابسات المحيطة بقتل سيدنا حُجْر بن عَدِي منسوجة مسبقاً بإحكام بين معاوية وزياد بن سمية، وهذان من ألد أعداء سيدنا علي_ رضي الله عنه _، فكيف يمكن لهما أن يكونا قاضيَيْن مستقيمَيْن تجاه شيعة علي ، وهم يحملون عليهم كل ضغينة وحقد وكراهية ، فمن غير المعقول أن يكون الخصم هو القاضي. لذلك كان من الطبيعي أن يأخذا الناسَ بأدنى شبهة ، فحب علي بن أبي طالب بحد ذاته تهمة تستوجب العقاب في شريعة معاوية وزمرته، وليس غريباً أن يُتهم حُجْر بن عدي بالنيل من عثمان، إذ إن علياً متهم بالنيل من عثمان عن طريق التستر على قتلته ومنحهم الأمان تحت جناحه، ومتهم كذلك بأن له دوراً في قتل عثمان. وهذه القناعة الزائفة هي التي قادت رؤوسَ الفتنة معاوية وعمرو بن العاص وفئتهم الباغية مع حجم هائل من المصالح الشخصية التي ارتدت غطاءً دينياً . كما أنه يجب تدقيق ظروف الشهود وخلفياتهم في الشهادة على حُجْر ، فمثلاً الهيثم بن الأسود الذي كان من الشهود ، قال عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب( 11/ 79 ) : (( وكان عثمانياً منحرفاً، وهو أحد من شهد على حُجْر بن عَدِي )) اهـ . وقال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب ( 1/ 577) : (( رُمِيَ بالنَّصب )) اهـ .
فكيف تُقبَل شهادة هذا الشخص النابعة من التعصب والهوى ؟. وإن كثيراً من النواصب اتخذوا مواقف مسبقة من علي ، زاعمين أنهم سائرون على نهج عثمان ، وأنهم يطالبون بدمه ، والاقتصاص من قتلته . فصارت الثنائية ( عثمان _ علي ) إشكاليةً حقيقية في أذهان الكثيرين ، وظن البعض أنه لا يمكن الجمع بينهما باعتبارهما خصمين ، فإن كنتَ مع الأول فأنتَ ضد الثاني، وأن كنتَ مع الثاني فأنتَ ضد الأول. وهذه النظرة سيطرت على العقول في ظروف شديدة التعقيد شقَّت وحدةَ الصف الإسلامي. فشبَّ أهل العراق على التشيع لعلي، ومن ثم المغالاة في تقديس علي، ورفض الصحابة. ونشأ أهل الشام على النَّصب ومعاداة علي ، والالتفاف حول معاوية . وهذه كله مبعثه الجهل والهوى والتعصب دون وجه حق، وكما قيل : هلك فِيَّ رجلان محب مغالٍ ، ومبغض قالٍ .
وكذلك فإن الاتهامات متضافرة حول قيام معاوية بقتل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فذكر ابن الأثير في الكامل ( 3/ 453) ، والطبري بإسناده في تاريخه ( 3/ 202) واللفظ له : (( أن عبدالرحمن بن خالد بن الوليد كان قد عظم شأنه بالشام ، ومال إليه أهلها لما كان عندهم من آثار أبيه خالد بن الوليد عن المسلمين في أرض الروم وبأسه ، حتى خافه معاوية وخشي على نفسه منه لميل الناس إليه ، فأمر ابن أثال أن يحتال في قتله وضمن له إن هو فعل ذلك أن يضع عنه خراجه ما عاش، وأن يوليه جباية خراج حِمْص، فلما قدم عبدالرحمن بن خالد حمص منصرفاً من بلاد الروم دسَّ إليه ابنُ أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه فشربها فمات بحمص،فوفى له معاوية بما ضمن له، وولاه خراج حمص ووضع عنه خراجه )) اهـ .
وقال المزي في تهذيب الكمال ( 8/ 175): (( وكان اتهم معاوية بن أبي سفيان أن يكون دس إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد متطبباً يقال له ابن أثال،فسقاه في دواء شربة فمات فيها)) اهـ.
وقال ابن عبد البَر في الاستيعاب ( 2/ 829و830) : (( لما أراد معاوية البيعة ليزيد ، خطب أهل الشام ، وقال لهم : يا أهل الشام ، إنه قد كبرت سني وقرب أجلي ، وقد أردتُ أن أعقد لرجل يكون نظاماً لكم ، وإنما أنا رجل منكم فأروا رأيكم ، فأصفقوا واجتمعوا ، وقالوا : رضينا عبد الرحمن بن خالد ، فشق ذلك على معاوية ، وأسرها في نفسه ، ثم إن عبد الرحمن مرض ، فأمر معاوية طبيباً عنده يهودياً ، وكان عنده مكيناً ، أن يأتيَه فيسقيَه سقية يقتله بها ، فأتاه فسقاه فانحرق بطنه ، فمات ... وقصته مشهورة عند أهل السير والعلم بالآثار والأخبار )) اهـ .
لكن ابن كثير يقول في البداية والنهاية ( 8/ 31 ) : (( وزعم بعضهم أن ذلك عن أمر معاوية له في ذلك ولا يصح )) اهـ .
وأيضاً هناك شبهات تدور حول ملابسات قتل الحسن بن علي _ رضي الله عنهما_ . فقد قال ابن عبد البَر في الاستيعاب( 1/ 389): (( وقال قتادة وأبو بكر بن حفص : سُمَّ الحسن بن علي، سمته امرأته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي، وقالت طائفة: كان ذلك بتدسيس معاوية إليها ، وما بذل لها من ذلك ، وكان لها ضرائر ، والله أعلم )) اهـ .
وقال ابن كثير في البداية والنهاية ( 8/ 43) : (( وعندي أن هذا ليس بصحيح )) اهـ .
قلتُ : وهذه الروايات التاريخية ينبغي تدقيقها من كافة النواحي، وعلى أية حال فإن الاتهامات والشبهات تدور حول معاوية والموالين له ، فعشق معاوية للسُّلطة والحكم جنوني إلى أبعد حد ، وقد يرتكب أية كبيرة أو صغيرة من أجل شهوة الْمُلْك، وهذا من رواسب عقلية الكبرياء والظلم والجبروت عند بني أمية في الجاهلية .