سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

10‏/04‏/2012

نقض ما يسمى بفضائل عمرو بن العاص

نقض ما يسمى بفضائل عمرو بن العاص

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أسلم الناسُ وآمن عمرو بن العاص )) [رواه الترمذي ( 5/ 687 ) برقم ( 3844 ) ، وقال: (( هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن مشرح بن هاعان وليس إسناده بالقوي )) اهـ، وأحمد ( 4/ 155) ، والطبراني في الكبير ( 17/ 306 ) برقم ( 845) ] .

قلتُ : كل طرق الحديث تدور حول ابن لهيعة . وإليك أقوال العلماء فيه من تهذيب التهذيب ( 5/ 331) :

[قال أحمد بن صالح : (( كان ابن لهيعة من الثقات إلا أنه إذا لقن شيئاً حدَّث به )) .

وقال النسائي عن أبيه : (( ليس بثقة )) .

وقال ابن معين : (( كان ضعيفاً لا يحتج بحديثه )) .

وقال مسعود عن الحاكم:((لم يقصد الكذب وإنما حدَّث من حفظه بعد احتراق كتبه فأخطأ)).

وقال الجوزجاني : (( لا يوقف على حديثه ولا ينبغي أن يحتج به ولا يغتر بروايته )) .

وقال ابن أبي حاتم : (( سألتُ أبي وأبا زرعة عن الإفريقي وابن لهيعة أيهما أحب إليك ؟ ، فقال : جميعاً ضعيفان ، وابن لهيعة أمره مضطرب يكتب حديثه على الاعتبار )) .

وقال أبو زرعة : (( كان لا يضبط )) .

وقال ابن عدي : (( حديثه كأنه نسيان وهو من يكتب حديثه )) .

وقال محمد بن سعد : (( كان ضعيفاً ومن سمع منه في أول أمره أحسن حالاً في روايته ممن سمع

منه بآخره )) .

وقال مسلم في الكنى : (( تركه ابن مهدي ويحيى بن سعيد ووكيع )) .

وقال الحاكم أبو أحمد : (( ذاهب الحديث )) .

وقال ابن حبان:(( سبرتُ أخباره فرأيته يدلِّس عن أقوام ضعفاء على أقوام ثقات قد رآهم )).

وقال أبو جعفر الطبري في تهذيب الآثار : (( اختلط عقله في آخر عمره )) ] اهـ .

قلتُ : وفي سنده كذلك مشرح بن هاعان. وخلاصة الكلام فيه ما قاله أبو حاتم في المجروحين ( 3/ 28) : (( روى عن عقبة بن عامر أحاديث مناكير لا يتابع عليها، روى عنه ابن لهيعة والليث وأهل مصر، والصواب في أمره ترك ما انفرد من الروايات والاعتبار بما وافق الثقات )) اهـ .

قلتُ : وحديث " أسلم الناسُ وآمن عمرو بن العاص" يرويه عن عقبة بن عامر .

وعن ابن أبي مليكة قال : قال طلحة بن عبيد الله : سمعتُ رسول الله: (( إن عمرو بن العاص من صالحي قريش )) [رواه الترمذي ( 5/ 688) برقم ( 3845) وقال : (( هذا حديث إنما نعرفه من حديث نافع ابن عمر ونافع ثقة ، وليس إسناده بمتصل ، وابن أبي مليكة لم يدرك طلحة )) ، والطبراني في الكبير ( 1/ 115) برقم ( 208 ) . وعند أبي يعلى ( 2/ 18) برقم ( 645) : (( عمرو بن العاص من صالحي قريش ، ونعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله )) ، وقال الهيثمي في المجمع ( 9/ 354) : (( رواه الترمذي باختصار ، رواه أبو يعلى وأحمد بنحوه ، ورجاله ثقات )) اهـ ] .

قلتُ : طرق الحديث عند الترمذي وأبي يعلى تدور حول ابن أبي مليكة عن طلحة بن عبيد الله _ رضي الله عنه _ ، وهنا انقطاعٌ في السند ، فالترمذي قال إن ابن أبي مليكة لم يدرك طلحة .

وبقي أن نبحث رجال الطبراني . ففي سنده يحيى بن عثمان بن صالح . وفي تهذيب التهذيب ( 11/ 225) : قال ابن أبي حاتم : وتكلموا فيه . وقال ابن يونس : وحدَّث بما لم يكن يوجد عند غيره . وقال مسلمة بن قاسم : يتشيع ، وكان صاحب وراقة يحدث كتبه فَطُعِنَ فيه لأجل ذلك .

وقال ابن حجر في تقريب التهذيب ( 1/ 594) : (( صدوق رُمِيَ بالتشيع ، ولينه بعضهم لكونه حدث أصله )) اهـ .

وقال الذهبي في الكاشف ( 2/ 371) : (( حافظ أخباري له ما يُنكَر )) اهـ .

وفي سنده كذلك سليمان بن أيوب . وفي تهذيب التهذيب ( 4/ 152): (( أورد له ابن عدي أحاديث مناكير ، وقال عامة أحاديث لا يتابع عليها ، ووثقه يعقوب بن شيبة، وذكره بن حبان في الثقات )) .

وقال ابن حجر في تقريب التهذيب ( 1/ 250) : (( صدوق يخطئ )) اهـ .

وعن أبي هريرة _ رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ابنا العاص مؤمنان هشام وعمرو )) [رواه الحاكم في المستدرك ( 3/ 268) برقم ( 5053) وصحَّحه ، وسكت عنه الذهبي . وأحمد ( 2/ 304) برقم ( 8029) ، والطبراني في الكبير ( 22/ 177) برقم ( 461) ] .

في سنده حماد بن سلمة . قال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب ( 1/ 178) : (( ثقة عابد أثبت الناس في ثابت وتغير حفظه بأخره )) اهـ .

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 7/ 452): (( فأما حماد فإنه أحد أئمة المسلمين . قال أحمد بن حنبل : إذا رأيتَ من يغمزه فاتهمه ، فإنه كان شديداً على أهل البدع ، إلا أنه لما طعن في السن ساء حفظه ، فلذلك لم يحتج به البخاري ، وأما مسلم فاجتهد فيه وأخرج من حديثه عن ثابت مما سمع منه قبل تغيره ... فأخرج نحو اثني عشر حديثاً في الشواهد دون الاحتجاج ، فالاحتياط أن لا يحتج به فيما يخالف الثقات )) اهـ .

وفي سنده كذلك محمد بن عمرو بن علقمة . ومع أنه ثقة عند كثير من الأئمة إلا أننا نورد بعضاً مما في تهذيب التهذيب ( 9/ 333) :

[قال يحيى : (( ليس هو ممن تريد _ بالنسبة لمن أراد التشديد_ )) ، وقال مالك نحو ذلك .

سئل ابن معين عن محمد بن عمرو فقال : (( ما زال الناس يتقون حديثه )) ، قيل له : وما علة ذلك ؟ ، قال : (( كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من روايته ، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة )) .

قلتُ : وحديث " ابنا العاص مؤمنان هشام وعمرو" يحدِّث به عن أبي سلمة عن أبي هريرة .

وقال الجوزجاني : (( ليس بقوي الحديث )) .

وقال يعقوب بن شيبة : (( هو وسط وإلى الضعف )) .

وقال ابن سعد : (( كان كثير يستضعف ))] اهـ .

وعن علقمة بن رمثة البلوي قال : بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى البحرين ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وخرجنا معه، فنعس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ، فقال : (( رحم الله عَمْراًً ))، فتذاكرنا من اسمه عمرو ، ثم نعس ثانية فاستيقظ ، فقال : (( يرحم الله عَمْراً )) ، ثم نعس ثالثة فاستيقظ فقال: (( يرحم الله عَمْراً ))، قلنا: من عمرو يا رسول الله ؟، قال : (( عمرو بن العاص )) ، قالوا : وما باله ؟ ، قال : (( ذكرته إني كنتُ إذا ندبت الناس الصدقة جاء من الصدقة فأجزل فأقول : من أين لك هذا يا عمرو ؟، فيقول: من عند الله ، وصدق عمرو ، إن لعمرو عند الله خيراً كثيراً )) ، قال زهير : فلما كانت الفتنة قلت : أتبع هذا قال فيه رسول الله ما قال ، فلم أفارقه [رواه الطبراني في الكبير ( 18/ 5) ، وقال الهيثمي في المجمع ( 9/ 352 ) : (( رواه أحمد والطبراني ، ورجال أحمد وأحد إسنادي الطبراني ثقات )) اهـ . ] .

قلتُ : في السند مطلب بن شعيب وعبد الله بن صالح ( كاتب الليث ) . قال الهيثمي في المجمع ( 10/ 371): (( مطلب بن شعيب عن عبد الله بن صالح ، وكلاهما قد وُثِّق على ضعف فيه )) . وفي المجمع ( 2/ 13) : (( عبد الله بن صالح كاتب الليث ، ضعَّفه الجمهور )) اهـ .

وإليك أقوال بعض الأئمة في عبد الله بن صالح مع أن بعض الأئمة وثَّقوه . قال ابن حجر في تقريب التهذيب ( 1/ 308): (( صدوق كثير الغلط ، ثبت في كتابه ، وكانت فيه غفلة )) اهـ.

وقال الذهبي في الكاشف ( 1/ 562): (( وكان صاحب حديث فيه لين ... وقال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث له أغاليط )) اهـ .

وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ( 5/ 87) : (( قال أحمد بن حنبل : كان أول أمره متماسكاً ثم أفسد بآخرة )) اهـ .

وعن أبي نوفل بن أبي عقرب قال : جزع عمرو بن العاص عند الموت جزعاً شديداً ، فلما رأى ذلك ابنه عبد الله بن عمرو قال : يا أبا عبد الله ، ما هذا الجزع وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيك ويستعملك ؟ ، قال : أي بني ، قد كان ذلك وسأخبرك عن ذلك ، إني والله ما أدري أحباً ذلك كان أم تألفاً [صحيح. رواه أحمد ( 4/ 199)، وقال الهيثمي في المجمع ( 9/ 353) : (( في الصحيح طرفٌ منه ، رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح )) اهـ . ] .

ذكر الإمام الذهبي في دول الإسلام ( 1/ 29) سادات الصحابة الذين تَخَلَّفوا عن صِفِّين منهم : (( سعد بن أبي وقاص الذي افتتح العراق، وسعيد بن زيد ، وأبو اليسر السلمي ، وزيد ابن ثابت، ومحمد بن مسلمة ، وابن عمر ، وأسامة بن زيد ، وصهيب الرومي ، وأبو موسى الأشعري، وجماعة رأوا السلامة في العزلة ، وقالوا : إذا كان غزو الكفار قاتلنا ، فأما قتال الفتنة والبغي فلا نقاتل أهلَ القِبْلة )) اهـ .

وهؤلاء الصحابة _ رضي الله عنهم _ كانوا متأوِّلين اعتماداً على تعلقهم بشبهة ، وهي أنهم لم يريدوا أن يتلطخوا بدماء المسلمين ، ولم يتبيَّنوا الصواب في تلك اللحظة لذلك آثروا العزلة . لكننا نقول إن فعلهم ذلك مخالفٌ لآية قتال الفئة الباغية . وكان يتوجب عليهم وجوباً شرعياً مقاتلة فرقة معاوية وعمرو . فعن حمزة بن عبد الله بن عمر : أقبل إلينا عبد الله بن عمر فقال : ما وجدتُ في نفسي في شيء من أمر هذه الآية _ (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ))[ الحجرات: 9] _ إلا ما وجدت في نفسي أني لم أقاتل هذه الفئةَ الباغية كما أمرني الله تعالى [رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 502) برقم ( 3722) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي ، والبيهقي في سننه الكبرى ( 8/ 172) وصحَّحه كما نقل عنه السيوطي في الدر المنثور ( 7/ 561) ] .

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء( 3/ 59) عن عمرو بن العاص: (( والله يغفر له ويعفو عنه، ولولا حبه للدنيا ودخوله في أمور لصلح للخلافة ، فإن له سابقة ليست لمعاوية ، وقد تأمر على مثل أبي بكر وعمر لبصره بالأمور ودهائه )) اهـ .

عن عمرو بن العاص قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم على جيش فيهم أبو بكر وعمر _ رضي الله عنهما_ {رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 13) برقم ( 6740) ، وسكت عنه الذهبي . والطبراني في الكبير ( 5/ 22) برقم ( 4469) ، وقال الهيثمي في المجمع ( 9/ 352) : (( رواه الطبراني ورجاله ثقات )) اهـ }.

وقال الحافظ في الفتح ( 8/ 75 ) : [ وذكر ابن إسحاق أن أم عمرو بن العاص كانت من بلى ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عَمْراً يستنفر الناس إلى الإسلام ويستألفهم بذلك . وروى إسحاق بن راهويه والحاكم من حديث بريدة أن عمرو بن العاص أمرهم في تلك الغزوة أن لا يوقدوا ناراً فأنكر ذلك عمر ، فقال له أبو بكر : (( دعه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعثه علينا إلا لعلمه بالحرب ، فسكت عنه )) ، فهذا السبب أصح إسناداً من الذي ذكره ابن إسحاق... وفي الحديث جواز تأمير المفضول على الفاضل إذا امتاز المفضول بصفة تتعلق بتلك الولاية ] اهـ.

قلتُ: وهذا الفضل مرتبط بدهائه وعبقريته الحربية وحنكته، وهي بالقطع ليست عاصمةً له ، أو شهادة له بأنه من أهل الجنة. فمثلاً الأدلة الصحيحة على أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان كاتباً للوحي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد عن الإسلام. وكما هو معلومٌ فإن كتاب الوحي واقعون تحت إشراف النبي صلى الله عليه وسلم مباشرةً، وهم من اختياره، ومع هذا ارتد عن الإسلام ، ولم تكن مسألة كتابة الوحي عاصمةً له. فإذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم قائداً للجيش وولاه على كبار الصحابة مثلاً ، فهذه ليست شهادةً بأنه من أهل الجنة ، أو أنه من السابقين الأولين . وإنما هي منقبة شريفة إذا حافظ عليها حتى وفاته ملتزماً بالكتاب والسنة الصحيحة. أما إذا نكص على عقبيه فهو يتحمل المسؤولية ، ولا يُعَدُّ هذا طعناً في اختيارات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس على الناس بمسيطر أو بوكيل ، فهو يحكم بالظاهر إلا إذا أخبره الوحي بحقيقة ما في القلوب .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا عمرو إني أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله ويسلمك ، وأرغب لك رغبة صالحة من المال )) ، قال : فقلتُ يا رسول الله : إني لم أسلم رغبة في المال ، ولكني أسلم رغبة في الإسلام ، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( يا عمرو نعما بالمال الصالح للرجل الصالح )) [رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 3) برقم ( 2130) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي ].

قلتُ : ونحن نعتقد بأن بعض رواة أحاديث "فضائل عمرو " قد تم توثيقهم بقوة من قبل طائفة من العلماء ، رغم وجود فريق آخر يطعنون فيهم ، لكننا نقول إن الراوي إذا اخْتُلِفَ فيه على هذا النحو ، فالصواب في أمره ترك ما انفرد من الروايات والاعتبار بما وافق الثقات . فنحن لا يمكننا أن نلغيَ راوياً قال عنه عدة أئمة " ثقة" ، وكذلك لا يمكننا اعتماد راوٍ اعتماداً كلياً طعن فيه عدة أئمة . وإذا كان سبب الطعن والجرح مُفَسَّراً في الراوي فإن الجرح هو الذي يُعتمَد حتى لو كان غالبية العلماء على تعديله . ولكي نعتمد الراوي مرةً أخرى ينبغي أن نتفادى السببَ الذي طُعِنَ فيه من أجله . وأحاديث " فضائل عمرو بن العاص " على فرض ثبوتها فهي مرجوحة ، ومُعارَضة بما هو أقوى منها . ونحن لم ندحض أحاديث فضائل معاوية وعمرو من باب الهوى والتعصب ، بل اعتماداً على المنهجية المستمدة من الكتاب والسنة الصحيحة . وهناك أدلة كثيرة ذكرناها في هذا المبحث تدعم ما ذهبنا إليه بالتفصيل ضمن المصادر المعتمدة .

ومما لا شك فيه أن الحق كان يدور مع علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ أثناء الفتن التي سل سيفَه فيها لإخمادها . وكان الدور الذي أدَّاه علي بن أبي طالب بالغ الحساسية والخطورة في آن معاً ، فقد كان يقاتل على تأويل القرآن بعد أن وُجِدت فئاتٌ أخطأت طريقها اعتماداً على تأويل مغلوط .

فعن أبي سعيد_ رضي الله عنه_ قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقطعت نعله ، فتخلف علي يخصفها ، فمشى قليلاً ثم قال : (( إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله ))، فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر _ رضي الله عنهما_ . قال أبو بكر : أنا هو ؟ ، قال : (( لا )) ، قال عمر : أنا هو ؟ ، قال : (( لا ، ولكن خاصف النعل )) ، يعني علياً ، فأتيناه فبشرناه ، فلم يرفع به رأسه ، كأنه قد كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم [رواه الحاكم في المستدرك ( 3/ 132) برقم ( 4621) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي ].

وهذا الدور المحوري لا يتعلق بالخوارج فحسب، بل يتعلق أيضاً بالفئة الباغية ( معاوية وعمرو) التي تحايلت على تحديد الفئة الباغية ، وهذا أدَّى إلى تأويل مغلوط لآية قتال الفئة الباغية : (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ))[ الحجرات: 9]. فالذين قاتلوا علياً سواءٌ كانوا من الخوارج أو فرقة معاوية وعمرو اعتمدوا على تأويل مغلوط للقرآن الكريم ، وهذا قاد إلى قتال علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ على أساس ديني بحت مثل الخوارج ، وعلى أساس ديني ظاهري تختفي تحته منافع مادية وشهوة السلطان كما هي الحال عند معاوية وعمرو ( الفئة الباغية ) ، فاختلال معنى الفئة الباغية عند الكثيرين قاد إلى فهم الآية القرآنية بشكل معكوس ، أي وجوب قتال علي بن أبي طالب وفرقته بأمر الله تعالى ، لأنهم الفئة الباغية . وهذا الخطأ الكارثي يحمل في طياته تأويلاً غير منضبط بالكتاب والسنة الصحيحة سواءٌ كان بحسن نية عند طائفة أو بسوء نية مثل التي كانت عند معاوية وعمرو ومن دار في فلكهم .

والكثيرون يعتقدون بوجوب الكف عما حدث بين الصحابة . لكننا نرى وجوب الخوض فيما شجر بين الصحابة وفق منهجية التأصيل الشرعي ضمن الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة ، فهذه الأدلة الشرعية ليست عبثية ، وإنما جاءت وفق حكمة معيَّنة . وعندما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم كلاماً موجَّهاً ضد بعض أصحابه كما سبق بيان ذلك ، فهو صلى الله عليه وسلم يعرف ماذا يقول . ولو كان الأمر بوجوب الإمساك عن ذكر الصحابة لأمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن ذكرهم، فلا يُتَصَوَّر أن ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن فعل ويأتيه .

لذا فمنهجيتنا هي وجوب تطبيق الكتاب والسنة الصحيحة على الجميع لمعرفة المخطئ من المصيب ، ولا أحد يملك حصانة وفق نصوص الكتاب والسنة الصحيحة . لذا فينبغي الخوض في فتنة الصحابة لمعرفة الصالح من الطالح وفق التأصيل الشرعي ، وضمن نطاق أصحاب العلم ، دون إحداث بلبلة في المجتمع إذا ما خرج الموضوع إلى العامة المقلِّدين الذين لا يملكون ذلك المستوى العلمي الذي يؤهلهم لبحث هذه المواضيع الحساسة . مع الأخذ بعين الاعتبار إيصال الفكرة بصورة علمية تراعي الحالة النفسية للناس والمجتمع لئلا يدخل الناس في فتن جديدة نحن في غنى عنها .

وفي صحيح البخاري ( 1/ 59 ) عن علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ قال : (( حَدِّثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يُكَذَّبَ الله ورسوله )) .

قال الحافظ في الفتح ( 1/ 225) : (( والمراد بقوله بما يعرفون أي يفهمون . وزاد آدم بن أبي إياس في كتاب العلم له عن عبد الله بن داود عن معروف في آخره : ودعوا ما ينكرون ، أي يشتبه عليهم فهمه ، وكذا رواه أبو نعيم في المستخرج . وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة )) اهـ .

وفي صحيح مسلم ( 1/ 11) : أن عبد الله بن مسعود _ رضي الله عنه _ قال : (( ما أنت بمحدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة )) .

لذلك ينبغي عدم إدخال العامة في المسائل المتشابهة . فمسألة الصحابة حساسة للغاية ، لأن الناس تربُّوا على أن الصحابة مجتمع ملائكي معصوم لا يجوز الاقتراب منه بتاتاً، ومن يقم بالاقتراب منه فإنه يُرمَى بالتشيع،أو الفسق، وقد يصل الأمر إلى التكفير.فالناس أعداءُ ما يجهلون،والحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره .

والذين يرون وجوب الكف عما شجر بين الصحابة يعتمدون في دعواهم على الحديث الذي يرويه ثوبان وعبد الله بن مسعود _ رضي الله عنهما _ عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( إذا ذُكِرَ أصحابي فأمسكوا )) [رواه الطبراني في الكبير ( 2/ 96) برقم ( 1427) من حديث ثوبان ، وقال الهيثمي في المجمع ( 7/ 202) : (( وفيه يزيد بن ربيعة وهو ضعيف )) اهـ ، ورواية عبد الله بن مسعود رواها الطبراني في الكبير ( 10/ 198) برقم ( 10448) وتم تحسينها في تخريج أحاديث الإحياء ( 1/ 22) . قال الهيثمي في المجمع ( 7/ 202 ) : (( وفيه مسهر بن عبد الملك، وثقه ابن حبان وغيره ، وفيه خلاف ، وبقية رجاله رجال الصحيح )) اهـ . وإليك ترجمة مسهر بن عبد الملك من تهذيب التهذيب ( 10/ 135) : (( قال البخاري : فيه بعض النظر ، وقال الآجري عن أبي داود : أما الحسن بن علي الخلال فرأيته يحسن الثناء عليه، وأما أصحابنا فرأيتهم لا يحمدونه ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وذكره اابن حبان في الثقات ، وقال أبو يعلى الموصلي : وكان ثقة... وذكره ابن عدي في الضعفاء من أجل قول البخاري، وقال: ليس حديثه بالكثير )) اهـ . وقال ابن حجر في تقريب التهذيب ( 1/ 532) : (( لين الحديث )) اهـ ] .

فلو اعتمدنا هذا الحديث فمعناه الابتعاد عن الطعن في الصحابة بدون أدلة شرعية معتبرة ، وأن لا نسعى بالفتنة بين المسلمين عن طريق نشر الشبهات الحائمة حول الصحابة ، ونشر الشائعات بلا دليل ، واتخاذهم غرضاً للمزهم والطعنِ فيهم . أما تطبيق النصوص الشرعية المتعلقة بهم ، فهذا واجبٌ . إذ إن النصوص الشرعية ليس الهدف منها أن تظل على الرفوف ، وإنما إسقاطها على أرض الواقع . فلو كان ذكر الصحابة مع الأدلة مقترناً بوجوب الإمساك عن ذلك لما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم الذي وجَّه كلاماً ضد بعض أصحابه ، أو عاتبهم ، أو حمَّلهم مسؤولية أخطائهم ، في نصوص شرعية ثابتة ومشهورة. فهل يريد أصحاب الرأي القائل بوجوب الإمساك أن نلغيَ الأحاديث النبوية الصحيحة الموجَّهة ضد بعض الصحابة بحجة الإمساك عن ذكرهم ؟! . ولو كان الأمر متعلق بوجوب الإمساك فلماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كلاماً ضد بعضهم ؟! .

واللهُ تعالى عاتب النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أعظم مخلوقات الله تعالى في أكثر من موضع ، فقال تعالى : (( يا أيها النبي لِمَ تُحرِّم ما أَحَلَّ اللهُ لك )) [ التحريم : 1] ، وقال تعالى : (( عَبَسَ وتولى )) [ عبس: 1] . فقد تكلم الله تعالى حول معاتبة أعظم مخلوقاته . فمن أعظم النبي صلى الله عليه وسلم أم أصحابه ؟! .

ولا يصح اعتمادهم على الحديث: (( لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً ، فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر )) [رواه أحمد ( 1/ 395) برقم ( 3759) ، ورواه الترمذي ( 5/ 710 ) برقم ( 3896 ) ، وقال : (( هذا حديث غريب من هذا الوجه )) ، وأبو داود ( 4/ 265 ) برقم ( 4860 ) . اهـ . قلتُ: { نَصَّ ابن كثير على ثبوت هذا الحديث في الصحيح ( البداية والنهاية 6/ 38 )}. لكن الحديث معلول : ففي سنده الوليد بن أبي هاشم، وهو مجهول . وأيضاً زيد بن زائدة ، قال المزي عنه في تهذيب الكمال (10/ 69) : (( ذكره ابن حبان في كتاب الثقات، روى له أبو داود والترمذي حديثاً واحداً وقد وقع لنا عالياً _ وهو هذا الحديث _ )) ، وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب ( 3/ 356 ): (( وقال الأزدي : لا يصح حديثه)) اهـ. وقال ابن حجر في تقريب التهذيب( 1/ 223) : (( مقبول )) اهـ. وقال الذهبي في الكاشف( 1/ 416 ): (( وُثِّق )) اهـ ] . إذ إنه ضعيفٌ ، نصَّ على ذلك غير واحد من أهل العلم .

ولو سلَّمْنا جدلاً بهذا الحديث فمعناه عدم الخوض في الصحابة بلا دليلٍ ، أو من باب الغيرة والتنافس غير الشرعي بين الأقران . وإلا فإن هناك مسائل عن الصحابة يجب أن يعرفها النبي صلى الله عليه وسلم لكي يصححها من أجل أن لا يكون هناك شرخ في المجتمع الإسلامي أو انحراف بأي شكل كان .

ومما لا شك فيه أن دور معاوية بن أبي سفيان في القضاء على الخلافة الإسلامية ، وإرجاع أمر الحكم إلى العقلية الأموية في الجاهلية ، يُعتبَر من أخطر الأدوار التاريخية التي لعبها أشخاص في تاريخنا العربي الإسلامي . وقبل أن نلوم أتاتورك على إلغاء الخلافة الإسلامية ، علينا أن نلوم معاوية على إلغائها لأنه أول من سنَّ هذه البدعة الكارثية . (( ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كُتب عليه مثل وزر من عمل بها ، ولا ينقص من أوزارهم شيء )) .

فمعاوية الذي صار يتقدم كل الصحابة الأثبات مع أنه ليس من السابقين الأولين ، إذ إنه من الطلقاء هو وأبوه ، كان عائشاً في حدود دنياه غافلاً عن آخرته ، يتركز تفكيره حول الكرسي ، وطرق الحفاظ عليه بأية وسيلة وفق مبدأ الغاية تبرر الوسيلة . فقد شوَّه الحكمَ الإسلامي ، وقضى على الخلافة الراشدة ، بعد أن جعل الخلافة مُلْكاً وراثياً، فيكون بذلك قد حمل الوزر مرتين بعد أن أسند الأمرَ إلى ابنه يزيد ، ويزيد هو يزيد . وكما هو معلومٌ إذا بويع خليفتان يجب قتل الآخر ، وذلك للحفاظ على وحدة المسلمين ، والحيلولة دون تفرق كلمتهم ، وضياعِ دولتهم .

فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)) [رواه مسلم ( 3/ 1480 ) برقم ( 1853 ) . وفي رواية الطبراني في الكبير ( 19/ 314) برقم ( 710 ) : عن سعيد بن جبير أن عبد الله بن الزبير قال لمعاوية في الكلام الذي جرى بينهما في بيعة يزيد:وأنت يا معاوية أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا كان في الأرض خليفتان فاقتلوا أحدهما ))، وقال الهيثمي في المجمع ( 5/ 198 ) : (( رواه الطبراني في الكبير والأوسط ، ورجاله ثقات )) اهـ . وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 12/ 242 ) : (( هذا محمول على ما إذا لم يندفع إلا بقتله ... ، وفيه أنه لا يجوز عقدها لخليفتين ، وقد سبق قريباً نقل الإجماع فيه )) اهـ .] .

ويكفي معاوية إثماً أنه لا يُعتبَر من الخلفاء الراشدين إجماعاً ، حتى أشرس أنواع النواصب لا يعتبرونه خليفةً راشداً. ففي الحديث المرفوع : (( خلافة النبوة ثلاثون عاماً ثم تكون مُلْكاً )) [رواه الحاكم في المستدرك ( 3/ 75 ) برقم ( 4438 ) وصحَّحه ، وسكت عنه الذهبي . وصحَّح ابن كثير الجزء الأول من الحديث في البداية والنهاية ( 13/ 205و206 ) . وأبو داود ( 4/ 211 ) برقم ( 4646 ) ، والطبراني في الكبير ( 7/ 84 ) برقم ( 6444 ) . وقال الحافظ في الفتح ( 7/ 58) : (( "الخلافة ثلاثون سنة ثم تصير مُلْكاً " . أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره )) ] .

وقال الطبري في الرياض النضرة ( 1/ 255 ) : (( والصحيح في مدة ولاية الأربعة أنها تسع وعشرون سنة وخمسة أشهر وثلاثة أيام ، سنتان وثلاثة أشهر وعشرة أيام خلافة أبي بكر، وعشر سنين وستة أشهر وخمسة أيام خلافة عمر ، واثنتا عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً خلافة عثمان ، وأربع سنين وثمانية أشهر خلافة علي ، فإما أن يكون أطلق على ذلك ثلاثين لقربه منها ، أو يكون مدة ولاية الحسن محسوبة منها وهي تكملتها )) اهـ .

وقال ابن كثير في البداية والنهاية ( 13/ 205و 206 ) : (( والعجب أن خلافة النبوة التالية لزمان الرسول كانت ثلاثين سنة كما نطق بها الحديث الصحيح، فكان فيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم ابنه الحسن بن علي ستة شهور حتى كملت الثلاثون كما قررنا ذلك في دلائل النبوة، ثم كانت مُلْكاً ، فكان أول ملوك الاسلام من بني أبي سفيان معاوية بن أبي سفيان )).

قلتُ: ومما لا شك فيه أن الفترة القصيرة جداً التي حكم فيها سيدنا الحسن _ رضي الله عنه _ داخلة قطعاً في هذه الثلاثين سنة . ولكن البعض لا يذكرها لقصرها الشديد بعد أن تنازل سيدنا الحسن _ رضي الله عنه _ لمعاوية بن أبي سفيان حقناً لدماء المسلمين ، وظناً منه أن معاوية سيقود المسيرة وفق الكتاب والسنة الصحيحة ، ولكن للأسف فقد ضَلَّ معاوية وأَضل كثيراً من الخلق معه في سبيل الْمُلْك، وخيَّب رجاءَ سيدنا الحسن_ رضي الله عنه _ الذي ظنَّ به خيراً لم يكن في مكانه. ولنتذكر كيف وثق النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وجعله كاتباً للوحي بين يديه ، ثم خانه بكل دناءة. ومن البدهي أن يكون سيدنا الحسن هو الخليفة الراشد الخامس، أما سيدنا عمر بن عبد العزيز فهو الخليفة الراشد السادس . وهذا هو الصواب ، والله أعلم .

ففي صحيح البخاري ( 2/ 962) من حديث أبي بكرة _ رضي الله عنه _ مرفوعاً : (( إن ابني هذا سَيِّد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين )) .

وفي فتح الباري ( 12/ 392 ) : (( وأما معاوية ومن بعده فكان أكثرهم على طريقة الملوك ولو سُمُّوا خلفاء ، والله أعلم )) اهـ .

وفي سير أعلام النبلاء ( 3/ 157) : (( قال الزبير بن بكار : كان معاوية أول من اتخذ الديوان للختم ، وأمر بالنيروز والمهرجان ، واتخذ المقاصير في الجامع ، وأول من قتل مسلماً صبراً، وأول من قام على رأسه حرس ، وأول من قيدت بين يديه الجنائب، وأول من اتخذ الخدام الخصيان في الإسلام ، وأول من بلغ درجات المنبر خمس عشرة مرقاة ، وكان يقول أنا أول الملوك ))اهـ .

وعن أبي أمامة الباهلي _ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لتنتقض عُرى الإسلام عروة عروة ، فكلما انتقضت عروة تشبثت بالتي تليها ، وأول نقضها الْحُكْم ، وآخرها الصلاة )) [رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 104) برقم ( 7022 ) وصحَّحه ، وصحَّحه ابن حبان ( 15/ 111) برقم ( 6715 ) . وأحمد ( 5/ 251 ) برقم ( 22214 ) ، والطبراني في الكبير ( 8/ 98 ) برقم ( 7486 ) ، وقال الهيثمي في المجمع ( 7/ 281 ) : (( رواه أحمد والطبراني ، ورجالهما رجال الصحيح )) اهـ ].

قلتُ: ومما لا شك فيه أن الذي يتحمل مسؤولية نقض الحكم، إنما هو معاوية بن أبي سفيان بلا خلاف .

وللأسف فإن معاوية الذي اتخذ من دم عثمان وسيلةً للقفز إلى السلطة عبر تأسيس شرعية وهمية لكي ينال القبول عند الناس قد نسي دم عثمان بعد أن صار خليفةً ، ولم يتخذ من عثمان قدوةً ، وإنما ركَّز كل جهوده على تثبيت حُكْمه بأية وسيلة كانت ، شريفةً أو غير شريفة . كما ركَّز فلسفة مُلْكه على شتم علي ، وهذا مرجعه _ في رأيي _ إلى الحقد الدفين في نفسية معاوية على علي بن أبي طالب _ عليه السلام_ خصوصاً دوره في قتل أقارب معاوية يوم بدر، إذ إن علياً كان له دور بارز في بَدْر، وهو قاتل خال معاوية ( الوليد بن عتبة )، كما قتل حمزةُ بن عبد المطلب جدَّ معاوية لأمه ( عتبة بن ربيعة )، كما قُتِلَ في بدر مشركاً أخو معاوية ( حنظلة بن أبي سفيان ) . وهذا ما جعل شاعر الإباضية الرواحي ( المتوفى سنة 1338هـ ) يقول :

أبا حسن ذرها حكومةَ فاسقٍ

جراحاتُ بَدْرٍ في حشاه تفور

وقد ساهم معاوية في تجذير إشكالية التناقض من وجهة نظره ( عثمان وعلي ) ، فصار الأمرُ كأنه عداوة بين رَجلين ، فقد تم اتهام علي بقتل عثمان أو التواطؤ مع قاتليه والتستر عليهم . فغدت القاعدة التي أرساها معاوية تنص على أن الشخص إذا كان في حزب عثمان فهو ضد علي، وإذا كان في حزب علي فهو ضد عثمان . وهذه القاعدة المردودة هي رواسب الجاهلية القبلية في عقلية معاوية، ومحاولة لاستعادة دور للأمويين عن طريق سلبه من الهاشميين. وهذا العقلية مخالفة للمبدأ القرآني (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ))[الْحُجُرات : 13]، فالهاشميون والأمويون لا وزن لهما البتة بدون الإسلام، ومقياس الأفضلية هي بقدر خدمة الإسلام، وحمل الرسالة بعيداً عن عقلية الحسب والنسب الجاهلية .