سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

18‏/04‏/2012

شبهات حول أبي هريرة

شبهات حول أبي هريرة

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

إن مسألة الشبهات المثارة حول الصحابة مسألة دقيقة وحساسة ، خصوصاً أن الروافض يعتنقونها بلا أدلة مُعتبَرة ، ظناً منهم أنهم بذلك يهدمون السُّنة عبر التشكيك بها ، ويجذبون الناسَ إلى المنهجية الحديثية الشيعية القائمة على الكذب على أئمة آل البيت ، والمتاجرة بالانتماء إليهم ، وهذا الانتماء إنما هو ظاهري بلا باطن،وشكلي بلا جوهر. ولا يخفى أن إسناد الأساطير والخرافات إلى أئمة آل البيت _ عليهم السلام_ يهدف إلى استغلال أسماء علماء آل البيت لترويج الباطل ، واستثماره لأهداف شخصية نفعية فردية داخلية ، وجمعية فارسية صفوية خارجية . وهذا المبحث يأتي كرد واضح منهجي علمي تأصيلي على هذه الشبهات المنتشرة في أوساط بعض علماء الروافض حول الصحابي الجليل سيدنا أبي هريرة _ رضي الله عنه_ .

مع ملاحظة أن الشبهات إنما أُثيرت حول أحاديث رواها أبو هريرة _ رضي الله عنه_ سواءٌ ثبت أنه رواها أم لم يثبت . وقد تركوا سلسلةَ السند كاملةً ، ووضعوا حقدهم على أبي هريرة لكي يطعنوا فيه مباشرة، لأن الطعن في الصحابة دون دليل شرعي مُعتبَر هو دِين الشيعة الروافض. ولا يخفى أن منهجية بحثنا هي إيراد الحديث الذي طُعِن فيه ، ودراسته من كل الجوانب بلا تحديد جانب معيَّن دون آخر . فهذا أكثر نفعاً من أجل قطع دابر الشبهات . وبالطبع لم أذكر كل الأحاديث ، إنما اكتفيتُ بذكر بعضها لأوضح المنهجية المتبعة في الرد على المبتدعة .

لكنني قبل أن أشرع في هذه الدراسة ينبغي أن ألفت الانتباه إلى بعض الملاحظات التي يتوجب معرفتها :

1) إن سلسلة السند في أي حديث تشمل تقريباً خمسة أشخاص حتى الوصول إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا أراد أحد المغرِضين الطعن في الصحابي أو اتهامه بالكذب ، فيجب عليه أن يثبت بالدليل القاطع أن آفة الحديث قادمة من ذلك الصحابي تحديداً ، وأنه قد تعمَّد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ، فالبينة على من ادعى . وغير ذلك يكون الكلام في الهواء لا تقوم له قائمة لأنه مبني على الوساوس واتباعِ الهوى دون أي دليل ملموس .

والدعاوى إنْ لم تُقيموا عليها

بيِّناتٍ أبناؤُها أدعيــــاءُ

2) إن كثرة رواية الحديث بالنسبة لأبي هريرة لا تستلزم بالضرورة تفوقه العلمي على باقي الصحابة ، فقد روى أبو هريرة أكثر مما رواه أبو بكر الصديق ، وهذا لا يعني أن أبا هريرة أكثر

علماً أو أنه يمتاز بالأفضلية على أبي بكر الصديق ، وهذا هو المبدأ المعتمد في هذا السياق .

3) لم ينفرد أبو هريرة بكثرة الأحاديث ، فالمكثرون جلة من صغار الصحابة كابن عباس ، وابن عمر وابن عمرو وأبي سعيد الخدري وجابر وعائشة وأنس وغيرهم من صغار الصحابة .

4) كثرة رواية أبي هريرة لها أسباب علمية واضحة :

أ) كثرة ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم فقد صحب النبي أربع سنوات [من الثابت في الحديث الصحيح أن أبا هريرة قدم المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر ( سنة 7هـ ) . ] .

وروى البخاري( 1/55): عن أبي هريرة قال : إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثتُ حديثاً ، ثم يتلو (( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات )) ، إلى قوله (( الرحيم )) [البقرة: 159و160]. إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه ، ويحضر ما لا يحضرون ، ويحفظ ما لا يحفظون .

ب) دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالحفظ . فقد روى البخاري ( 3/ 1333) عن أبي هريرة _ رضي الله عنه_ قال: قلتُ يا رسول الله : إني سمعتُ منك حديثاً كثيراً فأنساه ، قال : (( ابسط رداءك )) فبسطته، فغرف بيديه فيه ثم قال : (( ضمه )) . فضممتُه فما نسيت حديثاً بعد .

ج) تفرغ أبي هريرة للتعليم .

د) كثرة تلامذته والناقلين عنه ، فكان عدد تلامذته قريباً من ثمانمائة .

هـ) تأخر وفاته ، فقد توفي سنة 57هـ وقيل 58هـ .

5) إن الأحاديث المنقولة عنه تنقسم إلى ما يأتي :

أ) ما كان ضعيف السند لا يصح عن أبي هريرة .

ب) ما كان مكرَّراً وهذا أكثره .

ج) ما رواه عن أكابر الصحابة كالعشرة وأمهات المؤمنين وغيرهم ، ولم يذكرهم لثقتهم عنده ، وهو ما يُسمَّى بمرسل الصحابي .

د) ما كان موقوفاً عليه من كلامه .

6) اتفق البخاري ومسلم على إخراج ثلاثمائة وستة وعشرين حديثاً فقط . وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين ، وانفرد مسلم بثمانية وتسعين ، ثم إن جل الأحاديث التي رواها أبو هريرة لم ينفرد

بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل شاركه في روايتها غيره من الصحابة .

7) مما يدل على سعة حفظ أبي هريرة وأمانته في النقل ما رواه الحاكم في المستدرك ( 3/ 583 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي. عن أبي الزعيزعة( كاتب مروان بن الحكم) أن مروان دعا أبا هريرة فأقعدني خلف السرير وجعل يسأله، وجعلتُ أكتب ، حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به فأقعده وراء الحجاب ، فجعل يسأله عن ذلك ، فما زاد ولا نقص ، ولا قدَّم ولا أخَّر .

8) في جوامع السيرة لابن حزم ( ص 275 ) أن مرويات أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 5374 ، فيها الثابت وغير الثابت ، والمكرَّر وغير المكرَّر ، وفيها المرفوع والموقوف ، وفيها ما شارك صحابة آخرين في روايته وما انفرد به [النقاط 3، 4، 5، 6 ،7 ، 8 مأخوذة من كتاب " كشف الجاني " ص 168، 169، 185 .] .

9) تم استغلال اسم أبي هريرة من قبل الوضاعين ، وذلك لترويج الأحاديث المكذوبة عبر اجتذاب الناس عندما يسمعون اسم أبي هريرة اللامع في عالم الرواية. وهذا منتشر في شتى الأزمنة والأمكنة، وفي كل الأمم بمختلف أديانها ومذاهبها . فمثلاً ساق الشيعة في كتبهم الكثير من الأكاذيب المنسوبة لأئمة آل البيت، فكتاب نهج البلاغة لا يثبت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وكتاب الجفر _مثلاً_ والمذهب الجعفري كله لا يثبتان عن الإمام جعفر الصادق ، وكتاب المجموع لا يثبت عن الإمام زيد بن علي. وهذا مرده إلى الظلمات والمناطق المعتمة التي تعتري السند والمتن. فالنَّقل ينبغي أن يكون وفق المنهجية الشرعية العلمية من حيث شروط السند وشروط المتن ( الرواية والدراية ) .

ولو قلنا إن مدة صحبة أبي هريرة _ رضي الله عنه_ للنبي صلى الله عليه وسلم هي أربع سنوات ( حيث قدم على النبي سنة 7هـ عام خيبر ) ، يعني أكثر من 1400 يوم . فلو قمنا بحذف الأحاديث غير الثابتة ، وقمنا بغض النظر عن المكرَّر ، وحسبنا فقط ما انفرد به أبو هريرة دون أن يشاركه أحد من الصحابة . فإن عدد المرويات سوف ينخفض بشكل كبير جداً ، فقد يصل إلى حديث أو حديثين كل يوم بالنسبة لشخص ملازِم للنبي صلى الله عليه وسلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يطرد من يأتيه . وهذه نسبة معقولة نقلاً وعقلاً . فمن الجائز أن ينفرد أبو هريرة _ رضي الله عنه_ بسماع حديث أو حديثين كل يوم لم يسمعهما غيره لأنه عندئذ يكون خالياً بالنبي صلى الله عليه وسلم . وهو أمر ممكن لا يلزم من جواز وقوعه محال ، وكل ما كان هذا شأنه فهو جائز الوقوع .

10) أما المرويات المتعلقة بالإنكار على أبي هريرة_رضي الله عنه_بسبب كثرة حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم . فيمكن أن نفهم سببها من خلال سياق الحديث التالي : عن قرظة بن كعب قال : خرجنا نريد العراق ، فمشى معنا عمر بن الخطاب إلى صرار فتوضأ ، ثم قال : (( أتدرون لم مشيت معكم؟ ))، قالوا : نعم نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيتَ معنا ، قال : (( إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل ، فلا تبدونهم بالأحاديث فيشغلونكم ، جردوا القرآن ، وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وامضوا وأنا شريككم، فلما قدم قرظة قالوا : حَدِّثْنا ، قال : نهانا ابن الخطاب . [رواه الحاكم في المستدرك وصحَّحه( 1/ 183 )برقم ( 347 )، وقال الذهبي : (( صحيح ، وله طرق )) .] .

وقال ابن كثير في البداية والنهاية ( 8/ 107) : (( فإن عمر كان يقول اشتغلوا بالقرآن كلام الله ، ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له إنك تأتى قوماً لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوي النحل ، فدعهم على ما هم عليه ، ولا تشغلهم بالأحاديث ، وأنا شريكك في ذلك . هذا معروف عن عمر _ رضى الله عنه _ )) اهـ .

11) ومما سبَّب المتاعب لأبي هريرة _ رضي الله عنه_ صداقته لكعب الأحبار الذي أورد أخباراً كثيرة من علوم أهل الكتاب حيث يختلط الحق بالباطل .

12) وأحياناً يطعن بعض الشيعة الروافض في أبي هريرة لأنه كان فقيراً ثم صار ذا مال ، فيثيرون الشكوك حول مصدر أمواله ، وهو الفقير البائس فيما مضى. قال الإمام الحافظ ابن حجر في الإصابة ( 7/ 442 ) بسند صحَّحه عن أبي هريرة : (( كنتُ أجيراً لبسرة بنت غزوان لنفقة رحلي ، وطعام بطني ، فإذا ركبوا سبقت بهم ، وإذا نزلوا خدمتهم ، فزوجنيها الله ، فأنا أركب ، وإذا نزلتُ خُدِمْتُ )) اهـ .

وروى الزهري في الطبقات الكبرى ( 4/ 335 ) عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال لي عمر : يا عدو الله وعدو كتابه ، أسرقتَ مالَ الله ؟ ، قال : فقلتُ : ما أنا بعدو الله ولا عدو كتابه ، ولكني عدو من عاداهما ، ولا سرقتُ مالَ الله ، قال : فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف ؟ ، قال : قلتُ : يا أمير المؤمنين ، خيلي تناسلت ، وسهامي تلاحقت ، وعطائي تلاحق ، قال : فأمر بها أمير المؤمنين ، فَقُبِضَت ، قال : فكان أبو هريرة يقول : اللهم اغفر لأمير المؤمنين .

13) كما أن بعض الشيعة الروافض يطعنون في أبي هريرة _ رضي الله عنه_ ويتهمونه بأنه باع نفسه لبني أمية،وصار بوقاً مادحاً لهم،وأفضل رد على هذا الأمر هو النظر في ما رواه أبو هريرة في فضائل علي بن أبي طالب . ولو باع نفسَه لبني أمية لكان على الأقل لم يُحدِّث بفضائل علي ، أو أنكرها وطمسها موالاةً منه لبني أمية .

14) ثم طعنوا في بعض الأحاديث التي رواها أبو هريرة _ رضي الله عنه _ متَّهمين إياه بأنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم. ونحن قلنا إن الذي يرمي أبا هريرة بالكذب ، يجب أن يقدِّم دليليْن : الأول_ أن آفة السند هي أبو هريرة حصرياً دون غيره ، والثاني_ أنه تعمَّد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم . وبدون هذين الدليليْن لا وزن لكلامه . ونحن سندرس بشكل موجز وسريع بعضَ الأحاديث التي رواها أبو هريرة وسبَّبت في نفوس البعض إشكالياتٍ لكي نزيل الوهم والشُّبهات من الجذور بشكل نهائي حاسم ومن كل الاتجاهات. وكما يقولون الشُّبه خطَّافة ، والقلوب ضعيفة .

الحديث الأول : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( خلق الله آدم على صورته )) [متفق عليه. البخاري( 5/ 2299 ) برقم ( 5873 )، ومسلم ( 4/ 2183)برقم ( 2841).] .

قلتُ : ووجه الإشكال لفظة " صورته " ، فمن العقائد الأساسية في الإسلام أن الله تعالى مُنَزَّه عن الصورة ، لأن الصورة تتألف من مكوِّنات مفتقرة إلى مصوِّر .

قال الحافظ في الفتح ( 11/ 3) : (( واختلف إلى ماذا يعود الضمير ، فقيل إلى آدم، أي خلقه على صورته التي استمر عليها إلى أن أُهْبِط ، وإلى أن مات دفعاً لتوهم من يظن أنه لما كان في الجنة كان على صفة أخرى ، أو ابتدأ خلقه كما وجد ، لم ينتقل في النشأة كما ينتقل ولده من حالة إلى حالة.وقيل للرد على الدهرية أنه لم يكن إنسان إلا من نطفة، ولا تكون نطفة إنسان إلا من إنسان، لا أول لذلك، فبين أنه خلق من أول الأمر على هذه الصورة . وقيل للرد على الطبائعيين الزاعمين أن الإنسان قد يكون من فعل الطبع وتأثيره،وقيل للرد على القدرية الزاعمين أن الإنسان يخلق فعلَ نفسه ، وقيل إن لهذا الحديث سبباً حُذِفَ من هذه الرواية ، وأن أوله قصة الذي ضرب عبدَه فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وقال له إن الله خلق آدم على صورته ... وقيل الضمير لله وتمسك قائل ذلك بما ورد في بعض طرقه على صورة الرحمن، والمراد بالصورة الصفة ، والمعنى أن الله خلقه على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر وغير ذلك،وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء )) اهـ.

وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 166) : (( وأن من العلماء من يمسك عن تأويلها ، ويقول نؤمن بأنها حق ، وأن ظاهرها غير مراد ، ولها معنى يليق بها ، وهذا مذهب جمهور السلف، وهو أحوط وأسلم. والثاني أنها تتأول على حسب ما يليق بتنزيه الله تعالى وأنه ليس كمثله شيء . قال المازري : هذا الحديث بهذا اللفظ ثابت ، ورواه بعضهم إن الله خلق آدم على صورة الرحمن [رواه الطبراني في الكبير ( 12/ 430 ) بلفظ " لا تقبحوا الوجه فإن ابن آدم خُلِقَ على صورة الرحمن تعالى " . قال الحافظ في الفتح ( 5/ 183 ) : (( وقال حرب الكرماني في كتاب السنة: سمعتُ إسحاق بن راهويه يقول : صَحَّ أن الله خلق آدم على صورة الرحمن . وقال إسحاق الكوسج : سمعتُ أحمد يقول : هو حديث صحيح )) اهـ . وقال العيني في عمدة القاري ( 13/ 116 ) عن زيادة عبارة " صورة الرحمن" : (( أخرجها ابن أبي عاصم في السنة والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات )) اهـ . وقال ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه ( ص 146) : (( هذا الحديث فيه ثلاث علل ، أحدها : أن الثوري والأعمش اختلفا فيه ، فأرسله الثوري ، ورفعه الأعمش . والثاني : أن الأعمش كان يُدلِّس فلم يذكر أنه سمعه من حبيب بن أبي ثابت . والثالثة : أن حبيباً كان يدلس فلم يُعلم أنه سمعه من عطاء. قلتُ : وهذه أدلة توجب وهناً في الحديث ، ثم هو محمول على إضافة الصورة إليه مُلْكاً )) اهـ. وقال الهيثمي في المجمع ( 8/ 198 ) : (( رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق بن إسماعيل الطالقاني وهو ثقة ، وفيه ضعف )) اهـ . ] ، وليس بثابت عند أهل الحديث ، وكأن من نقله رواه بالمعنى الذي وقع له وغلط في ذلك. قال المازري: وقد غلط ابن قتيبة في هذا الحديث فأجراه على ظاهره وقال لله تعالى صورة لا كالصور، وهذا الذي قاله ظاهر الفساد، لأن الصورة تفيد التركيب ، وكل مُرَكَّب مُحْدَث ، والله تعالى ليس بِمُحْدَث ، فليس هو مُرَكَّباً ، فليس مُصَوَّراً )) اهـ .

وقال ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه (ص 144و146) موضِّحاً احتمالات تفسير الحديث :

أ)إن الهاء تعود على بعض بني آدم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على برجل يضرب رجلاً وهو يقول: قبَّح اللهُ وجهَك ووجه من أشبه وجهك . فقال : (( إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه ، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته )) [رواه أحمد ( 2/ 434 ) ، وصحَّحه ابن حبان ( 13/ 18 ) . قلتُ : والحديث ثابت .] .

ب) إن الهاء تعود إلى الله تعالى ، والمعنى التشريف بالإضافة ، كقوله تعالى : (( أن طَهِّرا بَيْتِيَ للطائفين )) [ البقرة : 125] .

الحديث الثاني : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _قال : قال أناس يا رسول الله : هل نرى ربنا يوم القيامة ؟، فقال : (( هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ )) ، قالوا: لا يا رسول الله، قال : (( هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ )) ، قالوا : لا يا رسول الله ، قال : (( فإنكم ترونه يوم القيامة ، كذلك يجمع الله الناس ، فيقول : من كان يعبد شيئاً فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم، فيقولون : نعوذ بالله منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا أتانا ربنا عرفناه ، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقول : أنا ربكم ، فيقولون أنتَ ربنا ))[ متفق عليه. البخاري ( 5/ 2403 ) برقم ( 6204 ) ، ومسلم ( 1/ 163) برقم ( 182) .] .

قال الحافظ في الفتح ( 11/ 450و451 ): (( وأما نسبة الإتيان إلى الله تعالى فقيل هو عبارة عن رؤيتهم إياه ، لأن العادة أن كل من غاب عن غيره لا يمكن رؤيته إلا بالمجيء إليه ، فعبَّر عن الرؤية بالإتيان مجازاً . وقيل الإتيان فعل من أفعال الله تعالى يجب الإيمان به مع تنزيهه سبحانه وتعالى عن سمات الحدوث . وقيل فيه حذف تقديره يأتيهم بعض ملائكة الله ، ورجحه عياض .

قال _ القاضي عياض _ : ولعل هذا الملك جاءهم في صورة أنكروها لما رأوا فيها من سمة الحدوث الظاهرة على الملك لأنه مخلوق.قال : ... وهو أن المعنى يأتيهم الله بصورة أي بصفة تظهر لهم من الصور المخلوقة التي لا تشبه صفة الإله ليختبرهم بذلك، فإذا قال لهم هذا الملك: أنا ربكم، ورأوا عليه من علامة المخلوقين ما يعلمون به أنه ليس ربهم استعاذوا منه لذلك ، انتهى.

وأما قوله بعد ذلك فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها فالمراد بذلك الصفة، والمعنى فيتجلى الله لهم بالصفة التي يعلمونه بها، وإنما عرفوه بالصفة وإن لم تكن تقدمت لهم رؤيته ... وقد علموا أنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته ، فيعلمون أنه ربهم ، فيقولون أنت ربنا ، وعبَّر عن الصفة بالصورة لمجانسة الكلام لتقدم ذكر الصورة .

وقال ابن العربي : إنما استعاذوا منه أولاً لأنهم اعتقدوا أن ذلك الكلام استدراج لأن الله لا

يأمر بالفحشاء، ومن الفحشاء اتباع الباطل وأهله ، ولهذا وقع في الصحيح : فيأتيهم الله في صورة، أي بصورة لا يعرفونها ، وهي الأمر باتباع أهل الباطل فلذلك يقولون : إذا جاء ربنا عرفناه ، أي إذا جاءنا بما عهدناه منه من قول الحق .

وقال ابن الجوزي : معنى الخبر يأتيهم الله بأهوال يوم القيامة ، ومن صور الملائكة بما لم يعهدوا مثله في الدنيا ، فيستعيذون من تلك الحال ، ويقولون إذا جاء ربنا عرفناه، أي إذا أتانا بما نعرفه من لطفه ، وهي الصورة التي عبَّر عنها بقوله : يكشف عن ساق ، أي عن شدة .

وقال القرطبي : هو مقام هائل يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيب ، وذلك أنه لما بقي المنافقون مختلطين بالمؤمنين زاعمين أنهم منهم ظانين أن ذلك يجوز في ذلك الوقت كما جاز في الدنيا امتحنهم الله بأن أتاهم بصورة هائلة قالت للجميع : أنا ربكم، فأجابه المؤمنون بإنكار ذلك لما سبق لهم من معرفته سبحانه، وأنه منزه عن صفات هذه الصورة ، فلهذا قالوا : نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب ، أي يزل فيوافق المنافقين . قال : وهؤلاء طائفة لم يكن لهم رسوخ بين العلماء ، ولعلهم الذين اعتقدوا الحق ، وحوَّموا عليه من غير بصيرة )) اهـ .

قال الكوثري في تعليقه على كتاب الأسماء والصفات( ص 292) : (( اضطربت الروايات في ذكر الصورة ، والإتيان كما يظهر من استعراض طرق هذا الحديث ومتونه في الصحيحين وجامع الترمذي ، وتوحيد ابن خزيمة ، وسنن الدارمي وغيرها . ولم يسبق أن عرفوه على صورة ، فعُلِمَ أنه قد فعلت الرواية بالمعنى في الحديث ما فعلت ، على أن المنافقين محجوبون عن ربهم يوم القيامة ، فيكون هذا الحديث مخالفاً لنص القرآن ، إلا عند مَن يُؤوِّله تأويلاً بعيداً ، فالقول الفصل هنا هو الإعراض عن ألفاظ انفرد بها هذا الراوي، أو ذاك الراوي، باختلافهم فيها،والأخذ بالقدر المشترك من المعنى الذي اتفقوا عليه، فلعلك لا تجد في ذلك ما يوقعك في ريبة أو شبهة .. ويقول ابن العربي في عارضة الأحوذي : إن الناس في هذه الحال لا يرونه سبحانه في قول العلماء ، وإنما محل الرؤية الجنة .. بإجماع العلماء )) اهـ .

الحديث الثالث:عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم :(( فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله _ تبارك وتعالى _ رِجْلَه ، تقول : قط قط قط، فهنالك تمتلئ، ويزوي بعضها إلى بعض)) [متفق عليه. البخاري( 4/ 1836 ) برقم ( 4569 )، ومسلم( 4/ 2186 ) برقم ( 2846).] .

قلتُ : إن الله تعالى مُنَزَّه عن الجوارح ، وذلك أن الجوارح مركَّبة من أجزاء ، وبالتالي فلا بد أن يكون هناك جزء قبل جزء ، وهذا يفيد الحدوث _ وجود الشيء بعد إذ لم يكن _ ، وكل الحوادث تفتقر إلى مُحْدِث ، والله تعالى قديم لا يوصف بالحدوث . كما أن الجوارح دليل نقص في الكائن الحي ، لأنه لا يقدر على القيام بأعماله إلا باللجوء إلى جوارحه من يد ورِجْل وفم ، وغير ذلك . والله تعالى غني عن كل شيء ، وكل شيء فقير إليه . وقد وردت لفظة " قدمه " بدلاً من " رِجْله " في روايات صحيحة ثابتة ، ولهما نفس التأويل .

وقد أحاط الإمام النووي بكافة الاحتمالات الممكنة لفهم هذا الحديث الشريف بشكل موجز غير مخل ، فقال في شرحه على صحيح مسلم ( 17/ 182و183 ) : (( اختلاف العلماء فيها على مذهبين : أحدهما وهو قول جمهور السلف وطائفة من المتكلمين ، أنه لايتكلم في تأويلها ، بل نؤمن أنها حق على ما أراد الله ، ولها معنى يليق بها ، وظاهرها غير مراد . والثاني : وهو قول جمهور المتكلمين أنها تتأول بحسب ما يليق بها ، فعلى هذا اختلفوا في تأويل هذا الحديث ، فقيل : المراد بالقدم هنا المتقدِّم ، وهو شائع فى اللغة ، ومعناه حتى يضع الله تعالى فيها من قدَّمه لها من أهل العذاب . قال المازري والقاضي : هذا تأويل النضر بن شميل ونحوه عن ابن الأعرابي . الثاني : أن المراد قدم بعض المخلوقين فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم ، الثالث : أنه يحتمل أن في المخلوقات ما يسمى بهذه التسمية. وأما الرواية التي فيها يضع الله فيها رِجْلَه فقد زعم الإمام أبو بكر بن فورك أنها غير ثابتة عند أهل النقل، ولكن قد رواها مسلم وغيره، فهي صحيحة ، وتأويلها كما سبق في القدم، ويجوز أيضاً أن يراد بالرِّجْل الجماعة من الناس، كما يقال رجل من جراد ، أي قطعة منه. قال القاضي : أظهر التأويلات أنهم قوم استحقوها وخُلِقوا لها . قالوا : ولا بد من صرفه

عن ظاهره لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى )) اهـ .

وقال الإمام ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه (ص 170): (( الواجب علينا أن نعتقد أن ذات الله تعالى لا تَتَبَعَّض ، ولا يحويها مكان ، ولا توصف بالتغير ولا بالانتقال )) اهـ .

الحديث الرابع : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له )) [متفق عليه . البخاري ( 1/ 384 ) برقم ( 1094) ، ومسلم ( 1/ 521 ) برقم ( 758) .] .

قلتُ: إن الله تعالى مُنَزَّه عن الحركة ، لأن الحركة انتقال من مكان إلى مكان ، ومن كان هكذا شأنه ، فهو حادث ، والله تعالى قديم . كما أنه تعالى مُنَزَّه عن المكان والزمان ، فكان الله ولا أين ، وهو الآن حيث كان، وهو الآن كما كان. وأيضاً فإن الله تعالى لا يحل في الأشياء، ولا تحل الأشياء فيه، فما كان محل الحوادث فهو حادث، وما خالطته الحوادث فهو حادث ، وكل الحوادث مفتقرة إلى مُوجِد ، والله تعالى غني عن كل شيء ، وهذا ينفي صفة الحدوث عن ذاته العلية .

قال الحافظ في الفتح ( 3/ 30و31) : (( قوله : ينزل ربنا إلى السماء الدنيا . استدل به من أثبت الجهة ، وقال : هي جهة العلو . وأنكر ذلك الجمهور ، لأن القول بذلك يفضي إلى التحيز _ تعالى الله عن ذلك _ . وقد اختلف في معنى النزول على أقوال : فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته ، وهم المشبِّهة _تعالى الله عن قولهم _ . ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة،وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مكابرة. والعجب أنهم أوَّلوا ما في القرآن من نحو ذلك، وأنكروا ما في الحديث ، إما جهلاً وإما عناداً . ومنهم من أجراه على ما ورد، مؤمناً به على طريق الإجمال منزهاً الله تعالى عن الكيفية والتشبيه، وهم جمهور السلف . ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وغيرهم . ومنهم من أوَّله على وجه يليق مستعمل في كلام العرب ، ومنهم من أفرط في التأويل حتى كاد أن يخرج إلى نوع من التحريف ، ومنهم من فصَّل بين ما يكون تأويله قريباً مستعملاً في كلام العرب ، وبين ما يكون بعيداً مهجوراً ، فأوَّل في بعض وفوَّض في بعض، وهو منقول عن مالك ، وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد ...والحاصل أن تأوله بوجهين : إما بأن المعنى ينزل أمره أو الْمَلَك بأمره،وإما بأنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه . وقد حكى أبو بكر بن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي يُنْزِل مَلَكاً [يؤيد هذا الرأي ما رواه النسائي في سننه الكبرى ( 6/ 124) : عن أبي هريرة وأبي سعيد _ رضي الله عنهما_ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الله _ عز وجل_ يمهل حتى يمضيَ شطر الليل الأول ، ثم يأمر منادياً ينادي، يقول : هل من داع يستجاب له ؟ ، هل من مستغفر يغفر له ؟ ، هل من سائل يعطى ؟)). قلتُ: صحَّحه أبو محمد عبد الحق[انظر تفسير القرطبي 4/ 41،وتفسير الثعالبي 1/ 251]. ]... وقال البيضاوي : ولما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه ، فالمراد نور رحمته، أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة )) اهـ .

وقال ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه ( ص 194و196) : (( وقد روى حديث النزول عشرون صحابياً ، وقد سبق القول أنه يستحيل على الله _ عز وجل_ الحركة والنُّقْلة والتغير ... والواجب على الخلق اعتقاد التنزيه ، وامتناع تجويز النُّقْلة ، وأن النزول الذي هو انتقال من مكان إلى مكان يفتقر إلى ثلاثة أجسام : جسم عالٍ ، وهو مكان الساكن ، وجسم سافل ، وجسم ينتقل من علو إلى أسفل ، وهذا لا يجوز على الله تعالى قطعاً . فإن قال العامي : فما الذي أراد بالنزول ؟، قيل: أراد به معنى يليق بجلاله لا يلزمك التفتيش عنه ، فإن قال : كيف حدَّث بما لا أفهمه ؟ ،قلنا: قد علمت أن النازل إليك قريب منك ، فاقتنع بالقرب ولا تظنه كقرب الأجسام )) اهـ .

الحديث الخامس : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود _عليه السلام_ فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان ابن داود _عليهما السلام _ فأخبرتاه، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينهما ، فقالت الصغرى : لا تفعل _ يرحمك الله_ هو ابنها ، فقضى به للصغرى [متفق عليه. البخاري ( 6/ 2485 ) برقم ( 6387)،ومسلم ( 3/ 1344) برقم ( 1720).] .

قال المعارِض : (( إن داود صلى الله عليه وسلم نبي معصوم ، فكيف يُنقَض حكمه على يد ابنه سليمان صلى الله عليه وسلم ؟ ، كما أن الحديث صريح بتناقض الحكمين، مما يوجب القطع بخطأ أحدهما ، والخطأ على الأنبياء ممتنع في مقام الحكم بما أنزل الله تعالى. وأيضاً ظاهر الحديث أن داود صلى الله عليه وسلم حكم بالولد للكبرى بدون بينة ولا مستند ، غير أنها كبرى ، وهذا لا يصدر إلا من جاهل بالموازين الشرعية بعيداً عن قوانين المحاكمات . وهذا الحديث صريح في أن سليمان صلى الله عليه وسلم إنما حكم به للصغرى بمجرد إشفاقها عليه من الشق بالسكين ، وهذا لا يكون ميزاناً لحكمه ، لا سيما بعد إقرارها به للكبرى ، وبعد حكم أبيه بذلك )) اهـ .

في فتح الباري ( 6/ 464و465) : (( والذي ينبغي أن يقال إن داود _ عليه السلام_ قضى به للكبرى لسبب اقتضى به عنده ترجيح قولها، إذ لا بينة لواحدة منهما، وكونه لم يعين في الحديث اختصاراً لا يلزم منه عدم وقوعه ، فيحتمل أن يقال إن الولد الباقي كان في يد الكبرى ، وعجزت الأخرى عن إقامة البينة...وهذا تأويل حسن جار على القواعد الشرعية ، وليس في السياق ما يأباه ولا يمنعه، فإن قيل : فكيف ساغ لسليمان نقض حكمه ، فالجواب : أنه لم يعمد إلى نقض الحكم ، وإنما احتال بحيلة لطيفة ، أظهرت ما في نفس الأمر . وذلك أنهما لما أخبرتا سليمان بالقصة فدعا بالسكين ليشقه بينهما ولم يعزم على ذلك في الباطن ، وإنما أراد استكشاف الأمر فحصل مقصوده لذلك لجزع الصغرى الدال على عظيم الشفقة، ولم يلتفت إلى إقرارها بقولها : هو ابن الكبرى لأنه علم أنها آثرت حياته ، فظهر له من قرينة شفقة الصغرى ، وعدمها في الكبرى مع ما انضاف إلى ذلك من القرينة الدالة على صدقها ما هجم به على الحكم للصغرى . ويحتمل أن يكون سليمان _ عليه السلام _ ممن يسوغ له أن يحكم بعلمه ، أو تكون الكبرى في تلك الحالة اعترفت بالحق لما رأت من سليمان الجد والعزم في ذلك.ونظير هذه القصة ما لو حكم حاكم على مدع منكِر بيمين، فلما مضى ليحلفه حضر من استخرج من المنكِر ما اقتضى إقراره بما أراد أن يحلف على جحده، فإنه والحالة هذه يحكم عليه بإقراره سواء كان ذلك قبل اليمين أو بعدها، ولا يكون ذلك من نقض الحكم الأول ، ولكن من باب تبدل الأحكام بتبدل الأسباب.وقال ابن الجوزي: استنبط سليمان لما رأى الأمر محتملاً فأجاد،وكلاهما حكم بالاجتهاد، لأنه لو كان داود حكم بالنص لما ساغ لسليمان أن يحكم بخلافه . ودلت هذه القصة على أن الفطنة والفهم موهبة من الله ، لا تتعلق بكبر سن ولا صغره،وفيه أن الحق في جهة واحدة،وأن الأنبياء يسوغ لهم الحكم بالاجتهاد وإن كان وجود النص ممكناً لديهم بالوحي، لكن في ذلك زيادة في أجورهم ، ولعصمتهم من الخطأ في ذلك ، إذ لا يُقِرُّون _لعصمتهم_ على الباطل . وقال النووي: إن سليمان فعل ذلك تحيلاً على إظهار الحق، فكان كما لو اعترف المحكوم له بعد الحكم أن الحق لخصمه ، وفيه استعمال الحيل في الأحكام لاستخراج الحقوق ، ولا يتأتى ذلك إلا بمزيد الفطنة وممارسة الأحوال )) اهـ .

الحديث السادس : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( قال سليمان بن داود _ عليهما السلام _ : لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين ،كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ، فلم يقل إن شاء الله، فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل )) [متفق عليه. البخاري ( 3/ 1038 ) برقم ( 2664)،ومسلم ( 3/ 1275) برقم ( 1654).] .

قال المعارِض : (( إن القوة البشرية تضعف عن الطواف بهن في ليلة واحدة مهما كان الإنسان

قوياً ، وهذا مخالف لنواميس الطبيعة . كما أنه لا يجوز على النبي سليمان صلى الله عليه وسلم أن يترك التعليق على المشيئة، لا سيما بعد تنبيهه على ذلك . وهناك اضطراب في عدد النساء في الروايات المتعددة )) .

قال الحافظ في الفتح ( 6/ 460 و461 ): (( فمحصل الروايات ستون، وسبعون ،وتسعون، وتسع وتسعون ، ومائة . والجمع بينها أن الستين كن حرائر ، وما زاد عليهن كن سراري ، أو بالعكس . وأما السبعون فللمبالغة ، وأما التسعون والمائة فكن دون المائة وفوق التسعين ، فمن قال تسعون ألغى الكسر ، ومن قال مائة جبره ... قال بعض السلف : نبَّه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على آفة التمني والإعراض عن التفويض ، قال : ولذلك نسي الاستثناء ليمضيَ فيه القدر.قوله: فقال له صاحبه : إن شاء الله ، ... قال عياض : ونسي أن يقول إن شاء الله ، ومعنى قوله : فلم يقل ، أي بلسانه لا أنه أبى أن يفوض إلى الله ، بل كان ذلك ثابتاً في قلبه ، لكنه اكتفى بذلك أولاً، ونسي أن يجريه على لسانه لما قيل له لشيء عرض له )) اهـ .

قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 11/ 120 ) : (( قوله صلى الله عليه وسلم : كان لسليمان ستون امرأة، وفي رواية سبعون، وفي رواية تسعون،وفي غير صحيح مسلم تسع وتسعون، وفي رواية مائة، هذا كله ليس بمتعارض ، لأنه ليس في ذكر القليل نفي الكثير ، وقد سبق بيان هذا مرات وهو من مفهوم العدد ، ولا يعمل به عند جماهير الأصوليين . وفي هذا بيان ما خص به الأنبياء_ صلوات الله تعالى وسلامه عليهم _ من القوة على إطاقة هذا في ليلة واحدة ، وكان نَبِيُّنا صلى الله عليه وسلم يطوف على إحدى عشرة امرأة له في الساعة الواحدة كما ثبت في الصحيح [روى البخاري ( 1/ 109) عن أنس بن مالك_رضي الله عنه_ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وله يومئذ تسع نسوة . اهـ. وقال الحافظ في الفتح ( 6/ 462 ) : (( ويقال إن كل من كان أتقى لله فشهوته أشد ، لأن الذي لا يتقي يتفرج بالنظر ونحوه )) اهـ. قلتُ : وبعض الذين في قلوبهم مرض ممن يعبدون الله على حرف، أو من المستشرقين المغرِضين ، وصبيانهم من أبناء جِلْدتنا يضطرب وينهار أمام هذه الأحاديث، ويحملها في قلبه المريض على أنها هوس جنسي مرتبط بالأنبياء _ وحاشاهم _ . والذين يعتبرون هذا الكلام طعناً في النبوة ، إنما هم يحملون فكرة مغلوطة عن خصائص النبوة ، إذ يعتقدون أنها تطليقٌ للدنيا ، وفقر مدقع ، وثياب رثة ، وانقطاع عن ملذات الحياة ، وعدم اقتراب من النساء ، وهذه خصائص صورة الأنبياء _ من وجهة نظرهم_ والتي أخذوها من الرهبانية المنحرفة التي سحقت كرامةَ الإنسان، وأبادت قيمة الحياة باسم حبها لله تعالى _على حد زعمهم_.وهذا كله مرفوض في المنظور الإسلامي، لأن القاعدة القرآنية الموجِّهة للمجتمع الإنساني العالمي واضحة تماماً : (( قل من حرَّم زينةَ الله التي أَخرج لعباده والطيباتِ من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة )) [الأعراف: 32].وينبغي أن ندرك أن الأنبياء_ عليهم الصلاة والسلام_ هم بشرٌ قبل أن يكونوا أنبياء، وبالتالي فإنهم يملكون شهواتٍ جنسية مثل كل البشر، ويُفرِّغونها ضمن إطار الحلال، وهذا ليس طعناً فيهم أو في الرسالة، لأنهم سائرون وفق شريعة الله تعالى لا يتنكَّبون، فالإنسان هو نتاج العملية الجنسية، وإذا كان الجنس ضمن إطار الزواج رذيلةً، فهذا يعني أن البشر كلهم غارقون في الخطيئة والدَّنس ، وهذا باطل بالضرورة . فهناك أنبياء تزوَّجوا ، وأنبياء لم يتزوَّجوا، واختلف عدد النساء من نبي إلى آخر ، كل ذلك لحكمة يعلمه الله تعالى. وكما أنه لا يجوز أن نتهم الأنبياء الذين لهم أكثر من امرأة بالهوس الجنسي ، لا يجوز أن نتهم أي نبي لم يتزوج بأنه عاجز جنسياً ، أو ضعيف في الجماع.فالشهوة الجنسية ليست عيباً أو إثماً ليخجل الإنسان منه، بل هي مخلوق عظيم من مخلوقات الله تعالى لأداء وظيف محدَّدة ، وهي بقاء النوع . فمن استعملها في المجال الصالح عادت عليه وعلى البشرية بالصلاح، ومن أساء استخدامها فالمشكلة فيه وليست فيها. والمستشرقون يضعون في عقولهم ماءً عكراً ، ويحاولون الاصطياد فيه ، ويتخذون من مسألة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وسيلة للطعن فيه صلى الله عليه وسلم _ من وجهة نظرهم القاصرة _، وهم ينسون أنهم أنفسهم نتاج العملية الجنسية. لذلك حجتهم داحضة، ولا تقوم لها قائمة، فالمخلوقات الوحيدة التي لا تتكاثر، ولا تتزاوج هي الملائكة، وكان الله قادراً أن يجعل الأنبياء مثل الملائكة خالين من الشهوات كلها ، لكنه تعالى أراد أن يختار الأنبياء من جنس البشر المركَّبين من الشهوات ليظلوا أقرب إلى أقوامهم من ناحية التركيب الجسمي روحاً ومادةً، وهذا يخدم الدعوة الإسلامية_ رسالة كل الأنبياء_ بشكل أفضل . قال الله تعالى : (( لقد مَنَّ اللهُ على المؤمنين إذْ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم )) [آل عمران : 164]. والأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام_ مُنَزَّهون عن النقائص والعجز والعيوب ، وهم مُنَزَّهون عن العجز الجنسي لأنه نقيصة وعيب . حتى الأنبياء الذين لم يتزوجوا كانوا يمتلكون الشهواتِ الجنسية ، ولكنهم اختاروا هذه الطريق لعلمهم بأنها الأفضل بالنسبة لحالهم ووضعهم الخاص. قال الله _ تبارك وتعالى_ في مدح سيدنا يحيى صلى الله عليه وسلم : (( وسَيِّداً وحصوراً ونبياً )) [آل عمران : 39]. ومعنى كلمة " حصور " هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك ، ولو لم تكن فضيلة لما مدحها الله تعالى، وهذا نفي واضح للعجز الجنسي عن الأنبياء لأنه نقيصة ومطعن ، فأراد الله تعالى أن يغلق طريق الوساوس أمام الناس الذين قد يحسبون عدم زواج بعض الأنبياء عجزاً جنسياً أو ضعفاً في الجماع.قال الحافظ في الفتح( 8/ 209): (( وأصل الحصر الحبس والمنع . يقال لمن لا يأتي النساء أعم من أن يكون ذلك بطبعه ، كالعنين أو بمجاهدة نفسه، وهو الممدوح والمراد في وصف السيد يحيى _ عليه السلام_ )) اهـ.وفي عمدة القاري ( 20/ 66) : (( وهو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على إتيانهن ، فمدح الله به )) اهـ . ] . وهذا كله من زيادة القوة )) اهـ.

وفي فيض القدير للمناوي ( 4/ 503 ) : (( يحتمل أن الليل في ذلك الزمان كان طويلاً جداً بحيث يتأتى له فيه جماع مئة امرأة مع تهجده ونومه ، ويحتمل أنه تعالى خرق له العادة فيجامع ويتطهر وينام، ثم هكذا ثم هكذا والليل في الطول على ما هو عليه الآن، كما خرق الله العادة لأبيه داود _عليهما السلام_ في قراءة الزبور بحيث كان يقرأه بقدر ما تسرج له دابته، وهذا يوجد الآن في الأولياء كثيراً ، وفيه ما رزقه سليمان من القوة على الجماع، وأنها في الرجال فضيلة ، وهي تدل على صحة الذكورية وكمال الإنسانية. قال القرطبي:...وأعطي هذه القوة في الجماع ليتم له الملك على خرق العادة من كل الجهات ، لأن الملوك يتخذون من الحرائر والسراري بقدر ما أحل لهم ويستطيعونه ، فأعطي سليمان تلك الخصوصية ليتميز بها عنهم ، فكان نساؤه من جنس ملكه الذي لا ينبغي لأحد من بعده )) اهـ .

وقال الحافظ في الفتح ( 6/ 462 ) : (( وقال ابن الجوزي : فإن قيل : من أين لسليمان أن يخلق من مائة هذا العدد في ليلة، لا جائز أن يكون بوحي لأنه ما وقع، ولا جائز أن يكون الأمر في ذلك إليه لأن الإرادة لله ، والجواب: أنه من جنس التمني على الله، والسؤال له أن يفعل ، والقسم عليه )) اهـ .

الحديث السابع : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه_ قال : أُرسِل ملك الموت إلى موسى _ عليه السلام _ ، فلما جاءه صكَّه ففقأ عينه ، فرجع إلى ربه ، فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، قال : فرد الله إليه عينه ، وقال : ارجع إليه ، فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة ، قال : أي رب ثم مه _ ثم ماذا_ ؟ ، قال : ثم الموت ، قال : فالآن [متفق عليه. البخاري ( 1/ 449) برقم ( 1274)، ومسلم ( 4/ 1842 ) برقم ( 2372 ).] .

قال المعارِض: ((كيف يتسنى لنبي كريم أن يضرب مَلَكَ الموتِ ؟،فالأنبياء أعلم الناس بخالقهم، والملائكة مأمورون بتنفيذ الأوامر الربانية ، ومحال أن تصدر عن الأنبياء إساءة )) اهـ .

قال الحافظ في الفتح ( 6/ 442و443): (( قال ابن خزيمة: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث

وقالوا إن كان موسى عرفه فقد استخف به ، وإن كان لم يعرفه فكيف لم يقتص له من فقء عينه . والجواب أن الله لم يبعث ملك الموت لموسى وهو يريد قبض روحه حينئذ ، وإنما بعثه إليه اختباراً ، وإنما لطم موسى ملك الموت لأنه رأى آدمياً دخل داره بغير إذنه ، ولم يعلم أنه ملك الموت ، وقد أباح الشارع فقء عين الناظر في دار المسلم بغير إذن. وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوط في صورة آدميين فلم يعرفاهم ابتداءً،ولو عرفهم إبراهيم لما قدم لهم المأكول، ولو عرفهم لوط لما خاف عليهم من قومه. وعلى تقدير أن يكون عرفه، فمن أين لهذا المبتدع مشروعية القصاص بين الملائكة والبشر ؟، ثم من أين له أن ملك الموت طلب القصاص من موسى فلم يقتص له ؟. ولخص الخطابي كلامَ ابن خزيمة ، وزاد فيه أن موسى دفعه عن نفسه لما رُكِّب فيه من الحدة، وأن الله رد عين ملك الموت ليعلم موسى أنه جاءه من عند الله ، فلهذا استسلم حينئذ . وقال النووي : لا يمتنع أن يأذن الله لموسى في هذه اللطمة امتحاناً للملطوم ،... وقال ابن قتيبة : إنما فقأ موسى العين التي هي تخييل وتمثيل وليست عيناً حقيقة ، ومعنى رد الله عينه ، أي أعاده إلى خلقته الحقيقية ، وقيل على ظاهره، ورد الله إلى ملك الموت عينه البشرية ليرجع إلى موسى على كمال الصورة ، فيكون ذلك أقوى في اعتباره ، وهذا هو المعتمد . وجوَّز ابن عقيل أن يكون موسى أُذن له أن يفعل ذلك بملك الموت ، وأمر ملك الموت بالصبر على ذلك ، كما أمر موسى بالصبر على ما يصنع الخضر ، وفيه أن الملك يتمثل بصورة الإنسان )) اهـ .

قال العيني في عمدة القاري ( 8/ 148 و149 ): (( وقال ابن خزيمة: أنكر بعض أهل البدع والجهمية هذا الحديث، وقالوا لا يخلو أن يكون موسى_ عليه الصلاة والسلام_ عرف ملك الموت أو لم يعرفه ، فإن كان عرفه فقد استخف به، وإن كان لم يعرفه فرواية من روى أنه كان يأتي موسى عياناً لا معنى لها ، ثم إن الله تعالى لم يقتص لملك الموت من اللطمة وفقء العين ، والله تعالى لا يظلم أحداً . قال ابن خزيمة : وهذا اعتراض من أعمى الله بصيرته ، ومعنى الحديث صحيح وذلك أن موسى لم يبعث الله إليه ملك الموت، وهو يريد قبض روحه حينئذ ، وإنما بعثه اختباراً وبلاء كما أمر الله تعالى خليله بذبح ولده ولم يرد إمضاء ذلك ، ولو أراد أن يقبض روح موسى _ عليه الصلاة والسلام _ حين لطم الملك لكان ما أراد ، وكانت اللطمة مباحة عند موسى إذ رأى آدمياً دخل عليه، ولا يعلم أنه ملك الموت ... وقد جاء الملك إلى مريم فلم تعرفه، ولو عرفته لما استعاذت منه، وقد دخل الملكان على داود _ عليه الصلاة والسلام _ في شبه آدميين يختصمان عنده ، فلم يعرفهما ... وقال الخطابي : فإن قيل: كيف يجوز أن يفعل موسى _ عليه الصلاة والسلام _ بالملك مثل هذا الصنيع ؟ ، أو كيف تصل يده إليه ؟ ، أو كيف لا يقبض الملك روحه ولا يمضي أمر الله تعالى به ؟ . قلتُ : أكرم الله موسى _ عليه الصلاة والسلام _ في حياته بأمور أفرده بها فلما دنت وفاته لطف أيضاً به ، بأن لم يأمر الملك به بأخذ روحه قهراً ، لكن أرسله على سبيل الامتحان في صورة البشر ، فاستنكر موسى _ عليه الصلاة والسلام _ شأنه ودفعه عن نفسه ، فأتى ذلك على عينه التي ركبت في الصورة البشرية التي جاءه فيها دون الصورة الملكية ، وقد كان في طبع موسى _عليه الصلاة والسلام_ حدة )) اهـ .

الحديث الثامن : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ، ينظر بعضهم إلى بعض ، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا : والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر _ منتفخ الخصيتين _ ، فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر ، ففر الحجر بثوبه ، فخرج موسى في إثره يقول : ثوبي يا حجر ، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى ، فقالوا : والله ما بموسى من بأس وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضرباً )) [متفق عليه . البخاري ( 1/ 107 ) برقم ( 274 ) ، ومسلم ( 1/ 267 ) برقم ( 339 ) .] .

قال المعارِض:(( كيف ينظر القوم إلى سوآت بعضهم البعض ؟، وكيف يطلع الناس على عورة نبي ، فهذا ينافي كمال النبوة وطهارتها )) اهـ .

قال الحافظ في الفتح ( 1/ 386 ) : (( ظاهره أن ذلك كان جائزاً في شرعهم ، وإلا لما أقرهم موسى على ذلك، وكان هو _عليه السلام_ يغتسل وحده أخذاً بالأفضل ... قوله : ثوبي يا حجر، أي أعطني ، وإنما خاطبه لأنه أجراه مجرى من يعقل لكونه فر بثوبه ، فانتقل عنده من حكم الجماد إلى حكم الحيوان فناداه ، فلما لم يعطه ضربه . وقيل : يحتمل أن يكون موسى أراد بضربه إظهار المعجزة بتأثير ضربه فيه ، ويحتمل أن يكون عن وحي. قوله : حتى نظرت ، ظاهرة أنهم رأوا جسده وبه يتم الاستدلال على جواز النظر عند الضرورة لمداواة وشبهها . وأبدى ابن الجوزي احتمال أن يكون كان عليه مئزر لأنه يظهر ما تحته بعد البلل، واستحسن ذلك ناقلاً له عن بعض مشايخه، وفيه نظر )) اهـ .

وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 4/ 33) : (( ويجوز أن يكون أراد موسى صلى الله عليه وسلم بضرب الحجر إظهار معجزة لقومه بأثر الضرب في الحجر، ويحتمل أنه أوحي إليه أن يضربه لإظهار المعجزة ، والله أعلم )) اهـ .

وفي تحفة الأحوذي ( 9/ 62): (( هذا يشعر بأن اغتسال بني إسرائيل عراة بمحضر منهم كان جائزاً في شرعهم، وإنما اغتسل موسى وحده استحياءً، ... وإن الله أراد أن يبرئه ، ...أي ينزهه عن نسبة ذلك العيب )) اهـ .

الحديث التاسع : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه_ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : (( رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي )) ، ويرحم الله لوطاً ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثتُ في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي )) [متفق عليه . البخاري ( 3/ 1233) برقم ( 3192) ، ومسلم( 4/ 1839) برقم ( 151) .] .

قال الحافظ في الفتح ( 6/ 412 و413) : (( اختلفوا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : نحن أحق بالشك . فقال بعضهم : معناه نحن أشد اشتياقاً إلى رؤية ذلك من إبراهيم ، وقيل : معناه إذا لم نشك نحن فإبراهيم أولى أن لا يشك ، أي لو كان الشك متطرقاً إلى الأنبياء لكنتُ أنا أحق به منهم ، وقد علمتم أني لم أشك ، فاعلموا أنه لم يشك، وإنما قال ذلك تواضعاً منه ، أو من قبل أن يُعلمه الله بأنه أفضل من إبراهيم. وهو كقوله في حديث أنس عند مسلم أن رَجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : (( يا خير البرية، قال : ذاك إبراهيم )) [رواه مسلم ( 4/ 1839 ) برقم ( 2369 ) .]. وقيل إن سبب هذا الحديث أن الآية لما نزلت قال بعض الناس شك إبراهيم ولم يشك نبينا ، فبلغه ذلك ، فقال نحن أحق بالشك من إبراهيم ، وأراد ما جرت به العادة في المخاطبة لمن أراد أن يدفع عن آخر شيئاً ...وقال آخرون: شك إبراهيم في القدرة وذكر أثر ابن عباس وعطاء، قال ابن عطية : ومحمل قول ابن عباس عندي أنها أرجى آية لما فيها من الإدلال على الله، وسؤال الإحياء في الدنيا ، أو لأن الإيمان يكفي فيه الإجمال، ولا يحتاج إلى تنقير وبحث ، قال : ومحمل قول عطاء : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس ، أي من طلب المعاينة ، قال : وأما الحديث فمبني على نفي الشك ، والمراد بالشك فيه الخواطر التي لا تثبت ، وأما الشك المصطلح وهو التوقف بين الأمرين من غير مزية لأحدهما على الآخر ، فهو منفي عن الخليل قطعاً ،

لأنه يبعد وقوعه ممن رسخ الإيمان في قلبه، فكيف بمن بلغ رتبة النبوة ؟! )) اهـ .

وقال السيوطي في شرحه على صحيح مسلم ( 1/ 173) : (( نحن أحق بالشك من إبراهيم ، معناه أن الشك يستحيل في حق إبراهيم ، فإن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقاً إلى الأنبياء لكنتُ أنا أحق به من إبراهيم ، وقد علمتم أني لم أشك ، فاعلموا أن إبراهيم لم يشك )) اهـ .

وقال الحافظ في الفتح ( 6/ 413) : (( ولو لبثتُ في السجن طول ما لبث يوسف لأجبتُ الداعي ، أي لأسرعتُ الإجابة في الخروج من السجن ، ولما قدمتُ طلب البراءة ، فوصفه بشدة الصبر ، حيث لم يبادر بالخروج ، وإنما قاله صلى الله عليه وسلم تواضعاً ، والتواضع لا يحط مرتبة الكبير ، بل يزيده رفعة وجلالاً )) اهـ .

وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 2/ 185) : (( فهو ثناء على يوسف _ عليه السلام _ وبيان لصبره وتأنيه ، والمراد بالداعي رسول الملك الذي أخبر الله _ سبحانه وتعالى _ أنه قال: { ائتوني به فلمَّا جاءه الرَّسولُ قال ارْجِعْ إلى ربك فاسأله ما بالُ النِّسوة اللاتي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ } [ يُوسُف: 50]، فلم يخرج يوسف صلى الله عليه وسلم مبادراً إلى الراحة، ومفارقةِ السجن الطويل، بل تثبت وتوقر وراسل الملك في كشف أمره الذي سجن بسببه،ولتظهر براءته عند الملك وغيره،ويلقاه مع اعتقاده براءته مما نسب إليه ، ولا خجل من يوسف ولا غيره ، فبيَّن نبينا صلى الله عليه وسلم فضيلةَ يوسف في هذا، وقوة نفسه في الخير،وكمال صبره، وحسن نظره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه ما قاله تواضعاً وإيثاراً للإبلاغ في بيان كمال فضيلة يوسف صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم )) اهـ .