سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

28‏/04‏/2014

التأثر باليهودية والنصرانية في المجتمع الجاهلي

التأثر باليهودية والنصرانية في المجتمع الجاهلي

من كتاب / الأساس الفكري للجاهلية

تأليف: إبراهيم أبو عواد .

facebook.com/abuawwad1982

.............................

     النصرانية واليهودية هما ديانتان أرضيتان لا سماويتان ، أسَّسهما فرزٌ تاريخي هُلامي. إذ إن الإسلام وحده هو الدِّين السماوي . قال اللهُ تعالى: ] إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ [ [ آل عمران : 19] .
     وهكذا يتبين لنا أن هاتين الديانتين الوضعيتين مجرد أضغاث أحلام متبخرة . والنصارى مستمرون في تسمية ديانتهم الباطلة بالمسيحية ، أي إسنادها إلى السَّيد المسيح صلى الله عليه وسلم ليكتسبوا الشرعية والمصداقية إلا أن هذه الحيلة لم تنطلِ إلا على السذج. وها هم يعملون جاهدين على ترويج هذه الخرافة في كل المحافل . لكنهم كلما سعوا أكثر نُكسوا على رؤوسهم ، لأنه في واقع الأمر لا يوجد شيء اسمه المسيحية . إذ إنه لا يجوز أن ننسب عقائد كفرية إلى السَّيد المسيح صلى الله عليه وسلم . ومن هنا نعلم خطورة هذه اللفظة الكفرية، وعلينا ألا نخضع للآلة الإعلامية الإنجيلية التالفة. وعلى الرغم من أن عقيدة الصليب التي يحملها النصارى غير مبنية على أسس سليمة، إلا أنها ما زالت الملهمة لبعض الناس. وقِسْ عليها العقائد المضادة للتوحيد في التوراة المحرَّفة .
     والتجمع الجاهلي بحكم كونه غارقاً في البدائية والتخلف والوثنية ، تأثر جزء منه في فترة من الفترات بالأطروحات النصرانية واليهودية . فالجماعات البشرية التي كانت تُنَصِّب إلهاً من تمر وتأكله إذا جاعت ، أو تقيم إلهاً من حَجَر لا يستطيع الدفاع عن نفسه ، وجدتْ كثيراً من التشابه بينها وبين العقائد الوثنية عند أهل الكتاب ، فمالت إلى اعتناقها. فمثلاً عقيدة الإله المتجسد في صورة إنسان لقيت هوى في نفوس عبدة الأصنام. فالنصراني يعبد إلهاً من لحم ودم ذا طبيعة إنسانية ، والجاهلي يعبد إلهاً من حجر أو غيره متجسداً ماثلاً للعيان . وهكذا نجد عاملاً مشتركاً بين العقيدتين النصرانية والوثنية. فثنائية الإله الإنسان ( اللاهوت والناسوت ) التكاملية_ حسب التصور الوثني النصراني _ أسستْ لمرحلة الهذيان الأيديولوجي التي تتوافق مع بدائية الوثنيين في الجزيرة العربية ، وانحصارِ تفكيرهم في إله مادي ملموس. كما أن ضعف الإله الذي يخضع لأهواء عبيده عقيدة راسخة في عقول الجاهليين . وهكذا لا نستغرب اقترابهم من المفهوم النصراني للإله الذي يُحكَم عليه بالموت ويُسلَّم إلى الناس ويُسخَر منه ويُبصَق عليه ويُجلَد ويُقتَل. وهذا هو المطلوب بالنسبة لكائن منسيٍّ في الصحاري لا يُسهم في تقدم الحضارة الإنسانية ، ولا يعرف _أصلاً _ أي شيء عن الحضارة . فالمفهوم البدائي المتخلف للإله أنه مادي ملموس موجود أمامنا ، يجري عليه ما يجري علينا ، وتؤثر فيه عوامل الحت والتعرية إن كان حجراً ، أما إن كان إنساناً _ كما في النصرانية _ فيتأثر بالجوع والعطش والحزن، وهو مُعرَّض للموت في أية لحظة . وهذا المفهوم الشاذ استساغه الإنسان البدائي المنبوذ في رمال الفيافي والصحاري ، والذي لا يعرف من الحياة سوى شهوتي البطن والفَرْج . 
     وإليك بعض النصوص الإنجيلية التي توضح ما ذهبنا إليه : (( فابن الإنسان هو رب السبت أيضاً ! ))      [ مرقس 2: 28] . يعني أن الإنسان صار إلهاً يخضع لها الزمانُ والمكان . فهو المتحكِّم بالوقت يتصرف فيه كيفما يشاء . (( لكي تعلموا أن لابن الإنسان على الأرض سُلطة غفران الخطايا )) [متى 9: 6]. ووفق هذا المنظور النصراني صار ابنُ الإنسان ( الكائن البشري ) يمتلك سُلطة غفران ذنوب البشر ، والتجاوز عن سيئاتهم . وإرسال الناس إلى الجنة أو النار وفق رؤيته الشخصية . وهذا النَّصُّ المتطرف يعني أن الإنسان صار هو الإله المتحكم في مصائر العباد ، وكأن الله تعالى تنازل عن سُلطاته وقدرته لصالح أحد عبيده . وهذا الفهمُ البدائي في الميثولوجيا النصرانية يدل على وجود ترابط بين الوثنية النصرانية والوثنية الجاهلية . (( يرسل ابنُ الإنسانِ ملائكتَه ))[ متى 13: 41] . فابنُ الإنسان صار حاكماً على الملائكة يُرسلهم إلى الوُجهة التي يريدها ، ولا يملكون إلا إطاعته ، لأنهم مُلْكٌ له _ حسب الرؤية النصرانية _ . (( ها نحن صاعدون إلى أُورشليم وسوف يُسلَّم ابنُ الإنسان إلى رؤساء الكهنة وإلى الكتبة فيحكمون عليه بالموت ويُسلِّمونه إلى أيدي الأُمم فَيَسخرون منه ويَبصقون عليه ويجلدونه ويقتلونه )) [ مرقس 10: 33و34] .
     فالسيد المسيح صلى الله عليه وسلم الذي أَلَّهه النصارى، قد جاء موعدُ نهايته_ حسب النَّص الإنجيلي _ . فَسَيَخضع للموت وتلقِّي السخرية والإهانة من أجل فداء البشر من الخطيئة . فهذا الإلهُ _ وفق العقيدة النصرانية_ الذي لا يَقدر أن يُدافع عن نفسه ، فكيف سيدافع عن عبيده ؟! . وهذه الرؤية الوثنية تتماهى تماماً مع فلسفة عبادة الأصنام عند مشركي الجاهلية . فالأصنامُ عاجزة عن الدفاع عن نفسها لأنها حجارة صَمَّاء لا حول لها ولا قوة ، فكيف ستُدافِع عن المؤمنين بها ؟! . 
     والنصارى يُشبِّهون المخلوق بالخالق _ كما اتضح لك من النصوص السابقة وهي غيض من فيض _ واليهود يُشبِّهون الخالق بالمخلوق . وإليك بعض النصوص من التوراة: ورد في تكوين 6: 6: (( فحزن الربُّ أنه عمل الإنسانَ في الأرضِ. وتأَسَّفَ في قلبه )) . فالربُّ _ وفق التصور الأسطوري التوراتي _ قد حزن لأنه عمل الإنسانَ في الأرض، واعتراه الأسف الذي أحرق قلبَه. وهذا الصورة المتخلفة تشير إلى بدائية العقل اليهودي في التعامل مع الشرائع الدينية . فهم يَعتبرون أن الإله مثل الإنسان الضعيف خاضع للمشاعر والأحاسيس. فيُصاب بالحزن، ويَخضع للأسف. وورد في مزمور 106: 45: (( ونَدِمَ _ أي الله _ حَسَبَ كثرة رحمته )).
     ولم تقف الأمور عند الحزن والأسف، بل إن الله تعالى _حسب المنهج التوراتي_ قد ندم . وبالطبع لا يكون الندم إلا بعد إصدار قرار يتبيَّن عدم صوابه فيما بعد . فاللهُ تعالى _ حسب العقلية اليهودية السطحية _ لم يكن يَعرف أبعادَ القضايا التي قَرَّرها ، لذلك ندم على سوء تقديره _ حاشاه _ . لكنه كَفَّر عن خطئه بإعلانه الندم والحزن على ما فات !! .
     إذن ، تتضح لنا عقائد أهل الكتاب التالفة والتي لاقت صدى في بعض التجمعات الجاهلية ، بسبب وجود نقاط تشابه بين عبدة الصليب ( النصارى ) وعبدة الأهواء ( اليهود ) وعبدة الأصنام ( أهل الجاهلية ) . وكما يقال : الطيور على أشكالها تقع .
     ما سبق كان توضيحاً لعقلية أولئك الذين اعتنقوا عقائد أهل الكتاب، وهم _ في كل الأحوال _ محدودون وذوو أعداد قليلة . وبالتالي كانت عقائد أهل الكتاب محدودة التأثير في الأوساط الجاهلية . والذين رفضوها _ وهم الغالبية الساحقة _ كانوا يدركون أنها عقائد متخلفة لا تلبي طموحاتِ الإنسان الجاهلي الطامح إلى الانعتاق والتحرر من ثقل الهواجس والشكوك والوثنية . والتخلف النصراني _ اليهودي يظهر جلياً في إضافة ابن إلى الذات الإلهية إضافة بُنُوَّة حقيقية لا مجازية . قال تعالى : ] وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ [ [ التوبة : 30] . والأناجيل تزعم أن المسيح ابن الله تعالى. وإليك النص التالي على سبيل المثال لا الحصر : (( فأجاب سِمعانُ بطرسُ قائلاً : أنتَ هو المسيحُ ابن اللهِ الحيِّ ! )) [ متَّى 16: 16] .
     ويبدو أن هذه اللوثة قد وصلت إلى أهل الجاهلية . فاليهود والنصارى جعلوا المخلوق ابناً لله تعالى، أمَّا أهلُ الجاهلية فجعلوا المخلوقات بناتٍ لله تعالى !. وهذه الانتكاسة المريعة تعكس التخلفَ العَقَدي عند أهل الكتاب وأهل الجاهلية ، وأوْجه التشابه بينهم .
     قال اللهُ تعالى : ] وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ [ [ النحل : 57] .
     فأهلُ الجاهلية جعلوا الملائكة بناتٍ وأَلحقوها بالله تعالى . وهذا الفهمُ القاصر يدل على الانهيار الفكري في منظومة العقائد الجاهلية في ظل غياب الهداية الربانية .
     وقال القرطبي في تفسيره ( 10/ 103): (( نزلت في خُزاعة وكنانة ، فإنهم زعموا أن الملائكةَ بناتُ الله )) اهـ . 
     إن النصرانية واليهودية تُحمِّلان الإنسانَ مسؤولية الخطية التي عَمَّت المخلوقات _ حسب التصور الديني عند أهل الكتاب _ ، وهكذا يصبح كل إنسان مذنباً منذ ولادته وحتى مماته . وتصبح الإنسانيةُ بحد ذاتها ذنباً كبيراً يحمله المؤمن بهذه الترهات (العقائد الإنجيلية التوراتية ) على كاهله، ولا يدري كيف يتخلص منه . وهكذا صار الدِّينُ مشكلةً في حياة اليهود والنصارى ، وليس حلاً .
     وفي صحيح البخاري ( 3/ 1391) : (( عن ابن عمر : أن زيد بن عمرو ابن نفيل خرج إلى الشأم ، يَسأل عن الدِّين ويتبعه ، فلقيَ عالِماً من اليهود ، فسأله عن دينهم ، فقال : إني لعلي أن أدين دينكم فأخبرني ، فقال : لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله ، قال زيد : ما أَفرُّ إلا من غضب الله ، ولا أَحمل من غضب الله شيئاً أبداً وأنى أستطيعه ؟ ، فهل تدلني على غيره ؟ ، قال : ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً ، قال زيد : وما الحنيف ؟ ، قال : دِين إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله . فخرج زيد فلقيَ عالِماً من النصارى، فذكر مثله، فقال : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله ، قال : ما أفرُّ إلا من لعنة الله ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئاً أبداً وأنى أستطيع؟، فهل تدلني على غيره ؟ قال : ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً ، قال : وما الحنيف ؟ ، قال : دِين إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله . فلمَّا رأى زيد قولهم في إبراهيم _ عليه السلام _خرج، فلمَّا برز رفع يديه فقال : اللهم إني أشهد أني على دِين إبراهيم )).
     إن اليهودية والنصرانية حَوَّلتا النصوصَ الدينية إلى كوابيس تطارد أصحابَها ، وأحالت الإنسانيةَ إلى لعنة وعبء ثقيل في هذا الوجود . وما تفشي التعقيد وغياب الطمأنينة في فكر أهل الكتاب إلا انعكاس لتحريف الكلام الإلهي . مما أدى إلى تحول اليهودية والنصرانية إلى حِمْل ثقيل وكُتل إسمنتية تضغط على أكتاف معتنقيها، وتُحيل أيامهم إلى كَوْمة أضداد ، ومنظومةِ تناقضات شرسة ، لا مكان للراحة النفسية فيها .
     أضف إلى ذلك أن النصرانية واليهودية ديانتان كهنوتيتان مغلقتان ، تسيران ضد المنطق وفطرة الفرد وطبيعة الأشياء تحثان على الإرهاب المنظَّم. إضافة إلى أنهما تمتلئان بالأسرار والطلاسم والعقائد اللامنطقية وغير المفهومة . وكل هذه العقائد التالفة تصير ألعوبة بيد الكهنة والرهبان ورجال الكنيسة التي تُعتبر مساندة للقمع الفكري والاجتماعي، ومناوئة للعقل.
     وتصبح المتاجرة بهذه العقائد وسيلة لتحقيق الربح السريع، واستغلال الأتباع وابتزازهم ، وإخضاعهم لنفوذ رِجال الدِّين ، والحصول على مكاسب مادية لقاء التلاعب بالكلام الإلهي ، وتأويله بحيث يدعم عِلية القوم على حساب أصحاب المكانية الاجتماعية المتدنية .
     قال اللهُ تعالى : ] يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً منَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ [ [ التوبة : 34].
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 461) : (( وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدِّين ومناصبهم ورياستهم في الناس يأكلون أموالهم بذلك ، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف ولهم عندهم خرج وهدايا وضرائب تجيء إليهم ، فلمَّا بعث اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم طمعاً منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات ، فأطفأها اللهُ بنور النبوة ، وسلبهم إياها وعَوَّضهم الذلَّ والصَّغار ، وباءوا بغضب من الله تعالى )) اهـ .
     واليهودية ليست أحسن حالاً من ( النصرانية) في الانهيار الذاتي. فعشق الوثنية متغلغل في نفوس اليهود ، وهذا العشق انعكس على توراتهم التي حُرِّفت وبُدِّلت. فالطامحون إلى الوثنية الصنمية وصلوا إلى عبادة العجل ، حيث إنهم كانوا يسعون إلى إله مادي متجسد يرونه أمامهم . قال تعالى : ] وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍِ لهم قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [         [ الأعراف : 138].وقال اللهُ تعالى : ] وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ [ [ البقرة : 51] .
     هذا الكلام كان تمهيداًَ وتوضيحاً للجاهلية الوثنية التي يعيشها أهل الكتاب ، والتي تلاقت في بعض الأحيان مع الجاهلية العربية قبل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم . ومن القصص التي تدل على تأثير ديانة أهل الكتاب في الحياة العامة، تلك القصة التي حدثت مع النبي صلى الله عليه وسلم وزوجته السيدة خديجة     _ عليها السلام _ من جهة، وورقة بن نوفل بن عم خديجة من جهة ثانية . وإليك ملخص القصة : 
     (( ثم انطلقت به خديجة _ أي بالنبي صلى الله عليه وسلم  _ حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد ابن عبد العزى بن قصي ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها ، وكان امرأ تنصَّر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب )){(1)}.
     والشاهد هو أن ورقة بن نوفل قد أُصيب بلوثة النصرانية ، وتصرف وفق ديانته الجديدة . فقد خرج من الوثنية العربية ودخل في الوثنية النصرانية . وهذا يدل على أن النصرانية كان لها وجود مؤثر في بعض الأوساط لا كلها ، إذ إنها في التجمع الجاهلي العربي كانت محدودة التأثير ، لعدم تلبيتها لطموحات الإنسان وأشواقه الروحية وتفاصيل حياته المادية . وليت شِعري كيف ستلبي النصرانيةُ الأشواقَ الروحية للفرد وهي قاتلةٌ للروح نافيةٌ للجسد مؤسِّسة للوثنية الجديدة ؟!. وما يهمنا في هذا السياق معرفة الجهود الجبارة التي يبذلها رجالُ الكنيسة والمنصِّرون{(2)} في سبيل ترويج تلك البضاعة الكاسدة والمسماة بالنصرانية . وعلينا أن نعرف الدعوة إلى اعتناق النصرانية من أسس هذه الديانة المتخلفة ، وهو ما يسمى كذباً وزوراً بالتبشير . وهم يستندون في عملهم التنصيري إلى عدة نصوص إنجيلية. نكتفي بذكر واحد منها وهو : (( وفيما أنتم ذاهبون بَشِّروا قائلين: قد اقترب ملكوتُ السماوات ))  [ متَّى 10: 7] .
     فهذا النص الذي استخدمه علماء النصارى لترويج عقائد التثليث والدعوة إليها ، تم إخراجه من سياقه ، وذلك بأن وُظِّف كغطاء سياسي لإرهاب البشر والجماعات الإنسانية واضطهادها ، كما حدث في محاكم التفتيش المترامية الأطراف، والتي انتشرت في أماكن كثيرة من العالم. ومن الضروري أن نعرف أن هناك محاكم تفتيش في العصر الجاهلي ، لكنها من نوع مختلف . ولتوضيح هذه الفكرة التي قد يراها البعض غريبة ، نقول : إن محاكم التفتيش هي لب النصرانية . إذ إنها تمارس الإرهاب الفكري الموجَّه ضد الفطرة الإنسانية على كافة الأصعدة وفي كل المحافل. والمؤسسة الدينية اليهودية ليست أحسن حالاً من المؤسسة النصرانية الكهنوتية ، فالتوظيف السياسي لعقائد الأناجيل والتوراة المصابة بالتحريف والانحراف قد أدى إلى بعث حالة من القمع الفكري الموجَّه ضد الحقيقة أولاً وأخيراً. والأحبار والرهبان مارسوا دورهم التعتيمي النابذ للتنوير بكل حرفية ومكر، ساعين إلى ابتزاز السذج والمغفلين كي تزداد أرباحهم المادية المتمثلة في الذهب والفضة ، وأرباحهم المعنوية المتمثلة في تحقيق نفوذ أوسع وعلاقات عامة أكثر اتساعاً ونفوذاً . وهكذا يتضح أننا أمام مؤسسة رهيبة موغلة في رسم الخطط الهادفة إلى تسويق العقائد الزائفة من أجل الحفاظ على المكتسبات غير الشرعية ، وتفعيلها وزيادتها وحراستها من الثائرين على الباطل .
     والجدير بالذكر أن النصرانية أصبحت منظَّمة ، لها في ( نجران ) أسقفها وكنيستها ، وهي متصلة بالكنيسة الشرقية اليونانية ، واليهودية تنمو في الحجاز ، في يثرب _ المدينة _ وخيبر وغيرهما . وهكذا نجد أن الإرهاب اليهونصراني{(3)} راح يُنظِّم قواعده وأماكن نفوذه لدرجة أنه ضرب بعضَ عقائد شعراء المعلقات الوثنيين . فنجد_ مثلاً _ زهير بن أبي سلمى {(4)} يقول :

فلا تكتمـن اللهَ ما في نفوسكم      ليخفى و مهـما يُكتم اللهُ يعلمِ {(5)}
يُؤخَّر فيوضع  في كتاب فيُدَّخَر      ليوم الحسـاب أو يُعَجَّل فيَنقَمِ {(6)}

     والعجيب أننا نجد زهير بن أبي سلمى _ وهو الشاعر البدائي الوثني الجاهلي _ يتحدث عن علم الله المطلق الذي أحاط بالسرائر والخفايا والسر والعلن . كما يتحدث عن اليوم الآخر يوم الحساب الذي يتم فيه محاسبة العباد . وهذه العقيدة إنما وصلته من عقائد أهل الكتاب في اليوم الآخر والبعث بعد الموت . وما يهمنا في هذا المقام معرفة التأثير الذي أحدثته النصرانية واليهودية فيما حولها من البيئة العربية الجاهلية . ويتبين لنا أن الأحبار والرهبان لم يكونوا نائمين في أماكن عبادتهم، بل كانوا يسعون بكل ما أُوتوا من طاقة إلى توظيف النصوص المحرَّفة سياسياً ، لينالوا شرعية خالية من المعارِضين، وسلطة أكثر إرهاباً للمخالفين ، وقمعاً للحريات الشخصية والعامة ، واضطهاداً للمناوئين الرافضين لخرافات الأناجيل والتوراة المضادة للعقل الجمعي ، وسيطرة رجال الدين على العقول والأجسام مستخدمين سلطةً وهمية باسم الرب تعالى ، يقومون من خلالها بزرع الأوهام في البشر البدائيين السذج .
     والتأثير الأيديولوجي اليهونصراني يتم تركيزه على الجوانب الاجتماعية والدينية في حياة الفرد الجاهلي . وجاهلية الأناجيل والتوراة قريبة من جاهلية العرب في أرض الجزيرة . إذ إن التشابه يتركز بشكل أساسي حول  القيم  البدائية والتفكير الضحل . وبما أن الجاهلية ظاهرة اجتماعية مرحلية تحيط بتفاصيل الحياة التي يعيشها الأفراد ذوو الأفكار الوضعية والتقاليد المتوارثة بشكل أعمى ، فإن وجودها لا يقتصر على الواقع المادي الملموس ، بل يتعداه إلى الأذهان وطريقة التفكير والتحليل. فالنواة الجاهلية تجسد مركزية التعامل مع العناصر المحيطة. وهذه العناصر تتمثل في اليهودية والنصرانية اللتين كانتا على تماس مباشر مع حياة الجاهلي ، مما جعلهما منبعاً للأفكار الخاطئة والعقائد الباطلة واختلاط القيم السلبية ضمن دائرة فوضوية من التأثر والتأثير . وهذه العلاقة الجدلية تُوظَّف لصالح طبقة رجال الدين عند أهل الكتاب ، وعِلْية القوم من العرب الوثنيين الذين لا يدركون جدلية هذه العلاقة ومتطلباتها الحجرية وخطورتها.
     إن طبع صورة الدولة الجاهلية المشتتة على جلود الدهماء يهيمن على طبيعة التحليل الذي يغدو لامنطقياً ، بسبب التشبث بمقاليد الحكم الاستبدادي . فالتمسك بدفة القيادة اللاواعية أو ذات اللاوعي المصطنع يكرِّس عناصرَ الواقع المتخيَّل لخدمة طبقة قليلة وفئة متحكمة في رقاب الكثيرين. وهذه الطبقة تصير جزءاً من قانون بوليسي عُرفي تؤخذ مواده من التوراة والأناجيل ، وتنعكس حيثياته على حياة بعض الجاهليين الذين وجدوا في اعتناق اليهودية والنصرانية متنفساً ، ولكنهم سرعان ما اكتشفوا أن ذلك الاعتناق إنما هو مهزلة حقيقية لا يشفي غليلاً، لأن اليهودية والنصرانية منتجان هلاميان أنتجتهما ظروف تاريخية انقرضت ، حتى العقائد الصحيحة كالبعث واليوم الآخر يتم صهرهما في قالب من العشوائيات والهذيان والعقائد الوثنية في كل من اليهودية والنصرانية . وليس أدل على كلامي من قول زهير بن أبي سلمى الذي تحدثنا عنه آنفاً :

رأيت المنايا خَبطَ عشواءَ من تَصبْ           تُمِتْـهُ وَمَـنْ تخطـئ يُعَمَّرُ فيهرَمِ

     فها هو يقرر أن الموت يصيب الناس على غير نسق وترتيب وبصيرة، وهذه عقيدة تضاد العقيدة الصحيحة وهي أن الله تعالى يقبض أرواح من يشاء إذا انتهت أعمارهم المكتوبة . وهذه الردة في التفكير نابعة من عجز ديانتي أهل الكتاب عن تقديم الطمأنينة والسمو الروحي الإيماني .
     ولا يمكن أن يتأتى تحليل المدلولات الفكرية للحقبة الجاهلية بدون المرور على التأثيرات المركزية للمؤسسة الدينية اليهونصرانية ، وما خلفته من عقائد زائغة ومفاهيم شابها الكثير من التناقض والاضطراب . فهي عاجزة عن تقديم الإجابات الشافية عن الأسئلة الوجودية الحتمية التي تختمر في ذهن الفرد ، وتنعكس _ شاء أم أبى _ على حياته الذهنية والواقعية . كما أن التوظيف التعبيري لطريقة سياسة الناس متأثر بالتناقضات الفلسفية التي دخلت في عقائد أهل الكتاب ، وَوَجَّهتها نحو مزيد من الاهتزاز وانعدام السوية . وبالطبع فإن العقلية الوهمية المتفشية في سياقات التوراة والإنجيل ما هي إلا انعكاس للحتمية الضبابية في مستويات العقيدة المضادة للطموح البشري في التحرر والتحرير . 
     وهكذا تصبح العلاقة الرابطة بين الواقعية التَّوإنجيلية {(7)} والحياة الاجتماعية شكلاً لاختلال الموازين ، واختلال النظام الحياتي الفكري المتوزع بين الذهن والواقع ، وصولاً إلى نظام فوضوي {(8)} قائم على التداعيات النفسية الواقعة على الجماعة البشرية ، والانسحابات المؤدلَجة ذات القيم السلوكية العبثية .
     إن الاتجاهات المستقلة للأنظمة الفوضوية ذات مدلولات إرهاصية تتعلق بشكل أو بآخر بالنواحي الفكرية والاجتماعية داخل المحيط الذي يكوِّن فلسفته الخاصة القائمة على الانتقائية الفجة، من أجل السيطرة على عقول الأتباع وتوجيهها باتجاهات تخدم أصحاب النفوذ والسطوة .
وعلينا أن ننتبه إلى أنواع الصراعات المستفحلة داخل الأوساط الدينية في المؤسسة اليهونصرانية . فهناك صراع رجال الدين مع النص الذي يظنونه مقدَّساً ، وصراع رجال الدين مع سلطة الكنيسة . وصراع الأصوليين مع المجدِّدين . والصراع الذي أحسبه الأهم ، وهو الصراع على النص الذي يظنونه مقدَّساً . فكل واحد يحاول تأويله بما يخدم مصلحته ومصلحة أتباعه .   
     وتعزيز هذه السياسة إنما يسير وفق منظومة احتكارية تحتكر ما تعتقده حقاً مطلقاً. وإذا فهمنا هذه النقطة نستطيع فهم لماذا قاوم اليهود والنصارى الرسالةَ المحمدية الإسلامية . إذ إنهم كانوا يعتقدون أنهم على الحق المطلق وغيرهم على الباطل المطْلق {(9)} ، وهذا بحد ذاته إرهاب فكري مارسه أهل الكتاب الذين حَرَّفوا كتبهم ، وشَوَّهوا تعاليم أنبيائهم _ عليهم الصلاة والسلام _ . إنهم حرَّفوا التعاليم السماوية من أجل المحافظة على نفوذهم ومكانتهم الاجتماعية ، مؤثرين الحياة الدنيا الفانية على الآخرة الباقية، وهذا سوء نظر في الأمور، واستدلال ممتلئ بالأخطاء والأفكار الواهية التي لا تسمن ولا تغني من جوع .
     وتأثير أهل الكتاب في أهل الجاهلية كان وبالاً عليهم جميعاً . وهذا التأثير مرجعه إلى خضوع أهل الجاهلية لمراوغَة أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) ، وقدرتهم على التلاعب بالنصوص الدينية التي لديهم ، وتأويلها بما يضمن استمرارَ نفوذهم . كما أن أهل الجاهلية كانوا ينظرون إلى اليهود والنصارى على أنهم أصحاب مكانة سامية متقدمة على الجاهلية الدونية بسبب وجود التوراة والإنجيل بين أيديهم . وهذه النقطةُ استغلها أهلُ الكتاب من أجل تحقيق أرباح شخصية على حساب جهل المشركين ، وتوسيعِ نفوذهم ، والحصولِ على مكانة اجتماعية عُليا . وهكذا تتجلى فلسفة أهل الكتاب في المتاجرة بنصوصهم الدِّينية التي يُقدِّسونها .
     قال اللهُ تعالى : ] أَلَمْ تَرَ إِلَى الذِينَ أُوتُوا نَصِيباً منَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً [ [ النِّساء : 51] .
     وسبب النزول يبينه الحديث التالي : عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : لَمَّا قَدِمَ كعب بن الأشرف مكة أتوه ، فقالوا : نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سَيِّد أهل يثرب فنحن خير أم هذا الصنيبير المنبتر من قومه _ يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم _ يزعم أنه خير منا، فقال : أنتم خير منه {(10)}.
     فالطاغوت ( كعب بن الأشرف ) الذي كان من زعماء اليهود استغل مكانته وعلمه بوصفه من أهل الكتاب للتدليس والتلبيس على أهل الجاهلية الوثنيين البدائيين، فكانت النتيجة أن قام بهذه الخيانة الشنيعة مفضلاً عبدة الأصنام على إمام الموحِّدين الأنقياء النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
     وبسبب عداوته الشديدة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإعلانه الحرب على الإسلام والمسلمين ، فقد هُدر دمُه بسبب خيانته العظمى . مع العلم أن الإسلام لا يُحارِب الناسَ بسبب معتقداتهم . فهم أحرارٌ في اعتناق ما يرونه مناسباً. ولكنْ إذا تعرَّض الإسلامُ لهجوم وحرب مستعرة ، فعندئذ سوف يدافع المسلمون عن دينهم ووجودهم . وعلى الطرف الآخر تحمُّل المسؤولية كاملةً .
     وهذا الكلامُ ليس غريباً . فكلُّ دول العالَم تضع قوانين لحماية وجودها ومواطنيها، وتَعتقل أو تَقتل كلَّ الذين يهددون مصالحها. والمنهجُ الإسلامي واضح في عدم الاعتداء على أحد، ولكنه بالطبع يُميِّز بين المسالِمين والمحارِبين. وكلُّ عقيدة لا بد لها من قوة تحميها ، وكلُّ قوةٍ لا بد لها من عقيدة تُوَجِّهها .  
     وعن جابر بن عبد الله_ رضي الله عنهما_ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله))، فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله، قال: ((نعم )) ، فائذن لي أن أقول شيئاً قال : (( قل )) ... فلما استمكن منه قال : دونكم فقتلوه ، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه {(11)}.
     والبيئة الجاهلية المتشظية إلى وثنية أعرابية ويهودية ونصرانية تؤسس احتكارَ ما يُعتقَد أنه حق. وتعميقاً لهذه الفكرة السائدة في الأوساط الصنمية تقوم القوى المؤثرة داخل العقيدة الجاهلية بإضفاء صفة العصمة على الممارسات البشرية الدونية المتحجرة للعبادات الباطلة ، واستلاب ملكية المعنى ، وصبغها بصبغة القداسة والكمال والعصمة . ويجب أن نعلم أن اليهودية والنصرانية ذواتا صبغة وثنية . فالمجسِّم يعبد صنماً ماثلاً في فكره المريض . ومؤسسو التجسيم {(12)} هم اليهود والنصارى {(13)} ، وسبب ذلك هو عشقهم لإله متجسِّد مادي يماثلهم في الصفات والأفعال والخصائص . وينتج عن مثل هذا التفكير صراع حاد بين مكوِّنات البيئة البدائية التوراتية والأناجيلية ، وسريان الصراع مصبوغ بالعدمية والعبثية المسماة ديناً في الثقافة الوثنية ذات الأجهزة البوليسية _ وإن اختلفت التسميات_. وإذا أنعمنا النظر في الحالة الواهمة المسماة " صلب المسيح " التي ابتكرها أصحاب الأناجيل ، نجدها نتيجة طبيعية لتحكمهم في تأويل النص الديني الوثني ، واستيلائهم على الألفاظ والمعاني ومدلولاتها ، مما مكنهم من فرض سيطرتهم على الموروث الديني العابث، وتوجيهه نحو تعزيز القيم الرافضة للآخر، وتفعيل الأدوار غير الأخلاقية ، وبناء منظومات بعيدة كل البعد عن احترام إنسانية الإنسان .
     وبنائية الأفعال الذهنية الشاذة عن المسار الحضاري الفاعل تُنتِج حركاتٍ نفسية واجتماعية انتكاسية تنحت أخاديد مرفوضة منطقياً في سلسلة اللاوعي الانسحابي ، ويظل التناحر داخل النسق التحطيمي الباعث على تعديلات غير معنية باحترام كينونة الفرد وحقوقه وواجباته في قلب بيئة رافضة للتقدم، نابذة لكل فكر خلاق ، لأن الفكر الخلاق _ من وجهة نظر العلاقات المبنية على الوثنية _ يهدد نظامَ الحكم سواءٌ كان فكرياً أو واقعياً ، فردياً أو جماعياً . فليست الحرية في هذا الصراع المتفشي سوى تفريغ للشهوة المعبأة بالجموح غير الموجَّه إلا إلى أنساق بشرية عابرة، تعتمد على تعقيد طرق التعامل مع ثنائية الشهوة وتفريغها، والبنائية الجدلية للأنماط الثقافية المفكَّكة في المنظور النفسي المهلهَل .
     فالأجهزة المسيطرة على بُنى التحركات الفلسفية في سياق الوثنية العالمية تعمل ليل نهار للوصول إلى كائن منفصل عن السماء ، وللأسف فإن اليهونصرانية تساعد على ذلك ، أي إنها تعمل لسلخ الإنسان عن خضوعه لله تعالى، بسبب كونها قاصرة عن توفير المتعة والأمان الروحيين. ولنضرب مثالاً على فشل اليهودية في قيادة الحيارى إلى الخلاص ، علماً بأن النصرانية غارقة في الفشل كما اليهودية ، فنقول إن أرسطو {(14)} ظهر بعد النبي موسى وقبل النبي عيسى_عليهما الصلاة والسلام _، لكن العقائد الزائغة التي وصلته من اليهودية المنسوبة _ كذباً وزوراً _ إلى النبي موسى صلى الله عليه وسلم ، كانت مشوَّشة وعدمية . وليس أدل على ذلك من عقيدة أرسطو المتعلقة بالإله . إذ إنه يعتقد أن الإله لا عمل له ولا إرادة ، وسبب هذا الزعم هو اعتقاده بأن العمل طلب لشيء ، والله غني عن كل طلب ، وقد كانت الإرادة اختياراً بين أمرين ، والله قد اجتمع عنده الأصلح الأفضل من كل كمال، فلا حاجة به إلى الاختيار بين صالح وغير صالح ، ولا بين فاضل ومفضول . هذه هي شُبه أرسطو .
     وللرد على هذا العقم الفلسفي العشوائي العدمي، نقول إن الله تعالى فعالٌ لما يريد ، يعمل ما يشاء . وأعمال الإنسان هي طلب لشيء لكون الإنسان داخلاً في عداد الأجسام، لكن أفعال الإله وأعماله ليست طلباً لشيء ، إذ إنه ليس كمثله شيء ولا هو مثل شيء ، وهو مخالف للحوادث والأجسام والأعراض والجواهر. وأعمال الله تعالى إنما هي بعلم قديم أزلي لم يزل موصوفاً به في أزل الآزال، لا بعلم متجدد حاصل في ذاته بالحلول والانتقال .
     أما  الإرادة  فهي  صفة قديمة زائدة على الذات  ،  قائمة  بها  تُخصِّص الممكنَ ببعض ما يجوز عليه على وفق العلم وهي واحدة . ولو لم تجب له الإرادة لكان مكرهاً ، ولو كان مُكرهاً لما وُجد شيء من هذا العالم ، ولكن العالم موجود ، فثبت كونه سبحانه متصفاً بالإرادة . أما ما ذهب إليه أرسطو إلى أن الإرادة اختيار بين أمرين ، وأن الله تعالى لا حاجة به إلى الاختيار بين صالح وغير صالح ، لأنه اجتمع عنده الأصلح ، فنقول إن عبارة " غير صالح " تكون نسبية حين يستخدمها الإنسان ، فقد يظن المرءُ أن أمراً ما غير صالح ، لكنه في الحقيقة قد يكون صالحاً له ، لأن علم الإنسان محدود وقاصر . لذا نقول إن هناك الصلاح والأصلح ، ومن الجائز في حقه تعالى فعل الصلاح والأصلح وليس من الواجب {(15)}. فلو كان واجباً لما وقعت محنة دنيا ولا أخرى ، ولما وقع تكليف بأمر ولا نهي . وهكذا تتساقط مزاعم أرسطو بالكلية .
     إن استخلاص التجارب الأيديولوجية الجاهلية يؤثر على جملة روابط في المحيط النواة وفي أفعال الكائن البدائي . لذلك فإننا نجزم أن الفوضوية التوراتية الأناجيلية قد أثرت على بعض مساحات التفكير داخل الجماعة في أرض الجزيرة العربية ، لكن هذا التأثير كان مختلطاً بغبش واضح وضبابية لم تجب عن أسئلة الفرد ، ولم تُشبع رغباته وشهواته وميوله وتطلعاته. وما الأجزاء العدمية المهيمنة إلا صورة طبق الأصل للمشروع الذهني والواقعي، ونتيجة نوعية لارتباك السلطة المحلية وعبثها المتواصل في جوف التحديات المستقبلية .
     فتعيين المواقع الجيوسياسية في أنوية المحيط الأولي نابع _ بالأساس _ من المصالح الشكلية النفعية المبنية على أرضية غير ثابتة ، يتم تأصيلها ضمن الإرهاب اليهونصراني ، وقمع التوراة والأناجيل لكل فكر خلاق مبدع. واستشرى القمع بصورة هستيرية في المحيطات الفلسفية الغارقة في التخلف والتبعية العمياء . أمَّا بالنسبة إلى التحليل العميق الذي تجريه دراستنا للمؤسَّسة الفوضوية القائمة على قتل المعنى وبناء نزيف الفكرة، فهو لا يعدو عن كونه إضاءة في ليل بهيم لا يُعرَف أوله من آخره ، ومحاولةً لتشخيص الحالات التي تبرز المأزقَ الوجودي في التجمع البشري الأولي .
     لقد كانت الانتقالات المضطربة في التأسيسات المعنوية نصاً دينياً مُعوجَّاً داخل أنساق التوراة والأناجيل، وهذا أدى إلى تغيرات في أشكال المعنى وأبنية اللفظ المسيَّس . ووجود حالة مخصَّصة لإعادة بناء التحكم والاستبداد كان الباعث على تكريس مركز السلطة ومركزية الموروث المتداعي ضمن قواعد عامة تتضمن الفروع المتساقطة والأصول المتداعية.
     إننا أمام حالة عقيمة من التوترات النفسية المتولدة من عقم النص الديني عند أهل الكتاب . فالعقم النصي المتوارث كان بمثابة الوقود المشتعل لتحريك القطارات الناقلة للأفكار الشيطانية ذات البعد اليهونصراني . ولما كانت التوراة والأناجيل الحالية نتاج بشري مؤدلَج ، كانت النتائج عكسية مستندة إلى إسهامات بشرية ، وتحليلات خُرافية معتمة. ولأن أهل الكتاب كانوا على صلة وثيقة بالحياة الجاهلية ، وجدنا أن دورهم كان يتعاظم شيئاً فشيئاً ، ليس بسبب جودة البضاعة ، بل لتحركات المتاجرين بالنص الديني الوهمي، والمؤسَّس على أرضية الخرافة، والمستند إلى خلفية الوهم العابث ذي التشظيات الفلسفية المغرِقة في العدم .
     وأديانُ العرب في الجاهلية كانت مختلفةً . وهذا الاختلاف يعتمد على إفرازات البيئة الاجتماعية ، فالإنسانُ ابنُ بيئته . وأيضاً ، يعتمد الاختلاف الديني على الاستعداد النَّفْسي والعقلي لأفراد القبائل. وبالتأكيد، إن كُلَّ قبيلة كانت تُشكِّل وَحدةً مجتمعيةً خاصة من حيث العقائد الدينية ، والموْروث الثقافي ، والقدرات المادية ، والتاريخ ، والخصائص الاجتماعية .
     قال الأبشيهي في المستطرف( 2/ 174): (( كانت النصرانية في ربيعة وغسان وبعض قضاعة ، وكانت اليهودية في نمير وبني كنانة وبني الحرث بن كعب وكندة ، وكانت المجوسية في بني تميم ... ومنهم الأقرع بن حابس كان مجوسياً ، وكانت الزندقة في قريش أخذوها من الجزيرة )) اهـ.
................الحاشية........................
{(1)} متقق عليه ، واللفظ للبخاري ( 6/2561) . ومسلم ( 1/ 139) .
{(2)} من الخطأ تسمية المنصِّرين بالمبشِّرين . فهم لا يملكون شيئاً يُبشِّرون به سوى الخلود في جهنم ، إن كان هذا بُشرى ! .
{(3)} هي العلاقة العبثية بين اليهودية والنصرانية واتفاقهما_ رغم التناقضات الحادة بينهما والعداوة المتفشية _ على معاداة الحق المطلق الوحيد والمتمثل في الإسلام . ومن التناقضات الصارخة بينهما ، وأسباب العداوة المستحكمة أن اليهود اتهموا السيدة العذراء مريم _ عليه السلام _ بالزنا . قال تعالى : ] وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً [ [ النساء : 156] . قال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 762 ) : (( قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني أنهم رموها بالزنا ، وكذلك قال السدي وجويبر ومحمد بن إسحاق وغير واحد، وهو ظاهر من الآية أنهم رموها وابنها بالعظائم وجعلوها زانية وقد حملت بولدها من ذلك زاد بعضهم وهي حائض، فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة )) اهـ . كما أن اليهود يتبجحون ويزعمون أنهم قتلوا السَّيد المسيح . قال الله تعالى :     ] وَقَوْلِهِمْ  إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ  مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ  وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ  وَإِنَّ الذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِن عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَاً (157)  بَل رفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيمَاً (158) [ [ سورة النِّساء ].وقولهم بكل وقاحة:(( ليكن دمُه علينا وعلى أولادنا ! )) [ متَّى 27: 25] .
{(4)} هو زهير بن أبي سلمى بن ربيعة بن رياح ( 530 م _ 627 م ) ، شاعر جاهلي من الثلاثة المقدَّمين ( امرؤ القيس وزهير والنابغة الذبياني ) من بني ( مزينة ) ولكنه أقام عند بني غطفان لأنه تزوج امرأة منهم ، كما يقال أنه غادر قومه لخلاف وقع بينه وبينهم فتركهم ونزل في أرض غطفان في محل من نجد يقال له ( الحاجز ) .
{(5)} يقول : لا تخفوا من الله ما تضمرون من الغدر ونقض العهد ليخفى على الله، ومهما يُكتَم من شيء يعلمه الله. يريد أن الله عالم بالخفيات والسرائر ولا يخفى عليه شيء من ضمائر العباد. فلا تضمروا الغدر ونقض العهد فإنكم إن أضمرتموه علمه الله. وقوله : يُكتم الله ، أي يُكتم من الله . [ انظر شرح المعلقات السبع ، الزوزني ، ص 143]. / انظر فلسفة المعلقات العشر إبراهيم أبو عواد .
{(6)} أي يؤخر عقابه ويرقم في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل العقاب في الدنيا قبل المصير إلى الآخرة فينتقم من صاحبه . يريد لا مخلص من عقاب آجلاً أو عاجلاً . [ المرجع السابق ، ص 144] / فلسفة المعلقات لإبراهيم أبو عواد .
{(7)} هي العلاقة الفوضوية بين التوراة والإنجيل ( الأناجيل وتوابعها ) بوصفهما أساس التحريف والتناقض .
{(8)} النظام الفوضوي : تشكيل ذهني منعكس عن واقع يعتمد على الفوضى التامة في الحياة ، وهذه الفوضى تصير نظاماً بحد ذاتها ، إذ تصبح الوسيلة والهدف . ومن أبرز الأمثلة على الأنظمة الفوضوية التوراة والإنجيل الواقعان في دائرة التحريف والاختلال . وينتج عن هذا الأمر تناقض وظائف الإنسان ، واختلال علاقته بمحيطه الذي يصبح منفياً ضمن أفلاك من الفوضى المنظَّمة من أجل تعميق الفوضى والفجوة بين الإنسان وما يحيطه .
{(9)} المسلمون وحدهم على الحق المطلق وغيرهم على الباطل المطلق . وهذا ليس تعنتاً أو استكباراً بغير الحق، والسبب في ذلك أنهم يستندون إلى الدين السماوي الأوحد ( الإسلام ) ، والكتاب السماوي الوحيد السالم من التحريف . وبالتالي فهم _ وحدهم _ مرتبطون بالسماء ، وما عداهم ما زالوا يرزحون تحت وطأة الديانات الأرضية الشيطانية التي أسسها الشيطان لعباده. قال تعالى : ] وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [[آل عمران:85 ].
{(10)} رواه ابن حبان في صحيحه ( 14/ 534 ) برقم ( 6572) . قلتُ : وفي تفسير ابن كثير ( 4/ 560 ) : رواه البزار بسند صحيح .
{(11)} رواه البخاري ( 4/ 1481 ) واللفظ له ، ومسلم ( 3/ 1425 ) .
ولقراءة الحديث بطوله ارجع إلى مصادره . ويُفهَم من هذا الحديث الشريف ما يلي :
أ_ جواز استخدام الحيلة والكذب في الحرب تصريحاً أو تلميحاً. وهذا يُفهم من قول محمد بن مسلمة :        (( فائذن لي أن أقول شيئاً )) وموافقة النبي صلى الله عليه وسلم .
ب_ جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة ، ولكن يُستحب إنذارهم . أما الذين لم تبلغهم الدعوة فلا يجوز الإغارة عليهم . 
     وإياك أن تفهم من هذا الحديث الشريف أن الإسلام يدعو إلى قتل الكفار واغتيالهم دون وجه حق . فكعب بن الأشرف كان عدواً محارِباً لأنه نقض العهد وأعان على حرب النبي صلى الله عليه وسلم وهجاه . أما الكافر غير المحارِب فله حقوقه كاملة ، ويُعرَض عليه الإسلام عرضاً يجيب عن كامل الأسئلة ، ويُفنِّد كل الشكوك والهواجس والريبة . فإن أبى فالجزية نظير حمايته تحت ظل الدولة الإسلامية ورعايته والاعتناء به ، وصيانة ماله وعرضه ، والدفاع عنه ضد الأعداء ، حتى إن المسلم يموت في سبيل الدفاع عنه ، وتوفير فرص العمل له ولأبنائه ، وإعطائه من مال بيت المسلمين في حالة احتياجه ، وتأمين العيش الكريم له ولعائلته ، فإن أبى فالقتل . والرافض لهذا يصير محارِباً يجب التصدي له ، وخائناً خيانة عظمى . ألا تجد أن الدول التي تتشدق بحقوق الإنسان تحكم بالموت على الخونة والعملاء لكي تحميَ نظامها المتهالك. ومن حق الإسلام أن يُشرِّع الأنظمة التي تحمي وجوده وأتباعه، وهذا منتهى العدالة الاجتماعية ، والتي عرضت كل الاحتمالات أمام الشخص عرضاً كريماً طيباً يحترم إنسانيته. فليسكت الحمقى من المستشرقين والدائرين في فلكهم من أبناء جِلدتنا عن ترويج الإشاعات الفارغة والأكاذيب التي تتهم الإسلام بالإرهاب وعدم احترام حقوق الإنسان . وقارن بين العدالة والرحمة الإسلامية وبين الإرهاب النصراني واليهودي الذي تنادي به نصوص التوراة وبعض نصوص الأناجيل . [ للمقارنة راجع كتابنا صورة اليهود في القرآن والسنة والأناجيل ] .
{(12)} التجسيم هو اعتقاد أن الله تعالى جسم ، أو إضفاء عليه صفات الأجسام والمكوَّنات .
{(13)} لمزيد من المعلومات حول عقائد التجسيم والتشبيه اليهونصرانية ، راجع كتابنا صورة اليهود في القرآن والسنة والأناجيل ، وكتابنا التناقض في التوراة والأناجيل .
{(14)} أرسطو طاليس ( 384 ق.م. _ 322 ق.م. ) ، فيلسوف وثني عنصري يجسِّد الجاهلية اليونانية بكل طغيانها وجهلها . كانت المجتمعات اليونانية في عصره تتكون من طبقتين هما : السادة والعبيد . ويكفيه عنصريةً أنه كان يرى أن مهمة العبيد هي العمل البدني وخدمة السادة فقط، وأنهم ليسوا مؤهلين لممارسة الفضائل واكتسابها.

{(15)} قالت المعتزلة بوجوب الصلاح والأصلح على الله تعالى ، وهذا سوء أدب. ويبدو أنهم قد أُصيبوا بلوثة الفلسفة ، خصوصاً فلسفة أرسطو . 

27‏/04‏/2014

ذاكرة بين الشفق والقبور / قصيدة

ذاكرة بين الشفق والقبور / قصيدة

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد .

facebook.com/abuawwad1982

.....................

     لا أَجِدُ مَا أُفْطِرُ عَلَيْه / أَعْطاني الشَّفقُ سَبْعَ تَمراتٍ / طِرْتُ فَرَحاً كأجفانِ الكَهْرمان / ذَهبتُ إلى المقبرةِ كَالوَرْدةِ التي شَنَقتْ عِطْرَها / وَجَلَسْتُ بَيْنَ القُبور / انتظرتُ المطرَ كَي يُفْطِرَ مَعي لكنه لَم يَأْتِ/ وانتظرتُ أَبي لكني تذكرتُ أنه ماتَ/

     كُلُّ الفَتَياتِ اللواتي أحببتهنَّ تَزَوَّجْنَ غَيْري/ وَذَهَبْنَ إلى شُققِ الأحياءِ الرَّاقيةِ / وأنا أمسحُ القُبورَ مِن ياقوتِ المذابحِ/ وأُنظِّفُ الغبارَ مِن عَرَقِ الأعشابِ السَّامةِ / أُحِبُّ الموْتى وَهُم يُحِبُّونني / أَعْرفُ أبجديةَ الأمواتِ / ولا أَعْرفُ أبجديةَ الأحياءِ /

     وفي عِيدِ الأحزانِ / يَأْتي الأغنياءُ على أجنحةِ الفراشاتِ / أراهم مِن بَعيدٍ / ولا أقتربُ مِنهم لِكَيْلا يظنوني شحَّاذاً / لا أَمْلِكُ إلا ثَوْباً واحداً / وعِندما يتَّسخُ أَغْسِلُه بماءٍ مَلِيء بِدَمْعي/ وَخَالٍ مِن الصَّابونِ / أَضَعُه على حَائطِ المنفى / وأختبئُ في القَشِّ/ لَسْتُ نعَّامةً / كان الأطفالُ يَأْتون مَعَ أَهْلهم / وَيَلْعبون بكرياتِ دَمي الخضراءِ / يَرْكبون على ظَهْري / ويقولون : (( امْشِ أيها الحصانُ )) / ويَرْحلون / لَهُم أَهْلٌ / وَلَيْسَ لِي أهلٌ إلا الأموات / حَتَّى الأحصنةُ لها إِسطبلاتٌ تَعيشُ فيها /

     لا تَقْتليني/ إِنَّكِ قَتَلْتِنِي ولم تَدْفعي دِيَتِي/رُموشي قَوافلُ مِن البَدْوِ الرُّحَّلِ/ التُّرابُ المشرَّدُ وَدُموعي / وَعُمَّالٌ يَموتون وَهُم يَحْفِرون قَناةَ السُّويسِ / بَوَارِجُ تمرُّ مِنها لِتَحْرِقَ الجوامعَ / وَتَخْطُفَ خُبزي وَكُوفِيَّةَ أبي/ لا تقتليني / عَيْناكِ تَرْسمان في لَيْمونةِ نزيفي ظِلالاً للرُّمْحِ اليتيمِ / الأنينُ القادمُ مِن أهدابكِ يُكَهْرِبُني / اقْرَئي الفاتحةَ على جُثماني / وَالسَّلامُ عَلَيْنا / انظري إلى دُبِّ الباندا/ يُحاوِلُ مُواساتي وَهُوَ في القَفَصِ / وكِلانا في القَفَصِ / تَذْهبين مَعَ الصُّخورِ المذهَّبةِ إلى نَشيدِ اللوْزِ / كُوني مُخْلِصَةً لَهُ /


     لا أَطْلُبُ مِنْكِ سِوَى خُبْزِ الذِّكرياتِ وقَهْوةِ الإعدامِ / لا تَضْربي القِطَّةَ العَمْياءَ / لأنها تُحِبُّني / وأُحِبُّ وَجَعَ النيازكِ / وَقُولِي للبكاءِ ألا يُلوِّثَ حَناجرَ الزَّيتونِ بالصَّليلِ المالحِ .

25‏/04‏/2014

حَمِية الجاهلية

حَمِية الجاهلية

من كتاب/ الأساس الفكري للجاهلية

تأليف: إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

....................

     قال اللهُ تعالى : ] إِذْ جَعَلَ الذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ [ [ الفتح : 26].
     والحميَّة ههنا تعني العزة بالإثم والتكبر والرفعة الممقوتة . وهي إحدى الخِصال الرئيسية لحقبة الجاهلية . فهذه الخِصلةُ المذمومة هي حِجاب يمنع وصول نور الحقيقة إلى القلب ، وبالتالي فإن المرء يَسقط في مستنقع الهوى والعصبية والتشنج، فيتحول من كائن عاقل ناضج إلى كائن غريزي هائج، لا يضع الأمورَ في نصابها الصحيح ، ولا يُدرك أهمية العقل في تصحيح المسار الواقعي .
     وفي صحيح البخاري ( 2/ 974 ): (( وكانت حَمِيَّتهم أنهم لم يُقِرُّوا أنه نبي الله _ أي النبي محمد صلى الله عليه وسلم _، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينهم وبين البيت )) .
     فهذه الغطرسةُ ، والتكبر على الحق ، ورفض الإيمان عناداً وعنجهيةً ، كلها قيم جاهلية شَكَّلت فلسفةَ المشركين في التعامل مع المؤمنين . وتتجلى خطورةُ الحميَّة في كَوْنها مانعاً يَحول بين الحق والقلوبِ، مما يؤدي إلى انحراف الناس عن المنهج الإيماني القويم ، والركون إلى تطرفهم العقائدي، وسوءِ أخلاقهم ، وعدمِ موازنتهم للأمور . فبسبب اعتدادهم الأعمى بأنفسهم ، وتقديسهم لبيئتهم الوثنية، وتعظيمهم لتاريخهم الأسود يَرفضون طوقَ النجاة ، ويواصلون الغرقَ ، غير شاعرين بالكارثة التي يَرتعون فيها .
     قال سيد قطب في الظلال ( 26/ 115 ): (( وهذه الحميَّة إنما هي حميةُ الكِبْر والفخر والبطر والتعنت ، الحميَّة الجاهلية التي جعلتهم يقفون في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، يمنعونهم من المسجد الحرام، ويحبسون الهدي الذي ساقوه أن يبلغ محله الذي يُنحر فيه، مخالفين بذلك كل عرف وكل عقيدة، كي لا تقول العربُ : إن محمداً دخلها عليهم عُنوة . ففي سبيل هذه النعرة الجاهلية يرتكبون هذه الكبيرة الكريهة في كل عُرف ودين ، وينتهكون حُرمة البيت الحرام الذي يعيشون على حساب قداسته ، وينتهكون حُرمة الأشهر الحرم التي لم تُنتهك في جاهلية ولا إسلام )) اهـ .
     إن هذه الحمية الآثمة وُلدت من رحم الاستكبار وازدراء الحق ، وولَّدت جيلاً غارقاً في رفض الحقيقة الحاسمة . إذ إن سيطرة الرفعة والعلو بغير الحق على العقول والممارسات والسلوكيات نتج عنه قيم مضادة للحق المطلق. والسلوك المنحرف اخترق الوجودَ الإنساني من كل الجهات، فجعله هشاً قابلاً للتمزق الذي صار مصير الإنسانية المحتوم .
     وقد كان المشركون غارقين في حمية الجاهلية، وعقلية رفض الحق ، وعدم تقبله. فلم يتعودوا على الاعتراف بالذنب أو الخطأ، والرجوع إلى الصواب، لأن تربيتهم قائمة على العناد والمكابرة ، وتقديم الأهواء على الحقيقة بدون وجود منهج عقلاني مستقيم يتعامل مع طبيعة السلوك الاجتماعي من ناحية الإيجاب أو السلب . 
     وفي يوم أُحد اتضحت _ عند المشركين _ معالم حمية الجاهلية ، والتكبر ، ورفض الإذعان للحق المتجسد في الرسالة النبوية. وقد بدا ذلك واضحاً على سَيِّد قريش، وزعيم المشركين _ آنذاك_، أبي سفيان بن حرب .
     فإذا أبو سفيان يَصيح في أسفل الجبل : أُعْلُ هُبَل ، أُعْلُ هُبل ، يعني : آلهته. أين ابن أبي كبشة ؟ ، أين ابن أبي قحافة ؟ ، أين ابن الخطاب ؟، فقال عمر : يا رسول الله ألا أجيبه ؟ ، قال : (( بلى )) ، فلما قال : أُعْل هُبَل ، قال عمر : الله أعلى وأَجَلُّ ، فقال أبو سفيان : يا ابن الخطاب ، إنه يوم الصمت. فعاد فقال : أين ابن أبي كبشة ؟، أين ابن أبي قحافة ؟ ، أين ابن الخطاب ؟، فقال عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أبو بكر ، و ها أنا ذا عمر ، فقال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ، الأيام دُوَل ،  والحرب سِجال، فقال عمر : لا سواء ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار ، قال : إنكم لتزعمون ذلك ، لقد خِبنا إذن وخسرنا ، ثم قال أبو سفيان : أما أنكم سوف تجدون في قتلاكم مُثلة ، ولم يكن ذلك عن رأي سُراتنا ، ثم أدركته حَمِيَّةُ الجاهلية ، فقال : أما إنه إذا كان ذلك لم نكرهه {(1)} .
     وتتجلى الحمية الجاهلية في عقلية أبي سفيان حينما رفض الاعتذار عن التمثيل بجثث قتلى المسلمين ، فقد أخبر أن هناك مثلةً ، لكنها لم تصدر عن رأي سُراة المشركين _ أشرافهم _ ، ومع هذا فلن يكره المشركون عملية التمثيل بالجثث ، وهذا انعكاس للحمية ، حيث أخذته العزة بالإثم ، وساند قومَه في إثمهم تعصباً للشرك والقبيلة والعقلية الجاهلية ، ولم يعتذر عن فعل ذلك .
     والإفرازات السلبية المنضوية تحت عناوين التكبر الممقوت هي تشكيل يرمي إلى تقطيع أوصال الجماعة ، عن طريق توليد تصنيف يقسم الناس إلى عبيد وسادة . ويصبح السادة يفكرون ويتخذون القرار نيابةً عن العبيد الذين لا وزن لهم . ومهما اقترف السادة من آثام فإنها مُبرَّرة ومُصانة ، لأنهم يتمتعون بحصانة جمعية . أما العبيد فهم الذين يدفعون الثمن في كل الأحوال .
     وهكذا كان أعداءُ الدعوة الإسلامية التي حملها الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ من عِلْيةَ القوم، لأنهم خافوا على امتيازاتهم الظالمة ، ونفوذهم المبني على ظهور العبيد المشققة من أثر السياط . أما العبيد فلم يكن لهم دور سوى الاتباع والرضوخ لأمر صاحب السوط. وهذا لا يُعفي العبيد من المسؤولية ، فقد كان عليهم أن يثوروا من أجل الحق ، وأن يكسروا السَّوْط . وبالطبع ، فقد كان هناك ثائرون امتلكوا الشجاعة لرفض الباطل واعتناق الحق ، ودفعوا الثمنَ غالياً . وهذه التضحية لم تذهب أدراجَ الرياح ، بل زادتهم إيماناً ورِفعةً في الحياة الدنيا والآخرةِ . وعلى مدار التاريخ لا تكون المواقف المشرِّفة مجانية، بل لها ضريبة كبيرة ، لا يدفعها إلا الرِّجال الحقيقيون .     
     وهذه الحمية _ حمية الكِبْر والتعنت _ جعلتهم يعتقدون أن بيت الله الحرام مُلكٌ شخصي ، أو عَقار يشترك في مُلكيته القبائل المتنفذة . ويا له من اعتقاد فاسد أوردهم المهالك ، وجعلهم يتصرفون بكل وقاحة وعنجهية . فقد منعوا المؤمنين الصالحين من المسجد الحرام ، وحبسوا الهديَ أن يبلغ محله . وإنه لتصرف أخرق موغل في التعنت وغير مسبوق. فلم يكن أحد يجرؤ على اقتراف هذا الفعل الدنيء المخالف لعقائد الجاهلية فضلاً عن عقائد الإسلام السمحة والتي تسمح للمخالفين عَقدياً بممارسة شعائرهم بكل حرية ضمن الضوابط الشرعية التي ما جاءت للتقييد على الناس بل لتنظيم أعمالهم .
     إن الفعل الجاهلي يجسد الطموح التوسعي لكسب مزيد من الامتيازات ، ومزيد من السيطرة على الأماكن المقدَّسة . وليس أدل على ذلك من حادثة وضع الحجر الأسود الذي كادت القبائل أن تتقاتل على وضعه ، وتنشب بينها حروب ، لولا حِكمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
     قال ابن إسحاق : إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها . كل قبيلة تجمع على حدة ، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتى تحاوزوا وتحالفوا وأعدوا للقتال لعقة الدم، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً ، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب ابن لؤي على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة ، فسُموا لعقة الدم، فمكث قريش أربع ليال أو خمساً . وجاء الرأي من أحدهم أن اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه. فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمَّا رأوه قالوا هذا الأمين رضينا{(2)}.
     فتعظيمهم للكعبة المقدَّسة مشوب بتحقيق نفوذ أوسع ومكاسب قبلية ذاتية، وتحقيق سمعة ومجد ورفعة بين القبائل . فالكائن الجاهلي كان هاجسه تحقيق الرفعة والمجد لكي يتيه فخراً على أقرانه، وهكذا كانت القبائل تتعامل مع المقدَّسات.
     إن طريقة التعامل مع المقدَّس المبنية على أساس باطل من الفخر الدنيوي تختصر كلَّ طموحات الإنسان الجاهلي الخام غير المصقولة والمهذبة . والتنويعات الفلسفية تبزغ من جديد في رحم تُفرِز فلسفةً جديدة قائمة على النفعية . ولا يهم _ حسب التصور الجاهلي _ كيف جاءت المنفعة . المهم أنها جاءت وانتهى الأمر. لأن الثقافة الوثنية المشوَّشة ليس لها قواعد أخلاقية شرعية تكون دستوراً لحياة الفرد .فالغاية تبرر الوسيلة مذهبٌ جاهلي صرف تم إفرازه كنتيجة طبيعية للظلم واضطهاد الآخر، وتم تطبيقه قبل مجيء ميكافيللي {(3)} بقرون طويلة .
     والتوظيف التأسيسي للعقيدة الجاهلية في المجالات الحياتية يعد النواة المكوِّنة للتشكيلات الوجودية المتعلقة بالفرد والقبيلة . إن الفرد الجاهلي يطرح أسئلته الوجودية بينه وبين نفسه دون أن يجهر بها مخافة بطش السُّلطة الحاكمة، لكنه_للأسف_ لا يجد غير الشك والريبة اللذين يتلاعبان به ويوجهانه في الطريق المشوَّش ، وبما أنه قد استمرأ المشي في هذه الطريق المظلم ، فلن يشعر بقيمة النور ، لأن المحجوب عن ضوء الشمس يظن كل من حوله خفافيش .
     إن  الأيديولوجية  النفعية  المكرَّسة ، والتي يتم  إعادة  بلورتها  كلما استجدَّت الظروفُ تقوم بدور حيوي وهام من أجل تعميق الفجوة السياسية والاجتماعية داخل القبيلة الواحدة . فالوجود القمعي ذو الصبغة الفلسفية في السياسة الجاهلية ليس بأكثر من محاولة حثيثة لتكريس التخلف وتغييب المعاني الثورية وتثوير المعنى . فالحياة في التجمع الطارد للإبداع ما هي إلا صورةٌ قاتمة لحالة الانحسار المعرفي الذي يتفاقم أو يُراد له أن يتفاقم. وهكذا يتجسد الوصول إلى المعرفة في صورة موغلة في القمع والاضطهاد .
     ونفي المعاني السامية هو الخطوة الأولى في طريق مقاومة التطور الاجتماعي ، والأمر لا يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى تأسيس صيغ متخلفة وتقديمها كأساس متجذر غير دخيل في القيم السلوكية المسيَّسة . وهذا الإرباك الأيديولوجي نتاج طبيعي وثمرة متوقعة للارتباك في البُنى المؤسَّسة على اللايقين العملي والنظري . وهذا يدعونا إلى البحث عن نشأة القوى المؤدلَجة الخاصة بالتيارات المضادة للمسيرة الجماعية في قلب التجمع القَبلي الذي تحدد قيمَه الروحية تشكيلاتٌ من القوى المادية ، لذا فإن الاقتصاد الجاهلي المتركز في أيدي حفنة قليلة من المتنفذين هو الذي يُسيِّر طبيعةَ العلاقات الاجتماعية، لأن المجتمع بدائي ومتخلف وغارق في الوثنية العمياء. وبالتالي فإن المادية المطبقة والمتغلغلة في العبادات والمعاملات تفرض كلمتها فرضاً رهيباً في اتجاه سير الجماعة البشرية .
     صحيحٌ أن هناك قيماً أخلاقية ومكتسبات قِيَمِيَّة سامية ، إلا أنها مجرد معاملات عابرة ذات أهداف دنيوية بحتة ناتجة عن توارث العادات والتقاليد ، وهيمنةِ الاعتيادية على السلوك الإنساني. أي إنها غير منتمية إلى شريعة سماوية عليا. وهكذا تتحول الجماعة إلى شكل آخر للانسحاب الاجتماعي المؤطَّر داخل براويز ذهبية خالية من المعنى والمفهوم البشري . لكن المنظور البنائي القائم _ أصلاً _ على تفكيك المدلولات السلطوية لا يمتاز بالقسرية والإجبارية فحسب ، بل يتعدى ذلك وصولاً إلى حالة من الاختلال الوظيفي ، حيث يغدو كل فرد نافياً للفرد الآخر ومضاداً له في طبيعة المعرفة الوظيفية ، بسبب استغلال الكائن بحثاً عن تمايز خلاق غير موجود إلا في الأذهان ، لأن ما بُنِيَ على الخيال المرَضِيِّ لا يجد له منفذاً إلى النور الواقعي .
     إن الحمِيَّة انعكاس لإشكاليات الوهم المرحلي المتجذر في طبيعة السلوك الإنساني السلبي الذي يفرض على القيم البشرية انتهاج طريق مناوئ للعدالة والحق والعقلانية . وبالتالي تختفي الحقيقة في زحمة إرهاصات التعصب الأعمى ، والخضوعِ للمعطيات الجاهزة المفروضة على السياق الإنساني بحكم قوة رابطة الدم ، لأن الحمية _ كمفهوم سلوكي وبنية معرفية _ هي تجسيد لقوة الرابطة العائلية التي تتكرس كمبدأ وجودي حاسم بغض النظر عن الشرعية المنطقية أو عدمها .
     ووفق هذه المعقوليات الذهنية المعادية للمعقوليات الواقعية ، تحال قيم العدالة والشرف والحق إلى مبادئ فضفاضة محكومة بالولاء الديني للتيارات الوثنية ذات الصبغة السياسية المجتمعية .
     أي إن السلوكيات الأخلاقية تغدو مفردات نسبية لا مطلقة ، فتكتسب القيمةُ الأخلاقية معناها من اتجاه القبيلة وعنصريتها وكيانها الذاتي دون اعتبار للحقيقة. لذا تصبح " الحقيقة " مادةً إعلانية دعائية تأخذ معناها وحدودها من رؤية الجماعة البشرية القاصرة . وهذه المسألة بالغة الخطورة ، لأنها تنتج منظومةً أخلاقية فوضوية نسبية لا مطلقة ، ومحكومة بالأهواء الشخصية ، والاعتباراتِ السياسية المصلحية .
     فالمبدأ الأساسي الذي يحفظ تماسكَ المجتمعات ينبع من التمحور حول الأخلاق كقيم مُطْلقة ذات معنى ذاتي مستقل عن الأنساق البشرية الاستهلاكية . فلا يمكن تصور الكيانات الأخلاقية مثل : الحق ، العدالة ، الحب ، الكرم ، الشرف .. إلخ ، تتغير معانيها حسب الأهواء السياسية ، أو تنتقل ماهيتها من الموجب إلى السالب أو العكس وفق رؤية شيخ القبيلة وما ينبثق عنه ، لأن المصلحة الشخصانية حينما تتحكم بالقيم السلوكية التي تملك تاريخاً شرعياً ومصداقيةً في الذوات البشرية ، سوف تنتحر قيم الولاء والانتماء والإخلاص ، لأن الفرد _ حينئذ_ سيؤمن أن شمس الحق صارت عدوة له ، وتقوم بعملية حرق منهجي ، وعندها سيقاومها بكل قوة . فاختلاط المفاهيم وأدلجتها بشكل مصلحي نفعي سيحرق المجتمعَ ، لأن المخلِص يصبح خائناً ، والخائنَ مخلص . مما يؤدي _ بالضرورة _ إلى إنتاج جيل لا يؤمن بأية مرجعية إلا مرجعية الهوى ، وهذه المبدأ نجده بكثرة في سياقات الحياة الجاهلية ذات الإفرازات الطبقية متعددة المستويات . 
     فالإنسان عندما يقتنع بأن وجوده كعدمه ، والقاضي هو جلاده ، وقبيلته هي سجنه ، وأصدقاءه هم اللصوص الذين يسرقونه ، سوف ينسحب من الحياة لفقدانه الثقة بكل الأنساق الوجودية المحيطة به ، وهكذا يتكرس مجتمع العزلة ، والحواجز الذهنية والواقعية بين أفراد البيئة الواحدة .
     والحميةُ تجسيد طبقي ينزع إلى سلوكيات بالغة التعصب ، كما أن الماهيات الدينية والسياسية المنبثقة عن الحمية قد تداخلت مع الإشكاليات النسبية ، بحيث صار السلوك الإنساني يستمد شرعيته المفترَضة من سياسة الأمر الواقع ، ورؤيةِ عِلْية القوم ، لا القيمة المعنوية السامية .
     إن تجذر المبادئ النسبية الفضفاضة المتسعة للفعل ورد الفعل ، والفكرةِ ونقيضها ، أدى إلى تفشي الأضداد في المبادئ الأخلاقية ، فصار الذهن الفكري مشوَّشاً ، وعاجزاً عن صياغة منظومة قِيَمِية. الأمر الذي أفرز تياراتٍ سالبية معتمدة على الارتجال في تحليل الفكري ، والعصبية للذات العشائرية المهزوزة . لذلك تأتي الحمية تتويجاً لانكسار الفرد الجاهلي أمام شراسة العناصر المجتمعية المسيَّسة من أجل تعزيز مكانة الأسطورة في الأنساق الحياتية المعاشة .
     فالأساطير _ في كثير من الأحيان _ تخلق نوعاً من الحماية للأنظمة الطاغوتية ، وتوفِّر شرعيةً افتراضية للنظام السياسي القائم بحكم الأمر الواقع. ووفق هذه المعاني يقوم النظام السياسي الصحراوي في الجزيرة العربية بابتكار متواليات هندسية متكاثرة من الأساطير والميثولوجيا البدوية بُغية تعميق سيادة عِلْية القوم على العامة ، مما يضمن استمرار السلطة المالكة لأمور الناس في سدة الحكم ، وعدم تهديد مصالح الطبقة الحاكمة .
     وتأتي الحمية كاختراع بوليسي لإحاطة الإفرازات السياسية بالحماية ضد المناوئين ، وتشييدِ أنظمة الردع ضد الخارجين على قانون القبيلة . وبما أن الحمية الجاهلية هي إشكالية التعصب المبني على الانتماء الأيديولوجي شديد التكثيف والعدمية ، فإن ماهية الانتماء إلى السلطات الأبوية الحاكمة سوف تنتقل إلى فكر إقصائي يثبِّت الأنا كمركز ، وينبذ الأطراف بعد أن يتم تهميشها استناداً إلى سيف العادات والتقاليد .
     ومواصلةُ تسييس القيم الأخلاقية الذاتية ، ومحاولة توجيهها نحو نفي الهويات عن الكيانات الإنسانية ، وتأطيرها في نسغ يكرِّس الخديعة كبؤرة مركزية حياتية استقطابية . كل ذلك من شأنه نسف البناء المنطقي للموضوع الفكري التاريخي ، فيصبح الفردُ الجاهلي رجع صدى لتاريخ واهم يولد من تكثيف الخديعة ، انطلاقاً من تجذير البنى الأسطورية كرَحِم قادرة على صناعة أجنة الانكسار المعرفي الشامل.
     فليست الحمية ردة فعل عابرة . إنها ماهية إستراتيجية مستندة إلى خلفية أيديولوجية شرسة للغاية . وهذه الخلفية منقوعة في التكثيف اللاأخلاقي للسلوك الإنساني ، وحصرِ طاقة حركة الاندفاع البشري في خانة تمجيد الأصنام البشرية والحجرية ، وتأطيرِ الدافعية الإبداعية للأفراد في دائرة التبعية ، والتشييدِ الوهمي على تقاليد الآباء دون السماح بطرح الأسئلة على هذه التقاليد المتوارثة ، أو مساءلةِ الموروث ، أو نقدِ أفعال سدنة الموروث الجاهلي وحماته .
     إذن ، لا تتوقف فكرة الحمية عن سلوك بشري روتيني حسن النية ، بل هي منطلقة من فوضى حاكمة على شكل نظام حاكم . وهذه السياسات العابثة تنتج عصابةً حاكمة ، لذا فإن الطبقة الحاكمة في التجمعات الجاهلية الصحراوية عبارة عن مافيا إقطاعية وثنية ، ومجموعةٍ من العرَّابين الطامحين إلى حفظ ماء وجوههم ، وحمايةِ امتيازاتهم الشخصية ، والحفاظِ على نفوذ عائلاتهم وحاشيتهم .
     ومن أجل ابتكار سياج حارس محيط بالمكتسبات الشخصية لتجار العقائد الجاهلية ، تم توظيف الحمية في قالب التناحر القَبَلي ، والصراعاتِ المستحكمة بين سادة العرب بُغية توسيع دائرة السيطرة والنفوذ .
     وقد ساهمت ثقافة الصراع في توجيه المفردات الإنسانية السلوكية نحو تكثيف الأبعاد الاجتماعية للمعاني الفكرية. فلم يعد الفكرُ ممارسةً ذهنية مجردة ، بل أضحى فعلاً معاشاً ، وخطوةً أساسية بُغية تطبيق الثقل المعرفي على أرض الواقع .
     فالفروسية لا يمكن حصرها في دائرة سلوك الرجال الأحرار الشجعان ، لأنها  _ كمفهوم أيديولوجي مجتمعي _ انتقلت إلى فكرة ردع الأعداء ، وإعلاءِ صوت القبيلة بين القبائل عبر إظهار قوة الرجال الصناديد حماةِ شرف القبيلة .
     والكرم لا ينحصر في مفهوم الضيافة وحسن الاستقبال ، لأنه _ أي الكرم _ انتقل إلى مفهوم إعلاء شأن الفرد والقبيلة أمام الضيوف ، والقادمين من المجهول ، وذلك لكي يتكرس الرياءُ والسمعة بين كل القبائل ، ويزداد الفردُ سمعةً ، وتُصبغ القبيلة بصفة الكرم ، وتقديم المعونة .
     والخطابةُ لا تنحصر في دائرة الاعتناء اللغوي بالمعاني والألفاظ ، بل تنتقل إلى وسيلة قتالية لردع القبائل المنافسة وتعريتها من كل الفضائل ضمن ثقافة " البقاء للأقوى " . فيتم توظيف اللغة في الحرب الكلامية بين القبائل التي قد تنتهي بحرب فعلية ، أو قد تكون الحرب الكلامية تمهيداً لحرب حقيقية ، فتصير اللغةُ وسيلةً للردع ، وبث الرعب في نفوس الأعداء ، وإعلاء صوت القبيلة على الأنداد .
     والحميةُ الجاهلية هي ثقافة ملوَّثة تتجذر كَسُورٍ واقٍ ضد الأعداء، وسياجٍ وقائي يحمي الإنجازاتِ العشائرية ، ويُعلي من أمرها . فتغدو القيم الأخلاقية_ الإيجابية والسلبية _ أسلحةَ ردع شامل تُوظَّف لخدمة المسار العقائدي للقبيلة سياسياً واجتماعياً وثقافياً .
     والإسلامُ عندما جاء ، هدم عُبِّيةَ الجاهلية ( كِبْرها ) ، فانتزع الأحقادَ من النفوس ، وبثَّ روحَ التعاون والتواضع بين أفراد المجتمع ، ولم يَترك للحميَّة البائسة فرصةً للظهور بين الناس والتكاثر كالفِطر السام . وبالطبع ، لا تَظهر هذه الحميَّة إلا في المجتمعات التي يختفي فيها نورُ الشريعة ، فتُصبح تقاليد الآباء والعادات المتوارثة هي الشريعة التي لا يمكن الاعتراض عليها أو مجابهتها . وهذه الفلسفةُ الجاهلية تظهر بأشكال مختلفة في أزمنة متعددة ، وأمكنة عديدة . 
     وعن ابن عمر _ رضي الله عنهما _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أمَّا بعد أيها الناس ، فإن الله قد أذهب عنكم عُبِّيةَ الجاهلية _ يعني كِبْرها _ )){(4)}.
     فالكِبرُ لم يكن مستشرياً في المجتمع الجاهلي فحسب، بل كان أحد أعمدة الثقافة الجاهلية السائدة . وفي واقع الأمر، فلا معنى للكِبر والفخر بالآباء والنخوة المذمومة لأن الجميع من أصل واحد ( التراب ) ، والكلُّ إخوة . أمَّا باقي العناصر مثل الغنى والنسب الرفيع فهي أعراض طارئة . فالإنسانُ الذي أوَّله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة ، وبين يدي ذلك يَحمل العذرة ، لا ينبغي له أن يتكبر أو تأخذه العِزَّةُ بالإثم . ومقياسُ التفاضل بين الناس قائم على التقوى . فالتقيُّ هو الشريف ، والعاصي هو الوضيع ، بغض النظر عن المستوى العلمي أو الطبقة الاجتماعية .
     ومن وصية أبي بكر الصِّديق ليزيد بن أبي سفيان_ رضي الله عنهما _ حين وَجَّهه لفتح الشام : (( فَإِيَّاكَ وَعُبِّيةَ الجاهلية ، فإن الله يُبغِضها ويُبغِض أهلَها )){(5)}.
     وهذا يدل على خطورة " عُبِّية الجاهلية " ، وضرورة التحذير منها . فخليفةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَكرها في وصيته لقائد عسكري متوجِّه لفتح الشام . مما يشير إلى خطورة الكِبر والعنجهية الجاهلية على مجريات الأمور، ومسارِ الأحداث العسكرية، ومعنوياتِ الجند، والعلاقةِ بين المسؤول والرَّعية . ولو لم تكن هذه القضية شديدة الخطورة لما تم التحذير منها في هذا الظرف الحساس ( ذهاب الجيش لفتح الشام ) .
     وفي صحيح مسلم ( 3/ 1476 ) : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((...ومن قاتل تحت راية عُمِّية، يغضب لعُصبة، أو يدعو إلى عُصبة، أو ينصر عُصبة ، فقُتِل ، فقِتلةٌ جاهلية )) .
     فهذا القتالُ نابع من شهوة النَّفْس ، والعصبيةِ البغيضة للقوم والهوى، والتطرفِ الأعمى . وليس قتالاً نابعاً من الحق سائراً على هدى وبصيرة . فالذي يُقاتِل بهذه الصورة العمياء إنما غضب لنفسه ، ولم يغضب من أجل الله تعالى . وكلُّ هذه التضحيات وبالٌ على صاحبها ، لأنها كانت في سبيل الشيطان .
     وهذا التصويرُ النبوي للأحداث هو تلخيص للحالة الجاهلية التي كانت سائدةً بين العرب الذين يبذلون أرواحَهم من أجل نصرة القبيلة، وأهواءِ النَّفس ، والحفاظِ على ميراث الآباء ، دون أدنى اهتمام بمعرفة طريق الحق والالتزام به .
..............الحاشية......................
{(1)} رواه الحاكم في المستدرك( 2/ 324 )برقم ( 3163 )وصححه،ووافقه الذهبي.
وقال الحافظ في الفتح ( 7/ 352 ): (( قال ابن إسحاق حدثني صالح بن كيسان قال: خرجت هند والنسوة معها يُمَثِّلْنَ بالقتلى، يجدعن الآذان والأنف، حتى اتخذت هند من ذلك حزماً وقلائد، وأعطت حزمها وقلائدها أي اللاتي كُنَّ عليها لوحشي جزاء له على قتل حمزة، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتْها )) .
{(2)} انظر السيرة النبوية لابن هشام ( 2/ 18و19 )، وتاريخ الطبري ( 1/ 526 ).
{(3)} نقولا ميكافيللي ( 1469م _ 1527م ) . ركز تعاليمه على مبدأ " الغاية تبرِّر الوسيلة " وفيه ينصح الحكامَ والأمراءَ بأن يلجأوا إلى أية وسيلة للحفاظ على سُلطتهم، ولو كانت هذه الوسيلة مؤذية . من أبرز إنجازاته كتاب " الأمير " .
{(4)} رواه ابن حبان في صحيحه( 9/ 137 )برقم ( 3828 ). وقال الحافظ في الفتح ( 6/ 527 ): (( ورجاله ثقات))اهـ.وقال ابن الأثير في كتابه النهاية في غريب الأثر ( 3/ 369 ) عن عبارة " عُبِّية الجاهلية " : (( يعني الكِبْر وتُضَم عينُها وتُكسَر . وهي فُعُّولة وفُعَّلية ، فإن كانت فُعُّولة فهي من التَّعْبِية ، لأن المُتَكبر ذُو تكلُّف وتَعْبِيَة خلاف من يَسْتَرسِل على سَجِيَّتِه . وإن كانت فُعِّيلة ، فهي من عُبَاب المَاء وهو أولُه وارتفَاعُه )) .

{(5)} جمهرة خطب العرب ( 1/ 197و198 ) .