حاكمية الطاغوت في مجتمع الجاهلية
من كتاب/ الأساس الفكري للجاهلية
تأليف: إبراهيم أبو عواد .
facebook.com/abuawwad1982
.........................
الحاكمية تعني إسناد الْحُكْم إلى أحد ما . وفي الإسلام يتم إسناد الحُكم
إلى الله وَحْدَه ، لقوله تعالى : ] إِنِ الْحُكْمُ إِلا
للهِ [[ الأنعام : 57] .
فالْحُكم إنما يكون لله تعالى وَحْدَه ، فلا
يشاركه شريك كائناً من كان . ولأن هذا المفهوم يغيب بالكلية عن التجمع الجاهلي،
انبثقت حاكمية الطاغوت ( كل معبود من دون الله تعالى ) كنتاج لحالة التخلف العاصف
الذي يؤطر لمرحلة من الهلوسة الواعية ، والانهيارِ الأخلاقي ضمن الفجوة بين أنسجة
التجمع ، وتمرد العبد على المعبود، وتأسيس أيديولوجية مستندة إلى تعاليم منقطعة عن
السماء. وتكرست الحاكميةُ الوثنية كعقيدة لازمة لأهل الجاهلية .
وقد نعى اللهُ على أولئك الذي يريدون
استلهام الحاكمية الجاهلية وإعادتها، فجاء الخطاب القرآني مُوَبِّخاً ومستنكراً
لفعلهم : ] أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [ [ المائدة : 50] .
إن الله تعالى يُنكر على الرافضين للحُكم
الإلهي العادل، ويريدون حُكم الجاهلية الغارق في الفوضى والظلم. فالحُكم الإلهي
معصومٌ وكاملٌ ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يتسلل إليه الظلم
والرِّشوة والمجامَلة والخطأ... إلخ. أما حُكم الجاهلية فهو قرارٌ بشري قاصر
يعتريه النقصُ والأهواء والظلم . ولا يمكن لعاقل أن يُساويَ بين حُكم سماوي
مُقدَّس وبين حُكمٍ وَضعي مُدنَّس . كما أن الحُكم الإلهي يسري على الجميع بلا
تمييز ، أمَّا حُكم الجاهلية فيعتمد على التفرقة بين الشريف والوضيع. تماماً كما
كان يفعل اليهود حيث يُطبِّقون الحدود على الفقراء والضعفاء، ولا يُطبِّقونها على
السادة والأقوياء .
وقال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 90 ) : (( يُنكِر تعالى على مَن خرج عن حُكم الله المحكَم
المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات
التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات
والجهالات ، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم )) اهـ .
أمَّا عن سبب النزول ، فقد قال ابن عباس _
رضي الله عنهما _ : (( كانت قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا
قَتل رَجلٌ من قريظة رَجلاً من النضير قُتل به ، وإذا قتل رَجلٌ من النضير رَجلاً
من قريظة قالوا : ادفعوه إلينا نقتله . فقالوا : بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه
وسلم فَأَتَوْه، فنزلت: ]
وإن حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين [
[المائدة: 42]...ثم نزلت : ] أفحكم الجاهلية يبغون [
)){(1)}.
فحُكمُ الجاهلية يستمد وجوده من التمييز بين
الناس ، والتفرقةِ العنصرية ، وتفصيل العدالة على مقاس المكانة الاجتماعية .
فالأحكامُ الجاهلية قائمة على أساس انعدام المساواة بين الناس وتكريسِ الفروقات
الطبقية . فهناك أحكام خاصة بالأشراف والأغنياء ، وأحكام أخرى خاصة بأصحاب المرتبة
الدونية في المجتمع كالفقراء والضعفاء. وهذا الشَّططُ يُغذِّي الحقدَ الاجتماعي
ويُنشئ مجتمعَ الكراهية، ويوغر صدور الناس ، ويجعلهم أعداء متنافرين في مجتمع
ممزَّق وغير متجانس. وهكذا مجتمع لا يمكنه بناء حضارة أو نشر قيم الحرية والتنمية
والرفاهية.
وقال الله تعالى : }
ألم ترَ إلى الذين يزعُمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليكَ وما أُنزل من قبلكَ يريدون
أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقدْ أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطانُ أن يُضِلَّهم
ضلالاً بعيداً { [ النساء : 60] .
فالتحاكمُ إلى الطاغوت تجسيدٌ واضح لانحراف
أهل الجاهلية . فإذا غاب الحُكمُ الإلهي ، سوف يتجذر حُكمُ الجاهلية وحاكميةُ
الطاغوت . ولا يمكن لِحُكم الله تعالى أن يجتمع مع حُكم الجاهلية في المجتمع . فمن
المحال أن يجتمع النهارُ والليلُ .
وهذا إنكار
من الله تعالى على هؤلاء المنافقين الذين يزعمون الإيمان بما أُنزل على محمد صلى
الله عليه وسلم والأنبياء السابقين _ عليهم الصلاة والسلام _ . ومع هذا لم يرضوا
بحكم الكتاب والسُّنة . بل يريدون التحاكم إلى غيرهما .
أما سبب
نزول الآيات السابقة . فعن الشعبي قال : (( كان بين رَجل من اليهود ورجل من المنافقين
خصومة ، فدعا اليهوديُّ المنافقَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه علم أنه لا يقبل
الرشوة ، ودعا المنافقُ اليهوديَّ إلى حكامهم لأنه علم أنهم يأخذونها )){(2)}.
وهكذا نرى
أن المنافقين _ الذين يُجسِّدون فلسفةَ الجاهلية _ ينتهجون الأساليب الملتوية، فلا
يحبون أن يسلكوا الصراطَ المستقيم لأنه يتعارض مع مصالحهم الآنية الدنيوية الزائلة
، فتراهم يسلكون كل السبل المنحرفة التي من شأنها أن تحقِّق أطماعهم ، وتوفِّر لهم
شرعيةً مصطنعة للحفاظ على مكاسبهم المادية ومكانتهم الاجتماعية . وهم دائمو التحرك
بفعل أهوائهم ومصالحهم الشخصية بغض النظر عن موقف الشريعة منها .
والطاغوتُ _
بشكل عام _ هو كل معبود من دون الله تعالى. والمقصود به في الآية على قولَيْن :
الأول _ أنه حاكم اليهود أبو برزة الأسلمي قبل أن يسلم ويصحب ( يصبح صحابياً ){(3)}.
والثاني _ أنه كعب بن الأشرف{(4)}. وهو من أكابر سادة اليهود . وقد سُمِّيَ
بالطاغوت لشدة طغيانه وعداوته للنبي صلى الله عليه وسلم .
وقد أُمروا بأن يكفروا بالطاغوت، ويؤمنوا بالله تعالى، ويتحاكموا إلى الكتاب
والسُّنة وحدهما. لكنهم رفضوا ذلك اتباعاً للهوى والمصلحة الشخصية ، وساروا في
طريق الشيطان الذي يريد إضلالهم وإغواءهم ، وقيادتهم إلى طريق الجحيم . وهذا هو
منهج أهل الجاهلية في كل العصور .
وانقسامات التجمع الجاهلي كلها تصب في خانة
حاكمية الطاغوت ( القبيلة، عِلْية القوم ، الأصنام ) . فالتحليل الواعي لهذا
المعطيات يُبرِز لنا مدى تغلغل هذه العقائد الفاسدة في النفوس. ولأن التجمع
الجاهلي طبقيٌّ ظالم ، استغل وجهاء القوم حاكمية الأصنام لمص دم الفقراء
والمحتاجين ، والسيطرة على الدهماء . فالطرق المستخلصة من التصورات البدائية حول
مفهوم الحاكمية والألوهية أدت إلى جرف التجمعات الإنسانية بواسطة سيل العقائد
الوثنية ، وتوجيهها نحو التنازل عن الحقوق الفردية لمصلحة الموروث الوثني الذي
يُعاد استحضاره لتحقيق أهداف ونفوذ عِلية القوم بشكل حاسم يستند إلى مرجعية أرضية
منقطعة عن السماء .
والإنسان الجاهلي يعلم في قرارة نفسه أن
الأصنام جماد لا تضر ولا تنفع ، ولكنه مشى في هذا الطريق لكي يحصل على مكتسبات
آنية يوجهها الزعماء القبليون لتعميق الهوة بين فئات التجمع البشري، وبالتالي علو
فئة على حساب سحق فئة أخرى . فالدِّين لم يكن يشغل بال الجاهليين كثيراً ، فهو
تحصيل حاصل . لكن الذي يشغل بالهم هو كيفية الحصول على أكبر قدر ممكن من المكتسبات
الوقتية عن طريق اختراع ديانة وثنية ترتكز إلى أصنام معظمة في نفوس البسطاء . أما
بالنسبة للخاصة الذين يُعظِّمون الأصنام ، فهذا التعظيم ناتج عن تقليد للآباء
يستند إلى تحقيق أهداف استعبادية لطبقة العبيد. لذا نحن أمام حالة احتيال كبرى
يشارك فيها رؤساء القوم من أجل توليد جيل خاضع لا يثور على الظلم ، ومن هنا نفهم
كيفية نشأة حاكمية الطاغوت .
إن هيكلية الأنماط الجاهلية تهدف في الأصل
إلى تخدير الناس العاديين، وإخضاعهم لحكومة عُرفية موجودة ومعلنة بكل إصرار . وهذه
الحكومة التي تُفَصِّل الحاكميةَ على مقاس الطواغيت ليست بأكثر من أداة في
أيدي المتنفذين . وللأسف فإن نمو الحركة الشعبية يتم على المحور السالب . والدليل
على ذلك هو كون المخرجات الناتجة من عملية تلاقح العقائد الوضعية سالبةً هدامة .
والأصنام التي أُسند إليها الحكْمُ النهائي القطعي ، هي مجال حيوي وفعال بالنسبة
لأولئك المتاجرين بالعقائد. فوجود مؤسسة الأوثان يُفرِز مدلولاتٍ نفسية عبثية
تخترق الوضع الاجتماعي الانتكاسي.
إن النفوذ الصنمي في الأوساط التجمعية يرتكز
بشكل أساسي إلى انهيار النظام الأخلاقي على الصعيدين الرسمي المتمثل في الصولجان
المذهَّب ، والشعبي المتمثل في طبقة العبيد . وهكذا تخرج أفكار البنى الفوضوية
لترى النور. ولأن المقدمات كانت فجةً وعبثية جاءت التحركات الاندفاعية فجةً . إننا
أمام وضعية صورية لا منطقية تستلهم مواد الدستور الوثني غير المدوَّن ( العُرفي )
. لذلك كان لزاماً تحطيم هذه الوضعية الهلامية الساقطة ، والتي تتواجد في النفوس
أكثر مما تتواجد على أرض الواقع .
وتمسكُ الجاهليِّ بهذا الازدواج المتشظي
يجعل منه ذاتاً غير متماسكة ومنضبطة. فالتعاليم التي يتلقاها من محيطه تدفعه إلى
تحويل وجهته نحو مزيد من انعدام الانسجام مع ذاته. وهكذا يتم أدلجة الكائن بشكل
صارخ، وتحويله إلى مجرد متلقي تعاليم يعتقدها عُليا. وفي النهاية نحصل على كائن تم
تدجينه لخدمة مصالح أسياده الذين لا يَشبعون .
والنواحي الاجتماعية المفكَّكة في هذا الخضم تحدد معالِمَ النزيف الفكري .
فالتيارات المتحاربة التي يأكل بعضها البعض تنبئ عن وجود دول داخل الدول . وإذا
كان الإنسان يريد الحق فلا بد أن يسلك طريق الصراع، وقبل ذلك عليه أن يُجهِّز
أسلحته لخوض حرب لا هوادة فيها. فالحق يُنتزَع انتزاعاً ولا يؤخذ أخذاً . وإننا
لنخلص إلى حتمية وجود الحاكمية للهِ تعالى وحده . فكل تجمع بشري لا بد وأن تتواجد
فيه حاكمية ، فإن لم تكن لله تعالى فإنها ستكون لغيره من الكائنات التي لا تضر ولا
تنفع . فالحاكمية من أهم خصائص أي تجمع إنساني . وأنت لن تجد _ مهما بحثتَ _
تجمعاً إنسانياً خالياً من الحاكمية . وهكذا ، فإن الإنسان خاضع بطبعه لقوة عليا
مطلقة حسب اعتقاده ، فإما أن تكون إلهية أو بشرية . ولنتذكر أن الأصنام هي صورة
بشرية ، أي إنها انعكاس لشوق المخلوق نحو تقديس شيء مادي يراه .
والجاهلية مذبحٌ كبير للقتل البطيء، قتلِ
الإنسان والبيئة باسم الآلهة . فالأنظمة المتخلفة داخل السياق الاجتماعي العام هي
ألفاظٌ مجردة من المعاني ، لأن الأنساق البدائية لم تعط هذا الكائنَ البدائي
الموضوع في صحراء مُطبقة شكلاً لأشواقه وطموحاته وحاجاته النفسية ، ولم تقدم ما
يشفي غليل ذلك الكائن المتعطش بالفطرة إلى فهم الهدف من وجوده في هذه الحياة
الدنيا ، ومآل حياته بعد الموت . فكان إنكارُ البعث البصمةَ الجاهلية الدامغة
لعقول الجاهليين على الرغم من وجود بعض المؤشرات عند البعض والتي تدل _ ولو بشكل غير مباشر _
على أن هناك إيماناً بوجود حياة بعد الموت ، كما ورد في أشعار بعض العرب .
إن الإفرازات البنائية للصور الازدواجية
العابثة توصل إلى بيانات من الغبش المتمركز في أدمغة الإنسان. وإنها لنتيجة طبيعية
لكثافة الرموز التعبوية التحريضية ( القبيلة ، الشرف ، الفروسية ). وتغدو الرموزُ
أيديولوجيات وإرهاصات لحياة جماعية مكثَّفة ومساراً متشعباً يتحدد وفق الرأي العام
السائد ، ضمن جدلية يمكن أن نسميها " الجمهور الجاهلي ". فالتأصيل مفقود
بالكلية، بسبب انبعاث تكتيكات قبلية تعتمد على مبادئ الوحشية التفكيرية والوَحشة
الذهنية. حتى إنك تشعر وكأنك أمام بؤرة توسعية مؤدلَجة تقوم على نفي الآخر، أو
بالأحرى نفي ثقافة القبيلة المقابِلة من خلال توليد حروب مستمرة ومناوشات تهدف
أساساً إلى وحدة الرموز وصهرها في رمز واحد هو شرف القبيلة ، والذي ينضوي تحته شرف
الأفراد شاؤوا أم أبوا، وبالتأكيد هم لا يملكون خَياراً آخر، وإلا فسوف يفقدون
امتيازاتهم.
إذن ، لامنطقيةُ القوة هي الدافع المحرِّك
للتشكيلات العَقدية الجاهلية . والإيقاعات المبعثرة التي تحفر في وجدان البيئة
طرقاتٍ متشعبة هي ذاتها التي تحول الفرد إلى مجرد وسيلة مؤطرة ضمن برواز العشيرة،
حيث يُلغى الفرد لصالح الجماعة بعد أن تُمارَس عليه الوصاية بكل فظاظة .
فالموجوداتُ الزمكانية تُحاصره من كل الجهات. والعقائد المبتدئة ليست بأكثر من
أنوية هادمة وصادمة هدفها نسف الكينونة البشرية المستقلة عن العناصر المضادة
للهوية ، ومحو تضاريس الشخصية المشكِّلة للوجود الآدمي .
وهذه البيئة الذهنية هي التربة الخصبة لنشوء
ثقافة انتظار الحلول السحرية . فمن الواضح أن تزاحم الأفكار المسبقة عن الأشياء
أدى إلى تكوينات نمطية استباقية فظة لا تؤثر على القوى الجماعية فحسب ، بل يتعدى
تأثيرها إلى الأنساق والمسارات الفكرية التي تحترف الانحراف . فمسار الإنسان
الجاهلي يمتد من اعتناق الأيديولوجية إلى الثورة عليها إذا تعارضت مع شهواته
وميوله . ومن هنا نفهم هلامية مصطلح حاكمية الطاغوت ، وأنه ليس بأكثر من تعبير
فضفاض يتم استخدامه لتحقيق نفوذ أوسع ، وترقيع الثقوب في جسد العلاقات الإنسانية .
والتجمع النواةُ في العصر الجاهلي شديد
المركزية . ورغم الهالة الإعلامية المتمثلة في شاعر القبيلة الرسمي ، والهادفة إلى
تلميع صورة العشيرة ، وتوزيع أوسمة الانتماء القبلي ، إلا أننا لا نستطيع تغطية
الشمس بغربال ، أو تزوير وجه القمر السافر . لذلك أقول إن القبيلة الصنمية أبادت
أتباعها حتى وإن ظلوا يمشون . وهذا يرجع إلى بناءات الكبت العاطفي والقمع السياسي
الفظيع في الأطر الاجتماعية . فممارسة السياسة الوثنية كانت محصورة في سلالات
العائلات العريقة ذات المال والنفوذ .
لكن التنويعات الازدواجية في صميم البنية
الجدلية للبيئة الجاهلية تبقى حاضرة بصورة فجة ، لأن القيم الجمالية غائبة تماماً
عن الوجود البشري في محيطه.وهذا يؤدي إلى تحميل المفردات الحياتية فوق ما تحتمل.
بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو لماذا يتم إعادة بلورة المصطلحات القِيَمية
في التواجد الرسمي للإنسان البدائي ؟. الجواب بحاجة إلى فحص صبغة الحياة اليومية
تمهيداً لاسترجاع صورة الكائن الأولية . لكننا نستطيع القول إن إعادة البلورة خطة
متفق عليها من أجل التمويه والتلبيس على الأتباع الذين أعطوا عقولهم إجازةً مفتوحة
بلا نهاية . أما الوجود الرسمي المستند إلى جدلية العلاقات المهلهلة المؤدية إلى
تجسيد الحاكمية لغير الله تعالى ، فهو وجود مشوَّش وغير فعال لكونه يفتقد إلى
التحركات الفكرية البناءة والعادلة .
فانعدام العدالة الاجتماعية في هذا المحيط
الطارد للإبداع أدى إلى توليد قيم سالبة ترمي إلى إيجاد مرجعيات إنسانية مصابة
بالقصور والنقص . فظهرت حاكمية الطاغوت ضمن بحث الإنسان المتواصل وحاجته إلى
مرجعية يخضع لها . لكنه ضل طريقه في كثير من الأحيان فخضع لبشر مثله لا يزيدون عنه
ولا يختلفون عنه . وتجسيداً لهذا الجنون الشعبي والرسمي قامت السلطة المتنفذة بقمع
أتباعها فكرياً وتدجينهم كخطوة استباقية هادفة إلى منع الآخرين من إعمال عقولهم
والتفكير في مقاومة هذا الاضطهاد .
فالعناصر الذاتية في عملية البناء العبثي لا
تعدو عن كونها ضياعاً للوقت في سبيل استلاب المحتويات الثورية الرامية إلى التغيير
الصاعق . مع العلم أن التجمع الجاهلي لا يمكن الثورة عليه بالفكر وحده ، بل نحن
بحاجة إلى السيف أيضاً . فالتغيير السلمي في هكذا بيئة مجرد حلم بعيد المنال .
فيجب أن تمشيَ الثورة البيضاء والثورة الدموية جنباً إلى جنب ، إذا أردنا إخراج
هؤلاء الرعاع فكرياً من زرائب الجهل والوثنية ، وصولاً إلى حالة من الاستقرار
المتحرك نحو التغيير وقلب أنظمة الحكم المتشعبة كخيوط العنكبوت في أجساد بشرية
مُفرغة من المحتوى الذهني والعاطفي والإنساني ، وخالية إلا من الشهوات المركَّبة .
والمكوِّنات الزمكانية قادرة على نسف
المشروعية الواهمة التي تسيطر على المحتويات الثورية في البيئة المنكمشة والمغلقة.
إذ إن التواجد الشعبي تحت أقدام عِلْية القوم أدى بالضرورة إلى نزيف فكري هادر
باتجاهات سلبية بعيدة عن حتمية التغيير والتثوير من أجل الخروج من هذا المأزق الذي
تجسده حضارة ثنائية العبيد والسادة المتهاوية . وما البيئة الجاهلية إلا تأسيس
لحاكمية الطاغوت القائمة على أنقاض الدهماء الذين يكبتون أسئلتهم الثورية في
دواخلهم خوفاً من القمع الاجتماعي والسياسي. إذن، نحن أمام وضعية متشابكة
قائمة_أصلاً _ على التمييز العنصري ، والظلمِ الطبقي،وتفضيلِ الأفراد حسب طبقاتهم
الدنيوية المتمثلة في القوة الشرائية والإنفاق ، وهذا يضاد تصنيف الإسلام للناس
حسب التقوى .
لكن الذي يدعو إلى التفكر هو كيفية انبعاث
القوى الظلامية من ركام الفرضيات التي قُدِّمت على أنها حقائق ثابتة . وهذا كله
مرجعه إلى تذبذب واضح في طبيعة المصطلحات الإنسانية يُفضي إلى تلوين الحطام بألوان
زاهية . فالحطام الفكري والحصيلة الفكرية التالفة تعملان على إيجاد كائن مُدَجَّن
، تم تدجينه بواسطة مفاهيم عبثية قائمة _بالأساس _ على سحق الوجود البشري ونفيه
واضطهاده .
فالحُكْم المسنَد إلى رؤوس القوم يحفر
آباراً عميقة وهمجية في الكينونة الفردية التي تنهار لصالح تجمع إنساني منهار
بطبيعة الحال. والفردية المتقوقعة على خيبتها والمتمثلة في الأنا العليا ليس
بوسعها تقديم مشروع خلاصي يضمن الخلاص لهذا الفرد الذي يعمل ويعمل دون هدف
أُخْرَوِي . أما التكوينات الفلسفية المتفشية في تعليمات القبيلة وسدنتها وعبيدها
فتهدف إلى سلخ الإنسان عن امتداده الوجودي في الواقع المعاش الذي يحياه في الذل
والعار الدائمين ، بسبب غياب المرجعية السماوية وتكريس المرجعية القَبلية كأساس
للتشريع وسن القوانين والتبعات .
يمكننا القول إن تقنين العبودية والخضوع
للنص الأرضي الذي يتخذ صفة الحزم والنهائية ، أدى إلى توليد جيل مسخٍ يحذف بوادرَ
الثورة من أبجديته كلما ظهرت في الأفق . فالتشكيلات الفردية البدائية لا تختلف
كثيراً عن التجمعات النواة . إذ إنه لا دور واضحاً للفرد والجماعة في هذا الجنون
الرسمي. وإننا لنجد أفراداً شكلوا قبائل داخل القبيلة، فصار هناك دول داخل الدولة،
تتبع مصلحة الأنا المتحدة بنفسها . ولكن من سيدفع ثمن هذا الغُثاء ؟ . إنهم
بالتأكيد الفقراء الذين لا يجدون سلطة تحميهم من جشع عِلْية القوم . والأمر يتعدى
ذلك ، حيث تصير السلطة سيفاً مسلطاً على رقاب العبيد والفقراء ، تمتصهم حتى آخر
قطرة ، وتفترسهم وهم يصفقون لها .
ومن خلال المنظومة الفلسفية لحاكمية الطاغوت تتضح أبعاد العلاقة الإنسانية
الطبقية بين السادة والعبيد . إذ إن الحاكمية في ماهيتها الأيديولوجية عبارة عن
تيار سُلْطوي حاكم على إفرازات العقل والمعقوليات الثقافية . فكل تيار ثقافي متمتع
بصفة عقلانية يتم تكريسه كنطاق تابع للحاكمية الفوضوية . الأمر الذي يؤدي إلى
صناعة وعي ضد الوعي ، فتصبح الثقافة المنتشرة في أوساط الجماعة الجاهلية عبارة عن ثقافات
متناحرة لا تجانسية .
ومبدأ اللاتجانس من أهم مبادئ الانهيار المجتمعي الناتج بفعل تأصيل حاكمية
الطاغوت ، لأن خضوع القوى العقلية البشرية المبدِعة للسلطة الصنمية يدفع باتجاه
نقض المستويات العقلية ، وتأسيسِ وعي سلبي غير قادر على معالجة قضايا الفرد الوجودية
.
وعبر توظيف قيمة الانهيار الفكري الذي يجعل من المعرفة عبئاً على الفرد لا
خلاصاً للفرد ، تتمركز الإشكاليات الإنسانية الحرجة في فلسفة التراكم ، وتصديرِ
الأزمات ، وترحيلِ الملفات العالقة ، ودفنِ النار تحت الرماد . وكل هذه العمليات
تشكل هروباً من حل المشكلة ، ومحاولة لرش السُّكَّر على الموت، لكن لحظة الانفجار
ستكون كارثية ماسحة ، لأن الضغط يولِّد الانفجار.
وفكرة الحاكمية الطاغوتية هي تأسيس عبثية الهروب من حل الأزمات لأن الفرد
المسحوق الذي يعتقد أن الأصنام آلهته التي ستنقذه من مشاكله الحياتية ، ويعتقد
كذلك أن القبيلة بكل مستوياتها الهرمية السُّلْطوية هي خلاصه الأبدي الوحيد في
الحياة والممات ، إنما هو فردٌ خاضع لغيبوبة عقائدية صادرت قواه الفكرية لصالح
خلاص افتراضي يمتلك الحلول السحرية_وفق الاعتقاد الجاهلي _ .
وهذا الهروب من الواقع يمثِّل تعاطياً للمخدرات الدينية والسياسية ، حيث
يتضافر الدين الوثني وسياسة القبيلة في منظورها البدوي الصحراوي ضمن جدلية عابثة
لتغييب العقل ، واحتكارِ مستويات صناعة الوعي الإنساني القادر على اتخاذ المبادرة
وخلقِ الفعل الواعي المضاد للهيمنة الأسطورية .
لكن اللعبة المتبادلة بين دوائر المستويات الوثنية تخلق زواجاً عُرفياً بين
الدين والسياسة في العقل الجاهلي ، فتصبح الوثنية دِيناً رسمياً للقبيلة للسيطرة
على أكبر عدد من الأتباع ، وقمعِ الانشقاق ، ونفي الخارجين على قانون القبيلة .
لذا يترسخ الدِّين كمحكمة تفتيش واقعية وخيالية من أجل تكريس سلطة الأمر الواقع
المعتمدة على الولاء العشائري . وفي نفس الوقت تصبح السياسة البدوية انعكاساً
حضارياً للوثنية الأيديولوجية _ وفق المنظور الميثولوجي البدائي _ .
ومع مرور الوقت يتحول الزواج العُرفي بين الدِّين والسياسة إلى زواج متعة
هادف إلى نشر الدِّين الوثني محمولاً على الطموحات السياسية ، وتعزيزِ هيمنة
السياسة الدائرة حول محور شيخ القبيلة عبر توظيف الدِّين لخدمة مصالح عِلْية القوم
المعنوية والمادية . وهذه الإرهاصات الإدراكية تأخذ _ فيما بعد_ شكل زواج السُّلطة
بالثروة ، وهذا يفسر كَوْن القبائل المتنفذة والمتصارعة على اقتسام الكعكة في
المجتمع العربي الجاهلي هي قبائل غنية اتخذت المالَ السياسي سُلَّماً للوصول إلى
عرش التشريع السياسي الوثني .
ووفق هذه الأجواء تصبح الحاكمية شكلاً للصولجان العشائري الحاكم . لذا لا
يمكن فصل ماهية الحاكمية عن المسار الوثني السياسي محمولاً على الثروة المادية
البدائية ، لأن الجماعة البشرية السجينة في صحراء الجزيرة العربية لا تتمتع بمبادئ
معرفية في العلوم الاجتماعية والمعارفِ السياسية ، وليس لديها أدنى خبرة بتقاليد
العمل السياسي ، وفي هذا الوضع لا يمكن أن تتحرر مقاليد الحكم ومؤسساتُ الدولة
العشائرية الذهنية من مغناطيس المال السياسي. ففي كل التجمعات الإنسانية البدائية
يصبح المالُ هو شرعيةَ العمل السياسي والقوةَ الدافعة لفكر الأحزاب الحاكمة
المتصارعة ( القبائل ) .
وحريٌّ بنا أن نعيَ الدور المحوري لمفهوم الحاكمية في إعادة رسم خارطة
الإفرازات العقلية ، لأن العقل الجاهلي يتم تأطيره في مساحة ضيقة محكومة بأنساق
فلسفية تراثية تقليدية معلَّبة ، وبالتالي يصبح العقلُ البدائي مجرد ردة فعل
للإملاءات العشائرية ، والشروطِ الاستباقية المفروضة من قبل أنظمة الهيمنة
السُّلطوية على تقاطعات العلاقة بين الفرد وذاته من جهة ، والعلاقة بين الفرد
وبيئته من جهة أخرى .
وفي هكذا ظروف يصبح من المستحيل أن يتحرر العقلُ البدوي الجاهلي من شروط
الولاء للقبيلة المحكومة بالسياسة الدينية الوثنية ، والحاكمةِ على سياقات الحراك
الاجتماعي ، والتحركاتِ البشرية في المحيطات الحياتية الأفقية والعمودية .
ومهما يكن من أمر ، فإن طبيعة المدلول الديني تنزع إلى إشكاليات متكاثرة
توليدية ، تساهم في إنتاج بؤر بشرية مضطربة تنفِّذ الإملاءات العشائرية حرفياً ضمن
منظومة الولاء للتاريخ الوثني الأسطوري ، والانتماءِ إلى تقاليد الآباء السابقين
حملةِ المشروعية العائلية المزعومة .
لذا يبرز عقل الحاكمية كولاء تاريخي للآباء المؤسِّسين ، وهذا الولاء
الميثولوجي الخاضع لثقل الإحساس التاريخي والعائلي ، يأخذ شرعيةً دينية صابونية (
هلامية ) ، ومن ثم يتشظى إلى مستويات أكثر شراسة في التعامل مع الذات البشرية ،
حيث يتم وأد الطموحات الشخصية ، وتحويل الفرد إلى بوق لمدح القبيلة وإنجازاتها ،
أو اختراع إنجازات وهمية وتكريسها كواقع حياتي معاش . والفردُ يقوم بهذه اللعبة _
رغم علمه بها _ بسبب خضوعه للسيف العائلي المسلَّط عليه ، وعدمِ قدرته على مجابهة
العقل الجمعي البدائي النابع من رابطة الدم خوفاً من نَفْيه ، أو تصنيفه كمنشق
خائن لتراث الآباء والعائلة ، أو تكريسه كمنبوذ لا ظهر تسنده في مجتمع بدوي جاهلي
متوحش ، وقائم على العصبية القَبَلية ، وماهيات الثأر ، والصراعاتِ الطائفية
والعشائرية من أجل اقتسام السيادة والنفوذ والسلطة الشمولية ، وفق تيار أخلاقي
مضطرب ، حيث اختلاط قيم الشرف والفروسية والكرم بالتخلف العقائدي والظلم والصراع
الطبقي العشائري وهضم حقوق المرأة . وهذا يشير إلى اضطراب المصطلَح الوظيفي في
النسغ المجتمعي الجاهلي الأولي .
وحينما تنهار المعاني في الجماعة البشرية تؤول التحولات البشرية إلى جوهر
هلامي عاجز عن تقديم الحلول لإشكاليات البنى العقائدية ، لأن العقيدة الجاهلية بكل
إرهاصاتها عبارة عن ردود أفعال مختلطة منعكسة عن الطبيعة الصحراوية المحدودة . لذا
تصبح البنية الفكرية ضيقة بشكل لا يسمح لها بتقديم نفسها ، وهذا العجز ناتج عن
غياب الخلفية المعرفية المتماسكة عن المشروع الجاهلي الإقطاعي المتفشي في مفاهيم
السلوك العقائدي .
ومن أجل توليد طبيعة لغوية للقيمة الدينية الأسطورية في التجمع الجاهلي ،
تحاط ماهية الحاكمية الطاغوتية بإفرازات اجتماعية حرجة ، من شأنها رسم هلامية
شرعية حول كيانات الترابط الديني . أي عملية اختراع شرعية من أي نوع تحيط بالفكر
العشائري الإنساني الذي يتم تقديمه كمبادئ دينية سامية ذات طبيعة أبوية عليا ،
تحفظ الإرثَ التاريخي لمجتمع الأصنام ، وكلَّ ما يتعلق به من بدائية الفكر الديني
، وإشكالياتِ المفاهيم الاجتماعية .
ومن هذا المنطلق تتحدد الصيغة الفكرية لماهية الحاكمية الدينية استناداً
إلى ميثولوجيا إقطاعية حسب المنظور السياسي ، وعقيدةٍ طبقية احتكارية وفق المنظور
الديني . وبذلك يكون مفهوم " الحاكمية " هو الجنين غير الشرعي لزواج
السلطة بالثروة .
وكلما اتجهت الماهيات المنبثقة عن الفكر الطاغوتي الحاكم على فراغ
الإفرازات الروحية نحو تفعيل المستويات العقائدية الخشنة التي تعرِّي الإنسان أمام
ذاته ، ازداد حجمُ الضغط الفكري على أبعاد العلاقات الاجتماعية . فيصبح ما يسمى
بالمجتمع الجاهلي تياراً فردياً أنانياً يعتمد على الخلاص الذاتي ، فكل فرد يريد
النجاة بنفسه مستغلاً المكتسبات التي يقدر على امتصاصها من الوحشية القَبَلية
العنيفة . لذلك أضحت القبيلة _ باعتبارها مركز التشريع الوثني البدائي المستند إلى
حاكمية العائلة العقائدية _ مجرد شقة مفروشة سرعان ما يغادرها الفرد ، أو سفينة
تغرق يحاول الجميع القفز منها للنجاة بأنفسهم .
وهذا يعكس الانعكاس السلبي لموقف الحاكمية من حرية الفرد وطموحاته
الشخصانية . فمع تحول العقيدة إلى شكل هلامي أسطوري ازداد غرق الإنسان في مشاكله
الوجودية ، مما أدى إلى انتقال المعنى الفطري للطبيعة البشرية إلى إشكاليات
متوازية مع المأزق البشري العمومي .
وفي ظل متواليات الانكسار المعرفي الصادم ، والعلاقاتِ المجتمعية المتضاربة
، دخل الفرد الجاهلي في نزاع مع نفسه ضمن هاجس الاضطراب ، والقلقِ ، وانعدامِ
الأمن الروحي ، وغيابِ الطبيعة الأخلاقية للجسد الإنساني . فصار الجاهلي يخوض
حرباً داخل نفسه مما أفقده الشعور بالسلام الداخلي ، وهذا أدى إلى غياب فرص
الإبداع والتحرر من تبعية العقائد الأسطورية المسيَّسة ، فالعقلُ لا يمكن أن يفكر بحرية
إلا إذا تحرر من خوفه ، وهذا متعذر في الجماعة البشرية الجاهلية المحكومة
بالقوانين العُرفية التي أفرزتها السُّلطة العشائرية ، وأحكامِ الطوارئ غير
المدوَّنة التي تسري بحكم قوة رابطة الدم، والولاءِ للموروث التاريخي، وتقاليدِ
الآباء المؤسِّسين .
ومن أجل توليد حركة نقدية قادرة على تفتيت ميثولوجيا مشروع "
الحاكمية" إلى بنى فلسفية ، ينبغي تأطير الوعي الذهني المحدود في حركة
اجتماعية عامة كاسرة للحدود ، وعابرة للمأزق الإنساني الصارم .
فعلى الرغم من أن الإنسان الجاهلي صيغة خيالية لوهم تكراري ، إلا أن الأنساق
البشرية قادرة بما أُوتيت من وعي داخلي على كشف أبعاد المعطيات الدينية التي تنزع
إلى إرهاصات سياسية ، لكن الفرد _ غالباً _ يؤثر الصمت الذي يأتي بالسلامة على
الكلام الذي قد يأتي بالمضايقة . وهذه هي النقطة القاتلة في كل التجمعات البشرية
عبر أطوارها المختلفة .
فالجاهلية نظام لا نظامي ، حيث يتم تقديمها كمنظومة فكرية متكاملة وشاملة
ونهائية ، تستوعب طموحاتِ الذوات البشرية ، وتقدر على بعث الروح الحضارية في الأفق
الإنسان على مستوى القيم الجمالية ، والبيئة المادية .
لكن هذه الدعاية المفرطة تغدو فوضى لا نظامية ، بسبب عجزها عن إقناع
الآخرين بمشروعها ، أو مشروعيتها الوهمية . وعليه تصبح الأنظمة الاجتماعية شكلاً
لانعدام النظام ، بل يصبح النظام _ بحد ذاته_ هو اللانظام ، فما بُنِيَ على شرعية
افتراضية ذهنية لا قواعد شعبية لها ، لا بد أن ينهار أمام لحظة المساءلة الفكرية
الحاسمة .
وعلى الرغم من أن ثقافة مستويات الأسئلة كانت مطارَدة من قبل إفرازات
السلطة الصحراوية البوليسية المحصورة ، إلا أن هناك محاولاتٍ جريئة لطرح الأسئلة
على التداعيات العقائدية في مناهج العقلية الجاهلية ، فلم تكن الجماعاتُ العربية
البدائية قطيعَ غنم يسير إلى الذبح ولا يُفكِّر بقدر ما كانت تياراً محصوراً في
وجهة نظر أحادية وأولية خام .
ففكر الجاهليين كان ضحلاً للغاية، بحيث يختلط مفهوم المسار مع ماهية المصير
، ويتزاوج الخضوعُ لسلطة السيف العائلي مع قيم الرجولة والفروسية والانتماء . لذا
فقد أخذ الفكرُ صيغةً رمزية للوهم المطبِق نتيجة حجم ضغط الأنساق المجتمعية على
الوعي الفردي، وحجمِ نفوذ الإملاءات الخارجية ( القبيلة ، العائلة ، التاريخ ،
الهوية، الولاء، المستقبل ) على ذاتية الفرد العاجز عن المقاوَمة، وفتحِ عدة جبهات
، لأن العقل الجمعي الضاغط كان شرساً للغاية ، بحيث لم يسمح للعقل الفردي الشخصاني
بأن يأخذ زمام المبادرة ، أو يتخذ الخطوة الأولى الحاسمة على مسار حرية الفكر ،
والتحررِ من ميراث التبعية .
وتستمر أدلجة إفرازات
المفاهيم العقائدية بشكل يقود إلى تعميق حاكمية الطاغوت كمبدأ ديني ينحو منحىً
سياسياً . لذا فالخطورة لا تكمن في إرهاصات انتحار الوعي الديني بقدر ما تكمن في
التوظيف السياسي الواقعي لماهية الاحتكام إلى الوثن كمسار مجتمعي لا محيد عنه .
فالعقيدة الجاهلية ذات
الصبغة القابلة للتشظي في السياقات الاجتماعية لن تؤثر في طبيعة مسار الوعي
الإنساني الحياتي إذا بقيت محصورةً في الذهن الداخلي للأفراد، والوعي الكلي
للجماعة البشرية .
ولكن التأثير يبدأ حينما
ينتقل الوعي الكلماتي الديني من حيز الإيمان الداخلي إلى واقعية التطبيق العملي .
وهنا تبرز عدة إشكاليات مشتملة على بنية الصدامات البشرية ، وعلاقةِ انكسار الحلم
الجماعي بالطموحات الشخصية للأفراد .
ففي التجمع الوثني
البدائي تتراجع البنى الداخلية للأفراد إلى زاوية قتل الحلم ، بُغية ترسيخ العقل
الجمعي ، لأن البيئة البدوية البدائية التي تنزع إلى إشكاليات وثنية دينية هي محيط
جماعي ، يتم فيه تحييد الإبداعات الشخصية ، والمواهبِ الذاتية . وهذا عائد إلى
كَوْن التقاطعات الجاهلية البشرية تياراً كلياً قَبَلياً ، وصوتاً جماهيرياً
دائراً حول مركزية شيخ القبيلة ( مركز التشريع البشري ) ، ومركزيةِ الصنم ( مركز
التشريع الحجري ) . فلا صوت للإبداع الفردي في التجمعات الصحراوية الأولية ، لأن
صعوبة العيش تفرض مناهج اتباع الحلول الجماعية لا الفردية ، لذلك يشعر الفردُ بأنه
ضائع ، وبعد أن يتعود على ضياعه ، يتم تجذير الضياع كحل وجودي لكل المشاكل
الاجتماعية ، فيصبح الإنسانُ ضحيةَ نفسه وبيئته ، وتتقمص الضحيةُ وجهَ قاتلها ضمن
اضطراب نفسي حرج في الذات الإنسانية ، وحربٍ داخلية في ذات الفرد تبعد عنه السلامَ
الداخلي ، والمصالحةَ الجوانية الضرورية .
وبالطبع فإن مراكز
التشريع الجاهلي متعددة وهلامية وفوضوية ، بسبب كثرة الأيادي الرامية إلى تكريس
الوهم كأيديولوجية حاكمة . وأيضاً بسبب التوظيف السياسي للعلاقات المجتمعية التي
تخترع مراكز تشريعية لسيطرة عِلْية القوم على الجماعات البشرية غير المتجانسة ،
فتصبح إفرازات عبثية الأصنام الآلهة محاولةً يائسة لاختراع حالة تجانس بين القبائل
المتناحرة ، ورابطةً توحيدية لكل الجهود العشائرية الرامية إلى تكريس سُلطة
القبيلة ، وسيادةِ أبنائها بين العرب .
فالحجارةُ هي جماد لا
تنفع ولا تضر ، ولكنْ بحكم التوظيف البشري للأيديولوجيات الافتراضية التي يتم
تكريسها حول الحجر كمرجعية نهائية حاسمة ، تأخذ الجمادات صفةً بشرية حاكمة على
الإفرازات المجتمعية تنتقل إلى صفات آلهة مسيَّسة لا تملك من أمرها شيئاً ، لكنها
تملك أمرَ الناس بحكم سياسة الأمر الواقع ، وقوةِ السلطة البشرية التي تسوق
الجماعة الإنسانية _ كالقطيع _ نحو تقديس
الميثولوجيا حفاظاً على تقاليد الآباء ، ومكانةِ سلطات النفوذ الأبوية .
................الحاشية.....................
{(1)} رواه الحاكم ( 4/ 407 ) برقم ( 8094 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .
{(2)} قال الحافظ في الفتح( 5/ 37):رواه إسحاق بن راهويه في تفسيره
بسند صحيح.
{(3)} قال ابن حجر:رواه الطبري بسند صحيح عن ابن عباس[ انظر المرجع
السابق ].
{(4)} قال ابن حجر : رواه
الطبري بسند صحيح إلى مجاهد [ انظر المرجع السابق ] .