الاستعاذة بغير الله في مجتمع الجاهلية
من كتاب/ الأساس الفكري للجاهلية
تأليف: إبراهيم أبو عواد .
facebook.com/abuawwad1982
.................................
من كتاب/ الأساس الفكري للجاهلية
تأليف: إبراهيم أبو عواد .
facebook.com/abuawwad1982
.................................
إن المجتمع الجاهلي غارقٌ في الأسباب المادية الدنيوية دون النظر إلى صانع
هذه الأسباب . فالجاهليُّ قلبُه متعلق بالأسباب وغافلٌ عن المسبِّب . لذلك نراه
يستعين بالمخلوقات من أجل حمايته ، وينسى أنها مخلوقات عاجزة لا تملك لنفسها نفعاً
ولا ضَرَّاً . فاللهُ تعالى هو النافع والضار . لكنَّ مادية الحياة الجاهلية تفرض
على الفرد أنساقاً فوضوية محصورة في العلاقات المحسوسة ، ولا تنظر إلى ما وراء
الأمور . وهذا نتيجة متوقَّعة في مجتمع يعتبر الدنيا هي البداية والنهاية ، ولا
يؤمن بالغيبيات، لأن عالَم الشَّهادة منتهى عِلمه وعمله. وعن ابن عباس_ رضي الله
عنهما_ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( وَاعْلَمْ أن الأُمَّة لو اجتمعوا على
أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللهُ لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك
إلا بشيء قد كتبه اللهُ عليك ، رُفعت الأقلامُ ، وجَفَّت الصُّحف )){(1)}.
وهذا اليقينُ كان غائباً
تماماً عن العقل الجاهلي الذي لا يؤمن بالقضاء والقَدَر . فهو يعزو النفع والضر
إلى المخلوق بشكل استقلالي . أي إن المخلوق يملك الخيرَ والشر ، ويتصرف بهما من
تلقاء نفْسه ، ولا شيء وراء ذلك .
وقال اللهُ تعالى : ] يا مَعشرَ الجن قد
استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس رَبَّنا استمتع بعضُنا ببعض [ [ الأنعام : 128] .
فالجنُّ قد ساهموا بشكل
بالغ في إغواء الإنس ، وجعلهم ينحرفون عن الصراط المستقيم . وقد كان الاستمتاعُ
بين الإنس والجن متبادلاً . فاستمتاعُ الإنس بالجن يتجلى في الاستعاذة بالجن ، إذ
إنه يُنظَر إليهم على أنهم قادرون على جلب النفع ودفع الضر ، وأيضاً قبول المعاصي
بكل صدر رحب والغرق فيها والتلذذ بها . أما استمتاع الجن بالإنس فيتجلى في إلقاء
الكهانة والسحر وكافة الأباطيل . وهذا الضياعُ المتبادل يَعكس مدى انحراف المجتمع
الجاهلي ، وتحركه بدون بوصلة .
وفي تفسير الجلالين ( 1/
184) : (( انتفع الإنس بتزيين الجن
لهم الشهوات ، والجن بطاعة الإنس لهم )) اهـ .
وهذه المصلحة المتبادلة
قادت الطرفين إلى الانهيار العَقَدي ، والفسادِ الأخلاقي، لأنها مصلحة نفعية
وَقْتية قائمة على بُنية غريزية شهوانية لتحقيق متعة رخيصة .
وفي الدر المنثور ( 3/
358 ) عن ابن جريج قال : (( كان الرَّجلُ في الجاهلية يَنْزل بالأرض ، فيقول : أعوذ
بكبير هذا الوادي . فذلك استمتاعهم )) اهـ .
وهنا تبرز الاستعاذةُ
بغير الله تعالى . حيث إن الجاهلي يُسند المنفعة والمضرة إلى المخلوقات . فحينما
يخاف أمراً ما فإنه يتوجه إلى المخلوق طالباً منه العون والمساعدة والحماية ، ولا
يتوجه إلى الله تعالى ، بسبب تفكيره المادي المحشور في المحسوسات . والمقصود بكبير
هذا الوادي هو كبير الجن . وقال اللهُ تعالى : ] وأنه كان رِجالٌ من
الإنس يَعوذون بِرِجال من الجن فزادوهم رَهَقاً [ [ الجن : 6] .
وقد كان هناك رِجالٌ من
الإنس في أسفارهم وتنقلاتهم يستجيرون برجال من الجن ، ويحتمون بهم ، من أجل منحهم
الأمان والرعاية . فالفكرةُ المسيطرة على أذهان هؤلاء الرجال من الإنس هي أن الجن
قادرون_بما أُوتوا من قدرات خارقة _ على تقديم الحماية والنجدة . والجنُّ كانوا
يَعتبرون أنفسهم أرفع مكانةً من الإنس ، لأن الإنس يلجأون إليهم ويستعيذون بهم .
وبلا شك فإن الإنسان لا يستعيذ إلا بمن هو أسمى منه رُتبةً ، وأعلى منزلة . وقد
كان عربُ الجاهلية يضعون الجن في مقام رفيع ، وينظرون إليهم على أنهم القوة
المخلِّصة من الشرور ، والقادرة على توفير الحماية وجلب المنفعة . والاستعاذةُ
بالجن تنطلق من عقلية بدوية قَبَلية . فقد كان العرب يستجيرون بشيوخ القبائل
ووجهاء الناس حينما تحل بهم مصيبة أو تنزل بهم فاقة . وقد طَبَّقوا هذا النموذج
على علاقتهم بالجن .
قال ابن كثير في تفسيره
( 4/ 550 ) : (( أي
: كُنَّا نرى أن لنا فَضلاً على الإنس لأنهم كانوا يعوذون بنا إذا نزلوا وادياً، أو
مكاناً موحشاً من البراري وغيرها كما كانت عادة العرب في جاهليتها ، يعوذون
بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوؤهم ، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه
في جِوار رَجل كبير وذمامه وخفارته ، فلمَّا رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم
منهم زادوهم رهقاً، أي خوفاً وإرهاباً وذعراً، حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوُّذاً
بهم ))اهـ .
لقد استغل الجنُّ نقطةَ
ضَعف الإنس ، وقاموا بتكريسها والبناء عليها ، من أجل استمرار نفوذهم على الفكر
البشري ، وضمان سيطرتهم على السلوك الإنساني . وهكذا خَضع الإنسُ بالكُلِّية
لِسَطْوة الجن ، ليس بسبب قوة الجن ، ولكن بسبب ضَعف مَوْقف الإنس ، وخَوْفهم ،
وخضوعهم غير المبرَّر .
وفي الدر المنثور ( 8/
298و299) : (( عن كردم بن أبي السائب الأنصاري _ رضي الله عنه _ قال : خرجتُ مع أبي
إلى المدينة في حاجة ، وذلك أوَّل ما ذُكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فآوانا
المبيت إلى راعي غنم ، فلمَّا انتصف الليلُ جاء ذئبٌ فأخذ حَملاً من الغنم ، فوثب الراعي
فقال : يا عامر الوادي ، أنا جارُ دارك ، فنادى منادٍ : لا تراه يا سرحان أرسله ، فأتى الحملُ يشتد حتى دخل في الغنم ، وأنزل
الله على رسوله بمكة : ] وأنه كان رِجالٌ من الإنس يَعوذون بِرِجال من الجن [ الآية )) اهـ .
وهذا نموذج تطبيقي
للعلاقة بين أهل الجاهلية والجن . فهذا الراعي بثقافته البسيطة الضحلة المستمدة من
العادات والتقاليد الشعبية المتغلغلة في المكان والزمان، لم يجد _ حين فقد أعز ما
يملك ( حَملاً من الغنم ) _ سوى الاستغاثة بالجن. وهذا الأمرُ إنما هو بتأثير
ثقافة البيئة الجاهلية المستندة إلى عقول الناس القاصرة ، وأهوائهم المتضاربة .
...............الحاشية....................
{(1)}
رواه أحمد في مسنده ( 1/ 293) برقم ( 2669) ، والترمذي في سُننه ( 4/ 667) برقم (
2516) ، وقال : (( حسن صحيح )) .