سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

08‏/04‏/2014

الفساد القلبي في البيئة الجاهلية

الفساد القلبي في البيئة الجاهلية 

من كتاب/ الأساس الفكري للجاهلية

تأليف: إبراهيم أبو عواد .

.....................

     إن القلب هو المحور والركيزة في التعامل مع الأمور . ويرجع ذلك إلى كَوْنه القوة العاقلة التي تزن الأعمال وتحكم عليها . وكل فساد إنما منبعه من القلب. والتجمعات الجاهلية كانت تستند إلى قلوب قاسية فاسدة ، عشعشت فيها أدغالُ الخرافة والشكوك والاعتقادات التالفة . فالبيئة المبنية على أساسات فكرية ركيكة ومهلهلة لا بد أن تُنتِج مُكوِّناتٍ ذهنية سامة تتوزع على محيا الإنسان ، وتسيطر على فكره وظنونه واعتقاداته . فكل المدلولات السالبة تتجمع في هذا الجسد المصبوغ بالقلب الخراب وتوابعه من أعمال شريرة وسلوكيات يندى لها الجبين . والبيئة تجسيد ملموس للعقيدة ، فإن كانت العقيدة زائغة جاء الواقع مؤلماً مفكَّكاً ، وإن كانت سليمة جاء الواقع طيباً يتسع للعائشين فيه .
     قال اللهُ تعالى مُوضِّحاً العقيدة الجاهلية بكل قبحها : ] يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [ [ آل عمران: 154] .
     أي إن المنافقين الذين تبنوا العقائد الجاهلية يظنون بالله تعالى ظنوناً سيئة . وهذه الظنون تتم إعادة إنتاجها في كل العصور من قبل أهل الشكوك وأصحابِ العقائد الزائغة الذين يحاولون ترويجها ونشرها في التجمعات البدائية من أجل بسط النفوذ على عقول الناس ، والتحكم بمصائرهم ، وتقسيم المجتمع إلى سادة لا يُسألون عما يفعلون، وعبيد لا يجرؤون على رفع رؤوسهم في وجه جلاديهم .
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 554): (( وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفَيْصلة ، وأن الإسلام قد باد وأهله ، وهذا شأن أهل الرِّيب والشك ، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة )) اهـ .
     وكلُّ فردٍ متزعزع العقيدة غير ثابت الوجدان ، سوف يَسقط _ حتماً _ في ظن الجاهلية ، ويَغرق في الشكوك والشبهات . إذ إن فساد العقيدة يُضعف الجبهةَ الداخلية في الذات البشرية ، مما يؤدي إلى الارتباك عند الشدائد ، والسقوطِ المريع أمام الأزمات . وهذا بالتأكيد يَقتل الروحَ المعنوية للفرد والجماعة ، ويقود إلى تشتيت الجهود المجتمعية، وتفرقةِ الصف الإنساني ، وبثِّ اليأس والقنوط والانكسار في الحياة الاجتماعية . وهذه هي الضربة القاضية التي تُنهي تماسكَ المجتمع ، وتجعله هَشَّاً أمام العواصف .
     وقال الشوكاني في فتح القدير ( 1/ 589 ) : (( ] يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ [ ، هذه الجملة في محل نصب على الحال : أي : يظنون بالله غير الحق الذي يجب أن يُظَنَّ به ، وظن الجاهلية بدل منه وهو الظن المختص بملة الجاهلية ، أو ظن أهل الجاهلية ، وهو ظنهم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم باطل ، وأنه لا يُنصَر ، ولا يتم ما دعا إليه من دِين الحق )) اهـ .
     وهنا يبرز الفارق بين أهل الجاهلية وأهلِ الإسلام . فأهلُ الجاهليون غاطسون في سوء الظن بالله تعالى ، والنظرِ إلى شريعته الخالدة على أنها أضغاث أحلام سرعان ما تَذهب أدراج الرياح . أمَّا أهل الإسلام فهم يحسنون الظن بالله تعالى ويَعرفون  _ حَقَّ المعرفة _ أن الشريعة ظاهرة ، وأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حق لا جِدال فيه .
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 2205 ) : عن جابر بن عبد الله الأنصاري_ رضي الله عنه _ قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَبْل مَوْته بثلاثة أيام يقول : (( لا يَموتنَّ أحدكم إلا وهو يُحسِن الظنَّ بالله    _ عَزَّ وجَلَّ _ )) .
     وهذا تحذير من اليأس من الرحمة الإلهية، والقنوطِ من عفو الله تعالى، وتنبيه على أهمية الرَّجاء عند الخاتمة   ( نهاية مسيرة الإنسان على هذه الأرض ) . فعلى المرء أن يظن أن الله تعالى سيرحمه ويَعفو عنه .
     وعن أبي طلحة قال : (( غَشِيَنا النعاسُ ، ونحن في مصافنا _ أي مواضعنا_ يوم بدر . فكنتُ فيمن غَشِيَه النعاس يومئذ ، فجعل سيفي يَسقط من يدي ، وآخذه ويسقط وآخذه . والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هَم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأذله للحق، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، أهل شك وريبة في أمر الله )){(1)}.
     والقلب دائماً متعلق بما أُودع فيه. فإن زرعتَ فيه شكاً وريبة ، حصدتَ تخاذلاً ما بعده تخاذل. وإن زرعتَ فيه يقيناً راسخاً حصدتَ كل خير . ولا يخفى أن الشك آفة كل قلب، إذ إنه يقوم بزعزعة الإيمان القلبي وامتصاصه تدريجياً إلى أن يصبح القلبُ منكوساً . وهذا ما حصل للكثيرين طوال فترات التاريخ المتعاقبة .
     وأهل الشِّرك في الجاهلية كانوا يفتقدون إلى اليقين التام والإيمان الخالص ، فأصابتهم لوثةُ الشرك المقيت ، وجعلوا في كل أعمالهم التعبدية شركاء لله تعالى _ بزعمهم _. وهؤلاء المشركون موجودون في كل عصر.وهناك عدة دوافع لشِركهم . الدافع الأول : نزعة النَّفْس إلى التجسيد والتجسيم القريب إلى متناول اليد فكانت الأوثان المادية المحسوسة. والثاني:غياب المرشد الأمين والواعظ الناصح. والثالث : انهيار القيم العقلانية بشكل عام مما أدى إلى فهم مُشوَّش للأُلوهية .
     وهذا كله أوصلهم إلى عبادة تالفة متوارثة ما أنزل اللهُ تعالى بها من سُلطان . فالعبادات الوثنية عبارة عن خليط من الحق والباطل بدون منهج واضح. قال الله تعالى : ] وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلا وَهُم مُشْرِكُون [    [ يوسُف : 106] . فأهل الجاهلية يؤمنون بأن الله تعالى هو الخالق ، وهو الذي يَرْزقهم ، ويُميتهم ، لكنهم يُثبِتون له شُركاء ، فيعبدونهم لِيُقرِّبوهم إلى الله تعالى .
     وفي صحيح مسلم ( 2/ 843 ): عن ابن عباس _ رضي الله عنهما_ قال : كان المشركون يقولون: لَبَّيْكَ لا شريك لَكَ. قال:فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( وَيْلكم، قَدْ قَدْ )) . فيقولون : إلا شريكاً هو لَكَ ، تَملكه وما مَلَكَ . يقولون هذا وهُم يَطوفون بالبيت .
     فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم يُريد أن يَمنعهم من الإشراك بالله تعالى ، ومعنى كلامه صلى الله عليه وسلم : كفاكم هذا الكلام، وتوقَّفوا عنده . فالعِبارةُ الأُولى التي قالها المشركون عِبارة رائعة ، وهي: " لَبَّيْكَ لا شريك لَكَ "، ولو سَكتوا بعدها لكان خَيْراً، ولكنهم أَبَوْا إلا أن يُشرِكوا بقولهم : " إلا شريكاً هو لَكَ ، تَملكه وما مَلَكَ " . فَحَسْب اعتقادهم هناك شريك لله تعالى ، ولكنه مِلْكٌ لله الذي يَمْلكه وما مَلَكَ . وهكذا كانت تَلْبية المشركين ، وهُم يَطوفون حول الكعبة .
     قال ابن الأثير في النهاية في غريب الأثر ( 2/ 1144) : (( وفي حديث تَلْبية الجاهلية " لَبَّيك لا شريك لَكَ ، إِلا شريك هُوَ لَكَ تَمْلِكه وما مَلَك ". يَعنون بالشَّريك الصَّنَمَ ، يُريدون أن الصَّنم وما يَملِكه ويَختصُّ به من الآلاتِ التي تكون عنده وحَوْله ، والنُّذورِ التي كانوا يتقرَّبون بها إليه مِلْكٌ لله تعالى فذلك معنى قولهم : " تَملِكه وما مَلَك " )) اهـ .
     والقلب دائماً على المحك تُعرَض عليه الفتن ، فإما أن يَنجح أو يُخفق .
     ففي صحيح مسلم ( 1/ 128 ) : أن حذيفة بن اليمان _ رضي الله عنه_ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( تُعرَض الفتنُ على القلوب كالحصير عُوداً عوداً ، فأي قلب أُشربها نُكت فيه نُكتة سوداء، وأي قلب أَنكرها نُكت فيه نُكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين : على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً، كالكوز مُجَخِّياً، لا يَعْرِف معروفاً ولا يُنكِر منكراً إلا ما أُشرب من هواه )) .
     فالفتن مُسلَّطةٌ على هذا القلب لتختبره وتميز الخبيث من الطيب . وبعض القلوب يكون لديها قابلية واستعداد لتشرُّب الفتن، وذلك بسبب ضعفها أمام الإغراءات والأهواء التي تعصف بالكائن البشري . والنوع الآخر يمتلك حصانةً وسياجاً منيعاً يَحول دون تقبُّلها . وبالنتيجة يصير لدينا قلبان : أبيض وأسود . ولا منطقة رمادية بينهما .
     (( قال القاضي عياض _ رحمه الله _ : ليس تشبيهه بالصفا بياناً لبياضه لكن صفة أخرى لشدته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل،وأن الفتن لم تلصق به، ولم تؤثر فيه كالصفا وهو الحجر الأملس الذي لا يَعلق به شيء )) {(2)}.
     وقال ابنُ سراج : (( ليس قوله كالكوز مجخياً تشبيهاً لما تقدم من سواده بل هو وصف آخر من أوصافه بأنه قُلِبَ ونُكس حتى لا يَعلق به خير )) {(3)}.
     وهذه النوعيةُ من القلوب الظلامية كانت تنتشر بكثرة في البيئة الجاهلية بسبب عدم وجود التوجيه السماوي المتمثل في رسالات الأنبياء الكرام . مع العلم أن العرب الوثنيين قبل الإسلام كانوا يُعظِّمون البيتَ الحرام، وكانوا يحترمون أباهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، ولكن تعظيمهم لم يكن مجدياً مع وجود أصنامهم حول الكعبة التي تطعن في التوحيد أيما طعن .
     والفساد القلبي إنما ورثوه عن آبائهم الغابرين الوثنيين الذين اختطوا هذا الدرب المعتم، وتركوا أبناءهم يقتدون بهم ، عن طريق توجيههم إلى الطريق الأثيم . والأبناء يتحملون جزءاً كبيراً من المسؤولية ، لأنهم لم يُعمِلوا عقولهم ويتفكروا في طبيعة الطريق الذي يمشون فيه ، ومآلهم بعد انقضاء هذه الحياة الفانية .
     وقد نعى اللهُ تعالى على المشركين اتباعهم لتقاليد آبائهم الباطلة . فقال تعالى : ] وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ[ [ البقرة : 170] .
     فهؤلاء المشرِكون إذا قِيل لهم: اتَّبِعوا الوحي السماوي، والتزِموا بدِين الإسلام، وابْتَعِدوا عن الشِّرك والأصنام . قالوا : بل نتَّبع دِينَ آبائنا الذي وَرِثْناه . وكيف يقومون باتِّباعهم وآباؤهم جُهَّال لا عقول لهم ؟! . والعاقلُ يَتَّبع أصحابَ العقول ، ويَسير على خُطى العلماء ، ولا يَسير وراء العوام والجهَّال والمنحرِفون عَقَدياً . كما أن العاقلَ يَتْبع الدليلَ النَّقلي والعقلي ويسير على بصيرة ، ولا يمشي وراء هواه ومزاجه . ونلاحظ أن هؤلاء المشركين لم يُقدِّموا دليلاً عِلمياً على اتِّباعهم لآبائهم، ولم يَعرِضوا براهينهم الدِّينية وحُججهم المنْطقية ، وإنما اكتفوا بالتقليد الأعمى بعيداً عن المنهج العِلمي . وهذا مُؤشِّرٌ باهر على أن دِين أهل الجاهلية مبني على التقليد الأعمى ، والتوارث بلا تفكير ولا بصيرة ، والتَّعصب للآباء والقبيلة .
     وقال البيضاوي في تفسيره ( 1/ 447 ) : (( نَزلت في المشركين أُمِروا باتِّباع القُرآن ، وسائر ما أَنزل اللهُ مِن الحُجج والآيات ، فَجَنحوا إلى التقليد )) اهـ .
     وكما قال الشاعر :
وَمَن يَكُن الغرابُ له دَليلاً           يَمُرُّ بِه على جِيَفِ الكِلاب
     وتؤثر محتويات القلب على المحيط الخارجي المكوَّن من أنماط حياتية مختلفة نابعة من العقيدة . فالجماعات الجاهلية تمارس أنشطتها بناءً على ما ورثته من تقاليد وعادات تُمثِّل بالنسبة للكائن الجاهلي نصاً دينياً مقدَّساً لكنه غير مُدوَّن. إن القابلية للفساد والإفساد لها مفعول شديد على التجمعات البشرية ، حيث يتم في أفلاك هذه القابلية قيادة الإنسان نحو التنازل عن قوته العاقلة لصالح العقل الجمعي في بيئته المعاشة ، وبالتالي ينعدم إحساس المرء بفطرته، ويزداد إحساسه بالقبيلة والمفردات الاجتماعية الجارفة ضمن مدارات بالغة الانغلاق والتقوقع .
     إن هذا الانغلاق يفرض عزلةً قاسية على قدرة العقل على امتصاص المعطيات المختلفة ، ويلعب دوراً فعالاً في ارتداد الفرد إلى أنوية العناصر الاجتماعية الأولية مثل : الأسرة والقبيلة . فالوصاية التي يمارسها الفكرُ القَبَلي على عقول الأتباع تؤدي بالنهاية إلى كائن مسخ فاقد الهوية الذاتية ، وعائش في الخطط المرسومة من قِبَل الآخرين . إنه انصهار مؤلم للفرد المعطَّل في وعاء القبيلة المستندة إلى وُجهة فكرية جمعية منحرفة . وهذه العوامل الطاغية تؤدي إلى مرحلة الإنسان الإمَّعة الذي يمتاز بإنسانية منقوصة ، والذي يقول كما يُقال ويمشي مغمض العينين في الطريق الذي يحدده الآخرون . 
     والقلب بفطرته يميل إلى الخير، إلا أن الهوى والشهوة حينما تدخلانه تُفسدانه فتبدأ الانهيارات المتسلسلة في المفاهيم القِيَمِيَّة لدى الفرد. فكل بيئة هي نتاج للحالة القلبية ، فمن كان ذا قلب مريض _ والمرض هنا ليس مادياً بل معنوياً_ ، سوف تتأثر أفعاله الحياتية سلباً. وسوف يصبح معولَ هدم في السور الاجتماعي الذي تتحصن وراءه المجموعات البشرية. وبسبب هذا الأمر تبزغ الظواهر السالبة والعد التنازلي لوجود الجماعة الإنسانية . كما أن الممارسات المتفاعلة مع العناصر المحيطة تصير مشوَّشة نتيجة اختلال منظومتي المدخَلات والمخرَجات. وهذا يُفضي إلى تدمير منهجي للحضارة الإنسانية ، وإضاعة لكل المعارف المتراكمة عبر الأزمنة .
     والوقائع الكامنة في بُنية العلاقات بين الأفراد سوف يشوبها الكثير من الخلل والاضطراب اللذين يؤديان إلى فقدان الفرد لسيادته ونفوذه على عقله وواقعه، فتخسر الجماعةُ إبداعاً محتمَلاً، وتُهدر قدرات ذاتية تفاعلية دون سبب ، ويصبح الانتماء قسرياً ونفعياً بالمقام الأول ، فالفرد ينتمي إلى الجماعة رغماً عنه وليس بإرادته . وما يدفعه إلى ذلك هو عدم قدرته على تحقيق منافعه الشخصية الضيقة بمفرده ، فينتمي إلى الجماعة لكي تصير له سُلَّماً يتسلق عليه ، ضارباً بعرض الحائط كل القيم النبيلة العامة التي تمس الجماعة بوصفها شكلاً تعبيرياً للوجود الإنساني في هذه الحياة . والمدلولات غير القادرة على إعادة صياغة العلاقات الإنسانية ، تصير عبئاً ثقيلاً على كاهل المنتمي إلى التجمع البشري ، وصولاً إلى مرحلة يصبح فيها الانتماء ذاته عبئاً على الفرد التائه وسط غابة من التناقضات القاتلة ، والمفارَقاتِ العنيفة ، والأضدادِ الشرسة .
     وفي ظل انطفاء الشعور القلبي فإن انطفاءً صادماً سيظهر في منظومة الحواس برفقة فوضى عارمة تضرب المساحاتِ الوجدانية للذاكرة الفكرية . فيغدو الفردُ مجرد رجع صدى خالٍ من المعنى، وبالتالي يتجذر القلب كجزء من المشكلة لا الحل. أي إن الإفرازات السلبية في مساحات القلب الإنساني سوف تتراكم لتنتج إنساناً مسخاً فاقداً للمعنى الحياتي ، وغير شاعر بحجم التحديات المصيرية الوجودية التي تعترض طريقه ، وتهدد مستقبله الآدمي . مما يؤدي _حتماً_ إلى إنتاج إنسان فاقد لشرعية وجوده .
     وبما أن القلب هو المحور المركزي في صناعة الحضارة الإنسانية على المستوى الفردي الشخصاني ، والمستوى العمومي الشَّعبي ، فمن الطبيعي أن يتصدر قائمة المستويات الشعورية الدافعة إلى الإنتاج والتحديث والتأطير الاجتماعي ضد الفعل الأسطوري الديناميكي .
     لذلك فالتعويل على النقاء القلبي من أجل بث الروح المعنوية الهادرة في أوصال الحياة المجتمعية يكتسب مزيداً من الأهمية مع مرور الوقت نتيجة ازدياد الحاجات الإنسانية إلى الراحة النفسية الجوانية في مجتمع مادي ميكانيكي متكلس في قيود شهوتَي البطن والفَرْج .
     ومن هنا تنبع أهمية التأطير الإنساني العميق المستند إلى القوة القلبية العاقلة لإخراج الفرد من مأزقه الداخلي الصادم ، وإتاحة الفرصة له لمزيد من الإبداع الحضاري ، وبناء المجتمع الإنساني المنشود المبني على قيم الحضارة المؤمنة المتصلة بالوحي السماوي الحقيقي لا المتخيَّل ، والعدالةِ الاجتماعية ، وتكافؤ الفرص ، والعلاقاتِ المتوازنة بين السُّلطة الرسمية والسلطة الشعبية بما يتيح للفرد أن يخرج من عباءة خَوْفه ، وشعوره بالمنفى الكامن في أحشائه .
     لكن التأطير الجاهلي المصادم للفعل العقلاني المؤمن تكمن خطورته المركَّبة في الاعتماد على تحييد القلب الإنساني ( القوة الشعورية العاقلة ) ، والتركيز على المعقولية الغريزية الشهوانية التي تخترع أنظمةً منسوبة إلى الفعل العقلي ، ومحتوية على الاندفاع الهستيري للشبق الشهواني غير المنضبط . لذا فشل المشروعُ الجاهلي في صناعة حضارة إنسانية متحركة ، ولم يقدر على الخروج من ثقافة رعي الغنم بكل إفرازاتها السُّلْطوية البدائية ، وانعكاساتها السياسية المتمركزة حول بدائية الفعل الإنساني البسيط العاجز عن مواكبة الزمان ( التاريخ ) والمكان ( الجغرافيا ) .
     إن العقل الجاهلي الوثني لم ينطلق من صفاء النظرة القلبية ، بل انطلق من قيمة التمركز حول الشهوة المقدَّسة حسب الموروث الجاهلي التركيبي . أي إن المفردات الحياتية المتدفقة في وعي الإنسان العربي البِكْر المحصور في صحراء الجزيرة العربية المعزولة بالكامل عن سياقات المسار الحضاري الكَوْني هي مفردات بالغة التشويش لأنها مستندة إلى وعي استباقي مغلوط شديد السطحية والضحالة . وهذا يعود إلى عوامل كثيرة من أهمها : تقوقع المسارات العقلانية حول شرعية شيخ القبيلة ( مصدر السلطات الخيالية والواقعية )، وغياب المرجعية الفكرية الناقدة لطبيعة أفعال الحواس، مما أدى إلى سيطرة الارتجال على الفعل الحياتي المعاش ، وعدم وضوح المسار الرُّؤْيَوِي القادر على اختراع وجهة الرؤية وتثبيتها واقعاً ملموساً ذا أبعاد مستقبلية هادفة .
     فالإشكالية الفكرية العنيفة التي قادت إلى فوضى في أنظمة بناء الجوارح البشرية هي الإغراق الفلسفي المتعمد في نفي القلب عن المعنى الشعوري العمومي ، والاعتماد بالكلية على تفاصيل مشاعر خام في إعادة رسم خارطة أبعاد الحضارة الجاهلية اللاحضارية .
     فالذي يعيد تشكيل المنحى الروحي للضمير الجاهلي الداخلي هو تكريس قتل الضمير باسم القبيلة ، مما يؤدي _ بالضرورة _ إلى قَوْلبة الروح الفكرية الوثابة في كيانات سياسية مدفوعة بأجندة عُرْفية مستقاة من اتجاه القبيلة الفكري الوثني ، وسياستها حيال القضايا المصيرية ، ومكانتها بين القبائل ، في ظل منظومة الصراع المحتدمة بين العائلات الكبرى والعائلات الصغيرة المنضوية تحتها بُغية تقاسم النفوذ ، والسيادة على المقدَّسات ، والسيطرة على الشعائر الوثنية . مع العلم أن طبيعة الشعائر التي تنحو منحىً أيديولوجياً متماهية مع أبعاد العادات والتقاليد والأعراف القَبَلية الستاتيكية ( الساكنة ) ، والمتجمدة في القوالب الذهنية الافتراضية المحالة إلى أبعاد دينية وثقافية واجتماعية . ومما لا شك فيه أن تحييد القلب عن منظومة الحواس أدى إلى إشاعة جو من الفوضى والعبثية في الفعل الاجتماعي البشري ، فانتشر الارتباك الواضح في صيغ الأفعال الجاهلية الممزوجة مع التيارات الوثنية الأيديولوجية . لذلك تفشى في أوصال سوسيولوجيا الحضارة الجاهلية الوثنية اللاحضارية مبدأُ معاداة الحواس ، وقمع الجوارح البشرية بُغية تأسيس انهيار شهواني صارم مصبوغ بالتعاليم البدائية العُرفية للذات الصَّنمية .
     فلا يمكن أن يجتمع القلب الصافي مع الذات الوثنية المالكة للاعتبار الجمعي في الكيان البشري الحر ، لذا فإن غياب القلب القادر على صناعة تحولات الجماعة الفكرية قاد إلى عبودية جديدة لا تدور حول قداسة الوثن في المنظور الفلسفي الجاهلي فحسب، بل تدور كذلك حول سُلْطة شهوة اتباع الهوى ، واختراع عقائد اختزالية انكماشية قادمة من الآراء الشخصانية المفتقدة إلى الوعي المنطقي الحر والحاسم .
     والجدير بالذكر أن تجذير المشاعر الجوانية في البيئة الصَّنمية المبنية على شرعية الموروث الهلامي المقدَّس قد تم اعتماده كصيغة للتشريع الجاهلي ، لأن اتباع الهوى هو التأسيس اللفظي والمعنوي للحياة البدوية البدائية في الجزيرة العربية المعزولة عن أماكن صنع القرار .
     وبالتالي أصبحت القيمة الشعورية الداخلية جزءاً لا يتجزأ من النظام التشريعي الرسمي للعقلية العشائرية الحاكمة على أنساق التحولات البشرية في البيئة الوثنية المقتولة القاتلة أو القاتلة المقتولة في ظل اختلاط مريع بين الفعل ورد الفعل بسبب غياب منهج الترتيب العقلاني ، وهذا جعل من ثنائية ( التابع / المتبوع ) إشكالية لفظية غارقة في جدليات بناء السابق واللاحق. وهذا يفسر عدم قدرة حواس النسغ الجاهلي على مواكبة العصر ، أو التأثير في سير الحضارة العالمية .
     إن المنهج العلمي التثويري الرامي إلى التغيير لا يمكن أن ينال شرعية اسمه ووَصْفه إلا من خلال خطوات عقلانية تراتبية . أي إن مفهومية الترتيب الواعي للأفكار الثورية الطامحة إلى التغيير هي حجر الأساس المركزي في بناء الصيغ الرمزية والواقعية . ومن خلال هذه الرؤية نفهم عجز المجتمعات الجاهلية الشكلية عن تشييد مجتمع حقيقي واعٍ ، ومتماسك ، ويتمتع بالاستمرارية المعنوية والمادية .
     فالطبيعة الوثنية المختلطة بالأبعاد المجتمعية فشلت في صناعة مجتمع الصفاء الروحي ، والنقاء القلبي ، والعدالة الاجتماعية ، والتنمية المستدامة على صعيد الإنسان والبيئة ، لأن الصيغة الرمزية لانعكاسات السُّلطة الوثنية لم تقدر على ترتيب خطوات منهجية لبناء العناصر الحضارية باتزان ، وهذا يفسر غربة العربي القديم في بيئته الجارحة، وغربة البيئة البدوية الصحراوية في نفوس أبنائها. فلم يظهر مفهوم الانتماء إلا كعصبية قَبَلية ، والتفاف شَعْبَوِي مهووس حول شيخ القبيلة باعتباره رأس الأمر الحامل للمظهر الاجتماعي المتماسك أمام باقي القبائل .
     وأيضاً انحصرت المعقوليةُ الانتمائية إلى البيئة الحاضنة كسياق شِعري مشتمل على التمسك بالأرض الحاملة لذكريات الطفولة ومراتع الصبا والحب الأول والسلالة العائلية ، لكن تمسك العربي الجاهلي بوطنه وأسرته لم يأت استناداً إلى وعي إنساني تراتبي ومنهجي ، بل جاء كوعي تقليدي ارتجالي خام يتبع نداء الغريزة ولا يتبع نداء العقل بسبب افتقاد الجاهلي البدائي إلى الإفرازات المنطقية لمنظومة القلب الحاكم على الحواس والرغبات والمشاعر والتأطيرات المجتمعية المنطلقة من المبادئ الأيديولوجية الصَّنمية أو الاجتماعية التكريسية الغارقة في الولاء لرأس العشيرة والسلالة العائلية المناوئة لحرية التفكير ، والاعتراض ، والنقد ، والنقض .
     لذلك تكرس مفهوم الخروج على الجماعة كإطار كارثي مرفوض ، وردة ما بعدها ردة ، لأن منظومة سياسة العقل العربي القديم في الصحراء هي متواليات تقديسية للقبيلة بغض النظر عن تصرفاتها . وهكذا يبرز الخضوع للجماعة ، وعدم نقد أفعالها كعاملَيْن في تشكيل الشخصية الجاهلية القامعة المقموعة ، والخائفة من منهج إعمال العقل ، وتأسيسِ متواليات النقد والنقض ، خوفاً من أن تُصبغ الشخصية العربية الجاهلية بالردة أو الانشقاق أو الخروج على قوانين القبيلة .
     إن تكريس الفساد القلبي كقوة شعورية محركة للأنساق الجدلية الوثنية أفرز بنيةً اجتماعية مهلهلة عاجزة عن توفير المتطلبات الحياتية الإنسانية للوعي الإنساني العمومي .
     لذا انحصرت الحياة العربية البدائية في ثقافة الصحراء وإفرازاتها القاسية المضادة للشعور المدني المتحضر ، وحُشرت الثقافة العربية العُرفية في زاوية عقلية البدو الرُّحل الذين لا يفهمون معنى الانتماء إلا من خلال توفر العشب ووسائل الحياة للأفراد والدواب .
     وعلى الرغم من تمركز مفهوم الوطن حول معقولية الماء والعشب إلا أن ذهنية التعلق بالوطن مفتوحة على مجالات نفسية أخرى أكثر التصاقاً بالوعي الغريزي الذكرياتي الداخلي . وفي ذلك إشارة إلى بقايا الإحساس القلبي الجواني القادر على توليد شعور إنساني رمزي يدل على الارتباط الوثيق بين الذات الفكرية للفرد البدائي وبين الوعي الاجتماعي المحيط .
     ومن خلال نمو تيار الدينامية المشاعرية في الكيان الآدمي تتجذر أهمية المستويات الفكرية المنبثقة عن القلب، لأن القلب هو المفتاح الشعوري لاجتماعيات اللغة الرمزية المعاشة على مستوى الشكل والمضمون ، أو القالب والمحتوى. وليس المقصود باللغة _ في هذا المقام _ الترتيب الأبجدي المتشكل على صورة وسيلة تخاطب، وإنما الوعي الكلي المنتشر في أوصال المجتمع نظاماً إنسانياً حياتياً بكل تفاصيله وتناقضاته، لأن اللغة الرمزية هي محيط التواجد الإنساني الفعال ، وشرعية الوجود البشري بغض النظر عن الطبيعة الأخلاقية للفعل الإنساني .
     وقد تم تأصيل المنحى الفلسفي للتناقض الحياتي في وجوديات العرب البدائيين بفعل غياب التنسيق المشترك بين الوعي القلبي للجماعة البشرية ، واللغةِ الرمزية لتقاطعات التاريخ والجغرافيا على الجسد البشري المحصور في متاهة الأضداد الزمنية والمكانية .
     ومما لا شك فيه أن اختلاط المفاهيم في الذهنية الصَّنمية الذي يحاصر القلبَ من كل الجهات قد قاد مسيرة الحواس إلى الدرب المسدود، فأضحت علاقة الفرد( الصانع ) مع الوثن ( المصنوع ) علاقة طبقية تنزع إلى قيم الحواس السلبية. لذلك تظهر الحضارة الجاهلية الوهمية كامرأة مغتصَبة تنظر إلى مغتصِبها باعتباره سيدها المطْلق ومالك أمرها وقدوتها السامية . وهذا التدجين الذاتي بالغ الخطورة، لأنه ينطلق من القاعدة الإشكالية القاتمة: (( المغلوب مُولَع بتقليد الغالب )) .
     وهذه القاعدة تتكرر بصورة هستيرية ، وتتكاثر بشكل بكتيري ، في طبيعة السياق الاجتماعي للحالة الوهمية للأنا الجاهلي والآخر الوثني . فالعربي القديم ما هو إلا انعكاس سالبي للمنتَج الثقافي الصَّنمي ، إذ إن فساد القلب المتفشي في كل الجوارح يصنع مجالاً من الأفعال وردود الأفعال ، فيتكلس الذهن العربي البدائي في حالات وثنية من المد والجزر ضمن فوضى انعكاس الأفكار المتخيَّلة على الواقع  المحسوس الجارح ، وبالتالي تثبت الانعكاسات المعرفية بين المنتَجات الثقافية الصورية والذوات البشرية كوعي أسطوري يستمد شرعيته الخيالية من شرعية الصنم المزعومة . وهذه المتاهة الفكرية تسلب الفردَ أية قدرة على نقد الأنساق ونقض محتوى الهرطفات البدوية ذات الطبيعة الصحراوية ، ليس على مستوى الجغرافيا فحسب ، بل أيضاً على مستوى تسلسل الوعي الرمزي .
     والمشكلة العنيفة في المتاهة المعرفية البدوية كامنة في طبيعة الحصار الفكري المفروض على الفرد والجماعة بشكل تبادلي وفق منهجية تبادل الأدوار بين السجين والسجان ، والضحية والجلاد ، والوعي المعرفي المتماسك والهرطقة ذات الصبغة العشائرية المقدَّسة .
     فالفرد المحصور في دوائر الخوف لا يمكن أن يُعمل عقلَه بسبب عجزه عن تجميع قواه الذهنية المبعثرة نتيجة التكثيف الضاغط على حرية تفكيره . فلا يمكن للإنسان أن يمتلك صور المستويات العقلية التحليلية إلا من خلال تحرير اللغة الإبداعية من سطوة المد الأسطوري ، وتحرر الفرد من ثنائية الخوف القاتلة ( الخوف من السلطة الخارجية ممثلة بالعقل الجمعي الإنساني العمومي الضاغط / الخوف من الخطأ أو الفشل ) . والوصفة السحرية لصناعة عقل نَقدي حاسم هي اقتحام دوائر الخوف باستخدام أدوات التحليل العقلاني الواعي ، لأن أفضل وسيلة لقتل الخوف هي اقتحامه .
     لكن مبدأ الاقتحام غير منتشر في السياقات العربية الأولية بسبب ضغط البنى السُّلْطوية المتسلسلة ( خضوع الفرد لأسرته، وخضوع الأسرة للقبيلة ، وخضوع القبيلة لشيخها ، وخضوع الشيخ لهواه ) . لذا تظهر فكرة اقتحام تقاطعات الخوف كمحاولة انقلابية على القبيلة ، وبعثرة هَيْبتها أمام القبائل، وتكسير كلام شيخ القبيلة . وهذه محرمات كارثية قد تطيح برؤوس في سبيل المحافظة على قداسة القبيلة كمصدر لتوليد المشاعر القلبية ، وإصدار القرارات الحاسمة التي تتلاعب بمصائر البشر والدواب والبيئة .
     ومن خلال هذا الحصار يتم تقديم مبدأ السلامة على مبدأ الإبداع وفق منهجية الاستسلام للأمر الواقع وسياسة " الموت مع الجماعة رحمة " ، وهذا قتل الإبداع ، وقمع الجوارحَ البشرية القادرة على التفكير والتغيير . ومن غرق قلبُه في مستنقع التبعية والتقليد الأعمى فلا يمكن أن يكون قائداً لمسيرة النهضة والتحديث وكسر العزلة الصحراوية المفروضة على السياقات المجتمعية من رأس السلطة حتى القاعدة.
     إن العقلَ الجاهلي غارق في العناد والصلابةِ الفارغة . وهذا مرجعه إلى تأثره الشديد بالبيئة العربية الصحراوية القاسية . فطباعُ العرب الوثنيين شديدة الخشونة لأنهم نشأوا في مناخ ضاغط على الروح والبدن، وفي ظل عدم وجود حضارة ترتقي بأخلاقهم . إنهم قبائل فوضوية بدائية تفتقد إلى الروح المدنية والإسهامِ الحضاري الراقي . وليس في قلوبهم نورٌ يهديهم إلى الحق ، والتفاعلِ الإنساني الإيجابي .
     قال اللهُ تعالى: } فإذا ركبوا في الفُلْك دَعَوُا اللهَ مُخلِصين له الدِّين فلمَّا نجَّاهم إلى البَر إذا هُم يُشركون  { [ العنكبوت : 65] .
     فهؤلاء المشركون حينما يَركبون في السُّفن، ويخافون الغرقَ، ويَشعرون بالخطر، فإنهم يلجأون إلى الله تعالى بقلوب خالصة من شوائب الشِّرك . فحينما يخشون الغرق ، ويستشعرون بقرب النهاية ، فإنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء بكل إخلاص ، لعلمهم أن الله _ وَحْدَه _ هو القادر على إنقاذهم . وهم بذلك يعودون إلى فِطرة التوحيد. وعندما يَصِلون إلى بَر الأمان ويزول الخطر، فإنهم يعودون إلى شِركهم ، كأن شيئاً لم يكن. وهذا مردُّه إلى قلوبهم الفاسدة، وأخلاقهم اللئيمة، وسوء نظرهم في الأمور.
     وفي تفسير البغوي ( 1/ 255): (( قال عكرمة: كان أهلُ الجاهلية إذا رَكبوا البحرَ حملوا معهم الأصنام ، فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها في البحر ، وقالوا : يا رَب ، يا رَب )) اهـ .
     وهذا يدل على عَوْدتهم إلى فِطرة التوحيد ( النواة الأساسية ) التي لم تتلوَّث بالإفرازات الاجتماعية ، والتأثيراتِ الفكرية المنحرِفة . ففي لحظة الشِّدة ، عادوا إلى التوحيد ، وتخلَّصوا من الأصنام ، ودَعُوا اللهَ وَحْدَه لا شريك له . فلمَّا أنقذهم اللهُ من الغرق ، عادوا إلى الشِّرك ، كأن شيئاً لم يَكُن .
     وقال القرطبي في تفسيره ( 13/ 323 ) عن شِرْكهم: (( أي : يَدْعون معه غيره ، وما لم يُنَزِّل به سُلطاناً . وقيل : إشراكهم أن يقول قائلهم: لَوْلا الله والرئيس أو الملاح لغرقنا )) اهـ .   
     وكما أن الشِّرك متغلغل في النسق الفكري الجاهلي، فإن الرياء متجذر في الفكر العربي الوثني. فالعربيُّ لا يؤمن بالبعث بعد الموت ، وبالتالي لا يؤمن بالجزاء في الآخرة . وهذا جعل تفكيرَه مُنْصَبَّاً _ بشكل كامل_ على الدنيا، وتحصيل أقصى ما يمكن تحصيله منها، مثل المال والأولاد والجاه ، وحب السُّمعة ، وانتشار الصيت. فالدنيا هي مَبْلغُ عِلم الجاهليِّ ومنتهى أحلامه ، وهي _ بالنسبة إليه _ الحد الأقصى الذي لا يوجد بعده شيء .
     قال اللهُ تعالى : } كُتب عليكم إذا حَضر أَحَدَكم الموتُ إن تَرك خيراً الوصيةُ للوالدَيْن والأقربين بالمعروف حَقاً على المتقين  {[ البقرة : 180] .
     قال الواحدي في الوجيز ( ص 148) : (( كان أهلُ الجاهلية يوصون بمالهم للبعداء رياءً وسُمعة ، ويتركون أقاربهم فقراء ، فأنزل اللهُ تعالى هذه الآية )) اهـ .
     نلاحظ كيف أن الرياء يُوَجِّه أفعالَ أهل الجاهلية. فهم يستخدمون أموالهم من أجل نشر صيتهم بين الناس، ولكي تصل شهرتهم إلى أقصى حد ممكن . وذلك خضوعاً لهوى النفس وحظوظها ، ومحاولة لنيل الوجاهة والسُّمعة ، مما يؤدي إلى تكوين صورة براقة للمرائين في قبائل العرب المعتمدين على المدح والتفاخر... إلخ .
     مع ضرورة الانتباه إلى أن الآية متنازع في نسخها بين أهل العِلم . وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم( 11/ 88): (( وهذه الآية منسوخة عند الجمهور )) .
.................الحاشية..........................
{(1)} رواه ابن حبان في صحيحه ( 16/ 145) برقم ( 7180) .
{(2)} شرح النووي على صحيح مسلم ( 2/ 172) .

{(3)} المرجع السابق ( 2/ 173) .
facebook.com/abuawwad1982