الانهيار العقدي والأخلاقي في الجاهلية
من كتاب/ الأساس الفكري للجاهلية
تأليف: إبراهيم أبو عواد .
............................
من كتاب/ الأساس الفكري للجاهلية
تأليف: إبراهيم أبو عواد .
............................
لا يخفى أن النسق الجاهلي يستمد شرعيةَ وجوده الوهمية من بُنية أسطورية
تَحمل سماتٍ دينية ترتدي قناعَ الحضارة والمدنية والتقدم . فالطبيعةُ الجاهلية
الضاغطة على مسار الأحداث الإنسانية تُحيل الأطرَ الخرافية إلى شريعةً لازمة ومُلزِمة
للآخرين . ولا يخفى _ أيضاً _ أن إنكار البعث هو أحد أهم ركائز العقيدة الجاهلية .
فأهلُ الجاهلية يَنسبون الإحياء والإماتة إلى الدَّهر ، فهم يَعتقدون أن الحياة
الدنيا هي البداية والنهاية ، فلا يوجد في قلوبهم إيمانٌ بيوم القيامة ، أو حسابٌ
يُفضي إلى الجنة أو النار . وهذه العقيدة الباطلة موجودة في كل العصور ، وهي تنتشر
في أوساط الدَّهريين وبعض الفلاسفة .
والجدير بالذِّكر أن
أهلَ الجاهلية قومٌ بلا كتاب ، على العكس اليهود الذين لديهم التوراة، والنصارى
الذين لديهم الإنجيل . لذلك فإن العقائد الجاهلية هي خليطٌ غير متجانس خاضع
للأهواءِ، والمصالحِ المادية الضيقة، وأفكارِ الأمم الأخرى. فالعربُ في الجاهلية
كانوا مُقلِّدين لا هوية ذاتية لهم ، تتلاعبُ بهم الأمم ، وتتقاذفهم أهواءُ
النَّفْس والنزعاتُ الشيطانية . وقد كان العربُ يَشعرون بدونيتهم أمام اليهود
والنصارى ، لأنهم لَيْسوا أهل كتابٍ . وهذا أدى إلى غرقهم في عبادة الأوثان
واختراع العقائد التي ما أنزل اللهُ بها من سلطان . فكانت الأصنامُ حول الكعبة هي
كتابهم المقدَّس الذي اخترعوه، وكانت الوثنيةُ هي دِينهم بين باقي الأمم، وهذا
الدِّين الخرافي كان يُخلِّصهم من عُقدة النقص _ كما يتوهمون _ .
وعن ابن عُيَيْنة قال
: كان أهل الجاهلية يقولون : إن الدَّهر هو الذي يهلكنا ، هو الذي يميتنا ويحيينا،
فرد اللهُ عليهم قولهم. قال الزهري: عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : (( يقول الله _ عز وجل _ : يؤذيني ابنُ آدم ، يَسُب الدَّهْرَ
، و أنا الدهر ، أُقلِّب لَيْلَه ونهارَه ، فإذا شئتُ قبضتُهما )) . وتلا سفيان _
ابن عيينة _ هذه الآية : }
ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر {[
الجاثية : 24] {(1)} .
إن أهل
الجاهلية قد اعتبروا الدهرَ هو الفاعل في هذا الكون الذي بيده الحياة والموت ، فلم
يَنظروا إلى عظمة الله تعالى وقدرته . وإنما حَصروا تفكيرهم في إطار مادي زمني
محدود ، ونَسبوا إليه القدرةَ على التصرف بالخلائق إحياءً وإماتة . لكنَّ الله
تعالى رَدَّ عليهم ، وكشف لهم زَيغَ دعواهم ، واعتقادهم الباطل .
وفي تفسير
ابن كثير ( 4/ 192) : (( قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة ... : كانت العرب
في جاهليتهم إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا : يا خَيْبة الدهر ، فينسبون تلك
الأفعال إلى الدهر ويسبونه ، وإنما فاعلها هو الله تعالى ، فكأنهم إنما سَبُّوا اللهَ
_ عز وجل _ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة ، فلهذا نهى عن سَبِّ الدهر بهذا الاعتبار ، لأن
الله تعالى هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال )) اهـ .
فأهلُ
الجاهلية قد حشروا أنفسهم في حياة روتينية مملة بدون هدف راقٍ ( الأكل والشراب /
النوم / الزواج / الموت ). وهذه الحياة القاتلة لمعنى الحياة تخلو من القيم
السامية، وصناعةِ التاريخ، والإخلاصِ لله تعالى ، ونيل جنَّته الخالدة . لذا فإن
جنة المشركين هي في حياتهم الدنيا المحشورة في زاوية الضيق والضنك وغياب الطمأنينة
النفسية . وهم ينسبون الموتَ إلى الدهر ، ويعتقدون أن نهاية الإنسان مرحلةٌ طبيعية
خاضعة للمبادئ الزمنية والقواعدِ الحسابية الخاصة بالشهور والسنوات وهذا مرجعه إلى
عدم الإيمان بالغيبيات ( ما وراء المحسوس ) . فمشركو الجاهلية محصورون في إطار
الحياة المادية الملموسة . لذا فإن عقولهم القاصرة لا تَقدر على استيعاب وجود حياة
أخرى بعد الموت بسبب تحركهم في فوضى عَقَدية تعتمد على إدراكات الحواس فقط . وهذه
المتاهة تتجذر بكل شراسة بسبب غياب الهداية الرَّبانية والتوجيهِ السماوي .
ولم يتوقف
الانهيار الجاهلي عند العقيدة ، بل استمر وصولاً إلى الطبيعة العلاقاتية في
المجتمع ، وبنيةِ الأخلاق الاجتماعية . فالفكرُ الجاهلي يعتمد على مبدأ ثابت ، وهو
ربط القيم الصالحة بالقيم الفاسدة . فمثلاً ، تعظيمُ بيت الله الحرام قيمة صالحة ،
ولكنْ تمت إحاطته بالأصنام وبناءِ وعي جمعي يدفع الأفرادَ إلى عبادة الأصنام
وإلصاقها بالله تعالى وبَيْته العظيم . وتربيةُ الأنعام والاستفادة منها قيمة طيبة
، ولكنها أُحطيت بعقائد باطلة مثل ذبحها لغير الله تعالى ... إلخ . وهذا الانحراف
متواصل ، ومنتشر في أجزاء المجتمع ، وشامل لكل مناحي الحياة. فأهلُ الجاهلية
أَخضعوا المظاهرَ الروحية والمادية لمنظومة عبثية من التقديس والغبش الأخلاقي .
وهذا يتجلى في ربط مظاهر الحياة الاقتصادية بالانحراف الفكري . فالزراعةُ وما
تنتجه الأرض من أهم أركان الحياة الاقتصادية للمجتمعات ، لكنها قد أُحطيت بهالة
جاهلية تُقدِّم الجانبَ السلبي على الإيجابي . وهذا يتضح في حديث أبي هريرة _ رضي
الله عنه _ : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تُسَمُّوا العنبَ الكرمَ )){(2)}.
فالعنبُ محصولٌ زراعي طَيِّب ذو فوائد جمة ،
لكنه ارتبط في الذهن الجاهلي بالخمر ، فصار العنبُ والخمرُ وجهين لعملة واحدة ،
متلازِمَيْن لا ينفصلان . ولم يقف الأمرُ عند هذا الحد ، بل إن العربَ كانوا
يُطلقون على العنب " الكرم " من أجل ربط الخمر المستخرجة من العنب بصفات
الكرم والجود والبذل والعطاء . وهذا الاقترانُ الخطير بين الخمر والكرم يشير إلى
الانهيار الأخلاقي في الفكر الجاهلي وبيئته ، وفلسفةِ تحويل القيم الإيجابية الأساسية
إلى قيم سلبية .
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 15/ 4و5) :
(( قال
العلماء : سبب كراهة ذلك أن لفظة الكرم كانت العرب تطلقها على شجر العنب ، وعلى العنب
، وعلى الخمر المتخذة من العنب . سَمُّوها كرماً لكونها متخذة منه ، ولأنها تحمل على
الكرم والسخاء، فكره الشرعُ إطلاقَ هذه اللفظة على العنب وشجره
، لأنهم إذا سمعوا اللفظة ربما تذكروا بها الخمرَ ، وهيجت نفوسهم إليها فوقعوا فيها
، أو قاربوا ذلك )) اهـ .
وفي واقع
الأمر فإن البيئة الجاهلية رغم انهيارها لم تكن سوداء بالكامل . بل كان فيها قيم
أخلاقية فاضلة ، ومبادئ سامية . ولكنْ حتى هذه القيم الفاضلة تتحول إلى قيم كارثية
شديدة السُّوء بسبب التلوث الذي أصاب المرجعيةَ التي تنطلق منها هذه القيم .
فالقيمُ الفاضلة مثل الكرم والجود والفروسية وإغاثة الملهوف ... إلخ ، تتحول إلى
مفاهيم دُنيوية مُجرَّدة هلامية ، لأنها تفتقد إلى الإخلاصِ لله تعالى . فهذا
الأخلاقُ الكريمة تنطلق من ثقافة البيئة ، والفكرِ القَبَلي ، والتحسين العقلي ،
وارتفاع السُّمعة والصِّيت بين القبائل، دون النظر إلى إخلاص النية لله تعالى،
ونيل الرضا الإلهي. ففي صحيح مسلم ( 1/ 196): عن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت : قلتُ
: يا رسول الله ، ابن جُدْعان كان في الجاهلية يَصل الرَّحمَ ، ويُطعِم المسكينَ ،
فهل ذاك نافعه ؟، قال : (( لا يَنفعه ، إنه لم يَقل يوماً رَبِّ اغفر لي خطيئتي يوم
الدِّين )){(3)}.
فالكفرُ هو
المرجعية القاتلة التي تنطلق منها عقائدُ أهل الجاهلية وسلوكياتهم الحياتية . لذلك
ما بُنِيَ على باطل فهو باطل . وكلُّ شُعاع منعكس عن مرآة مشروخة سيكون شعاعاً
خاطئاً رغم كَوْنه مضيئاً. فلا يمكن للسلوك البشري أن ينال الشرعيةَ الحقيقية إلا إذا انطلق من مرجعية
صحيحة لا ثغرات فيها .
إن عبد الله
بن جُدعان _ وهو من سادة قُرَيْش _ كان يصل الرَّحمَ ، ويُطعِم المسكين . لكنه لم
يقم بهذه الأعمال ابتغاء وجه الله تعالى . فلم تنطلق هذه الأخلاق الحميدة من
تعاليم الشريعة السماوية الإلهية ، وإنما هي أخلاق نابعة من إفرازات بيئية ومشاعر
إنسانية فقط . وقد أخذ حَظَّه في الدنيا ، حيث الصِّيت الطيب وحسن السيرة . وفي
الآخرة لا حَظ له ، لأنه لم يتوجه لخالقه تعالى ، ولم يؤمن بالبعث والجنة والنار .
قال النووي
في شرحه على صحيح مسلم ( 3/ 87 ) : (( معنى هذا الحديث أن ما كان يفعله من الصِّلة
والإطعام ووجوه المكارم لا يَنفعه في الآخرة لكَوْنه كافراً ... لم يكن مُصدِّقاً بالبعث
، ومَن لم يُصدِّق به كافر ، ولا يَنفعه عمل . قال القاضي عياض _ رحمه الله تعالى
_ : وقد انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يُثابون عليها بنعيم ولا
تخفيف عذاب،لكن بعضهم أشد عذاباً من بعض بحسب جرائمهم )) اهـ .
وعلى الرغم
من أن الحقبة الجاهلية الغارقة في العمى والجهالات تتحرك باتجاه مضاد للدِّين
والعقل ، وتُشكِّل نظاماً عبثياً مغلقاً يَحجر على التفكير العقلاني ، ويُغلق
الأبواب أمام الذين يحاولون إعمال عقولهم ، إلا أن هناك أشخاصاً في قلب الحياة
الجاهلية كانوا مقتنعين بانحراف هذه الحياة وفسادها اعتماداً على نداء الفِطرة
الصافية وصوتِ العقل المتحرر من قيود السُّلطات الوثنية القمعية . ومع أن الحق
واضح إلا أن الطريق إليه محفوف بالأهواء الشخصية ، والمصالحِ الاجتماعية الضاغطة ،
وتأثير مراكزِ النفوذ وصناعة القرار ... إلخ . وهنا يتجلى الصراعُ في النفس
البشرية . إذ إن اعتناق الحق له ضريبة ثقيلة يَدفعها المرءُ في حياته مثل عداوة
الآخرين، وفقدانِ الامتيازات ، والتضييق عليه ، وممارسة الضغوط عليه . فمن يَصمد
في وجه هذا الإعصار ويؤثر الحقَّ على ما سواه ، فقد نجح في الامتحان ، وسينال
السعادةَ في الدارين . ومَن سقط ضحية المؤثِّرات السلبية مؤثراً الباطل على الحق ،
فقد خسر مرَّتَيْن ، مَرَّةً في الدنيا ، ومرَّة في الآخرة .
وفي صحيح
مسلم ( 1/ 569) : قال عمرو بن عبسة السلمي _ رضي الله عنه _ : (( كنتُ وأنا في الجاهلية
أظن أن الناس على ضلالة ، وأنهم لَيْسوا على شيء وهم يَعبدون الأوثانَ )) .
فهذا
التفكير السليم المتوافق مع الفِطرة غير الملوَّثة أدى إلى اكتشاف ضلالة أهل
الجاهلية ، ومعرفة أن عبادة الأوثان باطلة ، على الرغم من أن العقل الجمعي غارق في
تقديس الأوثان . فاعتناقُ الحق هو تحركٌ جريء عكس التيار الشرس . وهنا يتجلى
الصمود في أبهى صُوَره .
...............الحاشية.........................
{(1)} رواه
الحاكم في المستدرك ( 2/ 491) برقم ( 3690) وصحَّحه، ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير في تفسيره ( 4/ 192) : (( وقد غلط ابنُ حزم ومن نحا
نحوه من الظاهرية في عَدِّهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذاً من هذا الحديث )) .
{(2)} متفق
عليه.البخاري(5/2286)برقم(5828)،ومسلم(4/ 1763)برقم( 2247).
{(3)} وفي شرح النووي على صحيح
مسلم ( 3/ 87 ) : (( قال العلماء
: وكان ابنُ جدعان كثيرَ الإطعام ، وكان اتخذ للضيفان جفنةً يرقى إليها بِسُلَّم، وكان
من بني تميم بن مرة أقرباء عائشة_ رضي الله عنها _، وكان من رؤساء قُرَيْش ، واسمه
عبد الله )).
facebook.com/abuawwad1982