الأنظمة الحاكمة اللصوصية
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
إن أمريكا سجن على شكل جزيرة معزولة بين محيطين،فأمريكا بدأت تتآكل من الداخل دون روافد تغذِّيها بالطاقة، حيث إن هذه الحضارة الأمريكية الفاشية تشتمل على بذور زوالها في رحمها ، تماماً كالأم التي تحمل في رحمها قاتِلَها دون أن تعرف . وستدرك أمريكا أن العد التنازلي قد بدأ بوتيرة متسارعة لن تواكبها خطط الإنقاذ التي هي مضيعة للوقت ، ومحاولة لرسم عوالم الأحلام الكاذبة في ذهن المواطن الأمريكي الضائع ، طمعاً في كسب صوته في أية انتخابات قادمة . فلا يوجد سياسي عاقل سيقول عن بلده المنهار مخاطباً الجماهير إن بلادنا ضائعة وتُحتضَر ، بل سيقول إن الأمل قادم والمستقبل المشرق ينتظرنا، والأمور سوف تتحسن. وهذه مهنة السياسي الرئيسية في الغرب ، أي الكذب على الناس ، وتخديرهم ، ورميهم في عوالم الأحلام الجميلة، وكل ذلك من أجل الاستفادة من دعمهم وأصواتهم الانتخابية ، ومحاولة رسم مستقبله السياسي ضمن تحقيق مصالح شخصية قبل أن يفيق الشعب من نومه فيجد الكابوسَ يحاصره من كل الجهات بما لا يدع فرصة للهرب . وترتكز فلسفة الحكم في الغرب على قاعدة " الغاية تبرِّر الوسيلة " التي وضعها نقولا ميكافيللي ( 1469م _ 1527 م ) صاحب كتاب الأمير ، وهو ينصح الحكام والأمراء بأن يلجأوا إلى أية وسيلة للحفاظ على سُلطتهم ولو كانت هذه الوسيلةُ مؤذية وغير محمودة.وهذه هي القاعدة المعتمدة في الفلسفة السياسية الغربية، أما أيديولوجيات حقوق الإنسان والديمقراطية فهي شعارات للاستهلاك المحلي ، وتلميع صورة الدولة الاستبدادية داخلياً وخارجياً ، وابتزاز الدول الضعيفة ضمن محاولات حثيثة للتدخل في شؤونها الداخلية لتحقيق منافع شخصية ، ونفوذ على الأرض .
إن الأنظمة السياسية العميلة التي تتغطى بالإسلام أو الديمقراطية تنظر إلى المواطن على أنه صوت انتخابي،مجرد صوت في غابة من قطاع الطرق الذين يرتدون ربطات العنق . ووفق هذا المنظور تؤول القيم الإنسانية إلى مشاريع لبناء مستقبل سياسي مزعوم على أنقاض الكيانات البشرية ، وتذهب الفضاءات الفكرية إلى مصيدة استثمار أصوات الناس لتعزيز النفوذ غير الشرعي للسياسيين على حساب استنزاف المنحى الروحي للبلاد التي تؤول إلى دجاجة تبيض ذهباً ، أي تحوُّل الإنسانيات المعنوية إلى مشاريع تجارية احتكارية يدفع ثمنَها المواطن المسحوق المنتمي إلى وطن قاتل يدر أرباحاً على المجرمين ، ويفتح ذراعيه للسائحين ، ويقتل المواطنين . وكل الأنظمة السياسية القمعية تعمل ضمن إطار تحويل الوطن إلى منفى ، وتفعيل فكرة الإحلال ، أي تهجير العقول الشريفة الوطنية المعارِضة لسرقة البلاد من قبل النظام الحاكم ، واستقدام جوقة المرتزقة من الموالين للسلطة بالحق والباطل . فالهم الأساسي للنظام السياسي القمعي هو إطالة عمر حكمه كيفما اتفق ، ولو على حساب ضياع البلاد وتخلفها،وانكسارِ الشعب وفقره. ومن هنا يؤول الوطن إلى إفراز طبقي يحتضن القادرين على الدفع من رجال الأعمال الموالين للسلطة ضمن زواج الثروة بالسلطة ، ويحتضن كذلك السائحين الذين يساهمون في تدعيم القوة المالية للحاكم دون أية منفعة للشعب المسحوق . وفي نفس الوقت يُطرَد العلماء والمثقَّفون لأنهم يُشكِّلون خطراً على النظام الحاكم الفاسد عبر رفضهم للفساد ، وفتح عيون الناس على الحقيقة ، وهذا يتعارض جملةً وتفصيلاً مع المسار الفاسد للحاكم وحاشيته . ومن خلال هذه الفلسفة تتكرس فلسفة المشاريع السياسية في الدول المتاجرة بالإنسان ، والتي تبني مجدَها الزائل على امتصاص آخر قطرة من الذاكرة الوجودية للفرد المغلوب على أمره . والكيان الأمريكي غير الشرعي الذي قام بالأساس على سرقة أرض الهنود الحمر ، وقتلهم ، وصبغهم بالهمجية والإرهاب ، ضمن تأطيرات سياسة الأمر الواقع والأرض المحروقة وإبادة السكان الأصليين ، إنما هو كيان وضع فلسفةَ إرهاب الدولة في أوسع أنطقة معانيها ، وأعاد صياغة سوق النخاسة ، وكرَّس عبادة الإنسان للإنسان . وكل هذه التكريسات تهدف إلى حَيْوَنَة الإنسان ، ونقله من المستويات الشعورية المنطقية إلى شريعة الغاب ، حيث القوي يضع القوانين لابتزاز الضعفاء ، وحيث الشريعة الحاكمة لا تحكم إلا على الكائنات الصغيرة . وكلما توالت هذه التراكيب اكتشفنا أن العالَم تحكمه عصابة من قطاع الطرق ، ومافيا من رجال السياسة والاقتصاد والثقافة . وقد أضحى كوكبنا مكاناً خطراً للعيش فيه . فلا يوجد من يدافع عن الضعفاء الذين تتكاثر السكاكين على أجسادهم أمام عيون العالَم بلا مغيث . فالعالَم الإسلامي في خانة الضعفاءِ ، حقوقه مهدورة،وأراضيه منهوبة، وأنظمة حكمه متخاذلة. فمنظمة المؤتمر الإسلامي لا وزن لها، وجامعة الدول العربية لا دَوْر لها . وفي ظل هذا الوضع المتردي ينبغي على كل القوى الإسلامية المسلحة في العالَم أن تأخذ حقها بيدها عن طريق نقل المعركة إلى عواصم العالَم ، وعسكرةِ كوكب الأرض ، وملاحقةِ الغزاة في كل مكان وقتلهم . وهذا هو الحل الوحيد. فإن بقي العرب والمسلمون سائرين في طريق الخوف والذل فإن القِبْلة الثانية ستلاقي نفسَ مصير القِبْلة الأولى .
والمضحك المبكي في إشكالية البناء الإمبراطوري الأمريكي هو التماهي الغريب مع العقلية البدوية الحاكمة في الوطن العربي . فغطرسة القوة العمياء تصنع طفولةً سياسيةً متهورةً . وإن المراقِب ليعجب من دول تُسمِّي نفسها عظمى تملك من الموارد البشرية والمادية الشيء الكثير ، تراها تتصرف مثل قطاع الطرق ، والزعرانِ في الحاراتِ البائسة ، ومثل الأطفال الفاقدين لمستويات الوعي . وهذا كله مرجعه إلى أن القوة المتغطرسة تنحو منحىً هستيرياً يلغي دورَ العقلانية والسياسة والحساباتِ الإستراتيجية ، وهذه إحدى عوامل الهزيمة الداخلية النابعة من حماقة العدو التي تهدد وجودَه .
وهذا التماهي السلبي ينبع من تعيين المسؤولين حسب الولاء لا الكفاءة. وهذه الفلسفة قد يكون انتشارها مفهوماً في الدول العربية الفاشلة على كافة الأصعدة ، أما أن توجد في أمريكا المصبوغة بهالة التقدم المادي فأمر يدعو للدهشة . لكن التفسير العقلاني لانتشار هذه الظاهرة في بلاد العم سام هو حجم الضغط القادم من اللوبي اليهودي النازي الذي أَنتج مافيا أنيقة مختبئة وراء البدلات الفخمة، وربطاتِ العنق، لا هَمَّ لها سوى تقريب الموالين لبرنامجها المعتمد على تحقيق مكاسب شخصية، وإبعادِ أصحاب الكفاءات الذين يُعارِضون السيطرة اليهودية_ البروتستنتية المتصهيِنة على مقاليد الحكم في البيت الأبيض ، وبالتالي يهدِّدون المصالحَ الشخصية لعِلْية القوم . وكل السياسات التي تعمل تحت مظلة الضغط تُولَد مسخاً ، فهي غير قادرة على إيصال الشعب إلى بر الأمان ، لأن الذي يعمل تحت الضغط يمارس أعمالَه ضمن دائرة حصار الخوف ، والعقل الخائف لا يمكن أن يُبدِع ، فالخوف يشل القدرةَ الإنسانية على الإبداع والنقد والنقض . ومن مصلحة الجهات المتنفِّذة في العالَم أن يظل الخوف مسيطراً على الطبقات الواقعة تحت السيطرة لئلا تقدر على نقد الأوضاع السيئة ومن ثم السعي إلى التغيير . فالوصفة السحرية لاستمرار النظام الحاكم إلى الأبد ، وحمايته من أي إنقلاب ، هي أن يجد الحاكمُ قطيعاً من الأغنام ليحكمها . وهذه الفلسفة هي المتَّبعة في أنحاء العالَم ككل . ونحن نخلص إلى القول إن الأنظمة الدكتاتورية في العالَم العربي وباقي العالَم لا تحوي نظاماً حاكماً بالمعنى السياسي الفعلي ، بل فوضى حاكمة يحميها العسكرُ المنضوون تحت عباءة الطاغية لتحقيق منافع شخصية . ومن خلال هذا الفرز الحتمي المكوِّن لتقاطعات المصلحية الذاتية نتوصل إلى أن فلسفة رُعْيان الغنم الحاكمة في الوطن العربي تؤول إلى فلسفة رُعْيان البقر الحاكمة في البيت الأبيض . أي إن التخلف عابر للقارات ضمن مسارات تشابك مصالح شخصية. وعلاقة الغرب بالحاكم العربي يمكن أن نعتبرها _ مجازاً_ علاقة ابتزاز متبادل مع رجحان كفة الابتزاز للغرب ، ومع اختلاف مفهوم الابتزاز . فالابتزاز الغربيُّ نابع من قوة مادية هائلة وفرضِ شروط بحكم القوة والنفوذ وبحكم أن الدول العربية محمِيَّات غربية يحكمها السفير الأمريكي ، أما ابتزاز الحاكم العربي فنابع من تقديم تنازلات حاسمة مثل التآمر على فلسطين والعراق _ كما شاهدنا_ أو استقبال قواعد عسكرية غربية على الأرض العربية. وبالتالي يتم حصر الابتزاز في دائرة الحصول على أكبر ثمن لقاء بيع البلاد والشعوب . وهذا الثمن قد يكون اقتصادياً أو سياسياً ، والحاكم العربي مستعد أن يفعل أي شيء للحفاظ على الكرسي . وكل الأزمات التي ضَرَبَت العمودَ الفقري للغرب المنضوي تحت جناح أمريكا نتجت بفعل استلهام السياسات القمعية في الدول المتخلفة ، فصرنا نسمع عن أفراد في أعلى هرم السلطة الغربية متورِّطين في فضائح مالية لا مفر منها ، وعملياتِ تعذيب منهجية في سجون سرية ، وأشخاص مشبوهين لا يملكون الكفاءةَ يقودون بلادَ العم سام . وكأن عدوى الأنظمة العربية الاستبدادية قد انتقلت إلى البيت الأبيض . وكل هذه الإرهاصات تُعَرِّي الشعاراتِ الزائفة عن الحريةِ والديمقراطية وحقوق الإنسان ، ولم تكن هذه الشعارات إلا نسخةً مع بعض التعديل لشعارات الأنظمة العربية البائسة عن التنمية والتحرر والازدهار وانتخابات 9و99% النزيهة ! . وبالطبع فإن المنظِّرين المأجورين الذين يحملون على أكتافهم مهمة تلميع النظام الحاكم الفاسد يدركون أن أفضل وسيلة لقيادة الشعب كقطيع الغنم هي نشر الشعارات الجذابة التي تدغدغ العواطفَ ، والكذب ثم الكذب حتى يصبح حقيقةً ومسلَّمةً لا تقبل النقاش أو حتى التأويل . وفي هذا الخضم نخلص إلى القول إن الأنظمة التي تعمل لمصلحتها الشخصية دون النظر إلى مصالح شعوبها متشابهة ، وكلها تنتهج الكذبَ لاعتقادها بأنه أفضل وسيلة للوصول إلى قلوب الجماهير، وإدامة نظام الحكم أطول وقت ممكن. فالكذب وسيلة مجانية ذات فاعلية عالية في مجتمع جاهل أُمِّي عاطفي بلا عقلانية ، وكلما استمر النهجُ السياسي في شرعنة تغييب الوعي الذاتي بالمحيط الخارجي اتَّجهت التكوينات المفصلية في الدولة إلى منظومة القبيلة أو المجتمعِ البدوي البدائي، فالحاكم هو الدولة ، والدولة هي الحاكم . ومن هنا وجدنا الدولة الأموية والعباسية والأيوبية والعثمانية ، وغيرها. وهذه الدول نظامها السياسي الحاكم في هرم السلطة أشبه بأداء شيخ القبيلة والموالين له . في حين أن الخلافة الراشدة لم تكن دولةً بكرية أو عمرية ، ولم تحمل أسماء الخلفاء ، لأنها كانت دولةَ خلافة راشدة حقيقية مستمدة من الكتاب والسنة مرجعية المسلمين لا مرجعية شيخ القبيلة وحاشيته.
إن صور الأمِّية المنهجية تختلف باختلاف البيئة السياسية والجغرافية . فالأمية في العالَم العربي عالية جداً تقترب من ثلث عدد السكان، وهذا الثلث لا يتقن القراءةَ أو الكتابة . وهذا يعكس وجود خطة سياسية منهجية لتجهيل الشعب ليسهل حكمه كالأغنام ، فالنظام الحاكم العربي يخاف من استخدام الشعب لعقله ، لأن ذلك سيهدِّد مصيرَ حُكْمه ، لأن القاعدة المعتمدة في النظام السياسي العربي أن العقل المفكِّر يُشكِّل خطراً على نظام الحكم . أما الأمية في أمريكا فهي أمية سياسية ، لأن الأمريكي يعيش حياة استهلاكية باذخة ، فلا يهتم بالقضايا الخارجية ، لأن تفكيره محصور في شهواته اليومية المحسوسة ذات التماس المباشر مع حياته التي يبنيها في وعاء اللذة المجرَّدة من المسؤولية، فالحضارة الغربية محصورة بين البطن والفَرْج لا أكثر ولا أقل . مع أن الوضع بدأ يتغير بشكل دراماتيكي ، فالأزمة المالية العالمية التي ضَرَبَت العمودَ الفقري لأمريكا زادت نسبة الفقر والبطالة والمشاكل الاجتماعية ، ومع بدء انهيار المجتمع انهار مستوى الدخل للأفراد ، مما جعل حياةَ المواطن الأمريكي العادي جحيماً لا يطاق ، وصارت الاستهلاكية المفرطة ومستوى الإنفاق العالي جزءاً من الذكريات التي لا تعود. والأمية بكلا المفهومَيْن _ سواءٌ عند العرب أو الغرب _ نتاج سياسة حكومية منهجية لإبعاد الشعب عن السياسة ، ونفْيِه من دائرة صنع القرار أو على الأقل مناقشته ، وإشغالِ الفرد والمجتمع بالحياة الاستهلاكية الشهوانية لكي يَتَقَوْقَعُوا في دائرة ذاتية شخصانية ضيقة بعيداً عن فساد صُنَّاع القرار الذين حَوَّلوا الدولةَ إلى مرزعة شخصية لهم ولحاشيتهم ، ونهبوا ثرواتِ البلاد والشعب في ظل غرق الشعب في لهاثه اليومي وراء سراب المتعة الاستهلاكية وإشباعِ الرغبات الشخصية التي تجعل من الفرد عَبْداً للشهوات الذاتية غير مَعْنِيٍّ بالقضايا المصيرية على الصعيد الوطني والإقليمي والعالمي .