سقوط الحضارة الأمريكية
للكاتب/ ابراهيم ابو عواد .
إن تحليل إشكاليات البنى الحضارية يرمي إلى إلقاء الضوء على خارطة المشهد السياسي العالمي بكل تناقضاته، وتثبيت الوجود الفكري الفاعل عبر دراسة الأزمات المصيرية التي تهدد مستقبلَ أمريكا باعتبارها حضارةً مبنية على هوس الاستهلاك، والغلو في تبديد الطاقة. فالاقتصاد مبني على أسس غير سليمة تكرِّس الشططَ الطبقي، وثنائيةَ السادة والعبيد، وإجهاضَ الروح والجسد، والتمييز العنصري بين البيض والسود. وهذا الاضمحلال الحضاري الشامل ناتج عن انحرافات جذرية في الفكر الإمبراطوري الذي يبتعد عن التوجه الإنساني المستقيم. وكل هذه العوامل لا بد أن تؤثر سلباً على مسار الحضارة الأمريكية ومصيرها.
ونحن إذ نحلل بنية الفكر الإمبراطوري، فإننا لا ندغدغ عواطفَ الناس، أو نعمل على زراعتهم في عوالم الخيال والوهم من أجل تخديرهم لكي يشربوا الأوهامَ، ويرددوها إلى درجة التصديق. فالأزمة الأمريكية في بنية اللفظ والمعنى متداولة- بشكل أو بآخر- في الأوساط الحكومية الأمريكية، والجامعات العريقة، ومراكز الأبحاث. بل إن كثيراً من المفكرن الغربيين- الذين ليس لهم علاقة بالإسلام والعروبة وعلى رأسهم نعوم تشومسكي- يتحدثون بصراحة عن غطرسة "العم سام" الخادعة، والسرابِ الجاثم على عقول الأمريكيين الذين يعتقدون أن دولتهم مستمرة حتى نهاية التاريخ، ويضعون النظريات الفكرية بشأن انتهاء الإمبراطورية الأمريكية، والمؤشراتِ حول انكسار الحلم المستبد المؤدلَج عسكرياً، وغرورِ القوة، والتموضعِ في بؤرة القوة الظاهرية. وهذا كلام الكثيرين من علماء الغرب الذين يعرفون بنية الحضارة الغربية من الألف إلى الياء، وليس كلامَ ابن لادن أو أعداء أمريكا.
ولا بد لكل دراسة جادة أن تشتمل على تطبيقات أنسنة المشاعر، وتأصيلِ التيارات الإنسانية في قدرة المعنى على التكريس والانطلاق. فالصورةُ الدموية لوأد الإنسانية المنتشرة في كل أنحاء العالم تنبع من غبش الصورة الذهنية حول الأنا والآخر. وبما أن الحضارة الأمريكية تنظر إلى نفسها على أنها المركز الفكري العالمي، ومن حولها أطراف هامشيون، فإن ردود فعل كثيرة نشأت باتجاهات مضادة للمشاريع الغربية مثل العولمة "الأمركة"، لأن كل ثقافة صارت ترمي إلى حماية نفسها. وللأسف فإن الغرب لا يرى وجوداً حقيقياً خارج أنطقة وجوده. وهذا أدى إلى تهميش الحضارة العربية الإسلامية، والصينية، والإفريقية، واللاتينية في أمريكا الجنوبية. فظهرت عمليات تقسيم منهجية للبشر كدرجة أولى وثانية وثالثة. وهذا غير منطقي في مجتمع الخير المنشود.
والإشكاليةُ الكبرى في هذا السياق أن أدبيات الأنظمة السياسية الإمبراطورية صاحبة المكانة الدولية على مدار التاريخ تنتهج سياسة تثبيت الذوات كسادة. حيث يتم إقصاء الآخرين، وتجريدهم من قيم الحضارة والمعاني الإنسانية الراقية، وهذا يتنافى مع مجتمع الأخوة البشرية.
فالانكسار الحضاري العالمي المتقوقع على شكل فقاعة صابون أو بالون منتفخ، سوف يزداد تشظياً إذا لم يتم حل المشكلات جذرياً ضمن عالم متعدد الأقطاب والثقافات. فكل حضارة على مدار التاريخ تظن نفسَها سيدة الأرض المطلقة ما هي إلا تشكيل خيالي وهمي يشتمل على بذور انهياره في أنويته الداخلية.
وواجب البشرية جمعاء أن تعمل بكل نشاط لتفعيل العقل الجمعي الكَوْني لإعمار الأرض، وإسقاطِ العناصر الشاذة عن المسار الحضاري. وذلك عبر الانتقال من طور الدفاع الاختزالي التراجعي أمام العناصر السلبية إلى طور الهجوم الفاعل ضد الأساطير التي تتقمص شكلَ الحضارات. إذ إن انتهاج الأسلوب الضاغط في التعامل مع محورية التوازي السياسي الوهمي هو الذي يُنَمِّي بذور الانهيار في داخل أنوية العناصر الوهمية، وبالتالي فإن السقوط الحتمي لمجتمعات الكراهية سوف يتكرس بكل دينامية، وعلى الصعيدين الداخلي والخارجي.
والسقوط المعرفي الذي تعاني منه حضارات انكسار الحلم، واضمحلال المعنى لصالح عقيدة الأخذ المتكرر، هو السقوط الشامل للاستهلاك الجنوني لمتع الجسد على حساب متع الروح. وهذه نقطة مهمة تتجلى من خلال التأسيس الذهني السياسي لحالة الحراك الاجتماعي داخل بنية المجتمع الأمريكي. فهذا المجتمع الأمي من ناحية الثقافة السياسية لا يهتم بالسياسة الخارجية، وإنما كل تفكيره منصب حول نظامه الاستهلاكي الصارم، ومدى قدرته على تطويع الأداء الكلي لخدمة الفردية الأنانية السائرة باتجاه مضاد للروح الإنسانية والبيئة بكل تجلياتها المعنوية والمادية.
وإن أية منهجية تتناول المستوى المعرفي للتشريح الدلالي في بنية التراكيب الاجتماعية للأداء السياسي الأمريكي ينبغي أن تعتمد منهجيةَ الوصول إلى بنية فكرية حاسمة ودقيقة من أجل إعادة قطار كوكب الأرض إلى السكة الصحيحة. وكما أن انحسار صيغة التفكير المنطقي في عالم مجنون وجامح سائر نحو الهاوية، صار منطقاً رسمياً للكثيرين، فإن قدرة الفرد علي مواجهة مشاريع استئصال إنسانيته صارت تياراً مقاوِماً رامياً إلى بعث الإنسان من قبره العالمي من جديد، وإحياء المعاني الميتة في النفوس بشكل متفجر.
ولا يخفى أن الانتكاسات المتكررة في أداء اجتماعيات السياسة على الصعيد العالمي ساهم- إلى حد بعيد- في تجذير أنطقة التخلف الاجتماعي وفق صور إنسانية أكثر أنانية، وأكثر توغلاً في هوس الأخذ المتواصل.
وللأسف فقد تحول الفردُ الذي يُفترَض به أن يعمر الأرض إلى معول هدم في هذه الأرض، وهذا نابع من الاختلاط المريع في مفهوم الإنسان كوحدة وجودية راقية. كما أنه نتاج طبيعي لحالة الاحتقان الفكري المأزقي العمومي التي كرَّسها النظامُ الاستهلاكي المتوحش الذي أحال الفرد من صيغته الطبيعية إلى كومة شهوات متضاربة موغلة في الشهوانية الفجة.
وهذا التحول في المنهجية الإنسانية متزامن مع التحول الجدلي في الفكر السياسي العالمي الذي صار يضع المدفع أمام الكلمة وليس العكس. وكل هذه العوامل قادت إلى الانهيار المرعب في تقاطعات المنحى الإنساني التجريدي، فصار الإنسان سائراً باتجاه مضاد لإنسانيته، حتى إنه أضحى مستعداً لسحق ذاته في سبيل نيل مكتسبات وقتية.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي صار للعالَم قطب واحد وهو أمريكا، وهذه المعلومة الواضحة صارت مفروغاً منها من فرط تكرارها. وعلى الرغم من صحة المعلومة السابقة جزئياً إلا أن مفهوم القطب يحمل عدة طبقات من صياغات المفاهيم. فأمريكا هي حجر الرَّحى الذي يدور حوله النظام السياسي العالمي ضمن واحدية الاستقطاب المنهجي النَّفعي. ومع هذا فإن التصدعات العميقة في وجه أمريكا ككيان داخلي متواصل مع الظواهر الخارجية تمتاز بالانسحابية اللامنطقية. أي تحول انكسار المعنى من التموضع حول نقطة بؤرية مركزية محدَّدة إلى تيار انسحابي شامل يغطي كافةَ تضاريس المعرفة الفكرية على صعيد تطبيقات عسكرة السياسة التي تقودها الرصاصة بدلاً من الكلمة.
ومهما يكن من أمر فإن التوغل في بنائية الرمز التكويني لحالة القطب الواحد لا بد أن يصل إلى لحظة زمنية فارقة تمنعه من مواصلة التقدم، أي إن استمرارية الحفر في متوازيات العمق ستتوقف لا محالة، ولن تستمر إلى ما لا نهاية، لأن الطاقة المرافقة للعَرَض "الحالة الظاهرية الناتجة عن النواة الأصلية" سوف تنتهي لا محالة بسبب استنفاد الطاقة في قيمة الجوهر الأصلي "البيئة الأساسية لمنبع النواة البدائية الأولى".
فالشمس- على سبيل المثال- لن تستمر في بعث الطاقة إلى ما لا نهاية، لأن حجم الانفجارات والطاقة الموجودة على سطحها سيصل إلى نقطة التلاشي بسبب انعدام الإمداد، وحينها تسقط الشمس كشمس، وتصبح لا قيمة لها. وأمريكا هي مركزية البؤر الأيديولوجية السياسية. لكن الإشكالية الصارمة تكمن في انقطاع التواصل بين الجوهر الأصلي الأولي "وحدة النواة المركزية المنبع"، والظواهر العَرَضية للأشكال المرئية. كما أن البنية الاجتماعية عبارة عن تيار مغلق على الروح، مفتوح على الاستهلاك المادي. وهذا يؤثر سلباً في مسار القوة ومصيرها.
وكلما تكونت الأفكار في سياق المواجهة مع قيم النَّفي السالبية التي تتكرس وكأنها قيم إثبات عالمية الدلالة والتثبيت، نشأت قيم المقاومة للمشروع الانتكاسي الذي من شأنه إحالة المعنى إلى لفظ مشوَّش، وزراعة الكائن الحي في طور الشهوانية، واللهاثِ وراء نزواته الآنية، وحصرِ تفكيره في دوائر الاستهلاكية المفعمة بسحق ذاتية الفرد والمجتمعِ، لصالح إنشاء تيارات سياسية ناتجة عن زواج الثروة بالسلطة.
وتأتي هذه الصور الفكرية كتشريح رمزي واقعي واضح يستشرف المستقبلَ، ويضعه في إطار المعنى الرسمي لأزمة الإمبراطورية الأمريكية الجوهرية. وقد برزت بنية الأزمات الحضارية العالمية على مسرح الأحداث الدولي بشكل صاعق. لأن التآكل في الفكر المعرفي أدى إلى تآكل في المعنى الوجودي للكائنات الحية.
وعلى الرغم من اعتقاد كثير من الباحثين أن الحضارة الأمريكية بدأت العد التنازلي، فإننا نؤكد أن الأمر ليس بالسهولة التي قد يتخيلها البعض. فالأنظمة التداخلية في الولايات المتحدة شكلياً أنظمة مفتوحة تمتاز بحرية الاختيار. وهذا يعني أنها قادرة علي إجراء تصحيح ذاتي لمسارها في كل أزمة، إلا أن التأخر في العلاج أدى إلى عدم فاعلية الدواء. وهذا ما نشاهده على أرض الواقع.
إن نظرة سريعة على خارطة المشهد السياسي العالمي تشير إلى الاضمحلال المتسارع للحضارة الأمريكية، حيث الاقتصاد مبني على أسس غير سليمة، والحالة الاجتماعية مبنية على إجهاض الروح والجسد، واضطهاد الأقليات، والتمييز العنصري المتجذر في الثقافة المجتمعية، والمستوى الثقافي متمركز في دائرة الاستهلاك والشهوات، والوعي السياسي عاجز عن اختراع دور حقيقي لشرطي العالم العاطل عن العمل.
والنظر إلى العالم بدون سيطرة القطب الواحد ليس لعبة خيالية لزراعة الوهم، وتسويق الخديعة في أوساط الناس. بل هي نتيجة طبيعية لنظرية تداول الحضارات وانهيارها، وقد بدت آثار هذه الانهيار على أرض الواقع. لكن العجب، كل العجب، أن تجد بعض المثقفين يعتقدون أن الإمبراطورية الأمريكية مستمرة حتى نهاية التاريخ، وهذا السراب الخادع الجاثم على عقول البعض جاء بسبب الحملة الإعلامية الشرسة التي تحرص على تصوير أمريكا بوصفها الحضارة النهائية الحاسمة على سطح الأرض.
وفي زحمة اندلاع الوهم لا تجد الجامعات الأمريكية العريقة، أو مراكز الأبحاث تتحدث عن انتهاء حلم خلود الإمبراطورية الأمريكية بشكل واضح ومباشر. مع أن الدلائل الظاهرية واضحة للعيان، والمؤشرات حول انكسار حلم التوسع والسيطرة في ذهن "العم سام" باتت تُلمَح في الأفق. لكن منطق القوة، وسياسة الأمر الواقع، والتموضع في بؤرة المجد الوهمي، والآلة الإعلامية الجبارة، وغيرها من العوامل، ساهمت في اختراع صورة أسطورية للحضارة الأمريكية، تماماً كما تفعل هوليوود مع الممثلين عبر اختراع هالة خرافية لهم بواسطة المكياج والأقنعة والمؤثرات البصرية والصوتية.
وكلها عوامل سرعان ما تذوب مع ظهور شمس الصباح خارج الأستدويوهات. وهذه الأفكار إنما هي تدقيق فلسفي تأصيلي ينحو منحىً سياسياً استشرافياً لنهاية أحلام هذه الكتلة الجغرافية الجبارة التي تقمصت خدعة "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس". وبما أن الحضارة الأمريكية قامت وفق قاعدة إبادة السكان الأصليين "الهنود الحمر"، فهي لا ترى وجوداً حقيقياً خارج نطاق وجودها، فمن الطبيعي أن تنظر إلى الآخر على أنه بشر درجة ثانية أو ثالثة، لأن أدبيات الأنظمة السياسية الأمريكية على مدار التاريخ تنتهج سياسة الأنانية، والتمركز حول الذات، وإقصاء الآخر بكل وحشية، وتجريده من قيم الحضارة والمعاني الإنسانية الراقية.
فالانكسار الحضاري المتقوقع على شكل فقاعة صابون أو بالون منتفخ يُسَمَّى القطب السياسي الأوحد ما هو إلا تشكيل خيالي وهمي يشتمل على بذور انهياره في أنويته الداخلية، لكن الذي يطيل عمر الجثة الهامدة هو الأجهزة الصناعية المحيطة بسرير الميت، وهذا بالضبط ما يحصل في حالة الإمبراطورية الأمريكية.
وبالتالي فإن السقوط الحتمي لهذه الإمبراطورية سوف يتكرس بكل دينامية، وعلى الصعيدين الداخلي والخارجي. وما الأزمة المالية الخانقة إلا عملية قرع جرس الإنذار. والسقوط المعرفي الذي تعاني منه حضارة انكسار الحلم، واضمحلال المعنى لصالح عقيدة الأخذ المتكرر، هو السقوط الشامل للاستهلاك الجنوني لمتع الجسد على حساب متع الروح. وهذه نقطة ضعف حرجة نابعة من التأسيس الذهني السياسي لحالة الحراك الاجتماعي داخل الأنساق البشرية. وإن أية دراسة معرفية في بنية التراكيب الاجتماعية للأداء السياسي الأمريكي ينبغي أن تعتمد منهجية اعتبار السياسة الأمريكية جزءاً من المشكلة، لأن الدولة التي تعتبر أكبر ملوث للبيئة في العالم، وأكبر مصدِّر للسلاح، وأكثر دولة استخدمت الفيتو لصالح الجلاد على حساب الضحية، لن تكون جزءاً من الحل.
إن الأداء السياسي الأمريكي مرتبك للغاية. فمفهوم الأنساق السياسية قد تحول من القيمة الفكرية السامية إلى قيم انكسار المعنى. وهذا المبدأ الانسحابي الخطير إنما يهدف إلى إعادة تشكيل عقلية الوعي الذاتي للأنساق الإنسانية بما يكفل استمرار تأزيم العلاقة بين الإنسان وذاته، والإنسانِ وبيئته، والإنسانِ والآخر. وكما أن عقلانية الانتكاسات الفوضوية هي اللب الفلسفي الأولي لتعريف السياسة العالمية المعاصر، فإن الخدع البصرية التي تتقمص الأشكالَ الإنسانية هي التجريد التطبيقي على أرض الواقع النابع من الصورة المتخيَّلة للعالَم في ذهن صناع القرار على الصعيد العالمي.
فاللعبة المتكونة من الفعل ورد الفعل، أو من النتيجة الحتمية للمعنى وأرضيةِ الواقع المصنوع الحاضن لحزمة النتائج بصورة غير تلقائية، إنما هي لعبة ترمي إلى إعادة صناعة الكائنات الحية وفق منظور التدجين. ووفق اندلاع الغبش الفكري في نخاع الأنظمة المعرفية تبزغ طبيعة الانهيارات التي تشكِّل الصورةَ النمطية للإمبراطورية الأمريكية الخارجة على قانون الإنسان، والمضادة لإشارة المعاني الحاسمة. فالوهم في تداخلات الغبش الأيديولوجي الأمريكي يغدو تياراً نسقياً تحطيمياً لهالة المعنى الوجودي في الذات الكيانية الإنسانية. والمؤسف أن مسار الإنسان المضاد لكينونة إنسانيته صار هو المسار الفاعل لعلاقات الترابط بين بؤر المعرفة السياسية، وتطبيقاتِها على أرض الواقع في أُطر الاستغلال، والتبعيةِ، واضطهادِ الحلم الإنساني، وطردِ المعنى من الطبيعة الفكرية إلى التشكيل العسكري الأمريكي المتَّجه نحو ديمقراطية الدبابة، وحريةِ صوت الرصاص.
ولا يخفى أن المضمون المأزوم لتقاطعات الانكسار المجتمعي الذي تكرَّس على شكل كتل سياسية متنافرة هو في الحقيقة بؤرة التفكك الاستقطابي المبعثر في اختلال وجوديات حلم الإمبراطورية الأمريكية المتبخر. ومن خلال التجريد المعنوي للتداعي في تشوهات صورة النظام الرأسمالي الأمريكي، تتجذر هالة الانقسام الشرسة في إفرازات أزمة المنطق. فالاعتماد على عسكرة السياسة عبر تأصيل منطق القوة يُعرِّي المعنى من حركات الحوار البشري المتناغم، ويؤدي- في نفس الوقت- إلى تعميق التفتيت المتواصل في البيئة الأمريكية المتأثرة بضعف البنية الأخلاقية الداخلية. فأمريكا تتألف من ولايات متضادة في مبادئ المعنى الفكري لحقوق الإنسان. وهذا يعكس إشكالية التلاقي القسري ضمن أطر جغرافية مُحالة إلى تيارات سياسية.
فالمبدأ الظاهري يوهم بوجود وحدة مجتمعية ما، إلا أن التأصيل الدينامي لحالة الحراك الاجتماعي في المجتمعات الأمريكية المتناحرة التي تُصوَّر على أنها وحدة مجتمعية واحدة يعكس بدقة صورة القشة الرابطة بين تقاطعات الولايات المختلفة، وطبيعةَ الصمغ الضعيف المتآكل الذي يربط بين غضاريف الوحدات المتباعدة في تداخلات قيم الخريطة المعنوية للإمبراطورية الأمريكية التي تعاني من تبعثر مستويات الطاقة، والضغطِ بين المركز والأطراف. أي تشتت طاقة الانبعاث الحضاري الخارج من النواة المركزية باتجاه أنوية جانبية ضحلة.
كما أن الشطط الطبقي بين الولايات الغنية التي تعتمد على التكنولوجيا والصناعات المتطورة، والولاياتِ الفقيرة العائشة على زراعة القطن وبعض المحاصيل، يعيد إلى الأذهان شبحَ الحرب الأهلية الدامية بين الشمال والجنوب، وهذه الحرب قد تتخذ أشكالاً متعددة، بما فيها الشكل العسكري القتالي. فالنارُ الكامنة تحت الرماد في مجتمع يفتقد إلى الترابط الفكري الواضح تلغي مفهومَ الأمة المتماسكة، وتُبرِز وحداتٍ مجتمعية مخادِعة.
كما أن نواة طبائع النماذج الرأسمالية تتمحور حول تحويل الفرد إلى كيان استهلاكي مادي عبر تفريغ العقلانية من المحتوى العاطفي للوجود الآدمي، ثم إحالتها إلى كينونة سِلَعِيَّة محضة تمتص قدرةَ الفرد على التواصل مع ذاته والآخر، لتجعل منه مجتمعاً شخصانياً مكبوتاً طارداً للعاطفة، متقوقعاً حول العمود الفقري للاستهلاك المتوحش المناوئ للإنتاج النافع. فأمريكا هي بيئة ناتجة عن استئصال السكان الأصليين "الهنود الحمر"، والعمل بشكل منهجي على مصادرة ثقافتهم، وتقديم صورتهم في كل وسائل الإعلام كهمج وبدائيين وبشر من الدرجة الثانية، حتى تتم إعادة صناعة التاريخ فوق ميثولوجيا الرَّجل الأبيض المنتصر والمتحضر ظاهرياً. وهذا المنهج التكريسي يستند إلى آلة إعلامية جبارة قادرة على الوصول إلى أبعد نقطة وفق أحدث الأساليب الدعائية المدعومة برؤية التخطيط الإستراتيجي بعيد المدى.
والمشكلةُ الأساسية هي غياب الصوت الآخر الذي يُعارِض ويَدْحَض ويكشف عن نفسه، لذلك يتكرس الصوتُ الأوحد كصوت الحق والحقيقة دون معارضة. وحتى لو وُجدت المعارضة فستكون ذات تأثير ضعيف منكمش، لأنها يتم إقصاؤها ضمن خطة منهجية شرسة. ومن العوامل الهامة التي ساهمت في تجذير هذا المنطق اللامنطقي، ضعفُ البنية الثقافية في البيئة الأمريكية الشعبية، مما ينعكس سلباً على مجتمع الحصيلة السياسية، والحصيلةِ المعرفية العامة القادرة على غربلة الأفكار، وانتهاجِ متوالية النقد والنقض.
فعلى الرغم من أن الشعب الأمريكي تكاد تكون نسبة الأمية "عدم القدرة على القراءة أو الكتابة" فيه معدومة، إلا أنه يعاني من الأمية الثقافية المعرفية. فهو ضعيف إلى حد الغثيان في السياسة الخارجية. وكل تفكيره محصور في محيطاته ذات التماس المباشر بحياته الشخصانية، مثل الضرائب المفروضة عليه، والراتبِ الشهري، والمسكن والسيارة، والعلاقاتِ العاطفية. وهذا نتاج متوقع للقيمة الاستهلاكية الصادمة في مجتمع يملك معدلاً عالياً في استهلاك الطاقة. وكل هذه التحديات ساهمت في إخراج القطار الأمريكي عن السكة، فلم يعد المراقبون لهذه الفوضى الإمبراطورية العارمة يملكون إلا أن يتوقعوا لحظة الاصطدام، وانتهاء الحلم الأمريكي، فأمريكا تأكل نفسها، وهذه نقطة النهاية.
وتبقى الإرهاصات في الفكر السياسي الأمريكي تياراً تكوينياً لسياسات شخصية نفعية متضاربة. إذ إن تكرار المتواليات البؤرية في محيطات هندسة الأسطورة يحيل الفردَ المؤدلَج في سراديب الأمركة الداخلية أو الخارجية إلى جسم ذي قطبَيْن "قامع- مقموع". فالعائش في الجحور سوف يصعقه الضوء ويدمر حياته، لذا فهو يتأقلم تدريجياً مع الظلام حتى يصير الوهمُ المعتم جزءاً إنسانياً أصيلاً في الذات الكيانية للأفراد.
ومن ثم تنعكس هذه الصيغة الشخصية لتصل إلى مستويات مجتمعية عمومية، الأمر الذي يقلب الموازين، فيتحول الفردُ إلى رافض لذاته، وعدوٍّ لخلاصه. وفي ظل هذا الغبش المتداعي في مجالات توارث أنسنة الخديعة فإن المخيال المتصوَّر يغدو واقعاً هامشياً لسياسة إمبراطورية تشبه الإمبراطورية الرومانية القديمة من حيث تقسيم الناس إلى سادة وعبيد. وللأسف فإن أزمة القرن الحادي والعشرين بكل ما تحمله من انتكاساتٍ على جميع الأصعدة تتمحور حول فلسفة السادة والعبيد في التعاملات بين أجزاء النظام السياسي العالمي، مما يُشكِّل عائقاً حقيقياً أمام نهوض الإنسان وحريته.
ومن خلال كسر أدلجة التحولات الإدارية في هندسة الخراب الشامل نستطيع إيقاف آلة القتل في المجال الروحي. فوأد الروح هو الدرب الأقصر نحو التحطيم الشامل للمنجزات الإنسانية في مجالات الحياة الفاضلة، لكن قيمة الحياة الفاضلة كتيار فكري نظامي يتعارض مع الفوضى الخلاقة التي تنتهجها كثير من الأنظمة السياسية الكَوْنية من أجل تفكيك العالَم، وتقسيمه على أسس الصراعات الدينية والعِرقية، وإعادة تركيبه بما يضمن بسط سيادة الأوهام على كل تقاطعات الحياة المفصلية للأنا والآخر والذات الشخصانية والذات المقابِلة والمجتمعات في شتى صور حياتها.
إن تقوقع السُّلطوية المركزية في أية حضارة تقوم على استنزاف الضحايا حتى الرمق الأخير، سيحصر الدلالاتِ في زوايا الظلام الدامس، فصارت الشمس جزءاً لا يتجزأ من منظومة العتمة. وهذا الانعكاس ذو المنحى التأسيسي في متواليات هندسة الانكسار أخذ بعداً إنسانياً في صميم المشروع التكويني للفرد فصار الفردُ قامعاً آلياً لذاته بفعل الضغط الهستيري الخارجي المكثَّف من كل الجهات، الأمر الذي أَنتج ضغطاً تلقائياً نابعاً من إفرازات التداعي الانسحابي في الذات الإنسانية، فأضحت العلاقة بين الإنسان والمجتمع العالمي علاقة نفعية مادية مع تبادل فظيع للأدوار بصورة ميكانيكية دامية.
والانهيار التكريسي في صيغه العنيفة هذه إنما هو حصيلة توحش المجتمعات المادية ضد ذاتها الفلسفية والواقعية. وما التمزق الاجتماعي والتفكك الأسري في محيطات العناصر المنسية الدالة على تفتيت القيم الإنسانية إلا حالة شَعْبَوِيَّة في نطاق التداعي اللامنطقي لانتكاسة الروح في أكثر صور التحطيم الفردي على مستوى الجماعة شراسةً. لكن المجتمع المادي الاستهلاكي بوصفه تجمعاً هجيناً من كيانات إنسانية شتى لا رابط بينها سوى المنفعة المتبادلة سائر إلى الاضمحلال، لأن البناءات في ذاتية انكسار الحلم هي التشكيل المضاد للعقلانية، مدعوماً بخلفية دينية مشوَّشة، لأن التوظيف الأيديولوجي هو صيغ بشرية للتبادل المادي النَّفعي المغرِض. والإشكالية القاسية في السياقات السابقة هي أن سياسة أدلجة التراث الديني هي مأزق المعنى السياسي الغربي.
وهكذا يتضح أن العلمانية مجرد شعار لا وزن له عند التمحيص، وغربلة الأفكار. فالأداء العلماني هو صيغ خفية للأداء الديني. فوحدة الانتقال السياسي الفوضوي من غبش الأمية السياسية إلى جدلية الآلة العسكرية تتكرس أكثر فأكثر كوحدة وجودية تحل مكان التنظيم العقلاني للقيم الإنسانية. فذهنية الأنساق كلما ابتعدتْ عن مركزية القوة المادية لشريعة الرصاصة اقتربتْ من التفكير الحالم الدائر في أفلاك الكلمة. لكن الأدلجة في محيطات عسكرة كوكب الأرض عن طريق انتهاج فلسفة القطب الأوحد، ستؤدي إلى تكريس الشرخ بين الشرق والغرب.
فالمشكلة الفلسفية في صميم نواة المركزية الفكرية للسياسات المأزومة هي عدم فهم ثنائية التفريغ والإحلال. فالنظام العالمي الجديد المتشكل من القطب الواحد الأوحد يعاني من أزمة التلاشي المتسارع، لأن أمريكا متأثرة بالفراغ في جوفها، أو مركزية منبع سطوتها، بفعل التآكل في النظام الاجتماعي الهش الضاغط على أنظمة مالية منكسرة. وفي زحمة هذا التسارع المتداعي في التفريغ ستجد الحضارة الأمريكية نفسها قناعاً بلا وجه، فتدخل في سباق مرعب مع الزمن الطائر بلا انتظار، وعندها تختلط الأوراق فيبدأ نظام الدولة الأمريكية بمحاولة إحلال قيم المنطق في قوالب اللامنطق داخل أدق تفاصيل التقاطعات المجتمعية، أي إنه يحاول ضخ القيم الفكرية والمالية والعسكرية في بؤر مركزية مثقوبة من كل الجهات، وهذه الصدمة ستزيد من حجم المأزق الوجودي الأمريكي.
وهناك رواية للكاتب الأمريكي الحائز على جائزة نوبل، وليم فوكنر بعنوان "حينما أرقد محتضراً". وهذا العنوان نتاج الإفرازات الاجتماعية المأزومة في ملابسات المجتمع الأمريكي الذي يعاني من انكسار القيم. وإننا نقرأ في رواياته انهيارَ المجتمع الأمريكي المنتكس في المجال الوجداني، وانهيارَ الإنسان في معاناته اليومية في مجتمع عنصري رافض له. وكل هذه الإشكاليات الشرسة أسَّست لمفهوم اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، والتفرقة العنصرية، وخرافاتِ نقاء العِرْق المدعومة بنظام أيديولوجي يستند إلى لون البشرة كمبدأ إستراتيجي وهمي.
فالاحتضار الجمعي الذي يختزله المجتمعُ في دوائر عزلة الفردية الرهيبة، ويختزله الفردُ في إشكاليات المجتمع المتشنج الموغل في التضييق على أبنائه، هو احتضار المأزق الوجودي الشرس المنتفخ في متواليات المشاعر الإنسانية بصورة يصعب معها علاجه. وعلى الرغم من ضخامة هذا البالون الأمريكي المتعاظم ظاهرياً، والذي منظره قد يُفزِع من يراه، إلا أنه سيظل في مهب الريح تتحكم فيه كيفما تشاء، ومصيره في يد دبوس صغير يقضي على الحلم المتمرد على شريعة الأنسنة الأخلاقية.
وكل قوة في التاريخ البشري تفتقد إلى الغطاء الأخلاقي الشَّرعي، تؤسس منطقاً سياسياً جديداً وهو اللامنطق. إذ إن دخول السياسة المعبَّأة بالأيديولوجية المتطرفة ضمن إطار حياتي منفعي، من شأنه دعم وجهة نظر المحافظين الجدد، "سواء كانوا أصحاب بشرة بيضاء أو سوداء"، والذين يقودون الغرب "وعلى رأسه أمريكا" إلى بؤرة الصدام مع نفسه. وهذا يتنافى مع قيمة حوار الحضارات، والأخوةِ البشرية بغض النظر عن الدين أو العِرق. فلا يجوز السماح للمتطرفين من أتباع الديانات أن يعيدوا تشكيل الدِّين من وجهة نظرهم، ومصالحهم الشخصية.
فالانكماش الحضاري هو صورة المتوازِيات المتطرفة، والعدميةُ المجازية الموغلة في هلامية الأكذوبة الحضارية. فغيابُ الأخلاق عن المسار البشري العالمي من شأنه نفي قيم الحقيقة عن الكيانات السياسية، فتصبح الحضارة كقيمة تاريخية لا تملك وجوداً حقيقياً على أرض الواقع، بسبب تحولها إلى كيان مصطنَع، وقطارٍ منحرف عن السكة.
إن نفي الخديعة المرتدية قناع الحضارة هو أساس فكري إنساني ضروري من أجل تفتيت المتمركِزات الوجودية لهالة الانبعاث الحضاري الوهمي المكرَّس. ونحن إذ ندعو إلى خارطة جديدة للأرض متعددة الأقطاب، فإننا نهدف إلى إعادة أنسنة الإنسان، وانتشاله من قاع التوحش والسادية الذي دخلت فيه الحواس البشرية بفعل حجم الاستهلاك الضاغط على حياة الكائن الحي المدجَّن الذي كرَّسته الأمركة "العولمة" كمرحلة وجودية مستمرة حتى نهاية التاريخ المحاصَر في قبضة القوة العمياء.
وهذا الوهم المتراكِب الذي يفترض استمرارية الفوضى الرأسمالية التوسعية حتى نهاية التاريخ، ما هو إلا حِراك انتكاسي لصيغ متوازيات انكسار الوعي العلمي، وانتحارِ المنهجية المعرفية الشاملة. وبالقطع فمثل هذا الوهم قد نتج بفعل غياب القراءة الواعية لأنساق الحِراك التاريخي، وطبيعةِ التحرك الأفقي والعمودي للحضارات "الولادة، الشباب، الشيخوخة، الموت". والإشكالية الحقيقية في عقول المفكرين الداعمين لمشاريع المحافظين الجدد الأيديولوجية الفكرية ذات الخلفية النفطية هي التموضع في ذروة النشوة الإمبراطورية الوقتية، والتخندق في بؤرة اللذة الآنية، ونسيان النار الكامنة تحت الرماد نتيجة عدم إيجاد حلول جذرية للقضايا الإنسانية، وعدم التفكير في تموضعات المسؤولية المترتبة على إشكالية اللذة.
فغياب تشريح نسقية "الهدوء الذي يسبق العاصفة"، والاكتفاء بالتموضع في ذاتية الهدوء المرحلي المؤقَّت قاد الإمبراطورية الأمريكية إلى أزمات وجودية حرجة. وهذا يظهر جلياً في انعدام الاستعداد للأزمات الشرسة بمختلف مستوياتها، فصارت ثنائية الروح- المادة هي إشكالية الأضداد والتمزق والفراغ الموحش.
فالكيان الأمريكي الإمبراطوري تنعدم فيه المرونة شيئاً فشيئاً من خلال أبعاده السوسيولوجية المتضاربة، لذا تتوالى الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل صادم ذي تأثير قاتل للروح والمادة، لكن النسق الاجتماعي قد يحيا- بعد الأزمات- في فترة حلاوة الروح، لكن هذه الحياة تكون مضطربة، وسائرة نحو الطريق المسدود. ونحن نعلم أن النظام السياسي الأمريكي- رغم كل السلبيات- نظام مفتوح قادر على إعادة تصحيح مساره- نظرياً على الورق-، لكن الواقع ضاغط في مركزية الصميم، لذلك فإن القطار انحرف عن السكة، مما أدى إلى ضعف قبضة أمريكا بدليل وجود دول متمردة على الإرادة الأمريكية مثل تركيا وإيران وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا. وهذا تهديد مباشر للفكر الأمريكي الرامي إلى بسط نفوذه على العالم.
ومن خلال التنظير الفلسفي للسياق التاريخي، نجد أن غياب الوعي الإنساني حصر مشاريعَ الاحتلال الأمريكي في خانة ردة الفعل لا الفعل. وبما أن تأسيس متواليات المعرفة الجزئية في بنائية التجريد الانسحابي يتماهى مع الفوضى الخلاقة التي صنعتها الآلةُ العسكرية الأمريكية، فإن نتائج السياسة التوسعية تتماهى مع تكثيف الخرافة السياسية.
وبالتالي فإن التجسيد الدلالي لمدى تطابق معارف السياسة الإمبراطورية مع أنسنة المعاني المجتمعية قد أُصيب بانتكاسة شرسة تتمثل في تعرية أمريكا أمام نفسها والآخرين. وهكذا فقدت الغطاءَ الذي كانت تتخذه لشَرْعنة أفعالها غير القانونية. فمع تزايد الأزمات العاصفة بالكيان الأمريكي، تكرس مأزق الوجود التأسيسي المقنَّع. فالعم سام تشظى إلى أعمام قبيل تقاعده، فلم يعد النظام الحياتي الأمريكي سوى مركزية استهلاكية، لأنه قائم على استنزاف الموارد، ومصادرِ الطاقة، وتأطيرِ الآلة الإعلامية القوية في دغدغة مشاعر الناس.
فالإعلام- كأيديولوجية- يعمل على إحالة المعنى التأصيلي إلى مستويات معيشة هلامية في عوالم الأحلام والخيال والحب والثراء والمجد. وهذا التأطير الوهمي نتاج طبيعي لتكثيف اللامنطق كنسق حياتي.
ومن خلال مفاهيم انكسار الحاجات المرحلية لوجودية التمركز العاطفي حول المعنى، صارت الأنساق المجتمعية في الأطر الجغرافية السياسية تنتج كائناً مسخاً، وهو المجتمع المتشكل على صورة إقطاعيات، ولا يستند إلى النماء والانتماء. لكن المسألة لم تقف عند حدود تجذير الإقطاعيات في المجتمع المسيَّس المبني على متواليات الفراغ العدمي وفق أشكال المستوى المادي الرأسمالي فحسب، بل تكرَّست الإقطاعيات في عوالم الأنسنة المعرفية. فصار هناك بشر درجة ثانية وثالثة وعاشرة ضمن إطار كياناتٍ جسدية منبوذة لا تاريخ لها. فلم يعد الأمر مسألة من يملك ومن لا يملك، بل وصل الأمر إلى مقاومة أنسنة الإنسان بصورة تعكس اضمحلال التفكير الإنساني الراشد. وهذا زرع في قلب المجتمع تاريخاً من الانكسار والتمييز العنصري بدءاً من لون البشرة حتى الشطط الطبقي.