السياسة الشعرية والسياسة الاجتماعية
جريدة العرب اللندنية
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد .
إن الأدوار الاجتماعية الفكرية المساهمة في صناعة بُنى شعرية هي سمات حقيقية لثقافة تنقلب على الأحكام المسبقة الجاهزة ، وهذا الرفض للقوالب الجاهزة هو الذي يُذَوِّب الفروقاتِ بين الشِّعر والنثر . ففي بركان الحرارة العاطفية الجياشة تغيب الفروقات بين المدلول الشِّعري والدلالة النثرية ضمن ثنائية واعية وليست عَدمية . هكذا يفرض إعصار القصيدة شروطه على المتلقي كما تفرض الذاكرة شروطها على النِّسيان .ويتأجج الدعم الذي تقدمه الصورةُ الشعرية لعناصر الشرعية البؤرية في سياق الكلام . إذ إن تلك العناصر تساهم في خلق متوالية تكاثرية تصنع قانونها الخاص بها ، انطلاقاً من حركات معرفية دائمة البحث عن معنى . والشَّاعر هو مَلِكٌ لا ينفك يبحث عن عرشه ، وهذا هو القَلَق اللذيذ . إنه قَلَقٌ ينقل الأبجدية الشعرية من نمذجة المصطلح الجاهز إلى صناعة مصطلحات دائمة الاكتشاف والتحول .فصانع النَّص الإبداعي يكتشف ذاته في مشروعه الأدبي من أجل أن يكتشفَ هذا المشروعُ ملامحَ وجه الشَّاعر واتجاهاته . فمن الممكن اكتشاف الذات عن طريق اكتشاف ذوات الآخرين، لأن الكلمة تخرج من ذات الشاعر لكنها قد تعيش في كيان آخر ، وهكذا نفهم القول إن الشَّاعر ما هو إلا المتلقِّي ، وهنا تتعدد الأنا الواحدة لتشمل ذوات الآخرين .
فالشِّعر صوتٌ والمجتمع الكلامي صدى لهذا الصوت الصاعق . ولو اتجهنا إلى علاقات النصوص المتقابلة داخل النَّص الرسمي للتكثيف البنائي الفذ لوجدنا حتميةَ الصدام بين مكونات القصيدة ، وهذا الصدام ينقل الرؤية التعبيرية من دائرة الموازاة مع الذات إلى دائرة معادلة الذات ، فالكلام هو الذي يُقولنا ولا نَقوله. فالشِّعر لا يعطيك إحدى مفرداته إلا إذا أعطيتَه كُلَّك. وبالتأكيد فهذا لا يعني أن يتقوقع الشَّاعر على نفسه ، ويبتعد عن باقي العلوم والمعارف ، لكن المقصود هو أن يهب الشاعرُ نفسَه للشِّعر في لحظة التقاء عيونه بجيش الحروف الذي يزور بدون استئذان . وتُشبه الحروفُ في هذا السياق الثوري نوابض مغناطيسية جاذبة للأفق الشعري . ويجب أن نلاحظ الأدوار التعبيرية التي تجسد طموحات سياسة الشِّعر في تكوين جيل ثائر ضد الخرافة لأن الأبجدية الثقافية لا تنفصل عن الثورة بأية حال من الأحوال. فدخول الأفق السياسي في الأسلوب الشعري لا يستلزم بالضرورة تقييد حرية حركة الصور الفنية والتعابير الرمزية ، لأن القضية الحقيقية تُحضِر معها أبجدية خيالها أفقياً وعمودياً، مما يؤدي إلى إدراك حتمية التحويل الجغرافي في بنائية تاريخية الشِّعر باعتبار القصيدة تاريخاً جديداً وجزءاً من رواية عجائبية لا تعتمد على السرد ، بل على التقاط اللحظة وتثويرها وإحاطتها بهالة رمزية ذات هدف غير عبثي . ويمكن أن نُفكِّك القيمَ المتحولة في إطار النظريات الاجتماعية الهادفة إلى قلب نظام حكم القصيدة ، وتكوينِ نظام جديد نابع من صيرورة المتحوِّلات البنائية العامة والخاصة .
وهنا يحدث تمازج بين الأدب والسياسة لأنهما عاملان أساسيان في تحريك المجتمع روحياً ومادياً .ولكنْ علينا أدبنة السياسة ( حقنها بالأدب الجامح لكي يكبح تهورها )، وتسييس الأدب بالمعنى الإيجابي للكلمة ( جعله سياسياً بالقَدَر الذي يسمح بتأجيج عنف اللغة ذهنياً ) . وتأتي النماذج الاجتماعية المسيطرة على النسق الشِّعري كخطوة لا مناص منها إذا أردنا إعادة تشكيل الوعي الموجب وتعبئته ضد سالبية الوعي السلطوي المفروض على النَّص من خارج النَّص. ولا أقصد بعبارة الطبيعية الفلسفية التي تدخل عناصرُها في النَّسغ الكلامي ، وإنما أعني أن لا تخضع القصيدة لابتزاز خارجي متمثل في الأنظمة الأبوية التي تصيغ الثقافةَ والحياةَ من منظور أحادي استبدادي.