الأطوار الفكرية لتاريخ النص الشعري
جريدة العرب اللندنية
للكاتب / ابراهيم ابو عواد
إن القصيدة حِزْبٌ قائم بذاته ، وهذا الحزب يعمل جاهداً لصناعة مجتمع حي خالٍ من حالات الموات انطلاقاً من مراكز صنع الرؤية الشعرية في الأفق القصائدي . وهذه الصناعة الثورية لمجتمع الفضيلة توازن بين ميكانيكا الصور الأدبية وروحانية الأبعاد الوظيفية لمهمة الشاعر. مما يؤدي إلى تعميق الأبجدية الوجدانية ككتلة جغرافية تاريخية تبعث الحياة في خريطة النص الشعري عبر تثويره وجعله مناوئاً للروتين الكلماتي . إنه تطهير وجودي شامل بُغية تنسيق الفعاليات الثقافية التي تعمل على أنسنة الطبيعة المادية ، وإضفاء صفات الكائن الحي عليها ، لأن الطبيعة هي الوجه الآخر للإنسان . وبما أن الشَّاعر هو إنسانية الإنسان كان الأجدر بحمل عبء أنسنة العناصر
واستنطاق قيم الجَمال المتفجرة .
وفي ضوء هذه الولادات الفكرية المتوالية تتجذر الظواهر الاجتماعية في قلب النظام الحركي للنص الشعري . وهذا يدفعنا دفعاً إلى تحليل السلوكيات الإنسانية الشعرية باعتبارها تشكيلاً وظيفياً قائماً على نفي التعارض بين الدلالات المتجذرة في الجسد القصائدي . إلا أن الدرب إلى اجتماعية التحليل الشَّبكي للنظام الكلامي المتآلف ليس سهلاً البتة، فهو يعتمد بالدرجة الأولى على كسر أيديولوجيات الرعب الذي يمع العقل من التفكير والإبداع . ومن هنا نفهم حتمية التقاء الإنتاج السياسي مع البنية الاجتماعية من أجل توليد الصورة الأدبية المبتكَرة . فالصورة هي التغيير السياسي الحر ، والصراع الأبجدي داخل تاريخ الشِّعر الكاسر للقَوْلبة التقليدية ضمن متاهة استدعاء صور فنية تقليدية ومكررة .
ومن خلال تحليل سُلطة المعنى القصائدي على الألفاظ اللغوية نجد أن الأدب علم اقتصاد جديد ، اقتصاد من نوع مختلف يتضمن كامل التنويعات العابرة لتجنيس الأنساق اللغوية التي فقدت لونها نتيجة كثرة الاستعمال. وليس كل تنويع قائم على تأريخ روح الفلسفة المنتشية باللغة الشَّاعرية يلائم نمو تاريخ القصيدة الطبيعي ، لأن التأريخ يختلف عن التاريخ . فتأريخُ الحالة الشعرية هو رصد تحولاتها ، أما التاريخ الشعري فهو المسار الذي تسلكه القصيدة أثناء أطوار نموها المختلفة . ومهما يكن من أمر فإن فلسفة الشِّعر ستظل هي الابن الشرعي والوحيد للحالة الوجدانية العارمة المتدفقة في القلب والروح معاً .
وعلى الرغم من أهمية الشِّعر كقوة محركة للاستعداد البشري، إلا أنه من الخطأ المريع رؤية العالَم من خلال ثقب إبرة الشِّعر ، لأن المجتمع القصائدي هو الخيال الواقعي بينما المجتمع الإنساني المحسوس فهو واقعية موغلة في تكريس العناصر المادية كحالة دُنيوية مُعاشة . والخيالُ الواقعي لا أهمية له إذا لم يتم نقله إلى المجتمع البشري نقلاً متواصلاً من أجل ضمان انفتاح الوعي الفكري على الإسهامات النقدية للنظام الشِّعري المغلَق .
إن فهم الأنساق السياسية للمدى الوجداني المندفع يجب أن يتم من خلال اعتبار المنهج الشِّعري ظاهرة مستقلة تتمتع بقيمة الرفض لكل المناحي السلبية في الواقع المعاش . وتعميق سيكولوجيا المجتمع يمر عبر جمعنة الأدوار السلوكية للمعنى المرن . فالاستقرار الوظيفي ليس بأكثر من حالة مؤقتة ، تُترَك عندما تَفقد القدرةَ على الإدهاش ، وعندئذ يُصار إلى معنى جديد مُدهِش . ومبادئ القيم الجَمالية ليست عبئاً على كاهل المنظومة الثقافية النَّصية ، لأن قيمة الجَمال تمتلك في داخلها بذور الاستمرارية والتألق التي تحمل كُلَّ الأولويات في جهاز دولة القصيدة .
أما هيمنة قطاعات لغوية تقليدية على وُجهة النص الأدبي فسيقود إلى وأد الجنين الشَّاعري . وهذه التراكمات القاتلة تؤسس للانتحار التدريجي في الجسم الثقافي . لكن مهارة المزج بين الأطر الوجدانية واقتصاديات السياسة الأبجدية سوف يُخرج المجتمع الكلماتي من هاجس الموت إلى جغرافية حية عابرة للخرائط اللغوية المعلَّبة في قوالب الجمود والتقليد العبثي . وكل نفي للجمود هو إثبات للانفجار المنظَّم في كتلة اللغويات الوجدانية .
ومن أجل طرح تساؤلات تتحلى بالزخم الفكري غير المأزوم ينبغي توظيف الأنظمة السياسية في صميم النظام الشَّاعري الكلامي لكي تنتج عن الأبعاد الوجدانية للتجربة الشعرية أشكالٌ جديدة تفكك الجوهرَ ، ولا تكتفي بالضرب على السطح ، بل تغوص في أعماق علم الاجتماع القصائدي الذي هو تشريح المضامين الوجودية للحياة البشرية المفعمة بالمفارقات والتناقضات الفجة . فاللغة الاجتماعية هي الصيغة الأكثر حداثة للتعبير عن سياسة الشِّعر. والهدف الاستشرافي لشاعرية الخصائص الإنسانية العليا يتمحور حول إيجاد انتماءات مجتمعية لها قدرةٌ كشفية ثاقبة تستطيع الوصول إلى أقاصي نقاط الإحساس البشري بعناصر الطبيعة الداخلية والخارجية .
ونحن في أمس الحاجة إلى صناعة قصيدة منتمية إلى إنسانية الكائن الحي تناقش مشاكل الفرد بعيداً عن الأنا العليا الوعظية المترفعة ، وتتعرض لمشكلات كل الكائنات الحية باعتبارها تشكيلات بصرية وسمعية في نظام طبيعي متنوع . وبالطبع فإن إنتاجات القوى الاقتصادية الأبجدية ترتكز إلى مقدار الثروة الموضوعة داخل الكلمة ، وهذا لا يلزم تحويل الكلام إلى بورصة أو سوق يطرح خيارَي العَرض والطلب . بل على العكس فإن الكلام الشِّعري لا يدخل في نطاق التَّسلع ( تحويل العواطف إلى سِلَع ) . فالشِّعر هو المتحدث الرسمي باسم التاريخ الإنساني ، والتاريخُ لا يُباع ولا يُشترى .