سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

30‏/09‏/2016

غراتسيا ديليدا والتحليل النفسي

غراتسيا ديليدا والتحليل النفسي

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 30/9/2016

.........................

    وُلِدت الأديبة الإيطالية غراتسيا ديليدا ( 1871_ 1936 ) في جزيرة سردينيا لأسرة من الطبقة المتوسطة. كان والدها مُزارِعاً وعُمدة القرية. عاشت حياتها في بيئة اجتماعية وُدِّية وحيوية. فقد كان والدُها يستقبل الكثير من الضيوف في مزرعته ، مِمَّا جعلها تتعرَّف على نماذج مختلفة من الشخصيات ، وتَطَّلع على تفاصيل العلاقات الاجتماعية التي صارت فيما بَعْد أحداثاً في رواياتها .
     تزوَّجت في سِن مُبكِّرة ، وهاجرت إلى روما في أوائل القرن العشرين . لكنها لَم تنقطع عن مسقط رأسها الذي يُعتبَر البيئة الخصبة لأعمالها الروائية . ومَعَ أن بيئة رواياتها محلية ومَعزولة عن العالَم ، إلا أن التَّحليل النَّفسي الدقيق للشخصيات جعلها كاتبةً عالميةً ، وساهمَ بشكل فَعَّال في انتشار أعمالها في أنحاء العالَم . فالمشاعرُ الإنسانيةُ واحدة في كُل الأمم والشعوب .
     لم تَتَلَقَّ تعليماً نظامياً في المدارس الرسمية . لكنها عَلَّمَتْ نَفْسَها بنفْسها ، واعتمدت على التثقيف الذاتي ، وقراءة الأعمال الأدبية للأدباء الرُّوس والإيطاليين ، والتفاعل مع الحكايات الشعبية عن تفاصيل الحياة الريفية في جزيرة سردينيا ، وكفاح الفلاحين من أجل تَوفير المتطلبات الأساسية للحياة .
     تُعتبَر ديليدا من أهم الروائيات الإيطاليات ، وتنتمي أعمالها إلى المدرسة الطبيعية . وقد كتبت أكثر من خمسين رواية ، وفازت بجائزة نوبل للآداب عام 1926لكتاباتها المستوحاة من حياة الفلاحين في جزيرة سردينيا ، وتعاطفها مع مشكلات الإنسان وأزماته الحياتية والمصيرية ، لتكون أول إيطالية تفوز بهذه الجائزة .
     لم تكن عائلتها داعمةً لرغبتها في الكتابة ، فظهورُ كاتبة يتعارض مع القواعد الاجتماعية للنظام الأبويِّ ، لذلك قامت ديليدا في بداياتها بالكتابة تحت اسم مستعار ، احتراماً لتقاليد العائلة والمجتمع الذي نَشَأتْ فِيه .
     تُركِّز في أعمالها الروائية على تصوير الحقائق القاسية في حياة الإنسان ، وإظهار أنماط الحياة الصعبة ، وإبراز التقاليد الشعبية ، وانتقاد القيم الاجتماعية التي تَجعل الناس ضحايا لظروفهم الحياتية . كما يَظهر في كتاباتها الأثرُ المأساوي للغواية والخطيئة بين البسطاء .
     تُرجِمت أعمالها إلى الكثير من اللغات الأوروبية . كما أن رواية " رماد " ( 1904) حُوِّلَت إلى فيلم سينمائي عام 1916. وهذه الرواية تحكي قصة طفل غير شرعي كان سبباً في انتحار أُمِّه.
     يقوم أسلوب ديليدا الأدبي على أربعة أركان : الأول _ إظهار العنصر العاطفي النَّفْسي الذي يصنع النبض الدرامي في السَّرد . الثاني _ التركيز على فكرة المأساة في حياة الناس ، وذلك بتسليط الضوء على المشاعر الإنسانية المتناقضة ، والأحاسيس الاجتماعية المختلفة . الثالث _ التركيز على فكرة الخطيئة وإغراء الجسد ، وتصوير الخطيئة كعقبة في طريق المجد الإنسانِيِّ والتَّسامي الأخلاقيِّ. الرابع _ كشف التفاصيل الاجتماعية المتعلقة بالفقراء وعاداتهم ، اعتماداً على القصص الشعبية والطابع الفلكلوري لجزيرة سردينيا ، مَعَ إظهار العُمق النَّفسي للطبيعة البشرية، وهذه القيمة الفنية تقترب من أسلوب الروائي الروسي الشهير دوستويفسكي .
     واصلت ديليدا الكتابة بكل نشاط بعد حصولها على جائزة نوبل ، فأصدرتْ مجموعتين قصصيتين هُما " بيت الشاعر " و " شمس الصيف " . وامتازت قصصها بالنظرة المتفائلة إلى الحياة رغم إصابتها بسرطان الثَّدْي ، وصوَّرت الحياةَ على أنها جميلة وهادئة بكل ما فيها من المعاناة . فالإنسانُ والطبيعةُ _ وَفْقَ منظور الكاتبة _ يَتَّحدان كَي يَتَغَلَّبا على الصعوبات والآلام النَّفسية والجسدية . وفي كتاباتها الأخيرة ، يَبرز موضوع الزُّهد في الأمور الدُّنيوية ، وأن الإيثار أعظم الصفات الإنسانية التي تُقرِّب الإنسانَ مِنَ اللهِ . وهذا الموضوع لَيس غريباً عن كتاباتها ، فكلُّ رواياتها تتحدَّث عن الإيمانِ باللهِ ، وقُدرةِ الإنسان على التَّغير والتغيير .

     مِن أبرز أعمالها : كوكب الشرق ( 1890 ) . النفوس الشريفة ( 1895) . بعد الطلاق   ( 1902). الحب الحديث ( 1907 ). في الصحراء ( 1911) . الغرقى في الميناء ( 1920) . خاتم الحب ( 1926) . بيت الشاعر ( 1930 ) .

29‏/09‏/2016

تحول القصيدة إلى سلوك اجتماعي

تحول القصيدة إلى سلوك اجتماعي

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..................

   لا يمكن الحصول على الطاقة الشعرية إلا عن طريق التنقيب في اللغة الرمزية الموازِية للمشروع الثقافي الجمعي، والوصولِ إلى أقاصي اللغة من أجل اكتشاف العوالم الكامنة وراء اللفظ والمعنى . وهذه العملية الاكتشافية توفر الأساس الفلسفي لحياة القصيدة وتحولاتها، والديمومةِ الحيوية للثقافة. مما يؤدي إلى وضع الرموز الشعرية في سياق الوضوح الاجتماعي فتحدث الإسقاطاتُ على الواقع، ويمتزج الواقع بالخيال ، وهذا يدفع باتجاه تغيير الواقع إلى الأفضل ، وتحويل الخيال إلى منظومة إبداعية قابلة للتطبيق تحل مشكلات المجتمع ، وترسم السياسات الناجعة على كافة الأصعدة .
     ولا يكفي أن تقوم القصيدةُ بترجمة المعاني الاجتماعية إلى صور فنية ، والغوص في أعماق اللغة الشاعرية ، والتنقيب في أبجديات الفكر الثقافي ، والقيام بحفريات في جسد الرموز الإنسانية ، بل عليها أيضاً _ أي القصيدة _ أن تتواصل مع الواقع وتعجنه بالأفكار الواعية ، ولا تقيم قطيعةً مع العالَم المادي. وهكذا يتحول الفكر الشعري إلى مشروع جماعي تساهم الجماهير في كتابته ونشره، وجَعْله مشروعَ خلاصٍ عابراً للزمان والمكان . وهذا يمنح القصيدة شرعيةَ التجاوز ، والقدرة على صناعة التاريخ الإبداعي الخاص الذي يَصُبُّ في تاريخ البشرية العام . وبالتالي تتجذر عملية صهر المراحل كنواة أساسية في الحياة الثقافية والاجتماعية ، فَتُولَد الحقيقة الشعرية التي تواصل النمو في مناخات المعرفة والتقدم .

     وهذا الحراك الإبداعي الدؤوب يؤدي إلى تدعيم المنظور الشعري ، وإحالة البعد العاطفي في القصيدة إلى تطبيقات اجتماعية ، فتصبح حركة الألفاظ والمعاني سلوكاً إنسانياً محسوساً ، ويتحول الرمز الشعري إلى كيانات بشرية . لذا ليس من الغريب اعتبار القصيدة كائناً حياً كامل الحياة انتزعَ حريته بنفْسه ، فأصبح      _ أيضاً _ كامل السيادة .

27‏/09‏/2016

القصيدة خارطة جديدة للعالم

القصيدة خارطة جديدة للعالم

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...................

  إن النسيج القصائدي هو التجسيد المنطقي للإحساس البشري القادر على صياغة خطاب ثقافي تحليلي يمتلك القابلية للنمو في الجسد الاجتماعي ، والوجودِ العاطفي للإنسان. وكلما انتقلت القصيدةُ من عُزلتها إلى مركز الحدث ، اندمج البُعدُ المجتمعي مع البعد الشعري في بؤرة النص ، وهذا يسمح بإنشاء قيم ثقافية حيوية تضع العالَم الشعري في قلب العالم الواقعي . وهنا تتجلى عبقرية المكان ( المحسوس وغير المحسوس ) الذي يسكن فِينا كما نسكن فيه . ومهما اختلفت الأبعاد المكانية باختلاف الأزمنة وتعاقبها ، فإن القصيدة ستظل هي المكان الأثير الذي يُولَد فيه الشاعر ويموت فيه .
     وليست الفلسفة الهلامية هي التي تصنع " المكان " في النص الشعري ، وإنما تصنعه البنية اللغوية للخطاب الاجتماعي ، الأمر الذي يقود _ حتماً _ إلى تدفق الوعي الأبجدي نحو المعنى الاجتماعي ، وبالتالي تنتقل الصيغ الأبجدية من عالَم التجريد إلى رمزية اللغة التي تعيد هندسة الأبعاد المجتمعية الآيلة للسقوط، مما يتيح الفرصة للثقافة أن تتواجد في صميم الشعور الإنساني، وتضاريسِ ذاكرة الجماعة البشرية .

     ومع تكاثر المتواليات الرمزية الحاملة لشيفرة الإبداع الثقافي ، تزداد أطوارُ هندسةِ الألفاظ ووَحدةِ المعاني القابضة على جمرة النُّظم الاجتماعية ، فتنشأ مصطلحات لغوية جديدة محمَّلة بالفكر الإبداعي لا التلقيني. وهذا التأسيس المنهجي يغرس حالة الوعي العمومي في المجتمع ليَحْدُث التغيير الإيجابي . وهذا التغيير لن يكون سوى شكل جديد للأبجدية الشعرية التي نفكِّر بواسطتها ، وتضعنا على خارطة التحولات الاجتماعية العالمية .

25‏/09‏/2016

ملاحظات حول اغتيال الإرهابي ناهض حتر

ملاحظات حول اغتيال الإرهابي ناهض حتر

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.................

[1] بداية ، أنا ضد أخذ القانون باليد ، والقفز على مؤسسات الدولة _ مع أنها مؤسسات فاشلة وضعيفة _ لأن هذا الأمر يُشيع الفوضى في المجتمع .
[ 2] الإرهابي ناهض حتر ، هو كافر محارب ، ليس له علاقة بحرية التعبير ولا الحوار العقلاني ولا مناقشة الأفكار . والدليل على هذا هو نشره للكاريكاتير المسيء للذات الإلهية . وهذا الكاريكاتير كان السبب في اغتياله .
[3] أنا مع حرية التعبير بأدب وأخلاق ، ومناقشة الأفكار ، والحوار في كل القضايا للوصول إلى الحق ، ولكني ضد الاعتداء على العقائد الدينية ، واعتمادِ لغة الشتائم .
[4] سوف يقوم بعض الجهال بتصوير ناهض حتر كشهيد في سبيل أفكاره ، ومناضل من أجل الحرية . وهذا باطل ، لأن ناهض حتر كان يمارس الإرهاب بقلمه ، وهو أشد خطورة من داعش .
[ 5] إذا كان الإرهابي ناهض حتر يمارس حرية التعبير. فإنني سوف أنشر غداً كاريكاتير أكسر فيه الصليب وأحرق الإنجيل. وأرجو اعتبار هذا الأمر حرية تعبير ونضالاً من أجل حرية الفكر والرَّأي .
[ 6] لقد أخطأتْ مؤسسات الدولة الأردنية حين سمحت للإرهابي ناهض حتر أن يقوم بأعماله القذرة ، وإحداث فتنة في المجتمع ، وتشويه العلاقة بين المسلمين والنصارى . وكان يجب منعه بكل وسيلة ، لأنه عميل وخائن لدينه النصراني ، قبل أن يكون عَدُوَّاً للإسلام والمسلمين .
[ 7] ومعَ هذا ، فأنا من مُؤيِّدي الحوار ومناقشة الأفكار بين جميع الناس على اختلاف عقائدهم وميولهم السياسية ، ولكن بأدب واحترام ، بعيداً عن الشتائم والاستفزاز بإهانة العقائد الدينية . كما أنني ضد القفز على مؤسسات الدولة ، ولا يجوز للشخص أن يُنفِّذ القانون بيده ، لأن هذا سَيُدمِّر المجتمع .
[ 8] الإرهابي ناهض حتر قتل نفْسَه بنفْسه ، وهو مسؤول عن هذه الجريمة التي أَوْدَت بحياته . وسوف يقوم بعض النصارى بتصوير القضية كما لو كانت اضطهاداً لهم . وهذا غير صحيح .
[ 9] مَن سَلَّ سيفَ البَغْي صُرع بِه .

[ 10] إن الإرهاب الذي مارسه المدعو ناهض حتر ، أشد إرهاباً من داعش . وقد دفع ثمن خيانته . وهذا درس للجميع كي نتعلم منه . والعاقل مَن اتَّعظ بِغَيره ، والجاهل مَن اتَّعظ بنفْسه .

24‏/09‏/2016

الطاعون تحت قمر الخريف

الطاعون تحت قمر الخريف ( قصيدة )

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد

جريدة البناء اللبنانية ، 24/9/2016

.........................

لا تَشْمَتْ بِي أيُّها البَحْرُ
نَحْنُ غَرْقَى في دِماءِ آبائِنا
أَرْسُمُ أحزانَ قلبي عَلى غِمْدِ سَيْفي
أنا سُنبلةٌ غَامضةٌ مُنْطَفِئَةٌ
سَأَتَوَهَّجُ عِندَما تَمْشي في جِنازتي الواضحةِ امرأةٌ غامضةٌ
فَيَا أصدقائي القَتْلَى
ادْفِنُوني لَيْلاً لِكَيْلا تَنْبُشَ الفَراشاتُ قَبْري  
إِنَّ نَعْشي مِثْلُ مَطْبَخِ بَيْتِنَا
كِلاهُمَا مِن خَشَبِ أشجارِ المقابرِ
أنا اللغزُ الْمُتَجَسِّدُ في السَّنابلِ
وامتدادُ الموْتِ في ذَاكرةِ الكَرَزِ
مَوْتِي سَيَقُولُ كَلِمَةَ السِّرِّ
وَيَفُكُّ الشِّيفرةَ
فَلْيَكُنْ دَمي بُرتقالةً
مَن الآكِلُ ؟
مَن المأكُولُ ؟
لا تُدَافِعْ عَن نَفْسِكَ أيُّها النَّهْرُ
صَدَرَ حُكْمُ إِعْدَامِكَ قَبْلَ الْمُحَاكَمَةِ
أنا المحكومُ بالحنينِ
سَيَغْرَقُ البَحَّارةُ
وَتَظَلُّ أصْوَاتُهُم مَزْرُوعةً في حَنجرةِ الأمواجِ
وَتَظَلُّ مَناديلُ الوَداعِ عَلى رَصيفِ المِيناءِ 
تَدُوسُهَا أقدامُ عُمَّالِ الْمَنَاجِمِ
الذينَ عَاشُوا تَحْتَ الأرضِ
وماتوا تَحْتَ الأرضِ
كُلَّمَا جَاءَ المساءُ تَذَكَّرْتُ الأمواتَ
الذين يَرْحَلُونَ مِنَ القُبورِ إلى القُلوبِ
وَيَعِيشُونَ في خُيوطِ قَميصي
مَاتَ العُمَّالُ
لَكِنِّي أُنَقِّبُ عَن الرَّسائلِ الغرامِيَّةِ
في مَنَاجِمِ الفَحْمِ
والبَقُّ يَأكُلُ أخشابَ نَعْشي
وشُمُوسُ الأندلسِ تَغْرَقُ في الشِّتاءِ الدَّامي
وَأَقْدَامُ النَّوارسِ تَسْحَقُ جُثمانَ البَحْرِ

ويَتكاثرُ الْمَوْتَى بَيْنَ أزرارِ قَميصي وأرشيفِ البُرتقالِ .

23‏/09‏/2016

انتفاضة الفكر الشعري

انتفاضة الفكر الشعري

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...................

 لا مفر من حتمية تلاقح المكوِّنات الواقعية والعناصر الذهنية في روح القصيدة ، لأن القصيدة هي مجتمع قائم بذاته . وكلُّ مجتمع حي له جناحان : الواقع والذهن . وإذا أردنا استلهام التجربة الشعرية في حياتنا العملية فلا بد من دمج الروح والمادة معاً من أجل الحصول على سبيكة ثقافية قادرة على إخراج الفرد من متاهة الفكر المجرَّد الزائف إلى الوجود الحقيقي للحُلم الجمعي. وعندئذ سوف تتحرر القصيدة من مزاجية العناصر الاجتماعية ، ويتحرر الشاعرُ من فوضى التاريخ المضطرِب، مما يؤدي إلى انتفاضة الفكر الشعري وانعتاقه من ثقل اللحظة الراهنة، ووطأةِ العناصر اللغوية المتكررة .
     إن حيوية القصيدة مستمدة من قدرة الأبجديات الشعرية المتكاثرة داخل النص على إنتاج حركة اجتماعية معرفية غير محصورة زمنياً ومكانياً . وهذه الحركة المفعمة بالأسئلة المصيرية تندمج مع قواعد التأصيل الفلسفي للشِّعر ، وبالتالي تتأسس عوالم تأويلية جديدة نابعة من هوية اللغة ، وذاكرةِ الحراك الاجتماعي . الأمر الذي يؤدي إلى توليد هويات شعرية جديدة في قلب الصور الفنية الحاملة لتاريخ الجماعة البشرية، وتوليدِ آلياتٍ ثقافية تدرس تطور مجتمع القصيدة والقفزاتِ النوعية النابعة من أبجدياتِ الفلسفة الشعرية ولغوياتِ المنهج الاجتماعي .

     وإذا وَجدت الآلياتُ الثقافية بيئةً خصبة ، فإن معايير التصور الشعري والتصويرِ الفني سوف تتحسن إلى الأفضل، وتتجذر كتقنيات معرفية متماهية مع ذاتية التجربة الشعرية وحرارة التعبير اللغوي، ولا تكتفي بالتنظير من الأبراج العاجية ، بل تختلط بنبض الشارع ، وإحساسِ الشاعر ، وتكامليةِ المشروع الأدبي الكلي بعيداً قوالب اللغة القصائدية المستهلَكة . 

21‏/09‏/2016

دور الأبجدية الثقافية في المجتمع

دور الأبجدية الثقافية في المجتمع 

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

................

     إن المشروع اللغوي لصناعة مجتمع الفكر التنويري، هو مشروعٌ تراكمي يتطلب تضافر جهود الأفراد والمؤسسات . وهذا المشروعُ ليس ديكوراً تجميلياً . بل هو تأسيس منهجي لمستقبل الوجود الإنساني ، مبني على معطياتٍ منطقية تطرح الأسئلةَ على المجتمع من أجل إعادته إلى الحياة، ووضعه أمام التحديات المصيرية المتمثلة في تحرير الأبجدية الثقافية من الخرافات ، وتحرير النَّص الإبداعي من أيديولوجيات القهر والكبت، وتحرير الإنسان من ثقل الهواجس والخوفِ من المستقبل المجهول .   
     والأبجديةُ الثقافية _ باعتبارها طَوْق نجاةٍ للأنساق الاجتماعية _ تمثِّل السورَ الأخير الذي يحمي هويةَ الكيان الاجتماعي ، وشخصيةَ الفرد المستقلة ، وهَيْبةَ الجماعة الإنسانية . كما أن الأبجدية الثقافية هي مَعقِل الحضارة الأخير ، وسقوطه يعني سقوط شرعية الوجود الإنساني ، أي سقوط المعنى وانتحار اللفظ ، وعندئذ تختفي اللغةُ الحاملةُ للتراث الفكري المتراكم ، والحاضنةُ للمخزون الشعوري للفرد والجماعة عبر الحقب المتعاقبة. ولا يمكن للإنسان _مهما بَلغت قوته _ أن تقوم له قائمة بدون اللغة القادرة على منح الشرعية وسَلْبها . ولا يمكن للحضارةِ _ مهما امتلكت أدوات التقدم التكنولوجي _ أن تنال الاحترامَ بدون الثقافة والإبداعِ الفكري .

     إن الإنسان الحقيقي هو مؤسسة ثقافية قائمة بذاتها ، تعمل من أجل تكريس سيادة الفكر التنويري على كافة المكوِّنات الفلسفية في البيئة الاجتماعية . وإذا عاشت الثقافة مع الفرد ، فإن الفرد سيعيش معها لِيُؤسِّسا عالَماً جديداً يزاوِج بين العناصر المعرفية في النصوص الإبداعية وبين إفرازات الواقع المعاش . وهذا التزاوج هو الضمير الواعي الذي يُحدث ثورةً في العقول من أجل فهم أفضل للبناء الإنساني والبناءِ الفكري ، واكتشافِ الهوية الحقيقية لوجود الإنسان ومساره ومصيره .

20‏/09‏/2016

الفعل الشعري والتنمية الاجتماعية

الفعل الشعري والتنمية الاجتماعية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

....................

  إن الفعل الشعري يضبط إيقاعَ العناصر الاجتماعية المتغيرة ، وينقل الأبجديةَ المعرفية إلى قلب المجتمع . مِمَّا يؤدي إلى تعزيز نفوذ الكلمة حتى تصير امتداداً لوجود الإنسان ، ومُعادِلةً للنمو الثقافي أفقياً وعمودياً . والكلمةُ هي رئةُ المجتمع، والعالَمُ الموازي للشعور الإنساني ، وروحُ الأبجديةِ التي نكتبها وتكتبنا . وشرعيةُ الكلمة تكمن في قدرتها على تزويد الحراك الاجتماعي بالطاقة الفكرية، وضمانِ استمرارية بناء الإنسان على قاعدة الإبداع الثقافي ، وترسيخِ الرؤية القادرة على التجرد والتجريد . وكلما التصقت الكلمةُ بالمصير الإنساني واقعاً وحُلماً ، اندفعت الكثافةُ اللغوية في أقاصي المعاني الاجتماعية . وعندئذ تتولد أبجدياتٌ تكسر حواجزَ الصمت ، وتقتل الخوفَ في الإنسان .
     وعندما يَزرع الفعلُ الشعريُّ الكلمةَ في نخاع المجتمع ، فإن تقنيات القصيدة سوف تَؤول إلى حركة اجتماعية نشطة تعيد الاعتبار لكَينونة الفرد وتنقله من الهامش إلى قلب الأحداث. وذلك لأن القصيدة هي انقلاب عقلاني لا فوضوي ، يتجسَّد في التفاصيل الاجتماعية على شكل حالة معرفية دائمة الحركة والانتشار . وبذلك يصبح الفرد هو الخندق الأول في مواجهة القيم السلبية التي تكرِّسها السُّلطات القمعية ، سواءٌ كانت سياسية أم اجتماعية .
     والمشكلة التي تُواجِه النسقَ الشِّعري ، هي سيطرةُ الفوضى الخلاقة على القيم البشرية السلوكية . فصار للمَرْكب أكثر من دفة ، وأكثر من ربَّان . وهذا الأداء الهستيري يظهر _ على الدوام _ في مجتمعات انهيار الذاكرة وانكسارِ الحلم .

     وفي وضع كارثي كهذا ، لن تكون مهمة القصيدة سهلة في إعادة بَلْورة الوعي العام وتجذيرِ القيمة الإنسانية. لكنَّ القصيدة لا يمكن أن ترفع الرايةَ البيضاء أو تهرب من المواجَهة ، فهي تمتلك المقوِّماتِ الذاتية ، والتصميمَ على إدخال المجتمع في قلب التنمية الحقيقية لا الشعاراتية، وعندئذ يُدرك المجتمعُ كَينونته الذاتية ، وكَينونةَ العناصر المحيطة به .

18‏/09‏/2016

الأساس الفكري للشعر

الأساس الفكري للشعر

للكاتب / إبراهيم أبو عواد

......................

   لا يمكن للشعر أن يجد حاضنةً شعبية إلا إذا نجح في إحداث تغيير اجتماعي حاسم ، وبناء علاقات متوازنة ومنطقية بين الرؤية والرائي، والقصيدة والشاعر. وهذه المهمة المصيرية من شأنها إحياء الإنسان داخل الإنسان ، وإعادة الحياة إلى الأنساق الاجتماعية الميتة. والشِّعر قد وجد أمامه عالَماً مكسوراً يعج بالموتى الذين لا يَعرفون أنهم موتى ، وعلى الشِّعر أن يُحييَهم جميعاً عن طريق الصعق بكهرباء الكلمة . وهذا الصعقُ اللغوي يُحيي ولا يَقتل . ووفق هذه الرؤية ، تكون عمليةُ الإحياء ( إحياء الفرد / إحياء النُّظم الاجتماعية ) هي الأساس الفكري للشِّعر.
     إن القصيدة _ ذلك المجتمع المتأجج _ لا تعتمد التدرجَ في فلسفتها ، لأنها نَص زمكاني ( زماني مكاني ) عابر للتجنيس الزمني ، وعابر للحدود الجغرافية. فبداية القصيدة قوية تماماً مثل وسطها ومثل نهايتها، فالتدرج صفة تقتل روحَ القصيدة وتحوِّلها إلى موعظة. والقصيدة أيضاً لا تتنازل أبداً، فهي تُقاتِل على كل الجبهات دون أن يصيبها الإعياء ، بعكس الإنسان الذي هو كيان محدود من لحم ودم ، يتعب ويرتاح . والقصيدة لا تَتعب ولا ترتاح بسبب قوتها الرمزية المستمدة من العقل الجمعي لعناصر الطبيعة . وهكذا تبرز الفوارق الجذرية بين مجتمع القصيدة والمجتمعِ البشري . كما تبرز أهمية الصور الفنية الشعرية الحاملة لروح التغيير والصعقِ اللغوي ، والتي تهدف إلى حقن الفرد بالقيم الإنسانية التنويرية ليظل سداً منيعاً أمام المخططات الرامية إلى قتل الإنسان في الإنسان.
     والجدير بالذِّكر أن الكتابة الشعرية ترمي إلى إحداث ثورة فكرية في العالَم كله، وقبل ذلك إحداث ثورة أخلاقية في الشخصية البشرية المضمحلة . والثوراتُ الفكرية لا يمكن أن تنفصل عن الثورات الأخلاقية _ مهما اختلفت الأشكال _ .
     والقصيدة بِوَصْفها عَقْلاً جمعياً ترفض الوقوفَ على الحياد والغرقَ في التجريد الفج. والمسؤولية الأدبية التي تضطلع بها الكلمةُ تحتِّم على كل تفاصيل الأبجدية الشعرية أن تَخرج من دائرة الاستقطاب الوجداني السلبي ، وتدخل في صميم مشكلات الناس وأزماتِ المجتمع .

     والكتابة الشعرية باعتبارها فعل التحدي وأساس عملية التغيير ، تقاوِم كل الانحرافات الذاتية والجماعية من أجل إعادة صناعة الفرد وهندسة المجتمع . ونحن هنا لا ندعو إلى الفوضى والعبثية ، وإنما ندعو إلى تشييد الذات الإنسانية والكيانِ الاجتماعي اعتماداً على الفكر التنويري القابل للتطبيق ، وليس اعتماداً على فَوْرة الغضب والحماسةِ الفوضوية التي تصير تهوراً لا تُحمَد عاقبته.

16‏/09‏/2016

فواديسواف ريمونت وحياة الريف

فواديسواف ريمونت وحياة الريف

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ،16/9/2016

.....................

     وُلِدَ الأديب فواديسواف ريمونت (1867_ 1925) في قرية كوبيل فيلكي بوسط بولندا ، وكانت في ذلك الوقت واقعة تحت السيطرة الروسية . تعلَّم القراءة والكتابة على يد قِس محلي في القرية. ثم تلقى تعليماً نظامياً في المدارس. أرسله والده إلى وارسو (عاصمة بولندا) في عام 1885، من أجل تعلُّم إحدى المهن ، وذلك في رعاية شقيقته الكبرى وزوجها . وقد تَعَلَّم مهنة الخِيَاطة، لكنه رفض العمل كخيَّاط، وهذا أزعج عائلته بشدة ، لأنها شعرت أن مستقبله في خطر.
     أحبَّ العملَ في المسارح ، والسفرَ مع الفِرَق المسرحية ، فعمل ممثلاً متجوِّلاً ، لكنه لم ينجح في هذا المجال ، ولم يستطع جمع الأموال . ورجع إلى أهله مُفْلِسَاً . وبفضل والده ، استطاع الحصول على وظيفة عامل في السِّكَك الحديدية . وقد هرب مَرَّتين من هذه الوظيفة . المرة الأولى في عام 1888 ، حيث سافر إلى باريس ولندن . والمرة الثانية ، هرب من أجل الانضمام إلى إحدى الفِرَق المسرحية . لكنه فشل في إثبات نفْسه كَمُمثِّل بسبب انعدام الموهبة ، فعادَ إلى الوطن مرة أخرى .
     استقرَّ في وارسو ، وقرَّر أن يتفرَّغ للكتابة ، فعمل كَمُراسِل لإحدى الصُّحف ، وزار عِدَّة عواصم أوروبية ، مِن بينها برلين وبروكسل ولندن ، وسافر إلى الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى . بدأ ريمونت في كتابة القصص القصيرة ، وزار مكاتب التحرير في مختلف الصحف والمجلات ، وقد اهتمَّ بعض المسؤولين بكتاباته ، واقتنعوا بإمكانياته الأدبية .
     في عام 1894 ، ذهب في رحلة إلى الحج إلى شيستوشوا ( ثالث أكبر موقع حج كاثوليكي في العالَم ) ، وقد كتب تفاصيل هذه الرحلة الروحية في كتابه " الحج إلى جبل النُّور " الذي نُشر في عام 1895 ، ويُعتبَر هذا الكتاب تجسيداً لأدب الرحلات في صورته الكلاسيكية .
     لم يستطع الأدبُ أن يُوفِّر له مصدر دخل ثابتاً ، فعاشَ حياةً فقيرة ، ولم يتمكن من ممارسة هوايته في السَّفر بسبب غياب الموارد المالية . لكنه في عام 1900 ، حصل على أربعين ألف روبل ( العملة الروسية ) ، كتعويض من مؤسسة السكك الحديدية ، وذلك بعد تعرُّضه لحادث خطير وإصابته بجروح بالغة . وأثناء رحلة العلاج ، تعرَّف على إحدى النساء ، وتزوَّجها في عام 1902 بعد أن قام بدفع قيمة فسخ زواجها السابق . وقد استغل التعويض المالي الذي حصل عليه لتحقيق طُموحه بأن يُصبح أحد مُلاك الأراضي ، فاشترى عقارات في عام 1912 ، لكنه فشل في إدارتها. 
     كتب ريمونت العديد من الروايات ، أشهرها على الإطلاق رواية " الفلاحون " التي نشرها عام 1904 ، وكتبها أثناء فترة إقامته في منطقة النورماندي الواقعة في شمال فرنسا ، وهي الرواية التي نال عنها جائزة نوبل للآداب عام 1924 .
     وهذه الرواية الضخمة التي تقع في أربعة مجلدات ، تُجسِّد فلسفة الكاتب في حياته ، فقد عارضَ آراء المفكِّرين الذين آمَنوا بالتصنيع ، وانتقلَ من حياة المدينة إلى حياة الريف ، وصار الريف هو الركيزة الأساسية في أعماله القصصية . وهذا يُشير إلى قناعة الكاتب بأهمية العودة إلى الطبيعة ، وأن الأرض هي مستقبل الإنسان ، وليس الآلة الصناعية ، وعلى الإنسان العودة إلى التراب بإرادته قبل أن يعود إليه رغم أنفه ( بالموت ) .
     لقد رفض ريمونت الثورة الصناعية ، واعتبرها خطراً حقيقياً على وجود الإنسان وأحلامه وذكرياته . فهذه الثورة حوَّلت الإنسان إلى آلة بلا مشاعر ، تكافح من أجل البقاء على قيد الحياة في مجتمع استهلاكي متوحش، وليس لديه وقت للمشاعر الإنسانية ، والأحاسيس الحياتية . وقد مَزَجَ هذه الأفكار بالسُّخرية ، وخلطها بشريعة الغاب ، حيث تغيب الأفكار النبيلة ، وتنهار الأخلاق ، وتتساقط المشاعر ، وينقلب الإنسان على نفْسه ، ويُقاتل أخاه الإنسان من أجل التصنيع الوحشي والتَّحضر الزائف ، حيث يتم قتل الإنسان والطبيعة معاً .
     اهتمَّ ريمونت في كتاباته بالواقع المادي والعادات والسلوك والثقافة الروحية للشعب . وكان يستخدم لهجة الفلاحين البولنديين في الحوار والسرد ، وكان حريصاً على إظهار إيقاع الحياة اليومية مع البساطة الصارمة والأحلام الضائعة . وكانت كتاباته مرجعاً للتجربة الإنسانية والحياة الروحية العميقة ، ولم يكن لديه أفكار عقائدية أو تعليمية ، فلم يهتم بالمذاهب الفكرية ، وإنما اهتمَّ بطبيعة الحياة ، وأفكار الناس ، والإحساس بالواقع الْمُعاش .
     وقد كان آخر مؤلفات ريمونت بعنوان " نَطحة " ، ونُشر عام 1924 ، ويصف فيه تمرُّد الحيوانات في المزرعة من أجل المساواة ونَيل حقوقها ، كما يصف ما يحدث في المزرعة من اعتداء وإرهاب دموي . والقصة كناية عن الثورة البُلشفية ( 1917 ) . وقد مُنع الكتاب في بُولندا الشيوعية في الفترة ما بين ( 1945_ 1989 ) ، جنباً إلى جنب مع رواية جورج أورويل الشهيرة " مزرعة الحيوان " التي نُشرت في بريطانيا عام 1945. ومن غير المعروف ما إذا كان أورويل قد تأثَّر بأجواء رواية ريمونت الممنوعة .

     من أبرز أعماله : الْمُخادِع ( 1896) . أرض الميعاد ( 1898 ) . الفلاحون ( 1904_ 1909) . الحالم ( 1910) . مصَّاص الدماء ( 1911) . نَطحة " الثورة " ( 1924) .

14‏/09‏/2016

نحو نظام شعري عالمي جديد

نحو نظام شعري عالمي جديد

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

blogs.aljazeera.net/abuawwad1982

facebook.com/abuawwad1982

twitter.com/abuawwad1982

......................

 إن عبقرية القصيدة تتجلى في ابتكارِ نظام اجتماعي نقي وواقعي لا يمكن حصره في نطاق الكلمات ، وتحويلِ الأبجدية اللغوية الوجدانية إلى منظومة حياتية كاسرة للأنماط المستهلَكة . وهذه العبقرية ليست وليدة الصُّدفة ، بل هي نتاج منطقي للفعل الشِّعري الذي يتحرر من ثقل الأزمات الوجودية، ويُحرِّر الأُطرَ الاجتماعية من هواجس الفوضى الإنسانية . ووفق هذه المعادلة الثقافية ( التحرر / التحرير ) تصبح البنيةُ الشعرية والمنظومة الاجتماعية وجهَيْن لعُملة واحدة اسمها الحرية.
     ولا يمكن للمجتمع البشري أن يَنهض إلا إذا وَضع ثقته الكاملة في القصيدة ، لأنها ضمير المجتمع ، وشعلةُ الفكر الإنساني ، والرُّبانُ القادر على استشراف المستقبل وتوجيه دَفة السفينة . وإذا كان الاقتصاد هو العمود الفقري للمجتمعات، فإن الثقافة الشعرية هي روح المجتمعات وقلبها النابض .
     وحينما يتغلغل الوعي الشِّعري في حياة الجماعة البشرية ، فإن الأفراد سيملكون القدرةَ على رؤية ما وراء العالَم المادي المحصور في النَّزعات الاستهلاكية ، وعندئذ تَؤول أنساقُ الأبجدية الشعرية إلى آفاق معرفية قابلة للحياة والتطبيق ، ويُولَد نظام شِعري عالمي يَدرس تاريخَ الوجود البشري على أنه قصائد لم تُكْتَب بعد ، وعلى المجتمع الإنساني أن يكتبها لتصير اللغةُ كائناً حياً يعيش معنا نحاوره ويحاورنا .

     وهذا النظام الشعري يُمثِّل منهجاً واضحاً في فهم الثقافة المجتمعية الواقعية، لكنه_أي المنهج _ لا يصبح متكاملاً وراسخاً إلا عن طريق تجميع عناصر الجنين الشِّعري، الأمر الذي يؤدي إلى تركيب حضارة لغوية قائمة على النَّص بدلاً من تصنيم الذات الشاعرة ( تحويلها إلى صنم فوق مستوى النقد ). إذ إن تصنيم ذوات الأشخاص يُضفِي الشرعيةَ على كلامهم، ويجعله مُسلَّماتٍ غير قابلة للنقاش، وهذا يتعارض _جُملةً وتفصيلاً _ مع فلسفة القصيدة ، لأن القصيدة هي غِرْبال يستمد شرعيته من قدرته على التمييز والنقد والنقض والمساءَلة .

12‏/09‏/2016

التحولات المصيرية في عالم الشعر

التحولات المصيرية في عالم الشعر

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

......................

 لا يمكن معرفة الخصائص الاجتماعية للظاهرة الشعرية ، إلا عن طريق تحليل الدلالات الفلسفية المتجسدة في القصيدة ، وتوفيرِ بيئة خصبة لنمو الأفكار المتماهية مع الخطاب اللغوي في نخاع الأبجدية الرمزية . فالتحليلُ العقلاني والبيئة الحاضنة للإبداع هما ركيزتا الثورية الثقافية .
     ونحن حينما نمارس فعلَ الكتابة الشعرية ، لا نغرق في ترف اجتماعي أو هواية لملء وقت الفراغ ، وإنما نزرع عناصر الدلالة الشعرية في بنية المجتمع ليتسنى لنا الحفاظُ على هوية المعنى بكافة أبعادها ، وتأسيسُ علاقة مصيرية بين الأدب والناس تمتاز بالديمومة . وفي هذا السياق سوف تبرز أهمية الأفق الشعري بوصفه حاملاً للطموح البشري ، وذاكرةً خالدة تكافح النسيان والاندثار . الأمر الذي يجعل من الثقافة الشعرية نظاماً اجتماعياً محسوساً وعابراً للحدود النَّفسية والجغرافية .
     وكلما ازداد وهجُ القصيدة في البنى الواقعية ، ازدادت فاعليةُ الممارسات الاجتماعية ، لأن العلاقة بين الأبجدية الشعرية والأبجدية البشرية علاقة تكاملية لا انفصام فيها. وهذه العلاقة المحورية لا يمكن أن تستمر بدون وعي ثقافي تسلسلي قادر على التعبير عن أنظمةِ بناء القصيدة باعتبارها مِعْماراً فنياً قائماً بذاته ، وأنظمةِ بناء المجتمع الواقعي بوصفه نظاماً حياتياً ذا امتدادات في تفاصيل الشعور الإنساني. وهذان المساران المتقاطعان ( القصيدة / المجتمع الواقعي ) كفيلان بتحقيق أهداف الحراك الشعري ، وهي : الحشدُ المعنوي المكثَّف ، والوضوحُ الرمزي الواعي ، وتطويرُ مستويات اللغة الحالمة ، وتحويل أبجدية الهمس إلى واقع مسموع .

     وهذه التحولات المصيرية سوف تحمي الفكرَ الشعري من الانزلاق نحو الفلسفات اللغوية الْمُبْهَمَةِ التي تسلب أفلاكَ القصيدة قوة دورانها وسعة مداها . وفي نفْس الوقت سوف تحمي الفكرَ الاجتماعي من العزلة والهشاشة . وبالتالي فإن الجسد القصائدي سيكتسب بعداً تثويرياً حاسماً وصادماً، وينمو في قلب المجتمع الإنساني ، وعندئذ تزول غربةُ اللغة في محيطها الاجتماعي ، وتختفي عُزلةُ المجتمع من العالَم الشعري .

09‏/09‏/2016

وليام بتلر ييتس وذاكرة الأشباح

وليام بتلر ييتس وذاكرة الأشباح 

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 9/9/2016

.......................

   إن الشاعر الإنجليزي وليام بتلر ييتس ( 1865_ 1939) ، لم يكن أديباً منعزلاً أو عائشاً في بُرجه العاجي ، بل كان مُنخرِطاً في الحياة الاجتماعية . وبالإضافة إلى كَونه شاعراً ، كان كاتباً مسرحياً ، ومدير مسرح ، وشخصية وطنية ، وعُضواً في مجلس العموم البريطاني .
     وُلد في دَبْلِن عاصمة جمهورية إيرلندا . كان والده محامياً ذا شخصية قوية ، حرص على تنشئة أطفاله في مناخ ثقافي ، فكان يقرأ لهم الشعر والقصص من أعمال شكسبير وغَيره . ومن شِدَّة ولع الأب بالثقافة والفنون ، قرَّر أن يترك مهنة المحاماة ، ويصبح فنَّاناً ، فالتحق بمدرسة للفنون وأصبح واحداً من الرسامين المعروفين . أمَّا الأم ، فكانت هادئة وانطوائية ، وقد شكَّل موتُ أحد أطفالها صدمةً نفسية لها ، بقيت مُلازِمةً لها حتى وفاتها .
     عاش ييتس في بيئة أرستقراطية ، وكانت عائلته فاحشة الثراء، وقد قضى طفولته في قصر جدِّه لأُمِّه، الذي كان يمتلك أُسطولاً من السُّفن التجارية . وطفولته الْمُرَفَّهة في هذا القصر الكبير الذي يحتوي على غرف كثيرة وممرَّات عديدة ، كانت عاملاً أساسياً في تنمية خيال الطفل ، وإقحامه في عالَم الأساطير والخيالات . فصار يُؤمن بوجود الأشباح ، وقد زعم فيما بعد أنه شاهد أول شبح في حياته عندما كان في قصر جَدِّه . والحكاياتُ المتعلقة بالأشباح والجِنِّيات والأرواح الخارقة للطبيعة ، كانت شائعةً في إيرلندا في تلك الفترة ، حتى إِن الخدم العاملين في القصر كانوا يتحدَّثون عن الجِنِّيات ، وكانوا يربطون هذا الموضوع بالعذاب والخوف والخطر .
     وقد انعكسَ موضوع الأشباح والجن على أشعار ييتس ، ففي قصيدة " الطفل المسروق " تبرز الأسطورية الشعبية التي تقول إِن الجِنِّيات قادرات على خطف الناس، وإجبارهم على البقاء في عالَم الجن. وفي قصيدة"في ضيافة الجن " ، يتخيَّل الشاعر أعداداً هائلة من الجن يَمتطون ظُهور الخيل ، ويَطوفون في طُول البلاد وعَرْضها . وهذه الأجواء الأسطورية متعلقة بطفولة الشاعر ، إِذ إِنه نشأ في قصر جَدِّه الذي كان يضمُّ حصاناً وكلاباً يستخدمها الأطفال لمطاردة الأرانب . وسيطرت هذه الصور على خياله وتفكيره ، بحيث احتلَّتْ حياتَه وفلسفته . ولم تقف هذه الأجواء عند الطفولة ، ففي فترة شبابه ، كان يمشي في الأماكن النائية ، ويقضي الليالي في أحد كهوف الغابة . وهذه الأماكن المحبَّبة إليه ، سيطرت على قلبه وتفكيره وإنتاجه الشِّعري . وكثير من هذه الأماكن يَرِدُ في أشعاره .
     كان ييتس طالباً ضعيفاً في المدرسة ، وعانى كثيراً من مشكلات في القراءة . لكنه بدأ يكتب الشِّعر في الخامسة عشرة مِن عُمره . وقصائدُه الأولى كانت عن الساحرات وفُرسان العُصور الوُسطى الذين يلبسون الدروع ، وهي قصائد بسيطة ، لكن شِعره بدأ بالتحسن حين صار يكتب عن الأساطير والخرافات الإيرلندية .
     اقتربَ ييتس من العوالم الروحانية ، وما فوق الطبيعة ، وصار مشغولاً بالقضايا المستورة في هذا الوجود . وفي العشرين من عُمره ، ساهم في تأسيس " جمعية دَبْلِن لعلوم السِّحر " التي تُعْنَى بتدريس الفلسفة الهندية والروحانيات والغَيبيات . وفي العام التالي ، انضمَّ إلى " نظام البزوغ الذهبي " ، وهي جمعية سرية طوَّرت تدريس السِّحر وكيفية تطبيقه على أرض الواقع . وهذه العوالم ليست غريبة عن ييتس ، ففي شبابه كان مشغولاً بالرُّؤى والخواطر وتأثير الكواكب والأمور الخارقة للطبيعة . وكل هذه المفاهيم ظهرت في شِعره بصورة أو بأُخرى .
     في عام 1889 ، التقى بممثلة جميلة تُدْعَى " ماود جونيه"، وأغلب شِعره العاطفي مُوَجَّه لها . وقد تقدَّم للزواج منها عدة مرات ، وكانت ترفضه بقسوة . ثم التقى الكاتبة المسرحية الليدي غريغوري ، وأسَّس معها " المسرح الأدبي الإيرلندي ". وفي عام 1911 ، قابلَ ييتس في بيت أحد أصدقائه شابةً جذابة تُدْعَى " جُورجيا هايدليس " عمرها ثمانية عشر عاماً . كان قارئة نَهِمَة ، ومثقفة تتكلم عدة لغات ، ومتعلقة بعالَم السِّحر والغَيبيات ، وقد انضمَّت إلى جمعية " نظام البزوغ الذهبي ". وقد عَقَدا زواجهما عام 1917 رغم فارق السن ، وغياب العواطف المتبادَلة .    
     صارَ ييتس عُضواً في مجلس الشيوخ في أول حكومة إيرلندية من عام 1922 وحتى 1928، وسعى بكل طاقته إلى إحياء التراث الثقافي الإيرلندي ، وفنونه المعمارية ، وآثاره القديمة . وكان مُدافِعاً عن حرية التعبير ، وعمل جاهداً على تحسين مستوى المدارس الإيرلندية .
     فازَ ييتس بجائزة نوبل للآداب عام 1923 ، وواصلَ الكتابة حتَّى مَوته عام 1939 . وقد قضى سنواته الأخيرة في جنوب فرنسا بسبب وضعه الصِّحي. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945 ، نُقل جُثمانه إلى إيرلندا ، ودُفن في إحدى الكنائس . وضمَّ شاهدُ قبره أبياتاً شعرية له : (( عَين باردة تُحَدِّق / في الحياةِ والموتِ / وفارس يَعبر بينهما )) .

     من أبرز مجموعاته الشِّعرية : الخوذة الخضراء ( 1910 ) . مسؤوليات وقصائد أخرى( 1914) . البجع البري عند مُتَنَزَّه كول ( 1918) . البُرج ( 1928) . السلالم الملتوية ( 1929) ، قصائد جديدة ( 1938) .

06‏/09‏/2016

أناتول فرانس ومبدأ رفض الأحزاب

أناتول فرانس ومبدأ رفض الأحزاب

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة القدس العربي ، لندن ، 6/9/2016

....................

  إن الكاتب أناتول فرانس ( 1844_ 1924) يُعتبَر من أبرز أدباء فرنسا في تاريخها كُلِّه . كان روائياً وناقداً وكاتباً ساخراً . وُلد في باريس لعائلة تعمل في الفلاحة. ومعَ هذا فقد كان والده مثقفاً وحريصاً على اقتناء الكتب . واستفادَ فرانس من مكتبة والده ، فأقبل عليها بكل شغف ، وقرأ عشرات الكتب عن الثورة الفرنسية والتراث الإغريقي واللاتيني . وتأثَّرَ بالفلسفة القائمة على الشُّكوك والاحتمالات والأسئلة. وتأثرَ بشكل خاص بالكاتب الشهير فولتير، وأسلوبه الأدبي القائم على السخرية اللاذعة والانسيابية والحيوية .
     كانت طفولته خليطاً من السعادة والأحزان . وأحزانُ طفولته مرجعها إلى وضعه المالي المتدنِّي مقارنةً مع زملائه الأغنياء في المدرسة . لذلك كان يشعر بعُقدة النقص ، ويَعتبر نفْسه أقل شأناً من باقي التلاميذ بسبب طبقته الاجتماعية. كما أن قصص الحب الفاشلة التي عرفها في مطلع شبابه ، تركتْ جُروحاً عميقة في نفْسه ، وأحدثت خللاً في طبيعة شخصيته ، وغيَّرت كثيراً من أفكاره .
     وعلى الرغم من هذه المعاناة ، إلا أن فرانس كان يُبْرِز أحداث طفولته في كُتبه باعتبارها رمزاً للسعادة ، ومثالاً للحب والحنين والذكريات الجميلة . وكأنه يُعيد اختراع طفولته من جديد ، ويكتب تاريخاً جديداً لحياته . لقد أرادَ إعادةَ صناعة حياته بعيداً عن الواقع ، وكتابةَ تاريخه الشخصي كما تَمَنَّاه في ذهنه لا كما عاشه . وبالتالي أسقطَ تصوراته الذهنية على الواقع ، فصارَ الخيالُ هو الواقع الْمُعاش . وهذا المبدأ حقيقة ثابتة في حياته الشخصية ، لا يمكن تجاهلها أو معارضتها، خصوصاً إذا علمنا أن الاسم الحقيقي لهذا الكاتب هو " أناتول جاك تيبو " . لقد اختارَ لنفْسه اسماً جديداً ، وطفولةً جديدة ، وتاريخاً جديداً . وهذا يشير إلى رفض الواقع والتمرد عليه .
     رسم فرانس مسارَ حياته مُبكِّراً ، وقرَّر أن يُصبح كاتباً ، فبدأ في مطلع شبابه يُخالط الأوساط الأدبية ، وتعرَّف على الشاعر لوكونت دي ليل الذي ضمَّه إلى حلقة شعراء البارناس . والبرناسية مذهب أدبي فلسفي لا ديني قام على معارضة الرومانسية التي تقوم على مذهب الذاتية في الشعر ، وعرض عواطف الفرد الخاصة على الناس شعراً ، واتخاذه وسيلةً للتعبير عن الذات ، في حين أن البرناسية تعتبر الفن غاية في ذاته ، لا وسيلة للتعبير عن الذات ، وترفض التقيد سلفاً بأية عقيدة أو فكر أو أخلاق سابقة ، وهي تعتبر شعار" الفن للفن" هو أساس وجودها. واختيارُ فرانس للبرناسية يشير بوضوح إلى حالة التمرد على السائد والمألوف ، والسباحة ضد التيار .
     نشر فرانس في عام 1868 كتاباً عن الشاعر دي فينيي ، ثم اشترك مع مجموعة شعراء البارناس في تأليف بعض الأشعار. وهذا الأمر شجَّعه على مواصلة الكتابة . فصدر له بعد ذلك ديوان "القصائد المذهَّبة" عام 1873 ، وقد أهداه إلى أستاذه وأبيه الروحي ( الشاعر دي ليل ) .
     كانت أول رواية ناجحة لفرانس " جريمة سلفستر بونارد " ( 1881 ) ، وقد استقبلها النقاد بالتفاؤل والتقدير ، ومدحوا كاتبها ورأوا فيه موهبة أدبية حقيقية . وهذا المديح لفت الأنظار إليه بشدة ، وجعل اسمه راسخاً في الحياة الأدبية الفرنسية ، فبدأ في عام ( 1886 ) كتابة عمود أدبي لجريدة " لوتيمب " .
     حقَّق فرانس شهرةً واسعة ، وذاع صِيته في كل مكان ، بسبب نزعته الإنسانية ، وأسلوبه الأدبي الرَّشيق ، وسُخريته اللاذعة المغلَّفة بالحزن ( الكوميديا السَّوداء )، ودقة ملاحظاته ، ورفضه للعنصرية والتطرف ، ونظرته الناقدة للمجتمع ، وتصويره البشر على أنهم مُخادِعون منافقون شهوانيون .
     انتُخِبَ عضواً في الأكاديمية الفرنسية عام 1896، وبدأ يبتعد عن الكتابة الروائية ، ليتفرَّغ للسياسة والنقد الاجتماعي. وفي هذه الفترة، صار يميل إلى الاشتراكية والشيوعية دون أن ينتميَ إلى أي حزب ، فقد كان رافضاً للأحزاب وأفكارها الجامدة ، وتقسيماتها الهرمية التقليدية التي ترفض الآراء المخالِفة وتعتبرها انشقاقاً وتمرُّداً . وكان يُدافع على الدوام عن حرية الفكر ، وضرورة فصل الدِّيني عن الدُّنيوي ، والاهتمام بالعِلْم باعتباره الضمانة الأكيدة لتقدم البشرية .
     حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1921 لمجموع أعماله . وتبرَّع بالقيمة المالية للجائزة لمنكوبي المجاعة في الاتحاد السوفييتي .

     مِن أبرز أعماله الأدبية : جريمة سلفستر بونارد ( 1881) . كتاب صديقي ( 1885) . تاييس ( 1890 ) . الزنبقة الحمراء ( 1894) . جزيرة البطريق ( 1908 ) . سيرة جان دارك ( 1908 ) . الآلهة عطشى ( 1912) . ثورة الملائكة ( 1914) . 

05‏/09‏/2016

فلسفة القصيدة والعاطفة الإنسانية

فلسفة القصيدة والعاطفة الإنسانية 

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.....................

  لا يمكن للبُعد الثقافي أن يتكرس على أرض الواقع ، إلا إذا قمنا بتثوير اللغة الشعرية وحقنها بالتطبيقاتِ الإنسانية ذات التماس المباشر مع الحياة الاجتماعية . والإنسانُ لن يَعتبر القصيدة جزءاً من فلسفة وجوده إلا إذا كانت القصيدةُ تعبيراً حقيقياً عن هوية الإنسان ومساره الحياتي . ومن أجل إحداث هذه النقلة الفكرية الهائلة ، ينبغي التعامل مع الأبجدية الشعرية على أنها تركيب اجتماعي مقترن بالنمو العاطفي للإنسان الذي يُفترَض به أن يُطهِّر نفْسَه من إفرازات السراب الفكري والأوهامِ الاجتماعية . وهذا التطهيرُ هو الفلسفة الأساسية للقصيدة التي نكتبها وتكتبنا.
     وعلى القصيدة _ إذا أرادت قيادةَ المشروع الثقافي المجتمعي _ أن تصحِّح المفاهيمَ المغلوطة في الأذهان . فعلى سبيل المثال لا الحصر ، نجد أن لفظة " العاطفة " قد اقترنت في أذهان الناس بالضعف والاستسلام . والمشروعُ الشعري بأكمله قائم على العاطفة ، لذا فمن الأهمية بمكان ألا تكتفيَ القصيدةُ ببناء فلسفتها الخصوصية. فلا بد أن تخرج القصيدةُ من شرنقتها ، وتبنيَ نظاماً فكرياً جديداً يوازن بين الروح والمادة ، من أجل الانقلاب على النُّظم الاجتماعية الاستهلاكية التي تستنْزف المشاعرَ وتقتل العواطفَ . وهنا يتجلى الدورُ الاجتماعي للقصيدة التي يجب عليها النُّزول من بُرجها العاجي إلى أرض الواقع لانتشال الواقع ورفعه إلى عوالم أكثر إشراقاً. فالشِّعرُ هو مشروعٌ اجتماعي عام يشمل الأنا والآخر استناداً إلى الرابطة البشرية ، ووَحدةِ المصير الإنساني في هذا العالَم المضطرِب .
     والعاطفةُ التي تصوغها القصيدةُ ليست دليلَ ضعف أو هروباً من الواقع ، وإنما هي إحياء للضمير الاجتماعي _ بصيغته الفردية والجماعية _ ، وتجميعٌ لشظايا الإنسان الممزَّق في المجتمع العالمي المتوحش .

     وكلُّ المشاعر _ التي تؤسسها القصيدةُ _ تتَّسم بعُمقها المجتمعي ، وقوتها اللغوية النظامية المتمركزة حول جوهر الإنسان، ومركزيةِ وجوده في أنساق الحياة المعاشة . والأبجديةُ الشِّعرية تذكِّر الأبجديةَ الاجتماعية بأنها النواة المركزية للفكر الإنساني ، وأنها ليست هامشية في صفحة التاريخ . فالأبجديةُ الاجتماعية ليست عَرَضَاً بل جوهراً. فالعَرَضُ زائل، لكن الجوهر ثابت. والعَرَضُ لا يدوم زمانَيْن ، أمَّا الجوهر فيدوم رغمَ تعاقب الأزمنة واختلافِ تضاريس الأمكنة . ومن هنا تنبع قوةُ فلسفة القصيدة الحاملة لهموم المجتمع .

02‏/09‏/2016

خاثينتو بينافينتي والشذوذ الجنسي

خاثينتو بينافينتي والشذوذ الجنسي

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 2/9/2016

.....................

  يُعَدُّ الأديب الإسباني خاثينتو بينافينتي( 1866_ 1954) من أبرز المجدِّدين في المسرح الإسباني في القرن العشرين. وبالإضافة إلى كَونه كاتباً مسرحياً ، فقد كان سيناريست ومخرجاً سينمائياً . أصبحَ عُضواً في الأكاديمية الملكية الإسبانية عام 1913، وأهَّله إبداعه للحصول على جائزة نوبل للآداب عام 1922 .
     وُلد في مدريد . كان أبوه طبيب أطفال مشهوراً ، وهذا دفع الكاتبَ فيما بعد إلى كتابة أعمال مسرحية خاصة بالأطفال. بدأ دراسة الحقوق في جامعة مدريد ، ولكن مَوت والده عام 1885 كان المنعطَف الرئيسي في مسيرته ، الذي غيَّر مسار أفكاره وحياته إلى الأبد . فقد ورث من والده ثروة طائلة ، فتركَ دراسته الجامعية ، ولم يعد بحاجة إلى العمل لكسب قُوت يَومه . وتفرَّغ تماماً للأدب والسَّفر . زارَ فرنسا والأرجنتين وتشيلي وروسيا ومصر ومناطق كثيرة من العالَم . وبسبب كثرة أسفاره ، صارَ خبيراً بتقاليد المسارح الأوروبية والعالمية .
     كان بينافينتي مُولَعاً بالمسرح منذ طفولته ، وامتاز مسرحه بالسُّخرية اللاذعة الممزوجة بالنقد الاجتماعي ، كما ظهرت في مسرحياته النَّزعةُ البوهيمية ، والميولُ الواضحة نحو الفوضى في العلاقات الاجتماعية . واهتمَّ بالأفكار الكوميدية في الفن، وهذا الاتِّجاه المسرحي كان سائداً في فرنسا ، ونقله بينافينتي إلى إسبانيا ، كما نقل كثيراً من المذاهب الفنية الأجنبية ، وأدخلها في صميم المسرح الإسباني .
     تصادمت أفكارُه مع نظامِ الْحُكْم ( السُّلطة السياسية ) والكنيسةِ الكاثوليكية ( السُّلطة الدينية )، فقد كان ملكياً ليبرالياً ناقداً للاشتراكية . وعلى الصعيد الشخصي ، كان شاذاً جنسياً ولم يتزوج مُطْلَقاً . لذلك خضعت أعماله للرقابة خلال فترة ما بعد الحرب الأهلية ( 1936_ 1939) . كما مُنعت بعض أعماله من العرض ، خصوصاً في السنوات الأولى لِحُكم الجنرال فرانكو ، بسبب كَونه أحد المؤسِّسين لرابطة أصدقاء الاتحاد السوفييتي .
     نشر في عام 1894 عملاً أدبياً بعنوان" عُش الغريبة "، لكنه لم يلقَ نجاحاً . ويعود سبب فشله إلى أن الجمهور والنُّقاد لم يستوعبوا المفاهيم التجديدية التي كانت غريبةً آنذاك. وفي عام 1896 ، بدأ يُهاجم في أعماله الأدبية الطبقةَ العُليا من المجتمع ، ولكن حِدَّة النقد بدأت تضعف تدريجياً ، إلى أن انتهى إلى العِتاب اللطيف في أعماله اللاحقة مثل " غذاء للحيوانات المفترِسة " عام 1898 .
     كانت علاقته بالمرأة شديدة الغرابة، فهو يُصرِّح أنَّه لم يحب امرأةً في حياته ، ومع هذا ، يُظهِر تعاطفاً بالغاً مع المرأة في مسرحياته ، ويتعامل معها على الورق بكل رقة ونعومة. وقد أحبَّ في شبابه المبكِّر لاعبة سيرك، وكتب لها أشعاراً ، لكنه أنكرَ هذا الحب ، وزعم أنَّه كتب أشعاره لصديق كان يُحِبُّها .
     يُعتبَر بينافينتي المجدِّد الحقيقي في المسرح الإسباني بسبب أسلوبه السَّلِس ، ومهاراته الفنية . ومعَ أن مسرحياته لم تشتمل على صراعات درامية عظيمة ، ولا على عذابات مأساوية ، إلا أنه حافظ على الوسطية في الطرح ، وكثيراً ما وقع في السطحية والابتذال .
     أوجدَ نوعاً من المسرح الجديد القائم على السُّخرية الذكية ، والنقد اللاذع للأرستقراطية الغارقة في العبث والمادية والنفاق . ، فقد فضح عيوبَ الطبقة العليا في إسبانيا في ذلك الوقت ، وتناولَ مشكلات الطبقة الريفية في المجتمع . وكانت مسرحياته تأريخاً لإسبانيا بعد سقوط المستعمَرَات . وامتازت مسرحياته بالرؤية الواقعية ، حيث أدرك أهمية أن يكون العمل الدرامي جاذباً للجمهور ، ومُحقِّقاً لأحلامهم ورغباتهم ، فحاولَ جاهداً أن يجمع في مسرحياته بين الذَّوْقِ الجماهيري وذَوق النقاد . وقد حازت مسرحياته على إعجاب الجمهور الذي حرص على الإقبال عليها ومتابعتها ، وأثنى بعض النقاد على أعماله ، وأشادوا بها ، كما حصل على جوائز كثيرة لا حصر لها . لذلك كان _ بلا مُنازِع _ زعيماً للثورة في المسرح الإسباني . وقد لَخَّص بينافينتي فلسفته الحياتية بِقَوله : (( إذا لم يمر الشغف والجنون ، ولو لمرة واحدة في حياة المرء ، فما نفع هذه الحياة ؟ )) .

     كتب في حياته أكثر من مئة وسبعين مسرحية ، من أهَمِّها: عُش الغريبة ( 1894) ، المجتمع الراقي ( 1896 )، زوجة المحافظ ( 1901)، ليلة السبت (1903)، خريف الورود ( 1905)، سيدة البيت ( 1908 ) ، حَيَوات متشابكة ( 1929) . 

01‏/09‏/2016

عقائد العرب في الجاهلية : مقدمة وتمهيد

عقائد العرب في الجاهلية 

( مقدمة وتمهيد )

تأليف : إبراهيم أبو عواد

..........................

   الحمدُ لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على النبي محمد وإخوته الأنبياء الكرام وآل كُلٍّ وصحب كُلٍّ .
     مِمَّا لا شك فيه أن الجاهلية كحالة عَقَدية تاريخية تستوجب دراسةً عميقة ، وذلك من أجل سبر غورها وتمحيصها وعرضها عاريةً أمام شمس المنهج العِلمي في البحث. فالجاهليةُ _ على الرغم من افتقارها إلى نظم سياسية واجتماعية وثقافية مُخطَّط لها _ تملك جَدلياتٍ وظواهر تحفر أساساتٍ لتعميق الوجود الإنساني في قلب البيئة المعادِية ( الصحراء ). والظاهرةُ الجاهلية هي امتداد لبُنية الخرافات والأساطير التي انتشرت بسبب الانقطاعِ عن الهداية الرَّبانية المتمثلة في الرسالات السماوية ، والغوصِ في العقائد الوثنية التي تحركها مصالح القبائل المتنازِعة من أجل السيطرة على الماء والكلأ والمقدَّسات. وكلُّ قبيلة كَوَّنت أنساباً بُغية تعميق وجودها واستمرار تتابعها، وافتخرت بها إلى درجة التعصب الأعمى .
     والكائنُ الجاهلي كان خاضعاً لسُلطة القبيلة بشكل صارم ، لاعتقاده بأنها الوحيدة القادرة على منحه امتداداً لوجوده ، ومعنىً لأنشطته الحياتية . وكان مُشركو الجزيرة العربية خاضعين للسُّلطة الوثنية، في حين أن أهلَ الكتاب ( اليهود والنصارى ) يَخضعون لسُلطتهم الدينية المشوَّشة نتيجة التحريف . وكلُّ سُلطة تُعبِّر عن اتجاهات الفرد ومشاعره وقِيَمه السلوكية . وهذا يَقودنا إلى أهمية السُّلطة في تقييمِ الوقائع الاجتماعية في بعض الأحيان ، وصُنعِها في كثير من الأحيان .
     والسؤالُ الذي يَطرح نَفْسَه هو : هل يصح إطلاق عبارة " المجتمع الجاهلي " ؟ . الجواب ليس بالسهولة التي قد نتصورها . فالمجتمعُ هو تركيبة متجانسة ذات مسار واحد تنطوي تحته المسارات المعبِّرة عن كَيْنونة الفرد وأحلامه . وبالتالي ، لا معنى لعِبارة " المجتمع الجاهلي " بسبب افتقاد الإنسان الجاهلي إلى البنية التحتية والفَوْقية في الجسد الثقافي الاجتماعي الواعي. وحِينَ تُذكَر عِبارة " المجتمع الجاهلي " في هذا الكتاب ، فيكون الأمرُ من باب المجاز والتَّوسع اللغوي .
     إِنَّ هذه الجماعات البدوية التي عاشت في الجزيرة العربية قبل مجيء الرِّسالة المحمَّدية_ ولا أقول قبل مجيء الإسلام ، فالإسلامُ جاءَ إلى كَوْكبنا مع أبينا آدم صلى الله عليه وسلم _ لم تكن منفصلة عن المسار التاريخي العام . بل هي امتدادٌ ذهني فكري للجاهليات الراسخة في أنحاء العالَم . وما الجاهليةُ اليهودية التَّوْراتية التي بَدَّلَتْ دِينَ موسى صلى الله عليه وسلم ، والجاهليةُ النصرانية الإنجيلية التي بَدَّلَتْ دِينَ المسيح صلى الله عليه وسلم ، إلا زخم أسطوري وثني ، شَكَّل مخزوناً مرئياً للجاهلية في أرض الجزيرة العربية .
     والتحليلُ الواعي لأنساق الجاهلية يَرمي إلى كشف طبيعة التفكير لدى الفرد الجاهلي ، وفكِّ شِيفرة البيئة العربية القاسية ( الصحراء ) . وهنا ، تتجلى أهميةُ التعامل مع السُّلوكيات الفكرية العربية ، فهي المادة الفلسفية البدائية ( الخام ) . وهذه المعطياتُ تحتاج _ من أجل تحليلها _ إلى هدوء وتروٍّ . ولا بُد من تأصيل البحث لَبنةً لبنة ، والسيطرةِ على كافة التفاصيل الفكرية ، وتوضيحِ الفلسفة العربية في الجاهلية بكل تقاطعاتها الدِّينية والثقافية والسِّياسية والاجتماعية . إذن، يجب التنقيبُ في الأساس الفكري للجاهلية، وتشريحُ الجذورِ العَقَديةِ والفروعِ الاجتماعية ، وإيجاد روابط منطقية بين هذين المجالَيْن . ولا يمكن إغفال الجانب النَّفسي في المنظومة الجاهلية ، فهذا الجانبُ يُبرِز المدلولاتِ الإيجابية والسَّلبية في علاقة الفرد بنفْسه وقبيلته ومحيطه الاجتماعي وتطلعاته الوجودية .
     والأيديولوجيةُ الجاهلية _ بوَصْفها نمطاً استحواذياً _ تُجَسِّد كلَّ أحلام التخلف والتبعية وتغييب النماذج الثورية . إننا أمام حالة هلامية عَقدية تعتمد على الوثن في تشكيل صور العلاقات الاجتماعية ، ومن هنا تَنبع خطورةُ توليد الأنماط الضالة . ولا بُد من دراسة الأبعاد الحقيقية للحالة الجاهلية بكل ملابساتها وحيثياتها المؤدلَجة وغير المؤدلَجة . وهذا يتطلب ترسيخَ الوعي والوعي المضاد، والإحاطةَ بكل الجوانب الإنسانية في تقاطعات الحياة . والجديرُ بالذِّكر أن غالبية الباحثين لم يُركِّزوا على إشكاليات أنسنة العلاقات البشرية داخل المحيط القمعي، واكتفوا بتوزيع نظراتهم على القشور دون الغوص في أعماق التشكيلات الإنسانية ، لذا جاءت دراساتهم مُشوَّشة وسطحية . وإننا ندعو كُلَّ الباحثين المتمكنين إلى سَبْر أغوار التجمع الجاهلي ، وعدم الوقوف عند الباب دون الدخول إلى هذا العالَم المعتم المتجسِّد في البيئة الوثنية .
     إِنَّ هذا الكتاب يُقدِّم دراسةً دِينية واجتماعية وفلسفية ، تحاول تحليلَ ظاهرة الجاهلية بكل جوانبها ، وكشفَ التكوينات الفكرية في الأنساق المتوازِية والمتقاطعة . فإِن وَجَدْتَ في كلامي خَيْراً فمن الله وَحْدَه ، وإن وَجَدْتَ غيرَ ذلك فمن نفْسي والشيطان .
تمهيد
     إِن الجاهلية لَيْستْ مرحلةً زمنية فقط ، بل هي أيضاً منظومة فكرية وتاريخية متكاملة ، ولها أبعاد متعددة . لذلك يَنبغي تحليلُها بعمق ، وتعليلُ الأحكام المتعلِّقة بها ، والابتعادُ عن الأحكام الجاهزة والانطباعاتِ المعلَّبة .
     وقد كانَ الصحابة _ رضي الله عنهم _ حَريصين على ذِكْر أيام الجاهلية ، وتحليلها بأسلوب منطقي بعيداً عن العواطف الفَوْضوية ، وذلك من أجل الاستفادة من هذا التاريخ الماضَوِي الذي حَمَلَ عقائدَ البشر وأحلامهم وذكرياتهم .
     وفي كَثيرٍ من الأحيان ، كان الصحابةُ يَتذكرون أحداثَ الجاهلية ، ويتندَّرون بها ، ويأخذون بالضَّحك . ولم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعترض على ذلك . فالإنسانُ لا يمكن أن يَشْطب تاريخَه ، حتى لو لم يكن راضياً عنه. والجاهليةُ_كأيِّ نسقٍ تاريخي_ هي خليط من الحق والباطل ، والعدالةِ والظلم ، والحب والكراهية ، والآمالِ العريضة ، والأحلامِ الضائعة ... إلخ .
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 1810 ) : أن جابر بن سَمُرة _ رضي الله عنه _ قال : (( وكانوا يَتحدَّثون ، فَيَأخذون في أمر الجاهلية ، فَيَضحكون ، ويَتبسَّم صلى الله عليه وسلم )) .
     لقد كان الصحابةُ _ رضي الله عنهم _ يَذْكُرون أيامَ الجاهلية فَيَضحكون من باب الفُكاحة والتَّندُّر ، حيث يَسْردون الأحداثَ الجاهلية، ويَرْوون القصصَ التي حَدَثَت معهم في تلك المرحلة ، هذه القصص المشتملة على حياتهم في ظِل الشِّرْكِ والأصنام ، والاضطرابِ النَّفْسي ، والقلقِ الوجودي ، ومرجعيةِ القَبيلة والعادات والتقاليد . 
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 15/ 79 ) : (( وفِيه جَواز الحديث بأخبار الجاهلية ، وغَيْرها من الأمم ، وجَواز الضَّحِك . والأفضل الاقتصار على التَّبسُّم كما فَعَله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في عامة أوقاته )) اهـ .
     وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي ( 8/ 115 ) : (( ومِن جُملة ما يَتحدَّثون به أنه قال واحد : ما نَفَعَ أحداً صَنَمُه مِثْل ما نفعني ، قالوا : كيف هذا ؟ ، قال : صَنَعْتُه مِنَ الْحَيْس ، فجاءَ القَحْطُ ، فكنتُ آكله يَوْماً فَيَوْماً )) اهـ .
     وهذا الكلامُ أشْبَه بالطُّرفة . فالصحابيُّ يَستهزئ بالصنم ، ويُورِد كلامَه في سِياق السُّخرية . فهو يَقول إِن الصَّنم قد نَفَعَه في الجاهلية . ومعلومٌ أن الأصنام لا تضرُّ ولا تَنفع . لذلك تعجَّب الصحابةُ من كلامه الذي جاء في سِياق السُّخرية والتشويق . وقد فسَّر الأمرَ بشكل طريف . فقد صَنَعَ في الجاهلية صَنماً مِنَ الْحَيْس، ( وهو الخَلْطُ وتَمْرٌ يُخْلَطُ بِسَمْنٍ وأقِطٍ فَيُعْجَنُ بِشِدَّة ) . فجاءَ القحطُ، وسَيطرت المجاعةُ على المجتمع، فما كانَ مِنه إلا أن أَكَلَه على دفعات. وهنا تَكمن المفارَقةُ، وتَبْرز الكوميديا السَّوْداء . فالمفروضُ _ في البيئة الجاهلية _ أن الصَّنم هو الإله المعبود ، المحاط بالقداسة والتعظيم والاحترام . أمَّا في هذه الحالة فصارَ مَخْزوناً إستراتيجياً من الطعام ، وتَمَّت الاستفادة منه في وقت الجوع ، حيث أُكِلَ بالتقسيط ، فلم يَقْدِرْ أن يُدافع عن نفْسه ، ولم يَقْدِر أن يُدافِع عن المؤمنين بِه . وصارَ الصَّنمُ المقدَّسُ طَعاماً ، يَسير في أمعاء الإنسان ، ثُمَّ يُطرَح في الخلاء .
     ومن القصص الجاهلية الطريفة التي كانَ الصحابةُ يتندرون بِها ، ويَضحكون بسببها ، قصة الصحابي راشد بن عبد ربِّه _ رضي الله عنه _ . ففي الطبقات الكبرى لابن سعد ( 1/ 308 ) : [ وكان راشد يَسْدُن صَنماً لبني سُلَيم، فرأى يَوماً ثعلبَيْن يَبُولان عَلَيْه فقال: أرَبٌّ يَبولُ الثُّعلبانُ برأسه ... لقد ذَلَّ مَن بَالَت عَلَيْهِ الثعالبُ . ثُمَّ شَدَّ عَلَيْه ، فَكَسَرَه ، ثُم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له : (( ما اسْمُك ؟ )) ، قال : غاوي بن عبد العُزَّى ، قال : أنتَ راشد بن عبد رَبِّه ، فأسلمَ ، وَحَسُنَ إسلامه ، وشهدَ الفتحَ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم] اهـ .
     كان راشد يَخدم صَنَماً لبني سُلَيم . والجديرُ بالذِّكر أن كُلَّ قبيلة عربية في الجاهلية ، كانَ لها صنم أو أصنام خاصة بها . وقد رأى راشد في أحد الأيام ثعلبين يَبولان على الصنم الذي يَخْدمه ويَعتني بِه ، والذي يُقدِّسه بنو سُلَيم . وقد تأثَّر بهذا المشهد المقزِّز . فهذا الرَّبُّ المزعوم صارَ مكاناً للبَوْل والقذارة، ولم يُدافِع عن نفْسه ، ولم يَقْدر على تطهير ذاته . وقد أدركَ راشد في تلك اللحظة أن هذا الصنم إلهٌ وهمي ، لا يَستحق العبادةَ ، فهو لم يُدافِع عن نفْسه ، وبالتالي ، لنَ يُدافِع عن المؤمنين بِه . ولا فائدة من إلهٍ عاجز عن حماية نفْسه وحمايةِ المؤمنين به . لذلك قام بكسره ، وجاءَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم من أجل اعتناق الإسلام . وقد قامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتغيير اسْمِه القبيح المرتبط بالغواية والانحراف وعبادة الأصنام ، ومَنَحَه اسماً جميلاً يُمثِّل معنى الرَّشادِ والهدايةِ وعُبوديةِ الله تعالى .
     ومنهجُ تذكُّر الأحداث الشخصية في الجاهلية ليس خاصاً بالصحابة _ رضي الله عنهم _ . فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم سَرَدَ بعضَ ذِكرياته الشخصية في الجاهلية . وهذه الذكرياتُ الماضية عِبارة عن تاريخ ، ولا بُد من دراسته وتحليله والاستفادة مِنه . فعن عليِّ بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ قال : سَمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( مَا هَمَمْتُ بِما كان أهل الجاهلية يَهُمُّون بِه إلا مَرَّتَيْن من الدَّهر ، كِلاهما يَعْصِمُني اللهُ تعالى مِنهما ، قلتُ لَيْلةً لفتىً كان معي من قُرَيْش في أعلى مكة في أغنام لأهلها تُرْعَى : أَبْصِرْ لي غنمي حتى أَسْمُرَ هذه الليلة بمكة ، كما تَسْمُر الفِتيان ، قال : نعم . فخرجتُ ، فلمَّا جِئتُ أدنى دار من دُور مكة سَمعتُ غِناءً ، وصوتَ دُفوف وزَمْر ، فقلت : ما هذا ؟، قالوا : فلان تزوَّجَ فلانة ، لِرَجُل مِن قُرَيْش تزوَّجَ امرأة ، فَلَهَوْتُ بذلك الغِناء والصوت حتى غلبتني عيني فنمتُ ، فما أيقظني إلا مَس الشمس ، فرجعتُ فَسَمعتُ مِثلَ ذلك ، فقِيل لي ما قِيل لي ، فلهوتُ بما سَمعتُ ، وغلبتني عيني فما أيقظني إلا مَس الشمس ، ثم رَجَعْتُ إلى صاحبي فقال : ما فَعلتَ ؟، فقلتُ : ما فعلتُ شيئاً )) . قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( فَوَاللهِ ما هَممتُ بعدها أبداً بِسُوء مِمَّا يَعمل أهلُ الجاهلية ، حتى أكرمَني اللهُ تعالى بِنُبُوَّته )) [رواه الحاكم في المستدرك   ( 4/ 273) برقم ( 7619) وصححه ، ووافقه الذهبي ] .
     وقال ابن حزم في الفِصَل في المِلَل ( 4/ 25) : (( فصحَّ أنه _ عليه السلام _ لم يَعْصِ قَط بكبيرة ولا بصغيرة ، لا قَبْل النُّبوة ولا بعدها ، ولا هَمَّ قَط بمعصية ، صَغُرَت أو كَبُرَت ، لا قَبْل النُّبوة ولا بعدها، إلا مَرَّتَيْن بالسَّمَر، حيث ربما كان بعض ما لم يكن نهي عنه بَعْد ، والْهَمُّ حينئذٍ بالسَّمر ليس هَمَّاً بِزنا، ولكنه بما يَحذو إليه طَبْع البَرِيَّة من استحسان مَنظر حَسن فقط )) اهـ .
     إِن اللهَ تعالى قد حَفِظَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل البِعثة وبعدها . وقد صانه سُبحانه من انحرافاتِ الجاهلية وآثامها . فاللهُ تعالى كانَ يُهَيِّئُ مُحمَّداً لحمل النُّبوةِ والرسالةِ الإلهية الخاتَمة ، وقيادةِ الإِنس والجن إلى توحيد الله تعالى . لذلك فقد عَصَمَه اللهُ تعالى من الكبائر والصغائر ، وحَفِظَه في الجاهلية والإسلام . وقد عُرِفَ في قَوْمه _ أثناء مرحلة الجاهلية _ بالصادق الأمين ، وأنه صاحب الْخُلُق الرفيع ، الذي يَمتاز بالقَوام الحسَن والوجهِ الجميل الذي لم يَسْجَدْ لصنم قَط . وقد جَمَعَ مُحمَّد في الجاهلية المجدَ مِن كُل أطرافه ، وتحلَّى بكل الصفات الحسَنة التي تَجْذب الآخرين . وهذه مؤشرات باهرة على عِناية الله تعالى بِه ، وتطهيره حتى يُصبح النبيَّ الخاتَم ، الذي سَيَحْمل الشريعةَ الإلهية الناسخة لكل الشرائع السابقة .
     وقد عَرَضَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْضاً من ذِكْرياته الشخصية في الجاهلية ، وكانَ بإِمكانه أن يُخفيَها ، ولا يَتحدث بها . ولكنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليس لَدَيْه ما يُخفيه أو يَخجل مِنه . فهو الشريف الطاهر ، والصادق والأمين . وتاريخُه في الجاهلية والإسلام ناصعُ البَياض ، لا توجد فيه أيَّةُ نقطة سَوْداء .
     وقد هَمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُشارك أهلَ الجاهلية ببعض أفعالهم، فهو ابْنُ بِيئته ومُجتمعه . وأفرادُ هذا المجتمع الجاهلي _ أولاً وأخيراً _ هُم أقاربه وعَشيرته . وقد تاقت نَفْسُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم         _ بِحُكْم الطبع الإنساني والطبيعة النَّفْسية_ إلى السَّهر والمسامَرة ( الحديث بالليل ) كما يَفْعل مَن هُم في مِثْل سِنِّه. ولا يخفَى أن الإنسان يتأثر بأبناء جِيله ، خصوصاً في مرحلة الصِّبا والفُتُوَّة والشباب . وقد اكتفى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالاستمتاع بالغِناء الصادر عن حفلة الزَّواج. ولا شَكَّ أنهُ غِناء بعيد عن الوقاحة والمجون. فالحفلةُ حفلةُ زواج، ولا بُد أن يَكون الغِناء يُجسِّد معاني الفرح، والترابط الاجتماعي ، وتكوينِ أُسرة جديدة . وقد عَصَمَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مِن كُل سُوء، وأبعدَ عنه أوساخَ الجاهلية. وقال ابن إسحاق في سِيرته ( 1/ 57 ): (( فَشَبَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَكْلَؤه اللهُ ، ويَحْفظه ، ويَحُوطُه من أقذار الجاهلية ومعايبها ، لِمَا يُريد به من كرامته ورسالته ... حتى بلغ أن كان رَجلاً أفضل قَوْمه مُروءة ، وأحسنهم خَلْقاً ، وأكرمهم مُخالَطة ، وأحسنهم جِواراً ، وأعظمهم خُلُقاً ، وأصدقهم حديثاً ، وأعظمهم أمانة ، وأبعدهم من الفحش ، والأخلاقِ التي تُدَنِّس الرِّجالَ ، تَنَزُّهاً وتَكَرُّماً ، حتى ما اسْمُه في قَوْمه إلا " الأمين "، لِمَا جَمَعَ اللهُ   _ عَزَّ وَجَلَّ _ فِيه من الأمور الصالحة )) اهـ .
     والجاهليةُ دائرةٌ مُغلَقة ، ونظامٌ محصور في الأوهامِ الذهنية والعاداتِ الاجتماعية البالية . فمصلحةُ الفرد مرتبطة بمصلحة القَبيلة في الخير والشر . وإذا أدركْنا المصلحةَ الفردية المرتبطة بالصُّوَر الاجتماعية ، أدركْنا كيفيةَ التحول النَّوْعي من انهيار الفرد إلى انهيار الجماعة الحاضنة للأحلام الفردية . وهذه المنظومةُ الواهيةُ هي الأساس الفكري لفوضى التشريع الجاهلي .
     وعن حُذَيْفة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تَكُونوا إِمَّعَة، تَقولون: إِنْ أحسنَ الناسُ أحْسَنَّا، وإِنْ ظَلموا ظَلَمْنا، ولكنْ وَطِّنوا أنفسَكم، إن أحسنَ الناسُ أن تُحسِنوا، وإن أساءوا فلا تَظلموا ))
[ رواه الترمذي في سُننه( 4/ 364)برقم (2007)، وقال: (( هذا حديث حسن غريب )) اهـ. وقال المنذري في الترغيب والترهيب ( 3/ 231): (( رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن )) اهـ ] .
     والإِمَّعةُ هو الشخص الذي ليس له رأي ، وإِنما يُقلِّد الآخرين بدافع الجهل أو الهوى أو العَصبية القَبلية . وهذا النمطُ كان منتشراً بكثرة في الجاهلية القائمة على تغييب العقل . وهذا النمطُ السَّلبي مرفوضٌ في الإسلام، لأن الإسلام أمرَ الناسَ بالتفكير ، واتخاذِ القرارات بناءً على اليقين لا الشَّك ، ورفضِ الأهواءِ والشُّبهاتِ . فينبغي توطينُ النَّفْس ( حَمْلها ) على اتِّباع الحق في كل الحالات . فالرِّجالُ يُعرَفون بالحق ، والحقُّ لا يُعرَف بالرِّجال . لذلك هَدم الإسلامُ المنطقَ الجاهلي القائم على الجهل والعصبية القَبلية ، والذي عبَّر عنه الشاعرُ بقَوْله :

وَهَلْ أنَا إلا مِنْ غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ            غَوَيْتُ وَإنْ تَرْشُدْ غَزيَّةُ أرْشُدِ