سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

01‏/09‏/2016

عقائد العرب في الجاهلية : مقدمة وتمهيد

عقائد العرب في الجاهلية 

( مقدمة وتمهيد )

تأليف : إبراهيم أبو عواد

..........................

   الحمدُ لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على النبي محمد وإخوته الأنبياء الكرام وآل كُلٍّ وصحب كُلٍّ .
     مِمَّا لا شك فيه أن الجاهلية كحالة عَقَدية تاريخية تستوجب دراسةً عميقة ، وذلك من أجل سبر غورها وتمحيصها وعرضها عاريةً أمام شمس المنهج العِلمي في البحث. فالجاهليةُ _ على الرغم من افتقارها إلى نظم سياسية واجتماعية وثقافية مُخطَّط لها _ تملك جَدلياتٍ وظواهر تحفر أساساتٍ لتعميق الوجود الإنساني في قلب البيئة المعادِية ( الصحراء ). والظاهرةُ الجاهلية هي امتداد لبُنية الخرافات والأساطير التي انتشرت بسبب الانقطاعِ عن الهداية الرَّبانية المتمثلة في الرسالات السماوية ، والغوصِ في العقائد الوثنية التي تحركها مصالح القبائل المتنازِعة من أجل السيطرة على الماء والكلأ والمقدَّسات. وكلُّ قبيلة كَوَّنت أنساباً بُغية تعميق وجودها واستمرار تتابعها، وافتخرت بها إلى درجة التعصب الأعمى .
     والكائنُ الجاهلي كان خاضعاً لسُلطة القبيلة بشكل صارم ، لاعتقاده بأنها الوحيدة القادرة على منحه امتداداً لوجوده ، ومعنىً لأنشطته الحياتية . وكان مُشركو الجزيرة العربية خاضعين للسُّلطة الوثنية، في حين أن أهلَ الكتاب ( اليهود والنصارى ) يَخضعون لسُلطتهم الدينية المشوَّشة نتيجة التحريف . وكلُّ سُلطة تُعبِّر عن اتجاهات الفرد ومشاعره وقِيَمه السلوكية . وهذا يَقودنا إلى أهمية السُّلطة في تقييمِ الوقائع الاجتماعية في بعض الأحيان ، وصُنعِها في كثير من الأحيان .
     والسؤالُ الذي يَطرح نَفْسَه هو : هل يصح إطلاق عبارة " المجتمع الجاهلي " ؟ . الجواب ليس بالسهولة التي قد نتصورها . فالمجتمعُ هو تركيبة متجانسة ذات مسار واحد تنطوي تحته المسارات المعبِّرة عن كَيْنونة الفرد وأحلامه . وبالتالي ، لا معنى لعِبارة " المجتمع الجاهلي " بسبب افتقاد الإنسان الجاهلي إلى البنية التحتية والفَوْقية في الجسد الثقافي الاجتماعي الواعي. وحِينَ تُذكَر عِبارة " المجتمع الجاهلي " في هذا الكتاب ، فيكون الأمرُ من باب المجاز والتَّوسع اللغوي .
     إِنَّ هذه الجماعات البدوية التي عاشت في الجزيرة العربية قبل مجيء الرِّسالة المحمَّدية_ ولا أقول قبل مجيء الإسلام ، فالإسلامُ جاءَ إلى كَوْكبنا مع أبينا آدم صلى الله عليه وسلم _ لم تكن منفصلة عن المسار التاريخي العام . بل هي امتدادٌ ذهني فكري للجاهليات الراسخة في أنحاء العالَم . وما الجاهليةُ اليهودية التَّوْراتية التي بَدَّلَتْ دِينَ موسى صلى الله عليه وسلم ، والجاهليةُ النصرانية الإنجيلية التي بَدَّلَتْ دِينَ المسيح صلى الله عليه وسلم ، إلا زخم أسطوري وثني ، شَكَّل مخزوناً مرئياً للجاهلية في أرض الجزيرة العربية .
     والتحليلُ الواعي لأنساق الجاهلية يَرمي إلى كشف طبيعة التفكير لدى الفرد الجاهلي ، وفكِّ شِيفرة البيئة العربية القاسية ( الصحراء ) . وهنا ، تتجلى أهميةُ التعامل مع السُّلوكيات الفكرية العربية ، فهي المادة الفلسفية البدائية ( الخام ) . وهذه المعطياتُ تحتاج _ من أجل تحليلها _ إلى هدوء وتروٍّ . ولا بُد من تأصيل البحث لَبنةً لبنة ، والسيطرةِ على كافة التفاصيل الفكرية ، وتوضيحِ الفلسفة العربية في الجاهلية بكل تقاطعاتها الدِّينية والثقافية والسِّياسية والاجتماعية . إذن، يجب التنقيبُ في الأساس الفكري للجاهلية، وتشريحُ الجذورِ العَقَديةِ والفروعِ الاجتماعية ، وإيجاد روابط منطقية بين هذين المجالَيْن . ولا يمكن إغفال الجانب النَّفسي في المنظومة الجاهلية ، فهذا الجانبُ يُبرِز المدلولاتِ الإيجابية والسَّلبية في علاقة الفرد بنفْسه وقبيلته ومحيطه الاجتماعي وتطلعاته الوجودية .
     والأيديولوجيةُ الجاهلية _ بوَصْفها نمطاً استحواذياً _ تُجَسِّد كلَّ أحلام التخلف والتبعية وتغييب النماذج الثورية . إننا أمام حالة هلامية عَقدية تعتمد على الوثن في تشكيل صور العلاقات الاجتماعية ، ومن هنا تَنبع خطورةُ توليد الأنماط الضالة . ولا بُد من دراسة الأبعاد الحقيقية للحالة الجاهلية بكل ملابساتها وحيثياتها المؤدلَجة وغير المؤدلَجة . وهذا يتطلب ترسيخَ الوعي والوعي المضاد، والإحاطةَ بكل الجوانب الإنسانية في تقاطعات الحياة . والجديرُ بالذِّكر أن غالبية الباحثين لم يُركِّزوا على إشكاليات أنسنة العلاقات البشرية داخل المحيط القمعي، واكتفوا بتوزيع نظراتهم على القشور دون الغوص في أعماق التشكيلات الإنسانية ، لذا جاءت دراساتهم مُشوَّشة وسطحية . وإننا ندعو كُلَّ الباحثين المتمكنين إلى سَبْر أغوار التجمع الجاهلي ، وعدم الوقوف عند الباب دون الدخول إلى هذا العالَم المعتم المتجسِّد في البيئة الوثنية .
     إِنَّ هذا الكتاب يُقدِّم دراسةً دِينية واجتماعية وفلسفية ، تحاول تحليلَ ظاهرة الجاهلية بكل جوانبها ، وكشفَ التكوينات الفكرية في الأنساق المتوازِية والمتقاطعة . فإِن وَجَدْتَ في كلامي خَيْراً فمن الله وَحْدَه ، وإن وَجَدْتَ غيرَ ذلك فمن نفْسي والشيطان .
تمهيد
     إِن الجاهلية لَيْستْ مرحلةً زمنية فقط ، بل هي أيضاً منظومة فكرية وتاريخية متكاملة ، ولها أبعاد متعددة . لذلك يَنبغي تحليلُها بعمق ، وتعليلُ الأحكام المتعلِّقة بها ، والابتعادُ عن الأحكام الجاهزة والانطباعاتِ المعلَّبة .
     وقد كانَ الصحابة _ رضي الله عنهم _ حَريصين على ذِكْر أيام الجاهلية ، وتحليلها بأسلوب منطقي بعيداً عن العواطف الفَوْضوية ، وذلك من أجل الاستفادة من هذا التاريخ الماضَوِي الذي حَمَلَ عقائدَ البشر وأحلامهم وذكرياتهم .
     وفي كَثيرٍ من الأحيان ، كان الصحابةُ يَتذكرون أحداثَ الجاهلية ، ويتندَّرون بها ، ويأخذون بالضَّحك . ولم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعترض على ذلك . فالإنسانُ لا يمكن أن يَشْطب تاريخَه ، حتى لو لم يكن راضياً عنه. والجاهليةُ_كأيِّ نسقٍ تاريخي_ هي خليط من الحق والباطل ، والعدالةِ والظلم ، والحب والكراهية ، والآمالِ العريضة ، والأحلامِ الضائعة ... إلخ .
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 1810 ) : أن جابر بن سَمُرة _ رضي الله عنه _ قال : (( وكانوا يَتحدَّثون ، فَيَأخذون في أمر الجاهلية ، فَيَضحكون ، ويَتبسَّم صلى الله عليه وسلم )) .
     لقد كان الصحابةُ _ رضي الله عنهم _ يَذْكُرون أيامَ الجاهلية فَيَضحكون من باب الفُكاحة والتَّندُّر ، حيث يَسْردون الأحداثَ الجاهلية، ويَرْوون القصصَ التي حَدَثَت معهم في تلك المرحلة ، هذه القصص المشتملة على حياتهم في ظِل الشِّرْكِ والأصنام ، والاضطرابِ النَّفْسي ، والقلقِ الوجودي ، ومرجعيةِ القَبيلة والعادات والتقاليد . 
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 15/ 79 ) : (( وفِيه جَواز الحديث بأخبار الجاهلية ، وغَيْرها من الأمم ، وجَواز الضَّحِك . والأفضل الاقتصار على التَّبسُّم كما فَعَله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في عامة أوقاته )) اهـ .
     وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي ( 8/ 115 ) : (( ومِن جُملة ما يَتحدَّثون به أنه قال واحد : ما نَفَعَ أحداً صَنَمُه مِثْل ما نفعني ، قالوا : كيف هذا ؟ ، قال : صَنَعْتُه مِنَ الْحَيْس ، فجاءَ القَحْطُ ، فكنتُ آكله يَوْماً فَيَوْماً )) اهـ .
     وهذا الكلامُ أشْبَه بالطُّرفة . فالصحابيُّ يَستهزئ بالصنم ، ويُورِد كلامَه في سِياق السُّخرية . فهو يَقول إِن الصَّنم قد نَفَعَه في الجاهلية . ومعلومٌ أن الأصنام لا تضرُّ ولا تَنفع . لذلك تعجَّب الصحابةُ من كلامه الذي جاء في سِياق السُّخرية والتشويق . وقد فسَّر الأمرَ بشكل طريف . فقد صَنَعَ في الجاهلية صَنماً مِنَ الْحَيْس، ( وهو الخَلْطُ وتَمْرٌ يُخْلَطُ بِسَمْنٍ وأقِطٍ فَيُعْجَنُ بِشِدَّة ) . فجاءَ القحطُ، وسَيطرت المجاعةُ على المجتمع، فما كانَ مِنه إلا أن أَكَلَه على دفعات. وهنا تَكمن المفارَقةُ، وتَبْرز الكوميديا السَّوْداء . فالمفروضُ _ في البيئة الجاهلية _ أن الصَّنم هو الإله المعبود ، المحاط بالقداسة والتعظيم والاحترام . أمَّا في هذه الحالة فصارَ مَخْزوناً إستراتيجياً من الطعام ، وتَمَّت الاستفادة منه في وقت الجوع ، حيث أُكِلَ بالتقسيط ، فلم يَقْدِرْ أن يُدافع عن نفْسه ، ولم يَقْدِر أن يُدافِع عن المؤمنين بِه . وصارَ الصَّنمُ المقدَّسُ طَعاماً ، يَسير في أمعاء الإنسان ، ثُمَّ يُطرَح في الخلاء .
     ومن القصص الجاهلية الطريفة التي كانَ الصحابةُ يتندرون بِها ، ويَضحكون بسببها ، قصة الصحابي راشد بن عبد ربِّه _ رضي الله عنه _ . ففي الطبقات الكبرى لابن سعد ( 1/ 308 ) : [ وكان راشد يَسْدُن صَنماً لبني سُلَيم، فرأى يَوماً ثعلبَيْن يَبُولان عَلَيْه فقال: أرَبٌّ يَبولُ الثُّعلبانُ برأسه ... لقد ذَلَّ مَن بَالَت عَلَيْهِ الثعالبُ . ثُمَّ شَدَّ عَلَيْه ، فَكَسَرَه ، ثُم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له : (( ما اسْمُك ؟ )) ، قال : غاوي بن عبد العُزَّى ، قال : أنتَ راشد بن عبد رَبِّه ، فأسلمَ ، وَحَسُنَ إسلامه ، وشهدَ الفتحَ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم] اهـ .
     كان راشد يَخدم صَنَماً لبني سُلَيم . والجديرُ بالذِّكر أن كُلَّ قبيلة عربية في الجاهلية ، كانَ لها صنم أو أصنام خاصة بها . وقد رأى راشد في أحد الأيام ثعلبين يَبولان على الصنم الذي يَخْدمه ويَعتني بِه ، والذي يُقدِّسه بنو سُلَيم . وقد تأثَّر بهذا المشهد المقزِّز . فهذا الرَّبُّ المزعوم صارَ مكاناً للبَوْل والقذارة، ولم يُدافِع عن نفْسه ، ولم يَقْدر على تطهير ذاته . وقد أدركَ راشد في تلك اللحظة أن هذا الصنم إلهٌ وهمي ، لا يَستحق العبادةَ ، فهو لم يُدافِع عن نفْسه ، وبالتالي ، لنَ يُدافِع عن المؤمنين بِه . ولا فائدة من إلهٍ عاجز عن حماية نفْسه وحمايةِ المؤمنين به . لذلك قام بكسره ، وجاءَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم من أجل اعتناق الإسلام . وقد قامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتغيير اسْمِه القبيح المرتبط بالغواية والانحراف وعبادة الأصنام ، ومَنَحَه اسماً جميلاً يُمثِّل معنى الرَّشادِ والهدايةِ وعُبوديةِ الله تعالى .
     ومنهجُ تذكُّر الأحداث الشخصية في الجاهلية ليس خاصاً بالصحابة _ رضي الله عنهم _ . فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم سَرَدَ بعضَ ذِكرياته الشخصية في الجاهلية . وهذه الذكرياتُ الماضية عِبارة عن تاريخ ، ولا بُد من دراسته وتحليله والاستفادة مِنه . فعن عليِّ بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ قال : سَمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( مَا هَمَمْتُ بِما كان أهل الجاهلية يَهُمُّون بِه إلا مَرَّتَيْن من الدَّهر ، كِلاهما يَعْصِمُني اللهُ تعالى مِنهما ، قلتُ لَيْلةً لفتىً كان معي من قُرَيْش في أعلى مكة في أغنام لأهلها تُرْعَى : أَبْصِرْ لي غنمي حتى أَسْمُرَ هذه الليلة بمكة ، كما تَسْمُر الفِتيان ، قال : نعم . فخرجتُ ، فلمَّا جِئتُ أدنى دار من دُور مكة سَمعتُ غِناءً ، وصوتَ دُفوف وزَمْر ، فقلت : ما هذا ؟، قالوا : فلان تزوَّجَ فلانة ، لِرَجُل مِن قُرَيْش تزوَّجَ امرأة ، فَلَهَوْتُ بذلك الغِناء والصوت حتى غلبتني عيني فنمتُ ، فما أيقظني إلا مَس الشمس ، فرجعتُ فَسَمعتُ مِثلَ ذلك ، فقِيل لي ما قِيل لي ، فلهوتُ بما سَمعتُ ، وغلبتني عيني فما أيقظني إلا مَس الشمس ، ثم رَجَعْتُ إلى صاحبي فقال : ما فَعلتَ ؟، فقلتُ : ما فعلتُ شيئاً )) . قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( فَوَاللهِ ما هَممتُ بعدها أبداً بِسُوء مِمَّا يَعمل أهلُ الجاهلية ، حتى أكرمَني اللهُ تعالى بِنُبُوَّته )) [رواه الحاكم في المستدرك   ( 4/ 273) برقم ( 7619) وصححه ، ووافقه الذهبي ] .
     وقال ابن حزم في الفِصَل في المِلَل ( 4/ 25) : (( فصحَّ أنه _ عليه السلام _ لم يَعْصِ قَط بكبيرة ولا بصغيرة ، لا قَبْل النُّبوة ولا بعدها ، ولا هَمَّ قَط بمعصية ، صَغُرَت أو كَبُرَت ، لا قَبْل النُّبوة ولا بعدها، إلا مَرَّتَيْن بالسَّمَر، حيث ربما كان بعض ما لم يكن نهي عنه بَعْد ، والْهَمُّ حينئذٍ بالسَّمر ليس هَمَّاً بِزنا، ولكنه بما يَحذو إليه طَبْع البَرِيَّة من استحسان مَنظر حَسن فقط )) اهـ .
     إِن اللهَ تعالى قد حَفِظَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل البِعثة وبعدها . وقد صانه سُبحانه من انحرافاتِ الجاهلية وآثامها . فاللهُ تعالى كانَ يُهَيِّئُ مُحمَّداً لحمل النُّبوةِ والرسالةِ الإلهية الخاتَمة ، وقيادةِ الإِنس والجن إلى توحيد الله تعالى . لذلك فقد عَصَمَه اللهُ تعالى من الكبائر والصغائر ، وحَفِظَه في الجاهلية والإسلام . وقد عُرِفَ في قَوْمه _ أثناء مرحلة الجاهلية _ بالصادق الأمين ، وأنه صاحب الْخُلُق الرفيع ، الذي يَمتاز بالقَوام الحسَن والوجهِ الجميل الذي لم يَسْجَدْ لصنم قَط . وقد جَمَعَ مُحمَّد في الجاهلية المجدَ مِن كُل أطرافه ، وتحلَّى بكل الصفات الحسَنة التي تَجْذب الآخرين . وهذه مؤشرات باهرة على عِناية الله تعالى بِه ، وتطهيره حتى يُصبح النبيَّ الخاتَم ، الذي سَيَحْمل الشريعةَ الإلهية الناسخة لكل الشرائع السابقة .
     وقد عَرَضَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْضاً من ذِكْرياته الشخصية في الجاهلية ، وكانَ بإِمكانه أن يُخفيَها ، ولا يَتحدث بها . ولكنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليس لَدَيْه ما يُخفيه أو يَخجل مِنه . فهو الشريف الطاهر ، والصادق والأمين . وتاريخُه في الجاهلية والإسلام ناصعُ البَياض ، لا توجد فيه أيَّةُ نقطة سَوْداء .
     وقد هَمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُشارك أهلَ الجاهلية ببعض أفعالهم، فهو ابْنُ بِيئته ومُجتمعه . وأفرادُ هذا المجتمع الجاهلي _ أولاً وأخيراً _ هُم أقاربه وعَشيرته . وقد تاقت نَفْسُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم         _ بِحُكْم الطبع الإنساني والطبيعة النَّفْسية_ إلى السَّهر والمسامَرة ( الحديث بالليل ) كما يَفْعل مَن هُم في مِثْل سِنِّه. ولا يخفَى أن الإنسان يتأثر بأبناء جِيله ، خصوصاً في مرحلة الصِّبا والفُتُوَّة والشباب . وقد اكتفى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالاستمتاع بالغِناء الصادر عن حفلة الزَّواج. ولا شَكَّ أنهُ غِناء بعيد عن الوقاحة والمجون. فالحفلةُ حفلةُ زواج، ولا بُد أن يَكون الغِناء يُجسِّد معاني الفرح، والترابط الاجتماعي ، وتكوينِ أُسرة جديدة . وقد عَصَمَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مِن كُل سُوء، وأبعدَ عنه أوساخَ الجاهلية. وقال ابن إسحاق في سِيرته ( 1/ 57 ): (( فَشَبَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَكْلَؤه اللهُ ، ويَحْفظه ، ويَحُوطُه من أقذار الجاهلية ومعايبها ، لِمَا يُريد به من كرامته ورسالته ... حتى بلغ أن كان رَجلاً أفضل قَوْمه مُروءة ، وأحسنهم خَلْقاً ، وأكرمهم مُخالَطة ، وأحسنهم جِواراً ، وأعظمهم خُلُقاً ، وأصدقهم حديثاً ، وأعظمهم أمانة ، وأبعدهم من الفحش ، والأخلاقِ التي تُدَنِّس الرِّجالَ ، تَنَزُّهاً وتَكَرُّماً ، حتى ما اسْمُه في قَوْمه إلا " الأمين "، لِمَا جَمَعَ اللهُ   _ عَزَّ وَجَلَّ _ فِيه من الأمور الصالحة )) اهـ .
     والجاهليةُ دائرةٌ مُغلَقة ، ونظامٌ محصور في الأوهامِ الذهنية والعاداتِ الاجتماعية البالية . فمصلحةُ الفرد مرتبطة بمصلحة القَبيلة في الخير والشر . وإذا أدركْنا المصلحةَ الفردية المرتبطة بالصُّوَر الاجتماعية ، أدركْنا كيفيةَ التحول النَّوْعي من انهيار الفرد إلى انهيار الجماعة الحاضنة للأحلام الفردية . وهذه المنظومةُ الواهيةُ هي الأساس الفكري لفوضى التشريع الجاهلي .
     وعن حُذَيْفة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تَكُونوا إِمَّعَة، تَقولون: إِنْ أحسنَ الناسُ أحْسَنَّا، وإِنْ ظَلموا ظَلَمْنا، ولكنْ وَطِّنوا أنفسَكم، إن أحسنَ الناسُ أن تُحسِنوا، وإن أساءوا فلا تَظلموا ))
[ رواه الترمذي في سُننه( 4/ 364)برقم (2007)، وقال: (( هذا حديث حسن غريب )) اهـ. وقال المنذري في الترغيب والترهيب ( 3/ 231): (( رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن )) اهـ ] .
     والإِمَّعةُ هو الشخص الذي ليس له رأي ، وإِنما يُقلِّد الآخرين بدافع الجهل أو الهوى أو العَصبية القَبلية . وهذا النمطُ كان منتشراً بكثرة في الجاهلية القائمة على تغييب العقل . وهذا النمطُ السَّلبي مرفوضٌ في الإسلام، لأن الإسلام أمرَ الناسَ بالتفكير ، واتخاذِ القرارات بناءً على اليقين لا الشَّك ، ورفضِ الأهواءِ والشُّبهاتِ . فينبغي توطينُ النَّفْس ( حَمْلها ) على اتِّباع الحق في كل الحالات . فالرِّجالُ يُعرَفون بالحق ، والحقُّ لا يُعرَف بالرِّجال . لذلك هَدم الإسلامُ المنطقَ الجاهلي القائم على الجهل والعصبية القَبلية ، والذي عبَّر عنه الشاعرُ بقَوْله :

وَهَلْ أنَا إلا مِنْ غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ            غَوَيْتُ وَإنْ تَرْشُدْ غَزيَّةُ أرْشُدِ