أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الرابع )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كان يعقوب بنيامين اليهودي يُكَنِّس الرصيفَ الذي أمام مخبزه، فقد تراكم عليه كثيرٌ من الأغبرة والركام بفعل الحرب الماضية . وعندما انتهى من عملية التكنيس دخل إلى المخبز الذي كان مُرَتَّباً ونظيفاً . وقد كان هذا المحل في أحد الأزقة الضيقة مما جعله يَسلم من القصف . وعلى الرغم من شح المواد الغذائية في هذا الوقت بسبب خروج البلاد من الحرب ، إلا أن يعقوب كان على علاقة بأحد المسؤولين الحكوميين الذين كان يُهَرِّب له بعض أكياس الطحين مقابل سعر مضاعَف .
دخلت امرأةٌ في العقد الثالث من العمر ترتدي زياً غريباً . إنه زي الراهبات ، وهذه المرأة هي الآنسة جودي ، وهي راهبةٌ تقطن في الدَّير المجاور . مَن يراها يظنها قادمةً من أوروبا بسبب زرقة عينيها وقسمات وجهها الذي يُشبه وجوه السَّائحات الأوروبيات اللواتي يزرن هذا المكان . وبعض الناس يقولون إنها من أصول يونانية ، لكنني لستُ أعلم من أين حصلوا على هذه المعلومة . كانت تُغَطِّي شَعْرها بشكل كامل ، وترتدي ثياباً نظيفة للغاية وساترة لجسمها . أما الجوارب فكانت بيضاء . وحذاؤها مُلَمَّعٌ بشكل جيد ، ولم يتأثر بالركام المتناثر في الأرجاء ، وهذا يدل على أنها كانت تمشي بحذر . كان على صدرها صليبٌ ذهبي ثقيل وكبير الحجم ، وكان حزنها اكتئابَ قطار بخاري .
تقدمت الآنسةُ جودي بخطى متثاقلة ، وقالت مخاطبةً الخبَّاز يعقوب :
_ لو سمحتَ أريد خبزاً بهذه النقود .
ومدت يدها لتناوِل النقودَ للخبَّاز ، مما جعل الخبَّاز يمد يده ليأخذ تلك النقود ، وقد قصد أن يشد على يدها بصورة تحمل كل معاني الشهوة والوقاحة في آن معاً . ناولَتْه النقودَ ، وسحبتْ يدها مباشرةً كأن ناراً قد مستها على حين غرة .
جحظت عينا يعقوب كأنهما قفزتا من محجرَيْهما ، وقال موغلاً في وقاحته :
_ ما أجمل صدركِ لولا الصليب!، ولكنْ يا خسارة إنه بعيد عن أيدي الرِّجال.
ارتبكت الراهبةُ ، وبدأ جبينها يتفصد عَرَ قاً ، والتهمها خجلٌ مُحرِق ، لكنها استجمعت أمرها ، وقالت بلهجة فيها حدة :
_ أعطني الخبزَ لئلا ألم عليك الناسَ يا عديم الشَّرف .
أجاب الخبَّاز ساخراً :
_ الناس ! ، أين الناس ؟ . لقد ماتوا في الحرب ولم يبق إلا أنا وأنتِ .
وحينما سمعت الراهبةُ هذا الكلامَ استشاطت غضباً، وهمَّت بالخروج من المخبز لكن الخبَّاز استوقفها قائلاً :
_ لا تغضبي مني ، لقد كنتُ أمزح معكِ ، وها هو الخبز على أية حال .
وما إن خرجتْ حتى انهمك الخبَّاز في ضحك من نوع خاص ، ضحك يُراد منه السخرية من الآخرين، وإثبات التفوق على الناس، وقال في نفسه المتكورة على غرورها وبعد أن بلع ريقه :
_ سوف نصلبكم كما صَلَبْنا إلهكم على الخشبة ! .
أخذت الخبزَ وانطلقت مُسرعةً . كانت على أُهبة البكاء ، ولولا وجودها في الشَّارع لأجهشت بالبكاء ، لكنها تمالكت نفسها حتى وصلت الدَّير ، وركضت إلى غرفتها ، وأغلقت الباب ، ثم انفجرت باكيةً .
كانت تبكي بحرقة تماثل حرقة زهرةٍ مسحوقة تحت أقدام الجنود العائدين من الهزيمة . في جبينها تتكاثر النباتات السامة وعلى يديها تبكي الحيطان التي يخرج منها جرذان الحزن والضجر . نظرت في المرآة . تحسست جسدَها حَجَراً حجراً . أنوثتها تذبل تدريجياً حتى صارت أعضاؤها كالحجارة التي لا يتفجر منها الماءُ ولا الأحلامُ . أخرجت من جيبها منديلاً ومسحت دموعها . لاحظت بقايا الكحل وقد هبطت على منديلها .
_ لماذا أضعُ الكحلَ ولمن أضعه ؟ .
سألتْ نفسها هذا السؤال وألقته في قاع حلمها اليابس .
وضعتْ يدها على بطنها وتمنت لو أنها تصير أُماً لأطفال كثيرين يقفزون حولها ويتسلقون أكتافها واحداً تلو الآخر ، وتسمع منهم لفظة ماما . إنها أمنية مستحيلة. ولكنْ لماذا هي مستحيلة ؟. لقد هربت من الإجابة على هذا السؤال والتحفت الصمتَ الرهيب .
قالت الراهبة كاترين لأختها الراهبة لارا :
_ كأنني رأيتُ جودي وهي تبكي قبل أن تدخل غرفتها .
_ هل أنتِ متأكدة ؟ .
_ أنا شبه متأكدة .
_ فلنقم إليها ونعرف ما القصة .
ذهبت الراهبتان إلى تلك الغرفة التي تحتل جسد جودي وتحاصره من كل الجهات . قرعت إحداهن البابَ ففُتح البابُ . وظهرت جودي بشكل يحاول أن يتقمص الصلابة والتماسك ، لكنَّ عينيها كانتا تلمعان بشدة بسبب الدمع الذي تَجَمَّع فيهما ، مما جعل أمرها مكشوفاً أمام هاتين الراهبتين .
قال لارا وعلاماتُ التألم بادية على جوانحها :
_ لماذا كنتِ تبكين ؟ .
_ الأمر ليس مهماً . إنها مسألة شخصية وقد انتهت .
وأردفت قائلة :
_ وإن كنتما تحبانني فانسيا الموضوع لأنه تافه ، وأنا أريد أن أنساه .
حاولت جودي أن تُبَسِّط الأمر ظاهرياً لئلا يتسبب ذلك بمزيد من الألم والخوف لدى تلك الراهبتين. وبالفعل فقد تناسى الجميع هذا الأمر نزولاً عند رغبة جودي . وتَقَمَّصت جودي النسيانَ مع أنها كانت تحترق في داخلها ، لأنها لم تتعود على تلك الألفاظ الجنسية التي تَلَفَّظ بها ذلك الخبَّاز الوقح . هكذا كانت تُسَمِّيه جودي في قرارة نفسها .
قالت كاترين وهي تحاول أن تنقل الموضوع من جهة إلى أخرى :
_ هل تسمحين لنا أن ندخل غرفتك لنلعب الشطرنج ؟ .
ردت جودي وقد تهلَّلت أساريرُها :
_ بكل سرور .
بصراحة لم تكن كاترين لاعبة جيدة في الشطرنج ، لكنها حاولت إحداث جو من البهجة على هذا المكان الكئيب الموغل في الأحزان المتجددة والمتوالدة كالفئران التي تظهر أحياناً في سراديب هذا الدَّير المظلمة، وأيضاً هي تعلم مقدار حب جودي للشطرنج وإتقانها لهذه اللعبة .
دخلت الراهبتان وعليهما مسحةُ بهجة منقوعة في سوائل الحزن الغامض . ذهبت كاترين إلى المرآة ، ووضعت قليلاً من أحمر الشفاه بصورة حمقاء فوضوية ، وقالت لرفيقتيها ساخرة :
_ انظرا كيف أصبحتُ نجمة سينمائية .
ضحكت جودي ولارا ضحكاً متواصلاً نابعاً من قلبين جريحين في هذا المدى الرَّصاصي . ووضعت جودي يدها اليمنى على فمها لتكبح هذا الضحك الذي لم تضحك مثله منذ مدة بعيدة . أما لارا فلم تستطع أن تتوقف عن الضحك ، لكنها زرعت في خضم ضحكتها المدوية سؤالاً مصبوغاً بالضحك ، حيث قالت مخاطبةً جودي :
_ من أين جئتِ بأحمر الشفاه ؟! .
وتدخلت حينئذ كاترين ، وألقت سؤالها الشخصي الذي بدا وكأنه يُعَزِّز سؤالَ رفيقتها :
_ ومن أين جئتِ بعلبة المكياج هذه ؟! .
كان هذان السؤالان البريئان يُلَخِّصان حجم الألم الذي تعيشه هؤلاء النسوة . إنهن غارقات في علبة المكياج تلك والتي تَختصر تاريخاً حاشداً من الأنوثة المقموعة بخنجر العزلة المتكور على ذاته . إنهما سؤالان من نوع خاص ، نوع ينقلكَ من أناشيد الرعاة المصادَرة إلى أنوثة السنبلة التي لا تعرف أنها سنبلة تحتاج إلى يد الريح الدافئة من أجل أن يربت الشتاءُ على أكتاف الحزن القادم من شقوق الجدران المتكاثرة مثل الرايات البيضاء للجيوش المهزومة .
قالت جودي وقد قطعت مسلسل عنفوان ضحكها :
_ لقد طلبتُ من أختي التي تدرس في الجامعة أن تُحضِر لي هذه العلبة من العاصمة .
قالت لارا مندهشة :
_ وكيف أدخلتِها إلى هنا دون أن تراك تيريز وعايدة ؟! .
_ لقد وضعتُها في كيس أسود مع بعض الحاجيات .
_ يا لكِ من ماكرة ! .
وعادت الراهباتُ إلى الضحك مرةً أخرى . إن الضحك ينبعث من كل أعضائهن ، ويكسر الأقنعةَ الرِّجالية التي ترتديها هؤلاء النسوة المتنكرات لأنوثتهن. هؤلاء النسوة الصاعدات من ذكريات القش في الإسطبلات المهجورة كما الميناء الذي يعيش فيه الناسُ ويموتون فيه . على هامش الذكريات المنسية يعيشون ، ويتيهون ، ويقمعون عواطفهم ، ويموتون . هكذا بكل بساطة يحيون ويميتون ، لكن حياتهم إحدى أشكال الموت . لا أحد يذكرهم سوى الغبار على المكتب الشاهد على انتحار الكاتب الذي جلس عليه في الماضي المستقبلي .
أما تيريز وعايدة فهما راهبتان كبيرتان في السن تجاوزتا الخمسين بقليل . إن وجهيهما مملكة التجاعيد القاسية . أعضاؤهما يابسةٌ كالخوخ الساقط على التراب ، والذي لم يجد أحداً يقطفه . إنهما قتيلتان ما زالتا تمشيان لأنهما لم تجدا حفار قبور محترف يدفن الموتى الذين يسيرون بيننا ، ويسلبون منا أحلام الفراشات الضوئية المهاجرة إلى أظافر التراب . في بعض الأحيان يحتاج البشر إلى حفار قبور موهوب لكي يدركوا مذاق الحياة القادمة من شقوق سور المقبرة المنخفض .
ويمكن أن نقول إن الدَّير كان فيه تياران ، تيار يمثل الحرس القديم مكوَّن من تيريز وعايدة ، وتيار يمثل الحرس الجديد مكوَّن من جودي وكاترين ولارا . إنه صراع أجيال شرس يتدفق في كل أنظمة الحزن التي تعشعش في زوايا الوجوه المتآكلة كالضوء المهرول نحو الانطفاء .
جهَّزت إحداهن رقعة الشطرنج واضعةً إياها على السرير . وتمركزت جودي ولارا بشكل متقابِل ، حيث جلستا على الأرض بينما كانت الرقعة على السرير ، وراحتا تلعبان بكل شراهة . أما كاترين صاحبة الفكرة فراحت تذرع الغرفة عرضاً وطولاً. وأحياناً تُقَلِّب الأشياء التي تجدها هنا أو هناك . استقرت أمام مكتب جودي الخشبي . كان يعلوه رف طويل عليه كتب عديدة ، كتب بالعربية والإنجليزية والفرنسية واليونانية . بدأت تتناول كتاباً إثر كتاب ، وتتصفحه بشكل سريع ، فهي تجيد هذه اللغات الأربع شأنها شأن كل الراهبات في هذا الدَّير . وبينما هي منهمكة في التصفح وقع في يدها كتابٌ بالعربية من نوع خاص . صعقها عنوانُه بشدة . كان العنوان " رسائل الإمام الشهيد حسن البنا " . ارتبكت أيما ارتباك ، وراحت تُقَلِّب صفحاته بهدوء كأنها تحاول أن تمتص الحِبر المزروع في الورق ، وتستنشق الكلام كلمةً كلمة . كانت زميلتاها مشغولتين باللعب فلم تلاحظا دهشةَ كاترين وانزعاجها من الأمر . إنه الهدوء المخيف يتفشى في ذرات الأكسجين التي تسيطر على الأرجاء . وفجأة صاحت جودي ناسفةً كل هذا السكون المرعِب :
_ لقد فزتُ .. لقد فزتُ .
وأردفت قائلة :
_ تعالي يا كاترين لتشاهدي هزيمة لارا .
لم تجب كاترين لأنها عائشة في عالَم آخر بعيد عن هذه الحجرة ، وغارقة في قراءة ذلك الكتاب الذي صعقها عنوانُه . لاحظت جودي ولارا ذهول كاترين فقالتا بصوت واحد كأنهما قد اتفقتا على صيغة الكلام :
_ ماذا هناك يا كاترين ؟ .
قالت كاترين وقد تغير لونُ وجهها الذي يلهث في مدارات الخيبة :
_ مِن أين لكِ هذا الكتاب ؟ .
ردت جودي وهي مقتنعة أن الأمر لا يستحق كل هذا الاستغراب :
_ أي كتاب تقصدين ؟ .
قالت كاترين وهي تمط الكلام مطاً يدل على الاستهزاء والدهشة في آن معاً :
_ رسائل الإمام الشهيد حسن البنا .
وما إن سمعت جودي هذا الكلام حتى بدا عليها الارتباكُ ، فبلعت ريقها في محاولة منها لامتصاص هذا الارتباك الطفيف الذي طرأ عليها ، وقالت :
_ بصراحة ، لقد أهداه إلي شاب مُسْلِم اسمه زياد خضر ، وقد كتب اسمه في أعلى الصفحة الأولى من الكتاب .
وهنا تدخلت لارا مستنكرةً هذا الكلام :
_ ومنذ متى تتلقين هدايا من شاب ومُسْلِم أيضاً ؟! .
_ لقد ألح عليَّ أن آخذه ، و...
وهنا سكتت جودي لتزيد حدة التشويق الذي تُبعثره في الأرجاء وتنثره بلا رحمة على رأسَيْ زميلتيها ، لكن الفضول القاتِل انسكب دفعة واحدة في عيون كاترين ، وقالت واللهفة تحتلها :
_ وماذا أيضاً ؟ أكملي بسرعة ! .
بلعت جودي ريقها للمرة الثانية ، وقالت وقد تطاول عنقُها بصورة واضحة ومقصودة :
_ لقد طلب مني موعداً على الشَّاطئ لكنني رفضتُ .
وساد الحجرةَ صمتٌ مرعِب ، صمت يتداخل في أجزاء هذه الحيطان المتكاثرة بلا هوادة . شعرت جودي بعد هذا الكلام أن جبلاً كان على كتفيها لكنها ألقَتْه على أكتاف الآخرين . كل العيون المتسمرة في ذلك المكان كانت تلمع. كأن لمعانها قطعان غزلان تعدو نحو السكاكين والمنحدرات الوعرة والنسيان الحاسم .
قالت كاترين وقد تكومت في جبينها غاباتٌ من الغيرة والدهشة والحقد :
_ لا بد أنك تمزحين ، مؤكَّد أنك تمزحين .
وأقحمت لارا نفسها في الحوار قائلة :
_ نعم ، إنك تمزحين .
نفشت جودي ريشها فخورةً بما تفعل ، وقالت :
_ لا أطلب منكما أن تصدقاني ، لأن الموضوع كان سراً أطلعتكما عليه لكونكما صديقتاي . وعلى أية حال لقد رفضتُ ذلك الموعد ، وانتهى الأمر .
كان الجميع بحاجة إلى نسيان هذا الكلام لأنه مرعِب من جهة نظر هؤلاء الراهبات. كلهن يَعْلمن أنهن سائرات في درب مضاد للعلاقات مع الرجال أو الحب أو الزواج . هذه مفردات محذوفة من قاموسهن الذي يخترعه الألم الطالع من زوايا سراديب الدَّير المعتمة ، من منعطفات مفاصلهن المختبئة داخل جلود رقيقة ، ودماءٍ ليست زرقاء بأية حال من الأحوال. لقد اقتربت الجدرانُ شيئاً فشيئاً من هذه العتمة الصاعقة . كان هناك في الجهة المقابِلة لعيونهن الخرساء نافذة تطل على حديقة يبدو أنها تعيش خريفها مبكراً بعد الشيء مع أننا في فصل الصيف . يخترق الحجرةَ ضوءٌ رصاصي قادم من أشجار الصنوبر الحبلى بالدماء بلا أجنة . إنها تلد سكوتاً رهيباً في كنف كل هذا الحرمان الممتد كالخناجر القديمة التي تُشَرِّح جسدَ شاعرٍ مجهول قبيل اغتيال قصائده .
قالت كاترين مخاطبةً لارا :
_ لنترك جودي لوحدها ، ونذهب للقيام ببعض الأعمال .
_ كما تشائين .
وانطلقتا مثل جرادتين مستحمتين بالسموم المتوحشة . خرجتا من الحجرة دون أن تنبس جودي ببنت شفة . كان الوجوم يتسلق أقدامهما وهما تسرعان نحو الباب الذي ظهر أضيق مما هو عليه في الواقع . كل شيء يضيق في هذا المكان المنقوع في قارورة الحزن المفترِس .
نظرت جودي في الأشياء التي تحيط بها . حدَّقتْ في أحجار الشطرنج ، وغرقت في ثنائية الأبيض والأسود . داهمها خاطرٌ سريع لماذا لا توجد حجارة شطرنج إلا بهذين اللونين ؟ . لم تعرف الإجابة . استفزها عدمُ تمكنها من الإجابة ، فغضبتْ وألقت حجارة الشطرنج على الأرض . ثم ذهبتْ إلى الباب وأغلقَتْه بالمفتاح ، وتوجَّهت إلى المرآة . زرعتْ نظراتها في جسد المرآة خناجر ، خلعتْ غطاءَ رأسها وألقَتْه على السرير . نزعت الصليبَ ووضعته إلى جانب علبة المكياج . بدأت تنزع ملابسها قطعةً قطعةً حتى أضحت عاريةً تماماً أمام المرآة. وراحت تتحسس أعضاءها حجراً حجراً . انفجرت باكيةً بصورة درامية ، فركضت نحو سريرها ، واستلقت عليه ، وتغطَّت باللحاف الأملس . كان اللحاف يغطي كامل جسمها من رأسها حتى أخمص قدميها . علا النشيج من تلك الكومة اللحمية المصلوبة على ذلك السرير المعدني . إن دموعها تتصاعد من قاع السرير ، من أعمق نقطة تحت ملمس اللحاف، حيث يتوحد الجسد العاري مع الرغبة المتفجرة من عظام الحيطان المدهونة جيداً . إنها الآن في أقصى عويل الدموع التي لا ترحم .
كان بابُ الدَّير الرئيسي يُقرَع بشدة ، بحيث صار الصوت الناتج عن القرع المتواصل بالغ الإزعاج والقرف . وقد أدى ذلك الصوت المزعِج إلى تعكر مزاج الراهبة تيريز حيث كانت تقرأ في إنجيل برنابا الذي لا تعترف به الكنيسة ، ولكن كل ممنوع مرغوب . تَأَفَّفتْ بصورة مثيرة للكآبة وقالت لعايدة التي كانت تستمع إلى المذياع :
_ اذهبي وافتحي الباب لنرى من هذا الشخص اللطيف الذي يقرع الباب بكل أدب ! .
وطبعاً كان كلامها يحمل كل معاني السخرية والاستهزاء ، وكل التفاصيل المرة للكوميديا السوداء التي تحتل كلماتِها .
كانت تيريز امرأة قاسية الملامح ، متجهمة على الدوام ، عيناها كأنهما جمرتان على سطح تفاحة تحترق اكتئاباً . أما عايدة فكانت تعابيرها تكشف سذاجتها وضعف شخصيتها ، والنظارة السميكة التي تضعها على عينيها الذابلتين زادتها سذاجةً إلى سذاجتها ، وهي منصاعة لأوامر تيريز . فما تقوله تيريز يُعتبَر كلاماً مقدساً بالنسبة لعايدة ، وهذه الأخيرة عليها أن ترضخ للأوامر دون مناقشة .
ذهبت عايدة وقد تركت المذياعَ يعمل ، وكلما اقتربت من الباب شعرت أكثر فأكثر بهذا الصوت المزعج ، وهي تتساءل في نفسها : من هذا الذي يقرع الباب بهذا الجنون ؟ . فتحت البابَ فإذا به أسعد بشَعره المنكوش الذي يصل إلى منكبيه ، ولحيته الطويلة جداً والمتروكة بدون تهذيب، وثيابه المرقعة ، وعصاه الهالكة التي يتوكأ عليها ، وحذائه الرياضي الممزَّق ذي الألوان المختلفة ، ففي قدمه اليمنى حذاء ذو لون أخضر ، وفي قدمه اليسرى حذاء ذو لون أزرق .
قالت عايدة وقد خف منسوبُ حنقها وقرفها بسبب القرع المتواصِل حين رأت أسعد بهذه الهيئة التي يُرثَى لها :
_ ماذا تريد يا أسعد ؟ .
رد أسعد وكأنه يستخرج الكلماتِ من قعر بئر سحيقة :
_ أريد .. أريد جودي .
_ جودي غير موجودة هنا ، عُدْ في وقت آخر .
_ لقد .. لقد رأيتُها .. لقد رأيتُها تَدخل .
ردت عايدة وقد ملَّتْ من هذا الحوار السقيم :
_ انتظرني حتى أُحضرها لكَ .
أغلقت البابَ في وجه أسعد ، ومضت إلى الداخل باتجاه غرفة جودي ، لكن تيريز استوقفتها قائلة :
_ مَن بالباب ؟ .
_ إنه أسعد المخبول .
_ وماذا يريد ؟ .
_ يريد جودي .
تأففت تيريز لتُعَبِّر عن عدم رضاها وقالت في نفسها إن الطيور على أشكالها تقع .
وصلت عايدة إلى غرفة جودي . قرعت البابَ بسرعة ، فتدفق الصوتُ إلى أُذن جودي ، فقد كانت نصف نائمة . كشفت اللحافَ عن وجهها ، وقالت :
_ من هناك ؟ .
_ أنا عايدة .. افتحي يا جودي .. أسعد يريدك .
نهضت جودي وقد نفضت النعاس عن عينيها ، وحاولت أن تخفيَ أية آثار للدموع التي تفجرت في عينيها قبل وقت بسيط . لاحظتْ أنها تسير عاريةً تماماً ، فبدأت بارتداء ملابسها بعصبية وارتباك بالغَيْن . اقتربتْ من المرآة ، وفكرت أن تُخفيَ علبة المكياج لئلا تراه عايدة فتخبر تيريز ، وتخترع هذه الأخيرةُ مشكلة لا أول لها ولا آخر . احتارت أين تضع تلك العلبة التي صارت أشبه بتابوت يمتصها رويداً ، وفي زحمة ارتباكها ارتطمت يدها بعلبة المكياج فانزاحت باتجاه الصليب وأزاحته ، وسقط في سلة المهملات الموضوعة على الأرض إلى جانب المرآة ، لكنها لم تنتبه إلى هذا الأمر ، فسقوط الصليب لم يُحدِث ضجيجاً لأن وقع على كومة أوراق وأشياء أخرى امتصت صوت الارتطام حتى الرمق الأخير .
فتحت جودي بابَ حجرتها فلم تر عايدة ، إذا أنها طرقت البابَ وانصرفت . مضت جودي إلى باب الدَّير ، وقد اغتاظت تيريز لأن جودي أثناء مرورها لم ترد عليها التحية . فتحت البابَ فوجدت أسعد يجلس القرفصاء وهو يُحَدِّق في السماء بصورة تجعل كل من يراه يتأكد أنه أبله . أشفقتْ عليه وقالت :
_ لماذا تجلس هكذا يا أسعد ؟ .
_ إنني أنتظر القطار ! .
ضحكت جودي بملء فمها من هذا الكلام المجنون ، إذ إن هذه البلدة برمتها لا يوجد فيها قطار ، ولستُ أدري من أين جاء بلفظة "القطار" . وضحك أسعد لما رأى ضحكة جودي المجلجلة . وبعد انتهاء جرعة الضحك هذه قالت له :
_ ماذا تريد يا أسعد ؟ .
وما إن سمع هذا الكلام حتى هبَّ واقفاً على قدميه قائلاً :
_ أريد رغيفين .
_ لماذا تريد رغيفين ؟ .
_ واحدٌ لي ، وواحدٌ لقطتي التي ماتت ! .
_ سأعطيك رغيفاً واحداً فقط .
وأسرعت جودي إلى الداخل ، وأحضرتْ رغيف خبز ، وبينما هي مسرعة نحو الباب سألتها تيريز بخبث :
_ لمن هذا الرغيف ؟ .
_ إنه لأسعد المسكين .
ردت تيريز وملامحها تركض في التوحش والغضب :
_ وهل من وظيفة الكنيسة أن تصرف على هؤلاء المجانين وتطعمهم مجاناً ؟! . أعيدي الرغيف إلى الداخل .
قالت جودي وهي تزداد احتقاراً لكلام تيريز وتمسكاً بهذا العمل :
_ لن أعيده ، وسأُعطيه إياه .
ومضت نحو الباب ، وبالفعل ناولَتْه الرغيف قائلة :
_ اعتنِ بنفسك جيداً يا أسعد .
وانطلق أسعد فرحاً بهذا الرغيف . صار يقضمه كأنه يريد الوصول إلى أقصى لحظات اللذة والنشوة . إنه يقضم رائحته ومذاقه وكل شيء فيه. منظره وهو يمشي يثير البكاء والضحك في آن معاً . كان يمشي صارخاً في هذا الفضاء :
_ يا وطني المقبرة . اقتلني وانْهِ لعبةَ المطارَدة . لا أخضع لشروطك ، ولا تخضع لشروطي . نحن قتيلان لأن اللصوص سرقوا الحياة من وجهينا . إن الطوفان قادم ، لا بد أن يأتيَ .
وغرق في البكاءِ بعد أن ألقى هذه العبارات في الفضاء الأرجواني الملوَّث بالقنابل التي لم تنفجر ، وبذكريات الضحايا ، والعناصرِ السامة المنبعثة من الأسلحة المتطورة . ويقطع بكاءَه بصراخٍ جديد كأنه ينادي على مجرة بعيدة راحلة إلى قبرها الكوني السحيق :
_ اللهم حَرِّمْ جسدي على نار الدنيا والآخرة . اللهم حَرِّمْ جسدي على نساء الدنيا .
ويغرق من جديد في البكاء ، بكاء ينقله من نشوة الحزن المعتَّق كأصوات الضحايا إلى يوميات خنجر يصير آخر الليل فراشةً لا لون لها سوى الركام . هذه هي حياة أسعد . وبصراحة لستُ أعرف كيف أصفها بدقة . إنه رَجُل غارق في دموعه وضحكه ، يبكي بلا سبب ، ويضحك بلا سبب .
وقد انقسم الناسُ بشأنه . طائفةٌ منهم تقول إنه مجنون ، وطائفة تقول إنه أحد أولياء الله المجاذيب ، وطائفة تقول إنه مُخبِر يُمَثِّل دور المجنون ليحصل على المعلومات . وتكاثرت الحكايا والقصص حوله حتى صار حكايةً شعبية يتداولها الناسُ في مخادعهم ومجالسهم العامة وأعراسهم وأتراحهم . وكل قصة تُوَلِّد قصةً جديدة . فالذين يقولون إنه مجنون اختلفوا في سبب جنونه ، فمنهم من يقول إنه كان أستاذ جامعة مُعارِضاً للحكومة فتم اعتقاله وتعذيبه حتى فقد عقلُه ، ومنهم من يقول إنه كان رجل أعمال وقد اكتشف أن زوجته تخونه مع السائق ففقد عقلُه منذ ذلك الحين . والذين يقولون إنه أحد أولياء الله المجاذيب لهم في ذلك مذاهب شتى ، فمنهم من يقول إنه كان يعرف الاسم الأعظم لكنه لم يستطع تحمل أنواره فجُذِب . ومنهم من يقول إنه كان يُعطِي دروساً للجن ويتعامل معهم لكنه لم يتمكن في اللحظة الأخيرة من السيطرة عليهم فأصابه مس وصار مجذوباً . ولستُ أدري ما علاقة المس بالجذب . ومنهم من يقول إنه شيخ صوفي ظهرت على يديه كرامات خارقة فجُذِب من شدة تلك الكرامات . والذين يقولون إنه مُخبِر اختلفوا في تحليلهم لهذه الحالة ، فطائفة تقول إنه عميل للمخابرات ، وطائفة تقول إنه عميل للاستخبارات العسكرية ، وطائفة تقول إنه عميل لمخابرات دولة شقيقة ، وطائفة تقول إنه عميل للموساد . وبصراحة أنا لا أعرف حقيقة هذا الرَّجل لأن الناس يريدون قصةً لكي يظلوا يزيدون ويُنقصون فيها على مزاجهم ، ولكي تصير حكاية ينسجونها على هواهم . حتى إن بعض الأمهات صرن يُخَوِّفْنَ أبناءهن قبل النوم فَيَقُلْنَ لهم إن أسعد سوف يأتي إذا لم تناموا . وما إن يسمع الأطفال كلمة "أسعد" حتى يتدثروا باللحاف خوفاً ، وحتى الأطفال الذين لا يريدون النوم يُمَثِّلون دور النائم خوفاً من أن يأتيَ أسعد. وفي واقع الأمر لقد صار أسطورةً حيةً في هذه البلدة، والناس يعرفونه في هذا المكان أكثر من معرفتهم لرئيس الدولة أو رئيس الوزراء . لقد صار مشهوراً هذا الأسعد، وما زال الناس حتى يومنا الحاضر يخترعون القصص حول أسعد وحقيقة أمره .
وهناك في الدَّير كانت صوتُ تيريز عالياً وهي تصيح على جودي وتُوَبِّخها بسبب ذلك الرغيف الذي صار قضيةً عالميةً لا يمكن تجاوزها في تلك البقعة السوداء المحاصَرة . بدأت تيريز تصب الشتائمَ القاسية على رأس جودي ، وباقي الراهبات يقفن متفرجات وخائفات من كبح جماح تيريز . مضت جودي إلى غرفتها دون أن تنبس ببنت شفة أو ترد على تلك الشتائم المؤلمة ، وهذا الأمر أغاظ تيريزَ بشكل صاعق فارتفعت عقيرتها بالسباب والشتم أكثر من ذي قبل ، خاصة بعد أن أغلقت جودي بابَ حجرتها بقوة مبالغ فيها ، ربما كان هذا احتجاجها الوحيد على سلوك تيريز . والتفتت تيريز نحو الراهبات المتسمرات في أماكنهن ، فصرخت في وجوههن قائلةً :
_ إلى ماذا تَنْظُرْنَ ؟ .. لتذهبْ كل واحدة منكن إلى عملها .
وما إن فرغت من هذا الكلام حتى تبعثر شمل الراهبات وتفرقن ، كل واحدة ذهبت في ناحية ما ، فالتي لديها عمل ذهبت لإكماله ، والتالي لا عمل عندها في تلك الساعة اخترعت عملاً وذهبت كي تغوص فيه ، المهم أن لا تقع نظرات تيريز الحادة على واحدة منهن .
كان ذلك الدَّير الموحش مجاوِراً لكنيسة مهجورة صغيرة الحجم ، تَهَدَّمت أجزاء كثيرة منها بفعل القصف الجوي أيام الحرب . وقد كانت هذه الكنيسة في السابق مسجداً إلا أن الفاتيكان ضغط على الحكومة من أجل تحويلها إلى كنيسة لقاء مساعدات مالية إضافية لإقامة توازن طائفي في هذا الميناء الحيوي ، وتشكيل مركز ثقل ديني مُكَوَّن من الكنيسة والدَّير . فالدَّير كان موجوداً منذ زمن بعيد ، وعندما حاول المجلس الكنسي شراء الأرض التي بجانبه لإقامة كنيسة رفض المالكون بيع الأرض ، مما اضطر المجلس لمخاطبة جهات خارجية منها الفاتيكان الذي قام بلعبته المعهودة ( الجزرة أو العصا ) بكل احتراف . وقد عارض السكان تحويل مسجدهم إلى كنيسة إلا أن القرار نُفِّذ تحت حراسة مشددة . ولقد نشب بعد ذلك كثير من أحداث العنف ، إلا أن المخفر المحلي كان يتأخر في التدخل عمداً من أجل ابتزاز الكنيسة الغربية والحصول على أموال إضافية . وبصراحة فقد خطَّطت الحكومةُ لضرب السكان المحليين في هذا المكان وتفريقهم وفق نظرية فَرِّقْ تَسُدْ ، فهذه البقعة كانت معقلاً للمعارضة الإسلامية ، فأرادت الحكومة شغل الناس بالنعرات العنصرية والخلافات الدينية كي تسهل تفتيت هذه البُقعة والسيطرة عليها وإخماد المعارَضة بعد تحميلها المسؤولية أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، خصوصاً بعدما نجحت المعارضة في تقليص نفوذ الحزب الحاكم في البرلمان رغم كل التزوير الذي قامت به الحكومة في وضح النهار.
وبالنسبة لراعي الكنيسة الأب إدوارد خزيم فقد تم طرده من قبل المجلس الكنسي الأعلى وذلك بعدما ثبت تحرشه جنسياً بالأطفال والنساء اللواتي يأتين من أجل الاعتراف ، وقد ثبت عليه أنه كان ينظر إلى الراهبات وهنَّ يُغَيِّرْنَ ملابسهن بواسطة منظار مُرَكَّز في برج الكنيسة الذي كان مئذنة يوماً من الأيام . وقد اكتشفت أمره الراهبةُ جودي بينما كانت على سطح الدَّير تُنَظِّفه بالمكنسة الخشبية الأثرية . وما زاد الطين بِلة أن الأب إدوارد خزيم كان يؤجر قبو الكنيسة لبعض السياح الذين ينتمون لعبدة الشيطان حيث يمارسون فيه طقوسهم . فصار القبو أشبه بجمعية سرية يلتقي فيها عبدةُ الشيطان الذين يأتون من أوروبا للسياحة وأشياء أخرى . وعندما افْتُضح أمره اعترف أمام لجنة تحقيق كنسية بكامل هذه الأعمال ، وهذا كَلَّفه منصبه بشكل كلي ، حيث تم تجريده من كافة الألقاب ، وطرده من سلك الكهنوت للأبد . وقد بقيت الكنيسة مغلقة لفترة بسيطة بلا مسؤول عنها ، وعندما قرَّر المجلس الكنسي إرسال راعي كنيسة جديد نشبت الحربُ ، مما أدى إلى العدول عن ذلك القرار والانتظار ريثما تضع الحرب أوزارها ، وقد وَضَعَتْها . وبقي الآن أن يأتي راعي كنيسة جديد . وعندما طُرِد الأب إدوارد خزيم من سلك الكهنوت ذهب إلى العاصمة ، وفتح مطعماً للعائلات في حي راق . وبصراحة أنا غير متأكد من هذا الكلام لأني لم أره إلا أن أناساً كثر أكدوا ذلك .