سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

27‏/07‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل الخامس

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الخامس )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كان زياد يذرع غرفته طولاً وعرضاً باحثاً عن كتاب " رسائل الإمام الشهيد حسن البنا " . أين اختفى ؟ . صار يتناول الكتب كتاباً كتاباً لكن محاولاته لإيجاد ذلك الكتاب باءت بالفشل . هل استعاره أحد زملائه في الجامعة قبل الحرب ولم يتمكن من إعادته بسبب الحرب ؟ . هل أهداه لأحد أصدقائه في المسجد ؟ . ولكنْ ليس من عادته أن يهديَ كتباً ، فهو متمسك بكل كتاب حتى الرمق الأخير كأنه اشتراه بجزء من دمه ولحمه . هل دخل الغرفة أحدٌ في غيابه وأخذ الكتاب ؟ . كل هذه الأسئلة تكوَّمت عليه بصورة أصابته بدوار شديد، مما جعله يرتمي على السرير رامياً بصره على تجاعيد السقف المقشَّر . لقد توقف عقله عن التفكير مؤقتاً ، أو على الأقل هكذا خُيِّل إليه . إنه كتابٌ عزيز عليه قرأه أكثر من ست وعشرين مرة دون أن يمل منه . إنه يملك جَلَداً عجيباً يُمَكِّنه من الاستغراق في القراءة المتواصلة ، فمعظم الكتب التي عنده أعاد قراءتها مرات كثيرة. لقد انطفأ بحثه عن ذلك الكتاب وخمدت همته في التفتيش عنه ، مما سبَّب له حزناً بالغاً كان ينام معه على السرير ويتدثر بعظامه بلا رحمة . لقد نسي زياد الكتاب على صخرةٍ على الشَّاطئ قبل أيام . فقد أخذ الكتاب معه إلى صلاة الفجر ، وبعد أن فرغ من الصلاة ذهب إلى البحر من أجل السباحة كعادته ، ووضع الكتاب على صخرة قبل أن يُسَلِّم للبحر أعضاءه . وعندما انتهى من السباحة عاد إلى منزله ناسياً الكتاب . وفي مساء ذلك اليوم بينما كانت الراهبة جودي تتمشى على الشاطئ عثرت على الكتاب ، ولم تتمكن من معرفة صاحبه رغم أن اسمه مكتوب على الصفحة الأولى . قرأتِ الاسمَ لكنها لم تعرف من هو " زياد خضر" . ومن عادة زياد أن يكتب اسمه على الصفحات الأولى من كتبه بلا استثناء . وهكذا احتفظت به في غرفتها ، واخترعت قصة الإهداء من أجل أن تبدوَ وكأنها مثار اهتمام الرجال،وأنها ما زالت تملك عناصر الأنوثة التي تجذب أي رَجُل. هكذا كانت تفكر وتُمَنِّي نفسها لكي تتخلص من جزء ولو بسيط من الاكتئاب الباطن الذي يحتلها . إنه يوم الجمعة ، وقد بقي على الصلاة والخطبة أقل من ساعة . شعر زياد أن الوقت يحاصره من كل الجهات . وحتى هذه اللحظة لم يغتسل ، فانشغال ذهنه بالبحث عن الكتاب أنساه الاغتسال . نهض من سباتِ الحيطان المصابة بالأرق الحاسم ، وهبَّ واقفاً ثم ذهب لتجهيز ملابسه التي سيذهب بها إلى الصلاة . ثوبٌ أبيض فضفاض وطاقية بيضاء وسروالٌ أبيض ، حتى إن ملابسه الداخلية بيضاء . إنه محاطٌ بالبياض اللذيذ ، وكل أعضائه راكضة نحو بياض أفقي يمتد من نخاع العظم حتى عينيه اللتين تمشيان على سور المسجد . وبعد أن جهَّز ثيابه دخل إلى الحمَّام من أجل الاستحمام حاملاً ثيابه . نزع ثيابه القديمة. وضعها جانباً وقرَّر أن يُنزِلها إلى أخته فاطمة لاحقاً لكي تغسلها في الغسالة، فهو لا يملك غسَّالة في مملكته الصغيرة . سلَّم أعضاءه للماء الدافئ بفعل حرارة الشمس المسلَّطة على خزَّانات المياه على السطح ، حيث يُقيم . لقد وصل الماءُ المقاتِل إلى كل خنادق جسده وانحناءات حلمه الموزَّع بالتساوي على الأكسجين والهيدروجين اللذين يكوِّنان مملكةَ الماء . فرغ من الاغتسال المحتوي على الوضوء . ارتدى ثيابه البيضاء وردةً وردةً . وخرج حاملاً تواريخ العصافير المنفية على مشطه المحدودَب . قرَّر أن يُصَلِّيَ سُنة الوضوء . دخل في الصلاة كشجرة مقطوعة من شجرة لا تاريخ لها سوى الصلاة والخشوع . إنه بين يدي الخالق واقفٌ كعمود كهرباء في المنفى الأرضي، كحبة تراب مهاجرة إلى الكواكب صاعدة إلى الاستغفار الفضائي . أنهى صلاته وانهمك بالتسبيح ثم قرأ سورة الكهف وأهدى ثواب القراءة إلى الأموات . فكَّر في أولئك الأشخاص الذين سيهدونه قراءتهم للقرآن بعد موته . إنه الموت قمة الحياة السرمدية . وها هو يزور ذهن زياد بين الفينة والأخرى ليُطَهِّره من ذكريات أخشاب المراكب الغارقة بعيداً عن رصيف هذا الميناء المهجور . تذكَّر كلمات للشاعر إبراهيم أبو عواد الذي أُعدِم شاباً : (( إذا أردتم أن تغتالوني فأعطوني فرصةً كي أقرأ سورة الكهف وأُصَلِّيَ الجمعة في درب التبانة )) . لقد برقت هذه الكلمات في ذهنه على نحو صاعق . حدَّق في النافذة المفتوحة على زرقة السماء ، ودعا الله بأدعية لا يحضرني فحواها الآن . قُرِع باب حجرته فقال : _ من بالباب ؟ . _ أنا خولة يا عمي.. جَدِّي يقول لك انزل لكي تذهبا سويةً إلى صلاة الجمعة. _ سوف أنزل حالاً . وعادت الطفلة لتخبر جَدَّها ، أما زياد فنهض وتضمخ بالمسك الذي أهداه إليه الشيخُ سليمان ثويني بعدما مجيئه من العُمرة قبل الحرب . خرج من غرفته وأغلق الباب بالمفتاح ، ونزل الدرجات حُلماً للرمال لكنه لم يُضَيِّع وقته في عدها مثلما كانت تفعل خولة . وَجَدَ أباه ينتظره على باب شقتهم . وذهبا معاً إلى المسجد . كانا يشاهدان العمال الذين يعملون على إعادة الإعمار وهم منهمكون في العمل والغوص في ذكريات آلياتهم ورائحة الوقود لمركباتهم الضخمة . لقد صارت البلدة موقفاً للشاحنات وكافتيريا للسائقين الذين يدخنون ويتبادلون النكات الإباحية . والحق يُقال إن منهم سائقين محترمين ابتعدوا عن التجمعات التي يقودها السائقون الزعران الذين يفتخرون بالأشياء التي وقعت بينهم وبين نسائهم في غرف النوم في الليلة الماضية ، وصار كل واحد منهم يريد أن يُثبِت رجولته وفحولته أمام الآخر ، فيخوض في الحديث عن قدرته الجنسية الجبارة بدون أدوية أو كيماويات ، وبالطبع فإن الضحايا هم النساء المشغولات في مطابخ بيوتهن بإعداد الطعام ، وغير العالمات بأنهن صرن علكة تُمضَغ في أفواه السائقين المحقونة بالنيكوتين والقطران . قال الأب لابنه وهما يشقان طريقهما وسط غابة من الغبار والأنقاض : _ هؤلاء السائقون لا يعرفون الصلاة نهائياً . _ إن منهم أناساً محترمين وملتزمين ، وبالطبع فهناك زعران لا يخجلون من العمل أثناء الأذان وأثناء الصلاة . نثرا هذه الكلمات في قلوب ذرات الأكسجين الضئيل ، ومضيا إلى المسجد . وبعد أن دخلا وصَلَّيا تحية المسجد انتشر الأذان في الأرجاء كأنه طوفان من الأنوار والفضاءات . اعتلى الشيخ سليمان ثويني المنبر، وبدأ خطبة الجمعة بحمد الله والثناء عليه والصلاة على النَّبي ثم قال بالحرف الواحد : (( إن حكومتنا العلمانية التي لا تعرف سوى زيادة الضرائب لسرقة الناس لم تكتفِ بسرقة الناس الذين صاروا يعيشون كالفئران عند سلال القمامة للوزراء والأثرياء ، وإنما سرقت غالبية الأموال التي وصلتها من الدول الشقيقة من أجل إعادة الإعمار . فإلى متى سنظل صامتين على جرائم هذه الحكومة الفاشية ؟ . اللصوص الأنيقون في ازدياد ، وضباط المخابرات في ازدياد ، والفقراء في ازدياد، والمومسات في ازدياد ، والمسابح المختلطة في ازدياد ، والضرائب في ازدياد . إنهم لا يطبقون شرعَ الله ، بل يُطَبِّقون شرع أسيادهم أولئك الغزاة الصليبيين الذين نصَّبوا رئيس دولتنا على أنهار جماجمنا. فإلى متى سنظل غاطسين في أحضان نسائنا؟!. إنها دولة غير شرعية سوف تسقط لا محالة إن بقيت سائرة على خطى إبليس . ما هي الديمقراطية التي يتحدثون عنها ؟ ، إنها رمي المجاهدين في السجون ، وفتح البلاد للراقصات والمطربات المتاجرات بأعضائهن صاحبات جوازات السفر الدبلوماسية . الخمَّارات في كل الأزقة ، والسائحات العاريات قادمات حاملات الإيدز في باقات الورد ، والناس يُسَبِّحون بحمد الحاكم ويقدِّسون له . نساء الوزراء في المسابح المختلطة ، والشعب لا يجد ماء للشرب . وفساتين السهرة الخاصة بهن على حساب الشعب المتسول على أبواب مساجد وكنائس البلاد ، هذه البلاد القائمة على بحر من النفط والغاز والمعادن ، ومع هذا فالشعب صار شحاذاً . يُخَدِّروننا بخرافة حوار الحضارات، لكنني سأقول اقتراحاً من أجل حوار الحضارات. فلنحضر نجلاء فتحي وميرفت أمين وعمرو دياب وتامر حسني وهيفاء وهبي وإليسا ونانسي عجرم ، وليحضر أعداؤنا الصليبيون سيلين ديون وماريا كيري وبريتني سبيرز وجودي فوستر وكاترين زيتا جونز ومايكل جاكسون وريكي مارتن، وهكذا يصير هناك حوار حضارات مفعم بالأحاسيس الدافئة والملابس الداخلية ، وتتوحد الشعوب ! ، أما أن تخبرني عن عشرات الآلاف من المسْلِمَات اللواتي اغْتُصِبْن في البوسنة، أو تخبرني عن عشرات الآلاف من الكاثوليكيات اللواتي اغْتُصِبْن في رواندا، فهذه ليست مشكلة ، المهم أن يظل اللصوص الكبار يستعملون الشامبو الفاخر والعطر الفرنسي الراقي ومضادات الاكتئاب ، وأن يظل علماء السلاطين عندنا نائمين مع نسائهم، ويصدرون الفتاوى لشرعنة الأنظمة الطاغوتية ، وأن تظل أميرات أوروبا يعرضن أعضاءهن أمام عدسات المصوِّرين . والذي حجَّت قُرَيْشٌ بيتَه لو تعلم المتاجرة بلحمها ماذا ينتظرها بعد موتها ما تاجرت، ولو يعلم الطاغيةُ ما ينتظره في قبره ما سرق الشعب وحجَّ إلى البيت الأبيض. أعلم أنه سيتم خيانتي مثلما خان الأمويون عثمان، ومثلما خان أهل الكوفة علياً والحسين . وأعلم أنهم سيتركونني في المعركة وحيداً كما تركوا ابنَ الزبير وذهبوا للنوم مع نسائهم ، ولكنني سأظل أُقاتِل حتى نهاية حلم أشيائي . إن اللغة العربية محاصَرة بالإنجليزية والفرنسية في عقر دارها ، والفضل للخونة من أبناء جلدتنا من عبيد الفكر الغربي الذين لا يعرفون سوى التحرش الجنسي بالنساء وتقديس أسيادهم الغزاة الصليبيين الذين يغدقون عليهم الأموال . شكراً أيها اللوبي الفرنكوفوني ، وتحيةً أيها اللوبي الأنجلوسكسوني . إنها الديمقراطية التي تخترعها زوجة الحاكم وهي في قميص النوم الشفاف في المؤتمر الصحفي . أية انتخابات وأية ديمقراطية وأي بطيخ ؟! . لا أهمية للانتخابات لأن النتائج معروفة سلفاً وفق مزاج حكومة التزوير الشريفة كالبغايا الخجولات المرخَّصات من وزارة الداخلية في هذه الجمهورية الضائعة. عندما تغتالني الحكومةُ العلمانية فلتنشئ مصنع بيرة ومرقصاً في نعشي من أجل تشجيع السياحة وتعزيز مسيرة الديمقراطية . أيها الناس استيقظوا قبل أن يأتيَ الطوفان ، وكأنني ألمح بوادره تأتي من بحرنا المنهوب والذي ترسو فيه بوارج أعدائنا بمباركة حكومتنا الرشيدة . يجب أسلمة العالَم وتعريبه وخصوصاً أمريكا وأوروبا . يا أخي المسلم في فرنسا ، أنتَ تذهب إلى بلاد نقابة المومسات لا أجيراً أو عاملاً بل فاتحاً لتحرير باريس من الاحتلال الصليبي ، ورفع الهلال فوق برج إيفل. لا تضيع وقتك مع المراهقات في المسابح المختلطة . قم بأسلمة أوروبا وتعريبها ، وابدأ من الأندلس لتتحرر فلسطين وكشمير وغروزني وسراييفو . أيها الناس أَخرِجوا حب المال من قلوبكم لتسقط فيه الثورة والنصر )). وختم الخطبة كما بدأها وأُقيمت الصلاة ، وصلَّى بالناس إماماً وقد تعمَّد أن يقرأ الآية : }قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ { . أنهى الصلاة واستدار بشكل مواجِه للمصلين. كانت وجوههم مبتلة بالعَرق والخوف على شيخهم . لقد كانت خطبة قوية ، مفرداتها كأنها كتل ثورة ورعد . وعلى الرغم من تعودهم على أسلوب الشيخ في مواجهة الدولة والحكومة إلا أن هذه الخطبة لها مذاق خاص ، فالدولة الآن قد انتهت من الحرب للتو ، وصارت تلتفت إلى الداخل مُحكمة سطوتها على كل تفاصيل الحياة العامة . وأيضاً فإن دائرة المخابرات قد نشرت رجالها في المساجد من أجل كتابة تقارير عن أي شيء يخالف أوامر الدولة . وعلى الرغم من كون خطبة الجمعة في هذه البلاد تُكتَب من قبل رجال الحكومة ، وتُرسَل بالفاكس إلى الخطباء لكي يقولوها بدون زيادة أو نقصان ، إلا أن بعض الخطباء يرمون أوامر الحكومة وراء ظهورهم ، ويكتبون ما يشاؤون حاملين المسؤولية على أكتافهم . وبالطبع فإن الخطبة المرسَلة بالفاكس إلى الخطباء تتحدث عن موضوع واحد ، وهو وجوب طاعة الحاكم في كل الأحوال ، وعن نشاطاته في تطوير البلد سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ، وعن ما يسمونه ارتفاع دخل المواطن وتحسن المعيشة بكل جوانبها ، وبالطبع فهذا الكلام ليس له نصيب من الصحة ، فوضع البلاد من سيء إلى أسوأ . وهذه البلاد خارجة من حرب عبثية لا معنى لها ، مما يعني ازدياد الديون وتعقد الحياة ، وازدياد الشباب المهاجرين إلى الخارج ، والمصطفِّين طوابير طويلة كالأشجار الذابلة أمام السفارات الأجنبية . انتهت الصلاة وصار المصلون يخرجون من المسجد كأمواج من النسور الوردية النادرة ، وبقي الشيخ في المحراب يذكر الله . وبعد نصف ساعةٍ تقريباً خلا المسجد إلا من الشيخ سليمان وزياد . كانا وجهين لوهج مجرة راحلة إلى السجود لخالقها ، أو بندقيتين لمجاهِد قديم مرَّ في السديم قبل ولادة مسدَّسات الخريف . ذهب زياد إلى الشيخ سليمان وصافحه وجلس إلى جانبه وقال : _ سَيِّدي الشيخ ، أظن أن هذه الخطبة لن تمر هكذا ، ولا بد أن أزلام الحكومة قد أوصلوا لها نص الخطبة كاملاً ، وسوف يلحق بك الأذى إن بقيت ههنا . رد الشيخ بصوت صلب : _ أعرف هذا يا زياد ، ولكن علينا أن نقول الحق مهما كانت العواقب ، وأن لا نخشى في الله لومة لائم . فسيدنا يحيى قُتل من أجل بغي من بغايا بني إسرائيل ، وحُزَّت رأسُه ، ووُضِعت على صحن فوق رأس الراقصة ، وأنبياء كُثر قُتلوا في سبيل الدعوة ، وسيدنا عمر قُتل وهو في المحراب ، وسيدنا عثمان قتلوه في بيته صائماً بعد أن حاصره الرعاع ، وسيدنا علي قُتل في طريقه إلى صلاة الفجر ، ودُفن ليلاً لئلا تنبش الخوارج قبره، وسيدنا الحسن دسَّت له زوجته السم في الطعام وقتلته بكل خيانة ، وسيدنا الحسين حُزَّت رأسه ، وسيدنا عبد الله بن الزبير صُلب وحُزَّت رأسه ، والإمام زيد بن علي أُخْرِج من قبره وصُلِب ، والإمام مُسْلِم دسُّوا له السم في التِّين وقتلوه، والإمام النَّسائي مات من الضرب، والإمام ابن حزم مات مُحاصَراً، والشيخ حسن البنا قتلوه ، والدكتور عبد الله عزام قتلوه ، والشيوخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وفتحي الشقاقي قتلهم الغزاةُ ، والقائد الرمز أصلان مسخادوف اغتاله الصليبيون هو وأسد البراري شامل باساييف ، وبالتأكيد فلن أكون أفضل من هؤلاء كلهم ، ولن أكون أفضل من الصحابة الذين لقوا أبشع صور التعذيب والترهيب في سبيل الدعوة ولم يتراجعوا . ولن أكون أفضل من أئمة آل البيت الثوار الذين دُسَّ لهم السم واحداً تلو الآخر . وأردف قائلاً : _ لقد عرضت عليَّ الحكومةُ مبلغ ألف دولار عن كل خطبة جمعة أخطبها بشرط أن أمدح الحاكم والحكومة ، ولكنني رفضتُ هذا العرض . وأنا لا أقول لك هذا الكلام لتظن أني أمير المؤمنين الشريف الطاهر ، ولكن لتعلم أن مساري يختلف عن مسار أولئك الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا زائل . _ أعرف هذا يا سَيِّدي الشيخ ، ولذلك عليك أن تُغَيِّر مكان إقامتك سريعاً لئلا تُصاب بأذى . ولديَّ فكرة جيدة حول هذا الموضوع . رد الشيخ واللهفة تحاصره من كل الجهات : _ وما هي هذه الفكرة ؟! . _ تتخفى في زي امرأة ترتدي خِمَاراً وتأتي إلى غرفتي على السطح وتقيم فيها إلى أن تنكشف هذه الغمة ، وسوف أنتظرك بعد ربع ساعة ، ولكنْ احرص على أن لا يراك أحد وأنت تصعد إليَّ لئلا نُشَوِّه سمعة مرتديات الخِمار ، وهذا الموضوع لا يعلمه إلا أنا وأنت . راقت هذه الفكرة للشيخ ، واتفق الاثنان على ذلك. وخرج زياد وبين ضلوعه قلب جديد مغموس في جرأة العشب الاستوائي . وعندما وصل إلى باب المسجد ارتبك قليلاً حين رأى أسعد يمسك حذاءه ويمسحه ، ثم ما لبث أن استعاد رباطة جأشه ، فقال : _ دعكَ من حذائي يا أسعد . يجيب أسعد وعيناه طافيتان في مقلاة الذبول وزيوت المجرة المسافرة أبداً : _ سوف أمسحه جيداً لتلبسه في أعياد ذبح الوطن ، وتبدوَ أنيقاً أمام لصوص الحكومة . _ لا أدري من أين تأتي بهذا الكلام .. لقد حَيَّرْتني يا أسعد ، فلم أعد أعرف هل أنت عاقل أم مجنون . _ أنا نصف عاقل ونصف مجنون، يعني نص نص مثل أغنية نانسي عجرم ولكن للأسف ليس عندي ثديان مثلها لأجذب قطيعَ الغنم ، فأنا المجذوب نحو ذكريات تلمع على كتف ضوء يلمع في آخر نفق بَحْرٍ لا يلمع . اندهش زياد من هذا الكلام ، وقال والدهشة تمزقه بخنجر الوقت : _ إنك شاعرٌ يا أسعد .. من أين تأتي بهذا الكلام ؟ . _ لستُ شاعراً لأن الشعراء قتلوا قطتي ، أنا مجرد شبح ، رقمُ شبح ضمن أرقام أشباح هذا الميناء الذي سيبلعه الطوفان لا محالة . وصار أسعد يصرخ خارجاً من المسجد والحرقة تعتصره : _ إن الطوفان قادم ، لا بد أن يأتيَ . ويغرق في البكاء المر حتى الثمالة لدرجة أن نشيجه يكاد يمزق صدرَ زياد الموزَّع بين كلام أسعد العجيب وبين حماية الشيخ الذي سيأتي إليه بعد قليل . وقد كانت الحيرة تتجاذب زياد من كل الأطراف . _ مستحيل أن يكون هذا مجنوناً . قال في نفسه . وانتعل حذاءه وسبق الشيخ إلى غرفة السطح . رتَّبها بحيث كان حريصاً على أن تبدوَ في أحسنِ صورة وانتظر قدومَ الشيخ . كانت دقائق الانتظار كأنها مسامير في جسد الوقت ، دقائق من نار تتدحرج على أكوام أحزان لا بد أن تضحك يوماً ما . أما الشيخ فقد ارتدى زي امرأة ساتراً لكل جسمه ، وما إن وضع قدمه على باب العمارةِ حتى أحس بصوت يتدفق من وراء الباب. ازدادت دقاتُ قلبه ، وظن أن أمره قد كُشِف ، فاختبأ في زاوية إلى أن زال ذلك الصوت . كان الصوتُ للعجوز خضر الزاوي وهو يصيح على حفيدته . ولم يكد الصوت يختفي حتى شعر الشيخ بالطمأنينة ، فخرج من الزاوية التي كان يختبئ فيها ، وصعد الدَّرجَ بخطوات متسارعة تضغط على الدرجات بحنو بالغ لئلا يُحدِث صوتاً فيُفتضَح الأمر . دق على باب الغرفة وهو يتلفت وراءه قائلاً : _ افتح يا زياد .. أنا سليمان ثويني . فتح زياد وأدخل الشيخ، وما إن دخل حتى خلع الخِمَار وكامل الزي النسائي. جلس الشيخ على طرف السرير ، وأخذ زياد يطمئن على حالته ، ويستفسر عن مجريات الأمور ، ويسأله عما إذا كان أحدٌ ما قد رآه . ولما اطمأن زياد إلى سير الأمور قال : _ اعذرني يا سَيِّدي الشيخ ، فسوف أذهب لإحضار الغداء .. دقائق وسأكون عندك . أغلقِ البابَ بالمفتاح ، ولا تفتحْ إلا عندما تسمع صوتي . ونزل زياد مسرعاً ، وهناك على الدَّرج رأى مريانا بقميص النوم وهي تركض وتصيح وزوجها بملابسه الداخلية يركض وراءها حاملاً إحدى سكاكين المطبخ . كان قميص نومها يُفَصِّل جسدها تفصيلاً بصورة مثيرة للاشمئزاز . وصلت إلى شقة العجوز خضر وصار تقرع الباب قرعاً عنيفاً ففتحت فاطمة الباب متأففة ، وما إن رأت مريانا بقميص النوم حتى احمر وجهها خجلاً وذابت في ثيابها ، وبدأ جبينها يتفصد عرقاً بشكل غير طبيعي . وقد كان صراخ زوجها البدين يعدو وراءها كذئب متقاعد راكض باتجاه الماضي . خافت فاطمة من الأمر وارتبكت أيما ارتباك ، ولم تدر ما تفعل . لقد تعطل عقلها عن العمل بفعل هذه الصدمة المدوية ، لكنها في اللحظة الأخيرة تمالكت نفسها وفتحت الباب على مصراعيه فدخلت مريانا وأَغلقت الباب وراءها . وصار زوجها يقرع الباب قرعاً عنيفاً ثم تذكر أنه بملابسه الداخلية فخجل من نفسه على غير العادة وعاد أدراجه ، وبينما هو صاعدٌ التقى بزياد على الدرج ، فقال زياد وهو يحاول أن يفهم الأمر : _ ماذا هناك يا جار ؟ . جحظت عينا يعقوب ، وتكوَّرت نظراته بحيث صار كأنه يريد أن يلتهم محدثه ، وقال بصوت أجش : _ قل لأهلك إن زوجتي إذا لم ترجع في غضون عشر دقائق فسوف أَقتلها وأُنَظِّم في هذه العمارة التعيسة جنازةً لكل سكانها . بصراحة لقد أخذ زياد هذا الكلام على محمل الجد خصوصاً عندما رأى السكينة العريضة في يده، فهذا الرَّجل قد يعمل أي شيء . كل الاحتمالات واردة. عاد يعقوب إلى شقته وأغلق الباب بشدة في حين أن ابنته كانت ترتعد تحت اللحاف . فهي ما إن سمعت الصراخ من أبويها حتى تملكها الرعبُ ، ودخلت غرفتها وأغلقت الباب بالمفتاح ، وتدثرت باللحاف . إنها ترجف كأن أعصابها قطارات كهربائية انحرفتْ عن السكة أو انقطع فجأةً التيار الكهربائي . لقد ذهبت أعصابها في الرعاش الأسطوري . أسنانها تصطك ، ويداها ترتجفان ، وكل رِجْل تصطدم بالأخرى ضمن معركة لا نهائية مع خيول البكاء الأخرس ، بكاء يقوده كاتم صوت لئلا يسمع أباها صوتَ بكائها فيقترف جريمةً في هذا البيت المشتعل ألماً ودموعاً وذكريات دمار أخرس تحت لحاف قديم . خرج العجوز خضر ليرى ماذا يحدث في بيته فوقعت عيناه على مريانا وهي في هذه الحالة حيث تظهر كامل مفاتنها . احمرت وجنتا العجوز وأرسل نظره باتجاه الأرض قائلاً : _ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . ثم نظر إلى ابنته وقال : _ خذوا جارتنا مريانا يا فاطمة ، وأعطيها شيئاً من ملابسك لتستر بها جسمها. وبالفعل قادت فاطمةُ مريانا إلى غرفتها من أجل أن تبحث لها عن شيء تلبسه . أما فايزة فخرجت من غرفتها لتستطلع الأمر ، فلما شاهدت المنظر علمت أن هناك أمراً كارثياً قد حصل ، فالمرأة لا تخرج بهذه الصورة إلا وهناك مصيبة عظيمة ترفرف في الأرجاء. مضت فاطمة وفايزة تقودان مريانا إلى الغرفة ، وارتدت مريانا عباءة سترت كاملَ جسدها، وبعد ذلك اغرورقت عيناها بالدمع وأجهشت بالبكاء بحرقة الثكلى . حاولت المرأتان التخفيفَ عنها ومعرفة سبب المشكلة ، لكن المحاولات ذهبت أدراج الرياح ، إذ تهرَّبت مريانا من شرح مشكلتها . وفي أثناء هذه المحاولات الفاشلة رن جرس الباب . فذهب العجوز لفتحه معتقداً أن يعقوب قد عاد ، فأجمع العجوزُ أمره أن يقسوَ بالكلام عليه على أمل أن يرتدع ويكف عن هذا الجنون . وعندما فتح البابَ قال بشكل عنيف : _ اسمع يا يعقو ... أراد أن يُعَنِّف يعقوب لكنه اكتشف أن الذي رن الجرسَ هو ابنه زياد ، فلم يكمل كلامه ، واكتفى بالقول : _ أهذا أنتَ يا زياد ؟! . دخل زياد مسرعاً وقال : _ أين جارتنا مريانا ؟! . _ ماذا تريد منها ؟! . _ يعقوب يقول إذا لم ترجع زوجته في غضون عشر دقائق سوف يقتلها ويقتلنا. ضحك العجوز بسخرية قائلاً : _ أُف ! صار يعقوب رَجُلاً يقتل ويذبح على مزاجه . وأردف قائلاً : _ أليس هناك قانون في البلد وشرطة ومحاكم ؟! ، هل يظن المسألة فوضى على مزاج أبيه ؟! . _ يا أبي دعنا نُعد إليه زوجته بالحسنى لنتجنب المشاكل ونصلح بين الناس . _ إن زوجته في الداخل مع أختك وزوجة أخيك . ذهب زياد إلى باب الغرفة لكنه لم يدخل واكتفى بالنداء على أخته فاطمة ، فخرجت إليه فأفهمها القصة ، ثم دخلتْ وأقنعت مريانا بضرورة العودة إلى زوجها وأن تتحمله بعد كل هذا العمر دون أن يعرف أحدٌ ما سبب المشكلة . خرجت مريانا وعيناها متجهتان صوب الأرض ، ومشى زياد أمامها . وفي هذه الأثناء كان يعقوب يحرق سيجارةً تلو سيجارة . وهو على كرسيه يحترق مثل رائحة التبغ المنتشر في الجو كجثث الضفادع المسمومة . لم يكن معتاداً على الانتظار بهذا الشكل الكئيب الحارق الذي يلتهمه تدريجياً . كان يَشْتم زوجته في نفسه قائلاً : _ هذه المرأة ابنة الكلب لا تفهم إلا أن تظل ممسحة للأحذية ، سوف أُرَبِّيها من جديد على طريقتي . وبينما هو يحترق في مقعده المشلول قُرِع بابُ شقته فعلم أن زوجته قد عادت . ذهب لكي يفتح الباب ، فإذا به زياد ومريانا تقف وراءه متسمرة في تلك العباءة السوداء . قال زياد وهو يحاول أن يُلَطِّف الجو : _ يا أستاذ يعقوب هذه زوجتك الست مريانا ، وأنتما الاثنان لا تستطيعان الاستغناء عن بعضكما . ولقد عشتما معاً طوال هذه السنوات بحلوها ومرها ، وأنا متأكد أنكما بحاجة إلى بعضكما البعض . كان يعقوب يتأفف بصوت عال قائلاً في نفسه : _ متى ستنتهي هذه المحاضرة الذي يلقيها هذا الولد ؟ . هل يظن نفسه في الجامعة ؟ . وتوجه زياد بالكلام لمريانا قائلاً : _ تفضلي يا ست مريانا إلى بيتك ، وإن شاء الله ستكون حياتكم سعيدة . ودخلت مريانا إلى بيتها مطأطئة الرأس وفي عينيها جبال من الدمع الطازج ، وهي ذائبة في مشاعر الخوف والقلق . أما ابنتها راحيل فكانت تسترق السمع خلف باب حجرتها ، وقد شعرت بقدر كبير من الأمان عندما سمعت كلامَ زياد الذي كان بمثابة المنقِذ بالنسبة لهذه الأسرة المفكَّكة . وأغلق يعقوب البابَ في وجه زياد حتى إنه لم يقل له تَفَضَّل ، أو أية عبارة ترحيبية . بدت مريانا خائفة أكثر من أي وقت مضى خاصة بعد أن أُغلِق الباب، ووقفت أمام زوجها كالتلميذة الصغيرة الخائفة من عقاب مديرة المدرسة الشديدة . وقال لها زوجها : _ هل أعجبكِ ما قمتِ به ؟ . صار من هبَّ ودبَّ يتفرج علينا ويعطينا محاضرات في الشرف والأخلاق .. الآن ارتحتِ يا ست الحُسن والجَمال ؟ .. اذهبي وانتظريني في الغرفة . ومضت المرأة المستسلمة لأمر زوجها إلى غرفتها تجر كل تواريخ الجيوش المهزومة وتحمل كل ذكريات النساء المغتصَبات على كتفها مثل أكياس الدقيق الذي كان يحصل عليها زوجها بطرق غير شرعية من أحد مسؤولي الحكومة . وكانت سبب المشكلة بين الزوجين هو أن يعقوب بنيامين أراد أن يأتيَ زوجته من دُبُرها . وهذا يسبب لها ضيقاً ما بعده ضيق وألماً ينقلها إلى عوالم الاكتئاب والقرف ، فلما رفضتْ حاول إجبارها على ذلك ، وبعد أن أمعنت في الرفض أحضر زوجها إحدى سكاكين المطبخ ليجبرها تحت تهديد السلاح ، وهذا جعلها تفر من بيتها وهي في ملابسها الفاضحة تلك، إذ لم يكن لديها الوقت لتغير ملابسها وتستر نفسها . دخل يعقوب الغرفة وعيناه تلمعان كذئب مسعور لدغته أفعى الشهوة ، وهجم على زوجته كوحش ينقض على فريسته بلا رحمة . وأخذ منها ما كان يشتهيه، وقد كانت تصرخ بصوت عال كدجاجة مذبوحة في حجرات الطاعون . وسمعت ابنتها صراخها من وراء باب حجرتها بعد أن فتحته قليلاً لتتمكن من ملاحظة ما يجري . إن صراخ الأم يقتلع خصلات شَعْر ابنتها من جذورها ، يقتلع يومياتها بلا هوادة . بدا الصراخ كصراخ امرأة في غرفة الولادة أيقنت أنها ستموت بعد وضع طفلها . وتدفق صراخ الأم نحو عوالم ابنتها . كان قلب البنت مشققاً بفعل صراخ داخلي لا تقدر على إخراجه خوفاً من أبيها . إنه بيت الصراخ، وكل الأشياء في ذلك المكان السحيق مصابة بالقشعريرة والكوليرا ، إنه الصراخ حينما تُساق الإناث إلى المذبح واثقات من الهاوية والألم والوخز . وبعد أن شبع زوجها منها ارتمى على السجادة بينما ارتمت زوجته على السرير كقطة ضالة لا تجد من يؤويها ، وقال زوجها بسخرية لاذعة : _ هكذا يشبع الرَّجل من زوجته دون أن ينجب بنتاً عمياء ولا ابناً أحول ! . نزلت هذه الكلمات على رأسها كشظايا طائرات ساقطة على أعشاب الماضي لا حلم لها سوى الدمع . كانت كلماته كوخز الدبابيس المتروكة قروناً تحت أشعة الشمس . تفشى الألم في ذاكرة الحيطان التي تمشي تدريجياً لتحكم سيطرتها على تلك المرأة المهرولة في مدارات الضجر والصراخ والدمع السخين المالح . رجع زياد إلى البيت ليطلب من أخته فاطمة أن تُجَهِّز طعام غداء لشخصين ، وعندما قال لأخته هذا الكلام تعجبت وأمطرته بالأسئلة والتحقيقات ، ثم قالت له في النهاية : _ هل عندك ضيوف ؟ . تردد قليلاً قبل أن يجيب ، لكنه قرر أن يكذب لأن الأمر يتعلق بحياة شخص أو موته ، فالكذب واجبٌ في هذه اللحظة ، هكذا كان يعتقد . فقال وهو يستغفر الله بينه وبين نفسه : _ لا ، ولكني أشعر أني جائعٌ لدرجة أنني مستعد أن آكل طعام رجلين معاً لذلك قلتُ لكِ جهزي الطعام لشخصين . لم تعهد أخته عليه كذباً فصدقته ، ومضت إلى المطبخ حيث كان الطعام جاهزاً فسكبت منه مقداراً معيناً يكفي لشخصين حسب تقديرها ، ووضعت الطعامَ في وعاء مخصص لذلك . حمله وأسرع نحو السطح يمخر عباب هذه الدرجات المشققة ذات البلاط الرديء . كان الشيخ سليمان قلقاً بسبب تأخر زياد كل هذا الوقت . وصارت الخيالات تغزوه من كل الجهات . ربما يكون قد اعتقلوه أو كُشِف أمرنا ، أو ربما رآني أحدٌ وأنا أدخل العمارة فشك في الأمر . كل هذه الأسئلة القاتلة والوساوس المؤلمة تبخرت عندما قرع زياد البابَ وعرَّف عن نفسه . فتح الشيخُ البابَ وتهللت أساريره عندما رأى زياداً . دخل زياد وأغلق البابَ وراءه ، وسأله الشيخ : _ لماذا تأخرتَ يا زياد ؟ . لقد غزتني الخواطرُ والوساوس . لم يرد زياد أن يتناول قصة الجيران لذا اكتفى بالقول : _ أشياء بسيطة أَخَّرَتْني ، والمهم أنني وصلتُ . ووُضع الغداء على الأرض ، وتحلق الاثنان حوله ، وقبل الأكل قال الشيخ : _ أفضل شيء قمتَ به أنك لم تضع الجرائد تحت الطعام مثلما يفعل الجهال . ابتسم زياد ابتسامة المنتصِر الواثق وقال : _ هذه المسائل أنا منتبه إليها جيداً ، فالجرائد التي تدخل بيتنا للقراءة فقط ، ونحن لا نفعل مثل الناس الذين يأكلون على الكلمات المقدَّسة . ومضى الاثنان يتناولان الطعام بشهية مفتوحة على كل الاحتمالات كأنهما لم يذوقا الطعام منذ قرون . وفي أثناء قيامهما بالأكل ذهب زياد لكي يحضر ماءً من الحنفية ، وللأسف كان الماء ساخناً . إذ إن الثلاجة في بيت والده معطلة بسبب انقطاع التيار الكهربائي ، وهذا حرمهما من تذوق الماء البارد . وكلما شربا من الماء الساخن ازدادت نقمتهما على الحكومة التي تحرص على إيصال التيار الكهربائي للأحياء الراقية في حين تُهمِل الأحياءَ الفقيرة بحجة القيام بعمليات الصيانة والأشغال . وبصراحة إن الحكومة لا تجرؤ على قطع الكهرباء عن الأحياء الراقية بسبب وجود السفارات الأجنبية ورجال الأعمال الذين يمسكون باقتصاد البلد ويقودونه كقطيع الأغنام المستسلم نحو أرصدتهم الشخصية وقصورهم المحتوية على برك السباحة الكبيرة في الوقت الذي لا يجد الناسُ في هذا المكان ماءً للشرب. وللأسف فإن الذين يقاتلون في الحروب العبثية التي تشنها هذه الدولة على الجيران هم الفقراء الذين يزدادون فقراً في حين أن الساسة وعِلْية القوم الذين يقضون فترة الحرب جالسين في منتجعات أوروبا هم المستفيدون ، وهم الذين يزدادون ثراءً بسبب متاجرتهم بالسلاح حيث يعملون سماسرة ووسطاء بين مصانع السلاح الأجنبية وبين الحكومة والحكومات المجاورة ، ومن يدفع أكثر يكون له الحق في الصفقة الجيدة ! . وقبل صلاة العصر بنحو ساعة تكاثرت سيارات الجيب العسكرية المهداة من إحدى الدول الغربية لهذه الحكومة . تكاثرت حول المسجد بصورة مثيرة للرعب . ترجل الجنود في حين بقي المسؤول في إحدى السيارات مع سائقه وحرسه . مضى ثلاثة جنود باتجاه بيت الإمام . قرع أحدهم البابَ فلم يجبه أحدٌ. أعاد الكَرَّة لكن محاولته باءت بالفشل . عادوا إلى قائدهم وأخبروه بأنه لم يرد عليهم أحد ، فأصدر القائد أوامره بكسر الباب. وبالفعل ذهبت مجموعة الجنود وكسروا البابَ ودخلوا. ثم حضر القائد وصار يُقلِّب في أشياء المنزل . كان من الواضح أن الشيخ قد أخذ احتياطاته واستعد لهذه الساعة فلم يكن في المنزل شيء ذو قيمة . أما أسرة الشيخ فقد ذهبت إلى الريف لتقضيَ فترة الحرب هناك بعيداً عن القذائف والانفجارات في هذا الميناء الذي صار جزءاً من الماضي بعد الدمار الهائل الذي لحق به. زوجته حملت الأولاد وذهبت إلى بيت أبيها في الريف ريثما تنتهي الحرب ، وها هي قد انتهت . وبالطبع فهي لم تذهب بمفردها بل أوصلها أخوها بشاحنته هي والأبناء. وقد أخبرها الشيخ بأن تبقى في بيت أهلها حتى يأتيَ هو بنفسه ليأخذها . وبالفعل نفَّذت إرادةَ زوجها . قال القائد بهدوء أعصاب مخيف : _ لا أهمية لتفتيش المنزل ، فمن الواضح أن الشيخ قد أخذ كامل الاحتياطات واستعد لهذه اللحظة. يجب أن نبحث عنه في مكان آخر عبر استجواب الناس أو المصلين . وأردف قائلاً : _ ستكون مهمة رجال الأمن مستحيلة عندما يواجهون شيوخاً أذكياء . إنها مغامرة من نوع خاص ، لكنني لن أستسلم . وانتشر الجنود في أرجاء المنطقة يستفسرون عن الشيخ . مَن رآه ؟ . من يعرف أين هو الآن ؟ . لكن محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح ، فغالبية الناس كانوا خائفين من هبوط هذا السؤال على رؤوسهم فكانت إجابتهم تكاد تكون واحدة وهي أنهم صلوا الجمعة وراءه وبعدها لم يشاهدوه مع إضافة شعار التبرؤ من مهاجمة الحكومة التي حصلت أثناء خطبة الجمعة . وما زلتُ أذكر أحد سائقي الشاحنات المتجمعة في المكان ، كان متكئاً على باب شاحنته وهو يدخن، وقد اخترع محاضرة كاملة ألقاها على مسامع الجنود حيث قال لهم : _ لطالما نصحتُ الشيخَ أن لا يذكر الحكومة بسوء ، فهذه حكومتنا الرشيدة التي ترعى مصالحنا وتعتني بنا . الله يخليها ويزيدها قوة أكثر وأكثر . لكن للأسف الشيخ لم يكن يسمع الكلام ، وكان يمشي على هواه . وبالطبع لا أساس لهذا الكلام من الصحة فهو لم يقابِل الشيخَ وجهاً لوجه مطلقاً لكنه رأى أن يخترع تلك الأحداث الوهمية ليبدوَ مواطناً صالحاً في عيون الجنود . وعندما ذهبوا بصق السائق على الأرض على نحو ذي دلالة رمزية وقال في نفسه : _ الله يخرب بيت الحكومة كما خربت بيوتنا . كلكم لصوص يا أولاد ... ، واللهِ مع الشيخ كل الحق أن يفضحكم ويمسح بكم الأرض . كان كلام السائق يعكس حالة حزن غاضب تسود المجتمع ، فهذا السائق كان يملك أربع شاحنات في الماضي ، ولكن مع زيادة أسعار الوقود على مر الأعوام وزيادة الضرائب وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة والزيادة الجنونية في أسعار الأراضي والعقارات اضطر لبيع الشاحنات واحدة تلو الأخرى على مدار العقدين الماضيين ، ولم يبق عنده سوى شاحنة واحدة ، وقد يبيعها إذا استمر الوضع الاقتصادي في التدهور كما هو حاصل الآن . وكان أسعد يسير هائماً على وجهه مقتحِماً هذه الأنقاض اللانهائية ، بحيث يوقن كل من يراه أن هذا الشخص مختل . استوقفه أحد الجنود قائلاً : _ هل رأيتَ إمام المسجد ؟ . كان مع الجندي زميله الذي قال بصوت خفيض : _ ألم تجد إلا هذا الأبله لكي تسأله ؟ . رد الجندي بثقة مجهولة المصدر : _ هؤلاء المجانين لديهم معلومات قد تفيدنا . وقد سمع أسعد هذا الكلام ورأسه تترنح كرأس المشنوق التي فُصِلت عن الجسد بفعل قسوة الحبل . ولم يجب عن السؤال بل بقي محدقاً في ملامح هذين الجنديين بصورة مثيرة للضحك كأنه مهرج متقاعد في سيرك أَقفل أبوابه . أعاد الجندي سؤاله مرة أخرى بشكل فيه شدة : _ هل رأيتَ إمام المسجد ؟ . _ وماذا تريدان منه ؟ . _ إنه قريبنا وقد جئنا لنُسَلِّم عليه . كانت عينا أسعد تلمعان بشكل غريب. لقد كان مقتنعاً في داخله أنهما يكذبان ويخفيان الحقيقة . إنه يحس بالأشياء إحساساً مُرَكَّباً ، وما زاده ريبة تلك الملابس العسكرية التي تذكره بذكريات سحيقة مرت في حياته . إنه متوتر ، وكلما حَدَّق في النجمات على أكتافهما ازداد قشعريرةً باطنية . عيناه تجحظان كمسدس مبلول بالنار ، أو كغابة هجرها المطر الأحمر . أحس أن خطراً من نوع ما ينتظر الشيخ ، فقال لأحدهما : _ هل أنتَ متزوج ؟ . _ نعم . _ أنصحك أن تركز في مضاجعة زوجتك بدلاً من ملاحقة الشرفاء . هبط هذا الكلام كالصاعقة على هذين الجنديين . توقف تفكيرهما بصورة صادمة ، ودخلا في هستيريا الحطب الذي يحترق في صدريهما . صعد الأحمر بكل جنونه إلى وجهيهما ، فلطمه أحد الجنود على وجهه وبصق عليه . مسح أسعد البصقة المستقرة على سحنته بطرف كمه . تجمعت الدموع الساخنة في عينيه الباردتين . وهم أحد الجنود في فورة الغضب أن يطلق عليه الرصاص لكن زميله قال له : _ دعك من هذا المجنون ، إنه لا يدري ما يقول . وهرب أسعد من المكان . كانت شرايينه تذوب في اللهاث المر . وأخذ يبكي بحرقة وصوت مسموع ، كأن هذا النشيج عوالم لا نهائية من الألم . وراح يصرخ في هذه الأنقاض الشاسعة : _ إن الغزاة الذين قتلوا قطتي قادمون . إن الطوفان قادم ، لا بد أن يأتيَ . وسمع هذه الصرخة بعض سائقي الشاحنات الذين كانوا متواجدين في المكان فانفجروا ضاحكين . بدا ضحكاتهم مثل دلو ماء مسكوب على وجوههم المحترقة بالقيظ . لم يكونوا يملكون غير الضحك ، وهم يتغامزون فيما بينهم حول أسعد ، ويسخرون منه . وقال أحدهم : _ هل البلد ينقصها مجانين حتى يأتيَ هذا المتخلف عقلياً ؟ . لكن أسعد كان يركض في هذا الأكسجين المخلوط بالحزن والمتراكم على قطيع البيوت التي تم تسويتها بالأرض غير عابئ إلا بالصراخ الذي يعيد تكراره مع الكلام المكرر ذاته : _ إن الغزاة الذين قتلوا قطتي قادمون . إن الطوفان قادم ، لا بد أن يأتيَ . واستمر سائقو الشاحنات في اختراع النكات الساخرة من أسعد، وهم يشربون الشاي ويدخنون ويطلقون الضحكات في هذا الحر الصارخ . باءت محاولات العسكر في إيجاد الشيخ بالفشل الذريع ، فهم لم يتمكنوا من إيجاده أو الوصول إلى أية معلومة قد تفيدهم في القبض عليه . لكن قائدهم كان رابط الجأش واثق من أنه سيقبض على الشيخ في وقت ما . وبصراحة لم أكن أعرف ما مصدر ثقته المفرِطة ، لكنني كنتُ أعرف أن جبينه يتوهج بصورة متوحشة تقضم غابات الصدى تحت شمس حارقة . وعاد العسكر أدراجهم دون الحصول على صيدهم الثمين على الرغم من أن هذا الموضوع لم يفارق تفكيرهم .