سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

20‏/07‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل الأول

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الأول )
تأليف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
العصافير مَرْميةٌ على مسرح الذاكرة صوتاً للقمح . الكلاب والقطط والجرذان تحاول بسط النفوذ على الشارع العام رغم ما يحدث بينها من مناوشات . وعمالُ النظافة يجمعون جثث الضحايا في أكياس بلاستيكية ، ويُلقون بها في مقابر جماعية . الأنقاض يتعالى نحيبها كأطفال العشب حين يتركهم ويذهب إلى الصيد . بائع الصحف يتكئ على عمود كهرباء آيل للسقوط . الركام في كل مكان . وصوت الرصاص راح يخفت شيئاً فشيئاً ، حيث طغت عليه أصوات سيارات الهلال والصليب الأحمرين . والأصوات المتشابكة ما زالت تُسمع في النواحي القريبة . البيوتُ تمت تسويتها بالأرض . لقد ورث المكانَ حشراتٌ لا شريعة لها إلا الكوليرا. قال بائع الصحف مخاطباً عمال النظافة : _ أنتم تضيعون وقتكم . اتركوا الأموات ، واذهبوا لإنقاذ الأحياء المحاصَرين تحت ركام المنازل والمحال التجارية . رد عليه واحدٌ منهم بسذاجة ممزوجة بالمأساة : _ إخراج الناس من تحت الأنقاض بحاجة إلى عمال متخصصين وأدوات لا تتوفر لدينا ، كما أننا نأخذ رواتبنا على تنظيف المكان لا إنقاذ البشر ! . فلتنتظر عمال الإنقاذ ليقوموا بتلك المهمة ، أو فلتذهب لإنقاذهم أنت . أحس العجوز أن كلامه ذهب أدراج الرياح ، وأن صوته عاد إليه صفر اليدين كرجع صدى موحش لا يلقى أُذناً تحتويه . بدا المشهد كدور مسرحي يؤديه ممثل مبتدئ يتكلم مع الحيطان المكسرة مثل خصلات شعر ذهبية لرضيع ذبيح ، لكن أحداً لا يعيره انتباهاً لائقاً . كظم العجوز غيظه ومضى في طريقه، وقد امتلأ قلبه حقداً على هؤلاء العمال، لكنه عاد إلى مراجعة نفسه واضعاً المسؤولية على الحكومة التي لم ترسل عمال الإنقاذ حتى الآن . كان العجوز خضر الزاوي بائع الصحف يوزع نظراته بالتساوي بين صور الضحايا على ورق الجرائد وصورهم في الواقع . كانت مقارنة مؤلمة غاية في الألم . ولكن _ على ما يبدو _ أن دخوله في السبعين قد سلبه كثيراً من مخزون المشاعر ، فلم يعد يتأثر بمنظر الجثث ، ولم يعد يخاف من صوت الرصاص والمدافع . فمثلاً ، أنت تراه يشير إلى تلك الجثة وهو يضحك . وربما تسمعه يقول النكات عن القتلى والجرحى. وبالتأكيد هو لا يقصد الإهانة أو الاستهزاء، لكنه تعود على أخذ الأمور من هذا المنظار . فهو أُميٌّ لا يقرأ ولا يكتب . لم يكد يدخل في المدرسة حتى أُخرج منها من أجل إعالة أسرته بعد وفاة أبيه. تعارك مع الحياة بضراوة ، وما زال موغلاً في عراكه الدائم . وهذا جعل منه إنساناً بسيطاً، لا يعطي الأمور قدرها الذي تستحقه من الأهمية. هكذا قضى حياته وهو سعيد بها . وكل المؤشرات تشير إلى أن مشواره سيستمر على هذا النحو . وفي الحقيقة لستُ أدري لمن يبيع الصحف في هذا الخراب المطبق . إلا أن مهنته تأبى أن تفارقه بغض النظر عن الحال المعاشة .كانت أعضاؤه راسخة لا ترتجف . فهو لا يعرف الباركنسون ( الرعاش ) إلا من خلال ملاحظة أقرانه الذين امتد إليهم هذا المرض. مشيته ثابتة بين كل هذا اليباب . يُجيل بصره في العناصر المحيطة، ويستمر في المشي. كان يستمع إلى صرخات الاستغاثة تأتيه من كل حدب وصوب، تطلع له من بين قضبان الحديد المختلط بالأسمنت ، وكل العناصر معجونة بالأحلام المنسية ، تلك الأحلام التي نسي أصحابها أن يحلموا بها . لقد أكلتها الأرض بيدها ، بلا شوكة أو سكين . وكان كلما سمع صرخةً استغفر رَبَّه ، وطلب منه أن يسامحه لأنه غير قادر على إنقاذهم ، ولم يكن يملك غير الدعاء ، لا شيء سوى الدعاء . كان هناك فتاة في العشرين من العمر تبحث عن شيء ما . تتفقد الأشياء التي تحاصرها من كل الجهات . وما إن وقعت عيناها على هذا العجوز حتى هرعت إليه قائلة : _ أبي ! لقد كنتُ أبحث عنك . يجيب بكل برودة أعصاب : _ ما الذي جاء بك يا فاطمة ؟ . _ جئتُ لأقودك إلى المنزل . _ وهل بقي لنا منزل في هذا الخراب ؟ . _ حمداً لله أن سلم منزلنا من القصف . _ عودي وحدك . سوف أتجول قليلاً ، ومن ثم سآتي . تجيب فاطمةُ بحدة : _ لن أتركك يا أبي ، فإما أن نبقى معاً أو نذهب معاً . لم يجد العجوز وسيلةً للتملص من إصرار ابنته، فوافقها على مضض. وفي عينيه شرارة جرح ضاحك رغم النزيف المستمر ، نزيفِ الأخيلة والمشاهدات القاتمة داخل قلبه وخارجه . بدت طريقهما أشبه بوهمٍ مغلف بالأشباح التي تتكاثر في غير موسم التكاثر . احتضار مدينةٍ تسعى إلى الالتصاق بالحياة بأي ثمن . زرعا خطواتهما في صدى المكان لا صوته ، فهما لم يمتزجا بالصوت الذاهب في تقاطيع الأسمنت المتهاوي . عاشا على هامش الصدى في هذا المكان الذي تتكدس فيه كل عناصر الموت . نعم، إنه الموت يطلع من رعشات البشر وذكريات الحطام الذي يعلو ساكنيه السابقين . يعلوهم رغم محبته لهم ، ولكن ما الفائدة من محبة لا تترجم إلى واقع ملموس ؟! . غابت الأزهار الواثقة والفراشات الملونة عن هذا المكان الذي لم يعد يجذب سوى كاميرات وسائل الإعلام التي تلهث وراء سبق يُستخرج من ضوضاء عظام المسحوقين . كان أحد المصورين برفقة مراسلة وكالة الأنباء يعملان على التقاط صورة عينين محاصَرتين تحت الأنقاض . إن الكاميرا تفترس تلك العينين بلا رحمة ، ومراسلة وكالة الأنباء تصلح مكياجها تارةً ، وتُعلِّق على الموضوع تارة أخرى بعبارات تتكلف المأساة والحزن تكلفاً فاضحاً . وفي ذهن هذين الشخصين فرصة سانحة للحصول على سبق قد يرفع أسهمهما لدى صاحب المحطة ، وبالتالي قد يحصلان على مناصب أعلى . لقد كان المحاصَر إنساناً لا يظهر منه غير عينيه الموغلتين في السواد اللامع كبقايا مرآة مهشمة بسبب مشادة كلامية بين زوجين وضعا الفرح على الرف ، وركضا نحو الضياع . لم يفكر المصور والمراسلة أن يساعدا ذلك الشخص بأية وسيلة كانت . إنهما حريصان على اصطياد لحظة المأساة بكل أبعادها المحسوسة وغير المحسوسة . وعندما فرغا من التصوير، نفضت المذيعة الغبار والأتربة عن بنطالها الضيق ، والملتصق التصاقاً جنونياً برجليها النحيلتين كرجلي جرادة متمسكة بهوية المستنقع. وبينما هي مُركزة في نفض الأتربة والغبار رأت العجوزَ وابنته يمشيان في هذا الفراغ الصاخب، ركضت نحوهما كطفلة تريد أن تطلب من أمها شيئاً . والمصور يتبعها هائماً على وجهه ، بعد أن أعطته إشارة فهم منها ضرورة اللحاق بها . إنهما ذاهبان إلى صيد جديد . توقفت المراسلة في طريق الرجل وابنته ، وللأسف فهي لم تجد شيئاً تقف عليه في كل هذا المدى المرعب إلا جريدة فقدت كثيراً من صفحاتها يتلاعب بها الهواء ، استقرت تحت قدميها ، أو قل إن تلك القدمين المغبرتين استقرتا على الجريدة . وما إن رأت فاطمة هذا المشهد حتى اقتربت من حذاء المراسلة، وطلبت منها أن ترفع قدمها حتى تأخذ الجريدة . ظنت المراسلة للوهلة الأولى أن في الجريدة خبر خاص أو شيء من هذا القبيل ، لذا قالت ببساطة مختلطة بغبش الرؤية : _ إنها مجرد جريدة تافهة لا قيمة لها ، ولا تصلح للقراءة . ردت فاطمة مبتسمة وكأنها تسخر من جهل مُحَدِّثتها : _ إن الجرائد تحتوي أسماءً مقدسة ، ولا يجوز امتهانها أو رميها في القاذورات . تدخَّل العجوز عندما سمع هذا الكلام قائلاً : _ كل الشعب يأكل على الجرائد ، ويرميها في القمامةِ ، وهو يعلم بما فيها .. هذا الشعب المذبوح يذبحنا . وأردف قائلاً بعد أن أطلق تنهيدةً مريرة : _ الله يستر علينا .. نحن غاطسون في الحرام غطساً . نظرت المراسلةُ باستخفاف مشوب بعدم الارتياح ، وقالت : _ يا جماعة ، لا تعطوا المسألة أكثر مما تستحق ، دعونا في الكوارث التي نحن فيها . قالت فاطمة بحدة بعد أن أغضبها هذا الكلام : _ الكوارث التي نحن فيها بسبب الاستهانة بمسائل هامة مثل الجرائد، وها نحن ننتقل من كارثة إلى كارثة . كان المصور قد أتعبه حمل الكاميرا ، وهو يراقب هذا الحوار الساخن نوعاً ما. لم يكن يعرف من الحياة سوى التصوير ، هذا هو انطباعي الأول عنه ، وقد أكون مخطئاً . بل إنني أتمنى أن أكون مخطئاً . وعلى الرغم من عدم مشاركته في النقاش إلا أنه كان يحس بأن الحق يقتضي عدم رمي الجرائد. ولكن أين سيذهبون بها ؟ . سؤال جديد هاجمه دون سابق إنذار، لكنه خشي من طرحه خوفاً من الدخول في نقاش جديد ، لا سيما وأنه كان في أقصى درجات الجوع والعطش ، فقد خرج من الصباح الباكر دون إفطار بعكس المراسلةِ التي أفطرت جيداً قبل الخروج . قال المصور مخاطباً العجوز : _ هل يوجد ماء للشرب في هذا المكان ؟ . في واقع الأمر كان المصور يتمنى أن تتم دعوتهما إلى الطعام ، لكنه خجل أن يذكر كلمة " الطعام " ، واكتفى بذكر " ماء الشرب " . رد العجوز وقد أصابه رذاذ الكرم العربي : _ بالطبع هناك مكانٌ ، واعتبرا نفسيكما مدعوين إلى الطعام في بيتي. قال المصور وهو يكاد أن يطير من الفرح ، رغم كتمانه لمشاعره الحقيقية : _ لا نريد أن نزعجكم أو أن نكون عبئاً عليكم . _ لا عليك .. الجود من الموجود ، وعلى أية حال لا أحدٌ يشتري مني الجرائد في هذا المكان المندثر لو بقيتُ مئة سنة أدور . يعني لا يوجد أمامي إلا العودة إلى البيت . وتابع يقول وهو يضحك بحرقة : _ من يراني وأنا أبيع الجرائد في هذا الحطام المخيف يعتقد أنني مخبول.. ولكن يا جماعة لم أعد أتصور يديَّ بدون أن تلمسا صفحات الجرائد .. رائحة الحِبر كأنها عضو من أعضائي . ابتسم الجميع بسبب هذا الإحساس المرهف ، وتدخلت فاطمة قائلة : _ يا أبي ، دعنا نذهبْ إلى البيت كي نجهز الطعام في أسرع وقتٍ . وذهب الجميع في موكب غير رسمي بلا سجاد أحمر ، بلا مصفقين وربطات عنق . إن المشهد شبيه كمقطورة تجر جلود دببة الباندا الصحراوية في مكان لا شيء يتكلم فيه سوى الموت أو الخراب الذي أبدعته الآلة العسكرية الحمقاء . تناست المراسلة والمصور قضية السبق أو اللقاء التلفزيوني الذي كانا يخططان له في غمرة هذه الخطوات المتشظية إلى حِراب تحفر جبين الطريق المحطَّم. مشوا جميعاً محاصرين بالبنايات المحروقة ، والعمائر التي تم تسويتها بالأرض . وحده الحطام كان يُغَنِّي في تلك البقعة . وبعد أن استمروا في المشي لمدة عشر دقائق تقريباً وجدوا مجموعة من الأطفال يلعبون ببقايا مخلفات الحرب . قال العجوز مخاطباً طفلة وحيدة تلعب مع مجموعة أولاد : _ قلتُ لك يا خولة لا تلعبي مع الأولاد ، هؤلاء أولاد وأنتِ بنت . عيب عليك أن تكوني معهم . ردت خولة وفي عينيها دهشةُ قطيع غزلان باغتها منحدر سحيق : _ مع من سألعب ؟! . كل البنات مختبئات في البيوت ، خائفات من الخروج . وهنا تدخلت فاطمة قائلة : _ دعها يا أبي تلعبْ معهم ، هذه بنتٌ عنيدة ، وهي على كل حال ما زالت صغيرة . ركن الأب إلى كلام ابنته فاطمة ، لكنه ظل مشغول البال ، حيث إن تفكيره متعلق بحفيدته خولة. هذه الطفلة التي دخلت للتو إلى المدرسة، لكنها الآن في إجازة مفتوحة هي وباقي الطلاب بسبب الأوضاع السياسية في البلد . فالحرب وضعت أوزارها للتو . وقد تم تعطيل المدارس والجامعات حتى إشعار آخر ، وهذه أوامر حكومية لا أحدٌ يملك معارضتها . كانت خولة طفلة ذكية نحيلة ، ذات شعر أشقر، ملامحها تشي ببراءة تفوق براءة الأطفال المعتادة ، ورغم هذا كانت عنيدة بعض الشيء ، فليس من السهل أن تسيطر عليها ، أو أن توجهها إلى وجهة ترفضها . ربما ورثت العنادَ من أمها ذات الأصول التركية . لا أستطيع أن أؤكد هذا أو أن أنفيَه . المهم أنها كانت عنيدة على الرغم من الحساسية العالية تجاه الأشياء ، فأقل كلمة تدفعها إلى البكاء . قال العجوز للضيفين : _ تفضلا بالدخول إلى بيتنا المتواضع . كان بيته عبارة عن شقة في الطابق الأول ضمن عمارة من خمسة طوابق . والحمد لله أن بيته لم يتضرر ، فقد كان القصف مركزاً على الطوابق العليا في العمائر العالية ، والتي تحيط بهذه العمارة التي يسكن فيها هذا العجوز . وهي التي تضررت بشكل لافت . لا بد أن أصحابها سيعانون كثيراً في ترميمها ، هذا إن كانت أصلاً صالحة للترميم . فالأضرار بالغة إلى حد كارثي. وصاحب هذه العمارة رجلٌ يعمل في أمريكا ، وقد وكَّل أحد أقاربه لاستيفاء أجرة الشقق ، وإنني أرجح أنه لا يعلم شيئاً حول وضع عمارته في هذه الفترة ، فقد انقطعت الاتصالات بينه وبين سكانها أثناء الحرب . وما زالت خطوط الهاتف مقطوعة حتى اللحظة الحالية . إذ إن الحكومة لم تعمل بشكل فعال في تحسين الأوضاع، رغم المساعدات المالية والعينية التي تلقتها من الدول الشقيقة والصديقة. كان الفساد مستشرياً بصورة جنونية في الأوساط الحكومية ، فالمال الذي يأتي من الخارج لا يذهب إلى مشاريع إعادة الإعمار أو مساعدة المتضررين . بل يذهب إلى جيوب المسؤولين ، وهذه الحقيقة معروفة لدى الجميع ، لكن أحداً لا يجرؤ على البوح بها . قرع العجوز جرس الباب ففتحت له زوجة ابنه ، فقال لها : _ معنا ضيوف ، خذوا لنا طريقاً . كانت هذه العبارة كافية كي تترك فايزة الباب، وتذهب إلى إحدى الغرف ، لتضع على رأسها الحجاب . فقد كانت في بيتها متكشفة ، وما إن سمعت كلام عمها حتى أسرعت لتستتر . دخل الجميع إلى المنزل ، وطلب العجوز من المصور أن يتفضل إلى غرفة الضيوف . وبالفعل استجاب له . وعندما سمعت المراسلة هذا الكلام ظنته دعوة ضمنية لها للتفضل ، فحاولت أن تذهب مع الرجلين . لكن العجوز قال لها : _ الرجال لوحدهم ، والنساء لوحدهم . ثم وجَّه نظراته إلى ابنته قائلاً : _ خذي ضيفتنا إلى غرفتك يا فاطمة . كان هذا الكلام جديداً على المراسلة التي تعيش حياتها بالطول والعرض دون حواجز . تخرج مع من تشاء ، وتسهر مع من تشاء ، وتنام خارج البيت بحجة متطلبات العمل . لا أحدٌ يسأل عنها ، أو قل لا أحدٌ يريد إزعاج نفسه بالسؤال عنها . وللأسف فراتبها الذي تأخذه تنفقه على المكياج والملابس الضيقة التي تُفصِّل جسمها كما لو كانت جرادة خارجة من الاستحمام باليورانيوم للتو . ومما زاد الطين بلة أنها مؤخراً أجرت عملية تجميل لتكبير صدرها ، بعد أن قال لها مدير المحطة بكل وقاحة إن حجم صدرها لا يجذب الجمهور ، وهو مضطر إلى الاستغناء عنها إذا لم تفعل شيئاً حيال ذلك ، فما كان منها إلا أن لبت طلبه ، وأجرت عملية التجميل . دخل الرجلان إلى غرفة متواضعة ، أثاثها بسيط بشكل أكثر من اعتيادي . ودهان الحيطان ذابل ومتساقط على جسد الأسمنت . وعلى الحائط برواز لآية الكرسي، وتحته صور خمسة شباب، تظهر على وجوههم مسحة الرجولة والعنفوان. وفي إحدى الزوايا خربشات صبيانية واضحة مثل : أحبك يا بابا... لماذا تتركنا يا بابا ؟ . لاحظ العجوز دهشة الرجل وتعجبه من منظر هذه الخربشات ، فحاول إزالة دهشته قائلاً : _ هذه خربشات حفيدتي خولة ابنة بلال .. كلما أزلناها رجعت تكتب من جديد . قال المصور وفي عينيه بريق التفهم واستيعاب الأمور يمتزجان بحنين من نوع خاص : _ لا بد أنها تحب أباها كثيراً وتشتاق إليه . _ كلامك صحيح ، فأبوها دائماً غائب فهو جندي في الجيش . وأمر جيد إذا رأيناه في الشهر مرة أو مرتين . _ ولكني أعرف أنهم يعاملون المتزوجين معاملة خاصة ، ويسمحون لهم بأخذ إجازات أكثر من الآخرين . _ هذا الكلام لا ينفع مع جيشنا الخارج من حرب والداخل في حرب،ويا ليت أننا نقاتل أعداءنا. الأخ يقاتل أخاه ، والبلد في حرب لا تنتهي مع جيراننا وإخواننا. صار الأب عدو لابنه ، والصديق يقتل صديقه . كل الأمور معقدة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ... وأردف قائلاً : _ بصراحة حكومتنا متخلفة ، ورئيسنا علمه في السياسة مثل علمي في اللغة الصينية. لي ثلاثة أولاد قُتلوا في حروبنا مع جيراننا ، وبصراحة أن خجلان أن أقول استشهدوا لأني لا أعرف هل ماتوا شهداء أم لا .. كيف قُتلوا ومن أجل أي شيء قُتلوا، لا أحدٌ يعرف، إن دولتنا تسير وفق مزاج الحاكم ، هو يُضيعنا ونحن ساكتون ومختبئون مع نسائنا في غرف النوم . ولما سمع المصور هذا الكلام رق قلبه ولمع الملح في دمعتين متجمدتين ومختفيتين في عينيه الغائرتين ، وقال : _ أنا آسف يا عمي أني فتحت باب المواجع ، صدقني لم أكن أقصد أن أذكرك بأحداث حزينة . استجمع العجوز قواه الذهنية ، وتصلبت نظراته محاولاً إخفاء بكاء عارم على وشك الهطول ، وقال متصنعاً الصلابة : _ لا عليك ، كلنا سوف نموت . نحن أموات وأولاد أموات وآباء أموات ، ولكن كنتُ أرجو أن يموتوا في حرب أعدائنا ، على الأقل الواحد منا يلاقي في ميزانه يوم القيامة ابناً شهيداً يشفع له . _ معك حق يا عمي ، لكن الأمور لا تسير مثلما نريد . هذه حال الدنيا ، يوم لك ويوم عليك . كان المصور يعقد علاقات مجنونة وروابط من الهذيان المر بين تجاعيد وجه العجوز ، وبين دهان الغرفة المتهاوي . لا أدري ما الذي جعله يقارن بين الصورتين المدهشتين من وجهة نظره . إنه الحلم المكسور الذي لا يملك إلا أن ينهض كلما وقع ، لأن التاريخ لا يحفل إلا بالمنتصرين . وقد يحكم التاريخ على هذه التجاعيد العميقة ودهان الغرفة وكاميرا المصور ، ولكن ماذا لو فرضوا على التاريخ وجهتهم فرضاً، بحيث يضطر التاريخ أن يذكرهم كفاتحين في براري أحزانهم ومراعي أفراحهم. إن هذه الصور الذهنية كانت موجودة في رأسي الرجلين ، ولكن بتفاوت مختلف. كانا يشعران بها ، يمتصان دهشتها ، لكن كل واحد يراها من زاوية مغايرة. إنه الحلم المتشظي الذي يؤول إلى ثنائية الأبيض والأسود ، خارج مذكرات ألوان الحائط ، أو براويز الأحبة الذين نسوا أن يمسحوا الغبار عن صورهم عندما ذهبوا إلى اللاعودة . لم يحدقوا في رموشهم أو أجفانهم المزروعة في صمت البراويز المخيف. كل شيء يركض إلى صمت الحمائم في خلايا سور المقبرة . البشر والحطيان والبراويز والدهان وخربشات الأطفال على دفاتر الانتظار ، انتظار المقتولين في حروب لا تنتهي ولا معنى لها ، حروب ضد ذاتك المقابِلة . أنتَ تكسر المرآة لأن الصورة فيها لم تعجبك ، وما دريتَ أنها صورتك ! . قال العجوز لضيفه : _ ائذن لي قليلاً لأني سأنادي على حفيدتي خولة . _ افعل ما تريد يا عمي . مشى العجوز بخطى يشوبها تعبٌ مستتر إلى النافذة الواقعة في أقصى الغرفة ، وهي تطل على الشارع . نافذة بلا ستائر ، هكذا عارية من ثيابها وغارقة في عُريها. لم تكن النافذة سوى شكل آخر للاندماج مع صخب الحجارة في الشارع الترابي الذي لم يتم تعبيده بالزفت حتى الآن . وكل مناشدات أهالي المنطقة للمسؤولين الحكوميين ذهبت أدراج الرياح. في المرة الماضية _ أي قبل الحرب _ قَدَّم الأهالي عريضة يطلبون فيها تعبيد هذا الشارع ، لكن المسؤول الحكومي رمى العريضة في سلة المهملات على مرآى من الحضور ، واستمر في شرب القهوة ، وقال لهم بكل وقاحة : _ إذا لم يكن لديكم واسطة قوية مستحيل أن يستمع إليكم أحد .. اذهبوا وابحثوا عن واسطة، ومن ثم عودوا إليَّ. والذي لا يعجبه هذا الكلام فليذهب ويُبَلِّط البحرَ . رد عليه أحد الحضور ساخراً : _ وهل بقي لدينا بحر ، فبوارج أعدائنا تسيطر عليه تحت غطاء حكومتنا ، وتجوبه ليل نهار ولا أحد يفكر أن يعترض . انتفض الموظف الحكومي عندما سمع هذا الكلام كأن قطيعاً من النيران مسَّت قلبَه المكشوف للريح ، وقال غاضباً : _ لا أحد يتكلم في السياسة في مكتبي ، من يظن نفسه سياسياً ذكياً أو محامياً عن الشعب فليتكلم في السياسة في غرفة نومه مع زوجته .. والآن من غير مطرود. كانت هذه العبارة الأخيرة كفيلة بخروج ممثلي الأهالي من مكتبه الذي يتصرف فيه كما لو كان مزرعة شخصية ورثها عن أبيه. لأول مرة يُطردون من دائرة حكومية . لأول مرة يشعرون أن دوائر الدولة صارت بمثابة إسطبلات لخيول عِلْية القوم ، لأول مرة يحسون بضخامة المأزق الحرج الذي يسقطون فيه ، ويزدادون غرقاً كلما حاولوا أن يخرجوا منه بسبب تكالب الآلام والخيانات عليهم من كل النواحي . لا أدري لماذا هجمت هذه الذكريات على رأس العجوز واخْتُصِرَت في لحظة زمنية متكورة على ذاتها أثناء مشيه إلى النافذة مع أن المسافة قصيرة جداً ، كأن الذكريات الحادة استغلت قصر المسافة لتكثيف لحظة الذكرى الأليمة التي غزت تلك الرأس المثقلة بالهواجس والكوارث والآمال . وصل العجوز إلى النافذة . أحس أن المسافة التي قطعها شاسعة إلى حد غير معقول. ربما كان ذلك بسبب ثقل الهاجس الذي تفجر في رأسه. نظر من خلالها فرأى حفيدته ما زالت تلعب مع الصِّبية بكل انشراح ، فنادى عليها قائلاً : _ خولة.. يا خولة، اذهبي إلى عمك زياد، وقولي له تعال سَلِّم على الضيف. ردت خولة بلهجةِ غير المبالية : _ حاضر يا جَدِّي ، ولكن بعد انتهاء اللعبة . أجاب غاضباً : _ يا بنت ، اذهبي الآن .. عيب علينا .. الضيف ينتظر . قطعت خولة اللعبة معتذرة للأولاد بكل كلماتها الطفولية ، ومبدية عدم ارتياحها للموضوع برمته ، لدرجة أن استياءها بدا واضحاً من خلال تأففها المقصود والمسموع ، لكنها في النهاية ذهبت رغماً عنها . قال جَدُّها في نفسه : _ بنات آخر زمن ، هذا ما كان ينقصنا ، بنتٌ تَحْكمني . ذهبت الطفلة لكي تطلب من عمها الحضور . كان عمها يقيم في غرفة على السطح ، وهذا يعني أن عليها أن تصعد درجات كثيرة جداً ، فالعمارة خالية من المصعد. أحست الطفلة بحجم الورطة التي وقعت فيها، لكنها لم تكن تملك أي خيار آخر . بدأت تركض وتقفز قفزات خفيفة على الدرج . ازداد لهاثها اللوزي ، وازداد تسارع دقات قلبي ، شعرت للوهلة الأولى أن وقع النبض المتكاثر كالمسامير غير المستعملة . توغلت في لهاثها . فكرت أن تعد الدرجات لكنها كانت تخطئ كل مرة في العد وتبدأ من جديد ، قبل أن تترك هذه العملية الحسابية غير المجدية بشكل نهائي ، فعقلها لا يتحمل اللهاث والحساب في نفس الوقت . وصلت إلى السطح بعد جهد جهود . كان إحساسها يشبه إحساس المنتصرين الذين وصلوا إلى قمة إيفرست بعد العناء الذي تكبدوه. لستُ أعرف لماذا يُخَيَّل إليَّ أن إحساسها كان شبيهاً بذلك الإحساس الذي يملأ حياة المتسلقين المغامرين الذين قد يدفعون حياتهم ثمناً لهذه المغامرة الطائشة ، وهدفهم أن تكتب عنهم الصحافة ، أو أن يحققوا رقماً قياسياً. هكذا تصير حياة الإنسان بالكامل مخصصة لتحقيق رقم ، مجرد رقم. ويصير الإنسان رقماً بائساً مجرداً من المعنى . إنها لعبة الأرقام التي تَختصر حياةَ الكثيرين . وأنا أكتب هذه السطور أشعر أن تلك الصغيرة صارت رقماً لعدد الدرجات التي صعدتها . لقد كانت تحس بهذا المعنى من زاوية ما ، لكنها بالتأكيد لا تستطيع أن تُعبر عنه بكلماتها الطفولية وقاموسها اللغوي المتواضع كغرفة عمها المتمركزة في إحدى زوايا السطح . كان باب الغرفة مغلقاً.اقتربت منه وفي جبينها ابتسامة سنديانة غامضة لا تاريخ لها غير الدهشة . زرعتْ أصابعها الصغيرة على الباب الحديدي الذي وقع فريسة اجتياح الصدأ . طرقتْه طرقاً خفيفاً يعكس ضآلة قبضتها وانكماش قوتها ، لكن أحداً لم يجب فأدركت أن عليها أن تقرع الباب بشدة . استجمعت قواها ووضعت كامل تركيزها في قبضتها الصغيرة المغروسة في أرجاء الباب. وبعد برهة فتح شاب يرتدي البيجاما، وقال : _ ماذا تريدين يا خولة ؟ . _ جَدِّي يقول لك تعال سَلِّم على الضيف . _ ومن هو الضيف ؟ _ لا أدري . _ سوف أجيء بعد قليل . كان زياد شاباً أعزب في التاسعة عشرة من العمر ، وهو طالب في الجامعة يدرس الفلسفة ، لكنه الآن في إجازة قسرية مفتوحة بسبب الحرب التي وضعت أوزارها في الفترة الأخيرة . إنه شاب مربوع أقرب إلى النحافة منه إلى السمنة ، وبشرته فاتحة فأمه شركسية ، وعيناه عسليتان ، وشَعره بالغ النعومة والغزارة، رغم أنواع الشامبو التي يستعملها من أجل أن يظهر خشناً بعض الشيء ، ولكن دون جدوى . ويؤكد في نفسه على الدوام أن هذه الأنواع لا بد أنها مغشوشة ، فهي ليست ذات فاعلية ، لكنه لا يملك خياراً آخر . وفي الفترة الأخيرة أحجم عن استعمال الشامبو نهائياً ، واتجه إلى وصفات العطارين ، لعله يجد فيها ما يخلصه من منظر شَعره الناعم جداً الذي يشبه شَعر النساء ، ومنظر شَعره يشوش تفكيره ، ويسبب له الإحراج بين زملائه ومعارفه في بعض الأحيان رغم ثقته الكبيرة بنفسه، وفي الفترة الأخيرة توجَّه إلى حلق شَعره بشكل شبه كامل ، مما زاده جاذبية بشكل معقول . وعرض عليه المخرجُ المسؤول عن مسرح الجامعة التمثيل بسبب إمكانياته الهائلة ، لكنه رفض بشدة ، لأن التمثيل يعتمد على العري ، وارتماء الممثلات في أحضان الممثلين ، وهذا ما يرفضه زياد جملة وتفصيلاً . فعندما قال له المخرجُ إنك تتمتع بروح جميلة ، رد عليه زياد إنني لا أحب أن أرميَ روحي في أحضان مَن يعرضون لحومهم في دوامات الجنس على الشاشات المسرطَنة . كان زياد متديناً فهو عضو في حركة الإخوان المسلمين ، وعضو اتحاد الطلبة في الجامعة ، وتدينه دفعه إلى الإقامة في غرفة على السطح بموافقة صاحب العمارة والسكن فيها ، فهو يقول إنه لا يستطيع أن يظل مع زوجة أخيه في نفس المكان ، فهذه فتنة شرسة تداهمه ، والواجب أن يسد الذرائع الموصلة إلى الحرام ، هكذا كان يقول لوالده . وقد احتدم النقاش ذات مرة بينه وبين أبيه حول هذا الموضوع، فقد قال له الأب : _ زوجة أخيك مثل أختك ، لن تأكلك ولن تأكلها ، فلا تُعقد الأمور . فرد عليه زياد قائلاً : _ على عيني ورأسي ، ولكن الشيطان شاطر ، وأنا أريد أن أريح نفسي من الوساوس والحرام . كان الأب ذا ثقافة دينية محدودة للغاية ، وفي أحيان كثيرة تذوب ثنائية الحلال والحرام بالنسبة إليه في العادات المتوارثة والتقاليد البالية . وهذا الأمر الخطير من وجهة نظر زياد لطالما أرقه في الليالي ، ونغص عليه حياته ، حتى إنه فكَّر أن يستأجر منزلاً آخر ، فهو يَعمل ويَدرس ، لكن والده قال له بعد أن رأى إصرار ابنه إنه سيبني له غرفة على السطح بعد موافقة صاحب المنزل ، وسيطلب منه أن يُعفيَه من أجرة الغرفة ، وبالفعل حصل ذلك ، وتم حل الإشكال . بدأ زياد يُغير ملابسه. ارتدى قميصاً وبنطالاً كان قد اشتراهما في العيد الفائت، فهو ليس مغرماً بملاحقة الموضة والشراء الجنوني للأشياء ، إذ إنه يعتبر ثقافة الاستهلاك نتاج العولمة الإمبريالية ، والتي يسميها الأمركة الشيطانية . وبالتالي فهو مناوئ لها جملة وتفصيلاً . وهذه المصطلحات الشخصية لطالما استخدمها في أبحاثه التي يطلبها أساتذته ، وقد سببت له بعض المشكلات ، فأحد الأساتذة وهو الدكتور وائل عَمَّاش ، وهو ليبرالي علماني حتى النخاع ، زوجته أمريكية ويحمل الجنسية الأمريكية، وهو خريج هارفارد ، ما إن قرأ هذه المصطلحات حتى طار عقلُه بشكل كارثي ، ووصم البحث المقدَّم بالصِّفر ، مما قاد زياد إلى الرسوب في المادة بغير وجه حق . وعبثاً ذهبت محاولاته للاعتراض لدى إدارة الجامعة الفاسدة . نظر إلى المرآة ليكون هندامه على أحسن هيئة. وضع قليلاً من العطر المحلي الصنع ، ثم خرج وأغلق الباب وراءه . نزل الدرج على أقل من مهله ليقابل هذا الضيف المجهول بالنسبة إليه . وأثناء نزوله استغرق في خواطر شتى تتعلق بهوية الضيف وهدف مجيئه . واستغرق في الخواطر لدرجة أنه فكر في احتمال أن يكون الضيف هو أستاذ الجامعة العلماني ، وأنه جاء من أجل الاعتذار . كانت خاطرة عابرة سرعان ما أخرجها من رأسه مؤكداً لنفسه أن عنجهية الدكتور تمنعه من المجيء أو الاعتذار . وبعد أن رأى وساوسه تأخذ منحى غير معقول طردها كلياً ، وركَّز في نزول الدرج دون أن تداهمه فكرة عد الدرجات مثلما حدث مع خولة . طرق بابَ منزل أهله ، ثم انتبه إلى أن الباب مفتوح ، فدخل إلى البيت ، وتوجه فوراً إلى غرفة الضيوف . قرع الباب ثم دخل مُسَلِّماً على والده والضيف ، فردا عليه السلام . كان وجه الضيف غير مألوف بالنسبة لزياد ، لكن الكاميرا استرعت انتباهه ، فأيقن في نفسه أن هذا الرجل له علاقة بالتلفاز . وهذه الخاطرة السريعة برقت في ذهنه ، وتركت انطباعاً من نوع ما ثم اضمحلت ، فلم يلمح الأب أو الضيف أي شرود ذهن أو استغراق غير منطقي يعصفان بزياد . تقدم زياد وصافح الضيف مرحباً : _ أهلاً وسهلاً بك في بيتنا . _ شكراً جزيلاً لأنك جئتَ، وأنا آسف إن أزعجتك أو أشغلتك عن أي شيء. _ لا عليك ، لا يوجد أدنى مشكلة . وجلس الجميع وتركوا الصمت يتوسطهم لهنيهة قبل أن يفجره الأب قائلاً للضيف : _ هذا ابني زياد ، طالب فلسفة في الجامعة ، وهو آخر العنقود . ثم أشار إلى الضيف ووجَّه الكلام لابنه : _ هذا الأخ مصور التقيته هو وزميلته يصوران المنازل المدمرة ، وقد دعوتهما إلى المنزل لتناول الطعام . ثم تذكر الأب أنه لم يسأل المصور عن اسمه ، فقال مخاطباً المصور : _ الله يخزي الشيطان ، لقد نسيتُ أن أسألك عن اسمك ، فلا تؤاخذني . _ لا يوجد مشكلة يا عمي ، أنا رشيد الوردي ، اعتبرني مثل ابنك . يجيب الأب وقد تهللت أساريره : _ الآن صار لي ابنان في الغرفة . وضحك الجميع من أعماقهم، كأنهم لم يضحكوا منذ قرون . كانت الضحكات تخرج رغم كل الخراب في الخارج ، والمنازل المدمرة ، والأنقاض التي تخنق رئةَ الجَمال في تلك الدور المسوية بالأرض ، ومذاقَ الحلم المسلوب . كان المصور رشيد قد نسي موضوع شرب الماء في زحمة الأحاديث والمواقف ، والعجوز أيضاً نسي ذلك فلم يحضر لضيفه ماء للشرب . وتذكر المصور عطشه الذي نسيه في تفاصيل أحداث تمر كالدبابيس ، وخجل من طلب الماء من الأب ، فتوجه بالكلام إلى زياد بلهجة الظمآن في صحراء الانهيار الأكيد : _ لو سمحت ، ممكن كأس ماء . وهنا تدخل الأب كالملسوع ، وقال لابنه : _ بسرعة يا زياد ، أحضر الماء والطعام لضيفنا بسرعة ، فقد نسينا الموضوع . والتفتَ الأب إلى المصور قائلاً : _ لا تؤاخذني يا بني فذاكرتي هذه الأيام لا تساعدني ، وقد بدأت تخونني مثل أشياء كثيرة في الحياة . وانطلق زياد بسرعة إلى المطبخ فوجد ثلاث نساء يُحضرن الطعام . وهناك امرأة مجهولة بالنسبة إليه وهي المراسلة الصحفية ، وقد كانت ملابسها ضيقة للغاية لدرجة جعلت زياد يلمس في نفسه وسواساً جنسياً عابراً كومضة البرق لكنه اختفى نهائياً بعدما غض بصره ، وأطرق إلى الأرض . تسلل عنصر المفاجأة إلى صوته فارتبك ، ثم استعاد تماسكه وثقته ، وقال مخاطباً أخته : _ هل الطعام جاهز ؟ . _ نعم جاهز . وانتظر برهة من الزمن قبل أن تناوله أخته الطعام الموضوع على صينية قديمة مع إناء الماء . حمل الصينية بيديه الاثنتين ، ثم سار إلى خارج المطبخ ، وخطواته تكاد تأكل الأرض هرباً من هذا الموقف الذي سبب له إحراجاً وقتياً غير متوقع بينه وبين نفسه . لقد كان شاباً ذا أحاسيس يسهل خدشها ، لكنه يتظاهر على الدوام بالتماسك والصلابة ، وهذه نقطة قوة جعلت منه شخصية لا يمكن استفزازها ، فهو يكظم غيظه ، يلجمه إلجاماً . قد يكون الطفل الذي في داخله يبكي خوفاً من شيء ما ، لكنه لا يسمح لعينيه أن تنهمرا بالدموع أمام الناس ، وقد يكون في بعض الأحيان مكسوراً من الداخل ، لكن خارجه متماسك وصلب أمام الناس لئلا يستغلوا لحظة ضعفه فيجتاحوه . هكذا كانت خطة عمله السرية في كل مراحل حياته مع ازدياد وعيه بها كلما تقدم في العمر . حضر الطعامُ محمولاً على صينية كأنها مثبتة في يدين زجاجيتين ، ووُضع على الطاولة . كانت عينا المصور تنهشان المشهد وتخمشانه بأظافر غير مرئية ، أظافر تبرق في الذهن الظمآن ، وتتوارى عن الأنظار خجلاً من أشياء الجوع والعطش التي تحدق بالكائن من جميع الجهات . وما إن رأى المصور إناء الماء حتى هجم عليه كأن بينهما ثأراً قديماً ، وراح يشرب منه مباشرة دون كأس ماء ، وبعد أن ارتوى خجل من فِعلته التي تنم عن سوء أدب بالغ ، فاعتذر قائلاً : _ يا جماعة سامحوني ، الجوع كافرٌ والعطش كذلك ، أول ما رأيتُ الماء نسيتُ كل شيء ، فأرجوكم لا تؤاخذوني . رد العجوز بصورة فيها رِفق ولين وقبول للاعتذار : _ لا عليك ، لو كنتُ مكانك لفعلتُ نفس الشيء ، والآن قل باسم الله ولتأكل كما تشاء . _ لن آكل حتى تأكلا معي . رد العجوز وقد ارتسمت على محياه ابتسامة عابرة : _ وهو كذلك . ثم التفتَ إلى ابنه قائلاً : _ مد يدك . وغاص الجميع في الأكل كأنهم لم يأكلوا منذ قرون.ففي فترة الحرب عانى الناس الأَمَرَّين ، وجاعوا وعطشوا وتشرد كثير منهم ، بسبب انقطاع الإمدادات الغذائية نتيجة حصار شرس ضُرب على المدينة، وقصف جوي وبحري مكثفين أحرق اليابس قبل الأخضر . حتى إن هذه العمارة التي تقطن فيها عائلة خضر الزاوي هجرها سكانها إلا سكان الطابق الثاني ، وهم عائلة يعقوب بنيامين ، وهي عائلة يهودية عربية ترجع أصولها إلى قبائل يمنية اعتنقت اليهودية قبل قرون بعيدة . وهذه المدينة الساحلية عانت أكثر من غيرها بسبب موقعها الإستراتيجي، فهي بمثابة ميناء كامل التجهيزات ، كان كذلك قبل الحرب ، أما الآن فصار الميناء فاقداً لمعناه ، هذا إن بقي ميناء أصلاً. لقد قُصف من البوارج الحربية بصورة وحشية ألغت وجوده ، وتركته رملاً يلامس الشاطئ باستحياء شديد . لقد كانوا منهمكين في الأكل ، غارقين في رائحة الطعام ومنظره اللذين يَعبران آفاق أحلامهم السليبة . هم أنفسهم لم يكونوا يعرفون هل هذا فطور أم غداء ، وإن كنتُ أرجح أنه فطور يتقمص أحلام غداء طالما تبخرت في أجواء حرب طاحنة، حَوَّلت الناس من أحلام خلاقة إلى عيون ذابلة تجوع وتعرى في كل الأزقة الذي لا تجد فيه إلا المسلحين وأكياس الرمل والبنادق الآلية . كانوا يأكلون ويأكلون . أرجو أن تعذرهم لأن حلمهم صار معدةً خاوية قرب هذا الدمار الرهيب، الذي يصدر ضجيجاً يهز أركان النفس القلقة كصحراء تجلس في مقهى لا يرتاده إلا المخبرون المخلصون ! . أيديهم غاصت في هذه الحفلة التي قد لا تتكرر ، من يدري ؟!. قد تشبع اليوم وتجوع غداً ، ويصير تحصيل كسرة الخبز مهمة وطنية جليلة تلهث وراءها بكل الأساليب الديمقراطية وفق منظور تجار الرقيق الأبيض والأسود، هذا هو الانفتاح في عصر الإبادة الشرعية . مثلما يقول زياد طالب الفلسفة في أحد أبحاثه الذي نال عنه علامة صفر لأن أستاذه ليبرالي حتى النخاع لم يعجبه هذا الأسلوب الذي يتهمه بالرجعية وعض اليد التي تمتد لك بالقمح المسرطَن . إن هناك جياعاً حتى النخاع ، ومصابين بالتخمة حتى النخاع . لستُ أدري كيف سَيُعبِّر زياد عن هذه المفارقة في أبحاثه ، لكنني أرجو أن لا ينال عليها صفراً كما حدث في المرة الماضية مع أستاذه العلماني . كانت النساء يقمن بدورهن في الأكل بكل شهية . في عيونهن ذكريات سلسلة متصلة من الحروب المتكررة التي لا تنتهي في هذا المكان الذي كلما تم ترميمه أُعيد تحطيمه ، وللأسف فنسبة كبيرة من السكان هجروه إلى غير رجعة . إنها الحرب ، يا لها من كلمة قاسية ! . لقد كُنَّ يشعرن بهذه الكلمة، كل واحدة منهن تشعر بها من زاوية مختلفة. ففاطمة مثلاً تعرف الحرب من خلال غياب ساعي البريد ، بمعنى آخر غياب رسائل خطيبها أنس الصَّواني الذي يعمل في الخليج كمهندس بترول ، والذي انقطعت رسائلُه منذ بدء الحرب ، أو بالأحرى أنه لم يعد يبعث رسائل لعلمه أنها لن تصل . شيء مؤسف وصادم أن يعرف الإنسان أن رسائله لن تصل ، كأن الأمر يشبه مشاعر رائد الفضاء الذي يعلم أن رحلته القادمة ستكون رحلته الأخيرة لأنه سوف يموت ، أو كأحاسيس لاعب السيرك الذي يوقن في قرارة نفسه أنه سيسقط يوماً ما ، ولن يجد شبكة تنتظره في الأسفل لكي تحميَه . لا أدري لماذا بدت المشاعر مختلطة، ربما لأن الحياة مزيج من السم والترياق ، من الحزن والفرح . هكذا يخرج الحزن من الفرح ، ويخرج الفرح من الحزن ، تماماً كما يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي . ولكن المشكلة أن هناك موتى سائرين في الشوارع لا يعلمون أنهم موتى ، والسؤال المؤلم هل نصعقهم ليعودوا إلى الحياة ، أم نتركهم سعداء في موتهم الذي يظنونه ذروة الحياة ؟!. هكذا تختلط المشاعر في نفسية فاطمة، وبالتأكيد هي نفسها لا تعرف التفسير الفلسفي لمشاعرها ، لأنها تعيشها لحظة بلحظة ، فمن يعش مشاعرَه لا يملك الوقت لكي يُفلسفها . نحن الروائيين الوحيدين الذين نُفلسف حياة الشخوص لأننا لا نعيشها ، فمن كان مندمجاً في الحياة فهو يحياها ، ومن كان خارجاً عن نسقها الرتيب فهو يكتبها ، هكذا بدت لي الأمور ، وقد أكون مخطئاً ، من يدري ؟! . أما فايزة فكانت تأكل بشراهة ممزوجة بالأدب، أما عقلها فهو مع زوجها الذي يُقاتِل على الجبهة ، ولم يعد منذ ثمانية أشهر . نعم ، ثمانية أشهر لم ير زوجته وابنته الوحيدة ، ولا يملك الوقت الكافي لكتابة رسالة، وحتى لو كتبها فمن سيوصلها ؟ . محال أن تجد ساعي بريد يتنقل على دراجة في هذا الخراب المجنون ، لكي يوصل رسائل المتحابين ، أو رسائل الجنود إلى زوجاتهم . إنهم جنود قد يعودون ولا يعودون . إن الجبهات المفتوحة على القتال تكون فيها الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات . وحمداً لله أن الحرب قد انتهت ، فهذا يعني أنها قد تشاهد زوجَها من جديد ، قد تعانقه أو تشمه ، أو ربما ترتمي في أحضانه باكية ، ولكن لماذا البكاء ؟ وماذا ستشم فيه ؟. رائحة البارود ؟ ، أم عرق المحارِب الذي لا يتقاعد ؟. لستُ أدري ماذا ستشم فيه . المهم أنها ستشمه لأنه زوجها ، كلاهما مشى في دم الآخر دون أن يذبحه ، هكذا يُفترض . إنني أتخيل منظر ابنته خولة وهي ترى أباها ، لا بد أنها ستقفز عليه كغزالة هاربة من عيود صياد لا يملك إلا أن يَقتل من أجل أسرته الجائعة التي تنتظره خلف ستائر الانتظار في كوخ غامض عند أطراف غابة خرافية . لا بد أن الصغيرة قد كبرت في هذه الثمانية أشهر ، بالتأكيد ربما ازداد طولها سنتيمتر أو أكثر ، أو ربما ازداد وزنها . لكنني بصراحة أشك أنها نمت ، وكيف تنمو وعائلتها كادت أن تموت جوعاً خلال الحرب ؟! . فلنحذف مفردة النمو من قاموس هذه الصغيرة ، على الأقل في هذه المرحلة . إن المشاعر المتطايرة في الأرجاء تشبه مشاعر لاعب تنس أرضي هُزم في مبارة نهائية ، لكنه لا يملك إلا أن يُقاتِل . كانت فايزة شابة جميلة مكتنزة اللحم في السابعة والعشرين من العمر، وهي من أصول تركية، وغالبية أقاربها يقطنون في أنقرة . وهي تتقن اللغتين العربية والتركية. وفي المرة الأخيرة التي زارت فيها تركيا برفقة زوجها وابنتها ، أي قبل الحرب ، أحست بضيق شديد بعد أن تعرضت لمضايقات شديدة نتيجة ارتدائها للحجاب . لقد كانت قوات الأمن تنظر إليها بعين الاحتقار بعد أن رأوا الحجاب على رأسها ، ولم يستطع زوجها أن يفعل شيئاً إلا أن يُبعد زوجته عن الأماكن التي يُحظَر فيها ارتداء الحجاب. أحست فايزة بغربة ما بعدها غربة ، فقد بدا وطنها مقبرة لا نهائية، وثقوباً كونية سوداء تمتص أية بقعة ضوء قد تبزغ هنا أو هناك. إن الدموع تحجرت في عينيها ، وتأسفت في قلبها على هذا الوضع المميت في مسقط رأسها ، ذلك المكان الذي قدمها للعالَم يقرر في لحظة جنون أن يئدها لأنها اختارت طريقها وفق قناعاتها الداخلية . إنها ندمت أشد الندم على تلك الزيارة ، وأقسمتْ بالله أن لا ترجع إلى وطنها مرة أخرى . لستُ أعرف لماذا هجمت عليها هذه الأفكار في تلك اللحظة التي تحلَّقت فيها النسوة حول المائدة الخشبية المنخفضة . وضع غريب للغاية يحفر في صيغ الغياب حضوراً للأسى . ربما يكون منظر الطعام دافعاً لاجترار ذكريات من نوع خاص . في واقع الأمر لا أستطيع أن أجزم بذلك أو أنفيَه . أما المراسلة ديالا ، وبالمناسبة هذا ليس اسمها الحقيقي فاسمها الأصلي فاطمة الزهراء ، لكنها غيرت اسمها اعتقاداً منها أن اسمها الأصلي ليس فنياً ، ولا يناسب الخروج على الشاشة بالملابس الفاضحة لجذب أكبر قدر من الجمهور المكبوت جنسياً . وللإنصاف فإن فكرة تغيير الاسم هي من اختراع صاحب المحطة الذي يبدو أنه يتحكم بكل شيء أمامه ، بدءاً من البشر الذين يعتبرهم مُلْكاً شخصياً لسعادته ، وانتهاء بالمعدات التي اشتراها من ماله غير الحلال. والأمر عنده سيان ، سواء حصل على المال من طريق مشروعة أو غير ذلك ، فكثرة المال الذي يفيض في يديه أعمى عينيه فلم يعد يعرف الحلال من الحرام ، أو بالأحرى قل إنه يراوغ ويمثل دور الجاهل المستسلم للأمر الواقع بحرفية عالية ، وما درى أن جهله المقصود يحاصره كالهاوية الأنيقة. لكنه يعتقد أن ربطات العنق التي يسرق ثمنها من الشعب الطريد سوف تحميه هو وأتباعه من الملاحقة والمسؤولية ، خاصةً أنه مدعوم من قبل رجال متنفذين في الدولة . إنها كتل الحزن في موسم الاتجار بمشاعر البشر وشهواتهم السجينة . عَرَّفتْ ديالا نفسها للمرأتين باسمها الفني ، بعد أن خلعت اسمها الحقيقي للأبد ، هكذا كانت تتصور . تذكرتْ وهي في غمرة الطعام التحرشاتِ الجنسية التي تعرضت لها من صاحب المحطة . _ تباً له ! إنه شيطان . هكذا أكدت في نفسها . شعرتْ أنها لا تختلف كثيراً عن الطعام الموضوع أمامها ، فهي تُؤكل تدريجياً وتُستنزَف شيئاً شيئاً . أكدت لنفسها أنها طعامٌ من نوع خاص، وأن ما تظهره من لحمها لِتُثْبِت وجودَها في المحطة لا يختلف عن أفخاذ الدجاج المطبوخ جيداً على مائدة ذئاب بشرية . لقد نقلها منظر الطعام إلى جسدها المكشوف أمام الأعين . إنها تحتقر نفسها لكنها تُكابِر وتخدع نفسها بدعوى الحرية والتمدن . تعرف أنها صارت دمية مزركشة يُلعب بها ثم تُلقى في أيدي أناس يمزقونها لأنهم سئموا من اللعب بها ، ويريدون الانتقال إلى لعبة جديدة وبراقة أكثر . لكنها عملت عملية التجميل لتكبير صدرها ، وتستعمل أغلى أنواع المكياج ، ماذا يريد الجمهور أكثر من هذا ؟ . هل سيكون مصيرها كالدجاجة المقلية على نار هادئة ؟ . ألقتْ هذا السؤال في قاع نفسها، بيد أنها تهربت من الإجابة كالعادة. لماذا لم أتزوج إلى الآن ؟ . سألتْ نفسها لتغير الموضوع . ما الذي ينقصني ؟ . راحت الأسئلة تتكالب عليها وتفترسها ، فأحست بصداع لاسع وسريع، فوضعت يدها على رأسها . لاحظت المرأتان فعلها، فسألتها فاطمةُ : _ هل أنتِ بخير ؟ . _ نعم بخير ، ولكن صداعاً خفيفاً قد أصابني ... على أية حال شكراً لكم على الطعام ، فقد شبعتُ . لم تأكل بشكل جيد . ربما لأنها خرجت من بيتها بعد أن أفطرت ، أو ربما لأنها متعكرة المزاج بدرجة كبيرة ، ولكنْ هل من يتعكر مزاجه لا يفقد الشهية في الأكل؟ . لستُ أعرف ، ولكنْ ما أعرفه أنها غرقت في قاع حطامها غير المنظور ، ولم تحاول الصعود إلى السطح . هكذا هو شعورها الذي تراوغه وتطمح إلى طمسه لئلا تعترف بالحقيقة العارية أمام وجهها العاري من الأقنعة . قالت فاطمة محاولةً أن تحثها على الأكل : _ ولكنك لم تأكلي شيئاً ، وما زال الطعام كما هو ... إذا كان الطعام لا يعجبك قولي لنا وسنُحضر بدلاً منه . _ يا جماعة ، الأكل كان رائعاً، وشكراً لكما ، وحقيقةً أنا شبعتُ لأنني أفطرتُ جيداً اليوم ، هذا كل ما في الأمر . لم تُرد فاطمةُ أن تضغط عليها أكثر من ذلك ، فتركَتْها وشأنها . أما بالنسبة للطعام فلم يكن في البيت سواه . نعم ، صَدِّقوني لم يكن في البيت سواه ، فالحرب انتهت للتو ، ولم يتسن لكثير من الأُسر أن تُحضر مؤونة كاملة من الأسواق ، وكيف ستحضر مؤونة وهي بالكاد تملك المال الذي يوصلها إلى حالة الكفاف ؟! . فالأسواق قُصفت، والمحلات مغلقة من أجل الصيانة وإعادة البناء ، والمحلات التي سَلِمت من القصف معدودة ، وهذه هي التي تزود الناس بحاجياتهم الأساسية ، فقط الأساسية . فالناس خارجون من حرب ، ولم يستعدوا ما فيه الكفاية للتأقلم مع الوضعية الجديدة ، وضعية السِّلم الذي لم يتعودوا عليه ، بسبب كثرة الحروب في هذه البقعة التي حَوَّلها الساسةُ إلى خراب فظيع . انتهى الجميع من الأكل رغم أن فاطمة وفايزة لم تشبعا ، لكنهما معتادتان أن لا تأكلا أمام ضيف انتهى من الأكل . هذه هي العادات والتقاليد التي تربى الناسُ عليها في هذه الأحياء الشعبية . وقد لاحظتْ ديالا هذا الأمر ، فقالت : _ يا جماعة ، استمرا في الأكل ، ولا تلتفتا إليَّ . أجابتا بصوت واحد كأنهما حفظتا دورهما في مسرحية من نوع خاص : _ لقد شبعنا . ثم تداركت فايزة وكأنها تغرد خارج السِّرب : _ على أية حال سوف نأكل فيما بعد . ردت ديالا متصنعة الأسى وعدم الارتياح : _ أنا آسفة بسبب هذا الموقف السخيف الذي تسببت به . ردت فاطمة وكأنها أخذت الكلام من فم فايزة : _ لا عليك ، الطعام لن يطير .. وما دامت الحرب انتهت ، فسوف يعود الطعام يملأ بيوتنا مثل أيام زمان . وضحك الجميع ضحكة خارجة من أعماق قلوبهم المتعلقة بأشياء مختلفة ، وكلٌّ يُغَنِّي على ليلاه. وفي واقع الأمر لم أكن أعرف لماذا داهمهم جيش الذكريات عندما التفوا حول مائدة الطعام . إن الذكريات حين ضربتهن بقسوة غاب التفكير في نوعية الطعام ، فلم يعد شكل الطعام إلا ظلاً لطعام من نوع خاص اسمه الإنسان ، وما أكثر الأشياء التي تُفضِّل التهامَ صنف الإنسان، بدءاً من الهموم والذكريات وانتهاء بآكلي اللحوم البشرية الذين يلبسون لكل حفلة قناعها الخاص بها . لاحظت فايزة بروز عدة شعرات خارج حجابها، فعَدَّلت وضعية حجابها ليشمل كامل شَعْرها . أثار هذا المشهد غير المألوف بالنسبة لديالا أسئلة متفتحة على كل الاحتمالات ، وبرق في ذهنها سؤال من نوع خاص ، فقالت وعلامات التعجب تَرُجُّها : _ ألا يسبب لك الحجاب ضيقاً في هذه الحرارة العالية ؟ . ردت فايزة والابتسامة تعلو سحنتها : _ لا يوجد أية مشكلة يسببها الحِجاب .. صَدِّقيني لو ارْتَدَيْتِه لأحببته من كل قلبك . وعندئذ تدخلت فاطمة قائلةً بحزم : _ إذا كانت الحرارة عالية ، فنار جهنم أشد حراً . هبطت هذه العبارة على رأس ديالا كالمطرقة . لم تتعود أن تسمع كلاماً ذا علاقة بجهنم . جهنم ! إنه اسم مرعب ، لكنها لا تسمع هذه اللفظة إلا في الأفلام الأجنبية أثناء تناولها للمشروبات الغازية أو الكحول مع المكسرات . فقد كانت ديالا لا تجد غضاضة في شرب الخمر ، وهي معتادة على معاقرتها . إنها نشأت في بيتٍ مفكَّك ، وما زالت إلى اليوم تتذكر بداية تعرفها على هذا الوباء المسعور المدعو خمراً ، فوالدها كان يعود إلى المنزل في آخر الليل مترنحاً يمسك بزجاجة خمر من النوع الرخيص ، ومن شدة سُكْره لا يدرك أن هناك بقية في الزجاجة . وكان يضع الزجاجة على الطاولة الخشبية الوضيعة ويرتمي على الأرض ويغطس في نوم سحيق . وهذه البنت الجاهلة حينئذ لما تستيقظ تجد أباها ممدداً على الأرض بشكل مثير للشفقة والاحتقار في آن . لمحتِ الزجاجةَ. منظرها يختلف عن زجاجات العصير التي تشتريها من الدكان المجاور لبيتها الذي صار فيما بعد سوبر ماركت لا تستطيع أن تدخله بسبب غلاء أسعاره . منظر السائل الملون في الزجاجة يغريها ، تقترب منه شيئاً فشيئاً . إنها تقترب رغم تردد خطواتها . لقد شربت ما تبقى من خمر بالكامل . أحست تلك الطفلة أن ما شَرِبَتْه شيء مقرف ، وفكرت للحظة كيف أن والدها يشرب هذا الشيء المقرِف . لم تكن تعرف ساعتئذ أن هذا المادة تدعى خمراً، لكنها بالتأكيد عرفت فيما بعد ، وصارت تلتمس أعذاراً مجنونة لوالدها السكير ، كأن تاريخ الجثث الراكضة في الضياع قرب المحاكم العسكرية التي تحاكم القططَ الشريدة يُعيد نفسه ، ولكنْ بأشكال مختلفة . إنها كَبُرت بما فيه الكفاية ، وصارت تشتري خمراً بنفسها من خمارة هاكوب الأرمني المقابِلة لمكان سكنها . إنها سلسلة الضياع تتكاثر كالطحالب في رئة العَفن . وما زاد الطين بِلَّة أن والدَيْها مُطلقان ، وقد كانت تقضي يوماً عند أمها ويوماً عند أبيها بموافقة أمها . وفي حين علمت الأم أن الأب يعود إلى بيته سكران ، منعته من رؤية ابنته بشكل نهائي . كم مضى على تلك الأحداث ؟!. سنة ؟سنتان ؟ عشر سنين؟ مئة سنة ؟. ما أهمية الزمان إذا كنتَ غائباً عن المكان الذي يحضنك ويقتلك وأنت مبتسم في وجه الدمار الشامل ؟ . لم تكن لفظة "جهنم" في قاموسها اليومي الخالي من المواعظ والإرشادات الدينية. إنها تسمع هذه الكلمة بين الفينة والأخرى من خلال التلفاز ، فهي امتنعت عن الذهاب إلى السينما ، فالمرة الوحيدة التي ذهبت إليها لم تسلم من التحرشات الجنسية التي تتلقاها من الشباب وكلماتهم النابية وهم يصفون المشاهد الجنسية في الفيلم بأصوات عالية بعد انتهاء العرض بكل وقاحة. وبالطبع ما درت أن لفظة مثل هذه ستفتح عليها باب الذكريات الأليمة على مصراعيه، تلك الذكريات التي كلما طَرَدَتْها عادت أشد قوةً وألماً . قالت فاطمةُ وعلامات التعجب المختلط بالاستياء بادية على ملامحها وكأنها تعرف الجواب غير المقنع مسبقاً : _ اسمحي لي أن أسألك سؤالاً مُحرجاً بعض الشيء ، هل تقضين كامل اليوم مع المصور لوحدكما تدوران في الشوارع ؟ . تفاجأت ديالا بصيغة السؤال ، حيث إنها لم تتوقعه البتة . ظهرت أمارات الضِّيق على وجهها الذاهب في الانكماش التدريجي . لم تعرف كيف تَبدأ إجابتها . فكرتْ أن يكون جوابها اللاجواب ، لكنها عادت إلى مكابرتها قائلة : _ نحن في عصر الحضارة والتقدم والرقي ، وأنا أخرج مع مَن أشاء ، والمصور أولاً وأخيراً زميلي في العمل ، وواحد من أصدقائي . تعجبت فاطمة من هذا الاعتراف القادم من امرأة حول صداقات رجالية ، وشاركتها في التعجب فايزة، فهاتان المرأتان نشأتا في محيط ديني مُحافِظ يُحَرِّم الصداقاتِ بين الرَّجل والمرأة . وبعد أن قامت فاطمة برمي صمتها في دهشتها قالت مستنكرة : _ لا يجوز للمرأة أن تصادق الرِّجال ، يجب أن تعيش بشرف ، لأن الإنسان عموماً والمرأة خصوصاً ليس لهما إلا السمعة الحسنة . لم يعجب هذا الكلامُ ديالا ، فقررت أن تُغَيِّر الموضوعَ لتخرج من الحرج الذي وقعت فيه ، فقالت : _ لقد تأخرنا كثيراً ، وعلينا أنا والمصور أن نقوم بأعمال كثيرة .. اعذراني يا جماعة، ولكن الوقت ضيق ، وشكراً لكم على حسن الضيافة. وقامت ديالا بعد أن نفضت عن ملابسها الغبار ، ولكن من أين جاء الغبار ؟!. لستُ أعرف ، وما أعرفه أنها كانت متعودة على نفض ملابسها أولاً بأول سواء وُجد غبار أم لم يوجد، ولم أعرف في تلك اللحظة ماذا كان يدور في خلدها. وقامت المرأتان لترافقها إلى خارج المنزل . وقبل الخروج اقتربت فاطمة من باب غرفة الضيوف ، وقَرعَتْه قرعاً خفيفاً ، وبعد برهة خرج أخوها زياد قائلاً : _ ماذا تريدين ؟ . _ الأخت ديالا تريد المغادرة فأخبرْ المصور برغبتها . ودخل زياد إلى الغرفة ، وأخبر المصور برغبة المراسلة ، فاستأذن من صاحب المنزل بالانصراف ، وسَلَّم على الرَّجلين مُوَدِّعاً ، وحمل الكاميرا الخاصة به ، والتقى بالمراسلة المتجهمة عند باب المنزل الخارجي بعد أن دخلت فاطمة وفايزة إلى الداخل، وانصرفا بعد أن ألقيا تحية الوداع . إن المهمة التي قادت المراسلةَ إلى هذا المكان تبخرت واندثرت . فقد كانت تهدف إلى عمل لقاء تلفزيوني مع أحد السكان المحليين الشاهدين على الدمار المذهل، لكنها بصراحة قررت أن تبحث عن أناس آخرين بعد أن حصل هذا النقاش الذي لم يعجبها . فمزاجها تعكر بصورة عنيفة، أضف إلى هذا مزاجيتها المتقلبة. كانت متجهمة. وجهها كأنه قُدَّ من بارود طازج . حاجباها الرفيعان كأنهما نورسان قتيلان . وجسمها أشبه بمنجم فحم هجره العمال إلى الأبد . قالت في نفسها : _ حَسَنٌ أنهما لم ينتبها إلى أنني أقوم بنمص حواجبي ، فلو انتبهتا لقامتا بإعطاء محاضرة دينية حول هذا الموضوع . كانت ديالا امرأة ذات ملامح طفولية ومتوحشة في آن معاً ، وهي وقحة وخجولة في نفس الوقت . إنها كتلة متحركة من المتناقضات ، ما تُثبته في لحظة تُلغيه في اللحظة التي بعدها . لا تطلب مني تفسيراً منطقياً لطبيعة شخصيتها ، لأنها هي نفسها لا تعرف نفسها ، ولا تعرف ما تريد. فشخصيتها تتبدل مثلما تتبدل ثيابها الفاضحة حسب بوصلة الضياع. إنها تائهة في شِعاب قلبها الخشبي . ولكنْ هل لها قلب ؟. أظنها تملك قلباً ، لكنه تحصيل حاصل ، لا يشعر بحقيقة الأشياء الجميلة في الحياة . فقط يظن الجَمال في أطنان المكياج المسكوب على وجهها الذاهب في الاضمحلال الحتمي . إنها رجعُ الصدى ولم تكن في يوم من الأيام صوتاً . هي نداءٌ لغريق قديم لم يتمكن خفر السواحل من إنقاذه لأنه أَحب غرقَه ، وأَحب انتحاره بكل ما في الجسد المغبر من جنون ووقاحة . لاحظ المصورُ انزعاجها الشديد الواضح على ملامحها ، فخاف أن يسألها . فقد كانت شخصيتها تطغى على شخصية المصور الذي يمثل دور التابع الصامت بكل اقتدار . ها هو خوفه من السؤال يصير سؤالاً وجودياً جديداً، ومحفوراً في صدره المنكمش في هذا المكان المفعم بالدمار، فحيثما وَلَّيْتَ وجهك فَثَمَّ جثة أو أنقاض منزل مهدوم أو استغاثة شخص لا تقدر على إنقاذه . مضيا إلى حيث أُريد لهما والخراب يلبس ذكرياتهما بصعوبة . إنهما ميتان لكنهما على الأقل يمشيان في هذا المدى اللامدى . أما فاطمة وفايزة فذهبتا إلى الطعام مسرعتين لتكملا الأكل ، فالجوع ضرب أوتاده في وجهيهما ، فبدت على الملامح آثار جوع ظامئ مثلما تبرز أخاديد الذكريات الأليمة على خدود عمال الإنقاذ الذين يتأخرون دائماً في هذه البقعة الساحلية المنبوذة ، والتي يبنيها الجرحُ قصراً رملياً ثم يهدمه بصورة هستيرية ، ومع هذا فالبحر المجاور للذكريات يأبى أن يرحل كما رحل الشباب الباحثون عن العمل إلى أمريكا وأوروبا ، بعد أن صارت بلادهم أخشاباً لموقدة قديمة ينام قربها كلابُ السلطان الوفية ، والمستحمة للتو بدماء الشعوب التي صارت شامبو ذات نوعية فاخرة ونادرة . التهمت المرأتان كامل الطعام فلم تُبقيا شيئاً ، فأيام الحرب علَّمت الناسَ قيمة الطعام الذي يُلقى في النفايات أيام الرخاء . لقد بحث الناس في أيام الحرب عن الخبز في حاويات القمامة ، ومع هذا لم يجدوه . إنهم نافسوا القطط الشريدة النحيلة والكلاب الضالة في البحث عن الطعام في كل مكان ، وللأسف فقد كانوا يشبعون يوماً ويجوعون أياماً . إنها الحرب المجاعة الألم البحارة الذين لم يعودوا . كانت الصغيرة خولة قد أكلت قبل قدوم المصور والمراسلة ، لذا فإن أمها لم تُخبرها عن الطعام لكي تَحضر ، فهي منهمكة في اللعب ، وتركز في تفاصيله بكل دقة لأن معدتها ممتلئة ، ومسألة الجوع بالنسبة إليها صارت جزءاً من الماضي السحيق ، جزءاً من تاريخ جريح محمول على ظهر جَمل عجوز تقاعد عن العمل كسفينة صحراء ، وذهب إلى البحر ولم يعد . صدقوني إنها كانت تحس بما قلتُه بَيْدَ أنها تعجز عن التعبير، وهكذا تصير الأحاسيس هي الأخرى جزءاً من تاريخ ماضوي سحيق لا يعود مثل كثير من الأشياء . لا أدري لماذا يخيل إليَّ أن أشياء هذا المكان لا تعود . شيء غريب فعلاً أن ترى كل شيء يذهب بدون استئذان ولا يعود . والمشكلة أن كثيرين ينتظرون قدوم الشيء الذي لا يأتي، ربما لأنهم لا يملكون إلا الأمل والانتظار. إنه الانتظار، تأملات وجوه جريحة خارجة للتو من حرب عبثية لا أحدٌ يعرف هدفها ، ولا حتى أولئك الذين يُقاتِلون فيها . شيء مؤسف أن تُقاتِل ولا تعرف لماذا تُقاتِل .