أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الثالث )
تأليف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
هناك ، في ناحية مُعتمة كانت تجلس ديالا. إنها متسمرة على الكرسي خلف طاولةٍ منبوذة . على الطاولة زجاجة شمبانيا طعمها كوخز المسامير الصدئة في نعوش جنود مجهولي الهوية . عيناها تدوران مثل كوبين من عصير الطماطم الذي تكرهه لأنه لا يُسكِر . أمسكت زجاجةَ الشمبانيا ، وصَبَّتْها في فمها الذي يُشبه مستنقعاً للطحالب أو جسداً غامضاً نخرته الخلايا السرطانيةُ .
_ للأسف ! لم يبق شيء في الزجاجة .
قالت في نفسها والحسرة تقضم أشلاءها المبعثَرة .
طلبت زجاجةً أخرى ، لكنها هذه المرة غَيَّرت نوع مشروبها من الشمبانيا إلى الويسكي . نادت على الخمار هاكوب الأرمني :
_ يا هاكوب ، أحضر لي زجاجةَ ويسكي من النوع الثقيل .
هز هاكوبُ رأسَه مُوافقاً . وهل يملك أن يرفض ما دامت تدفع ؟! . المهم أنها تدفع . هكذا كان هاكوب يُفَكِّر في عقله الباطن .
إنه رَجُلٌ قصير القامة ذو كرش واضح من كثرة الشُّرب ، وعيناه عميقتان كصخرتين مستقرتين في قلب واد سحيق . وفي عُنقه صليبٌ مع أنه ملحد عملياً . وربما كان يضع أربعة خواتم في أصابعه . بصراحة لم أنتبه إلى عدد الخواتم، ولكن منظر يديه من بعيد مثل النار اللامعة على رأس جبل على وشك الانهيار . نعم ، إن الخواتم في يديه تعطي لمعاناً صادماً ، وأكبر صدمة في جسده كانت رائحة فمه المقرِفة التي تزيد السكارى في الحانة قرفاً مُضاعَفاً واكتئاباً متزايداً ، لدرجة أن أحد زبائن الحانة قال له في مرة من المرات ساخراً :
_ عندما أكونُ بحاجة إلى السعادة فإنني آتي إلى الحانة لأشرب ، وعندما أكون بحاجة إلى القرف آتي إلى الحانة لأشم رائحة فمك ، يعني في كل الحالات أنا زبون دائم ! .
وحينما سمع هاكوبُ هذا الكلام ابتسم بخبث رغم أن داخله يغلي من شدة الغيظ ، لكنه لا يريد ان يخسر زبوناً من أجل إهانة يوجهها . الإهانات لا قيمة لها . المهم أن هناك مالاً يُدفَع . هذه هي عقيدة ذلك الأرمني العجوز التي كانت خليطاً عجيباً فهو نصف ملحد ونصف أرثوذكسي ، هكذا كان ينظر لنفسه .
أحضر الأرمني زجاجة الويسكي إلى ديالا ، ووضعها على الطاولة ، ثم فتحها بخفة تُنبئ عن خبرة طويلة في هذا المجال ، وقال لديالا التي صارت صنماً خشبياً على كرسي خشبي :
_ ليس من عادتك أن تجلسي في هذه الحانة ، لقد كنتِ تشترين المشروب وتدفعين وتذهبين .
ردت ديالا وهي في حالة سكر خفيفة :
_ إنني أنتظر ابنك المحترم هاني كي يأتيَ .
رد الأرمني العجوز :
_ وماذا تريدين من ابني ؟! .
_ أريد منه بعض المعلومات عن الحزب من أجل برنامج وثائقي في التلفاز .
_ أخشى أن يطول انتظارك ، فهاني مشغولٌ هذه الأيام .
_ لا يهم ، سوف أتغلب على الملل بشرب الويسكي ريثما يأتي .
غرقت في الشرب بصورة فظيعة . كانت المرأة الوحيدة في الخمارةِ ، وحولها رِجال سكارى يحيطون بها من كل الجهات . جحظت عيناها بصورة رهيبة بفعل كمية الكحول التي احتستها . إن دمها وردة تذوي بصورة دراماتيكية ، ووجهها صار كحقل قمح مُسرطَن أو غارق في إشعاعات يورانيوم قادمة من قنابل نسي الغزاةُ تفجيرها . جسدها مُخَدَّر كأنه مزارع خشخاش خارج نفوذ الحكومة التي تحارِب المخدرات ظاهرياً ، وتتستر على المتنفذين الذين يتاجرون بها . ألقت برأسها على الطاولة ، وغرقت في سبات شرس .
بعد مدة طويلة نسبياً جاء هاني إلى خمارة والده . ألقى التحية على أبيه ، ولم ينتبه إلى وجود ديالا ، فقال له أبوه :
_ إن ديالا في انتظارك .
رد هاني متعجباً :
_ وأين هي ؟! .
أشار أبوه إلى الناحية التي توجد فيها ديالا متكومة على نفسها ، ومُلقيةً رأسها على الطاولة . توجَّه هاني إلى تلك الطاولة ، وعندما وصلها دق عليها بأصابع يده اليمنى ، فلم يلق جواباً ، فقال بصوتٍ عال وهو يهز رأسَ ديالا بشدة :
_ ديالا .. ديالا .. استيقظي يا امرأة .. ديالا .
وبفعل الهز الشديد استيقظت بصعوبة كأنها تنفض عن جسدها أطناناً من جثث التماسيح الثقيلة . عيناها نصف مُغمضتين صارتا منتجعاً لتجاعيد غامضة لا يُعرَف مصدرها . وقالت بصوت متثاقل :
_ ماذا تريد ؟! .
رد هاني مازجاً تعجبه من سؤالها بالقرف من منظرها وهي في هذه الحالة :
_ ما الذي تريدينه مني ؟ .
جالت ديالا في أرجاء ذاكرتها ، فلم تعرف سبب مجيئها لهذا المكان . حاولتْ مرة أخرى ، ولكنْ عبثاً ذهبتْ محاولاتها . إنها في حالة سُكْرٍ شديدة . وصل الخدر الصاعق إلى أقاصي زوايا لحمها المتكوم على حطامها اللانهائي . فقالت وهي تفرك عينيها :
_ لا أعرف لماذا جئتُ إلى هنا .
أُصيب هاني بالامتعاض من جوابها ، وأحس أنه يُضَيِّع وقته في محادثة هذه السكيرة التي لا تعي أقوالها . لكنه ذهب وأحضر زجاجة ماء باردة جداً ، ثم سكبها على رأسها . انتفضتْ مثل عنكبوت محشورة تحت مزراب مُكَسَّر في ليلة شاتية . بدأت علامات الصحوة تظهر عليها . شعرتْ بقوة غريبة تسري في جسدها . ثم قرَّب إلى أنفها مادة كانت في جيبه فانتفضت مستيقظةً ، وهي تشعر بأحاسيس يقظة من نوع غريب مُدَمِّر . كانت تلك المادة أفيوناً ، قرَّبها إلى أنفها ثم أخفاها في جيبه دون أن تلاحظها ديالا .
بدأت ديالا تعي ما يجري حولها ، حدَّقت في الأشياء التي تحيط بها . أيقنت أنها المرأة الوحيدة في هذا المكان الكئيب . نظرتْ إلى وجه هاني وقالت :
_ حسناً فعلتَ أنك جئتَ إلى هنا .
_ ماذا تريدين مني ؟ .
_ أريد عمل برنامج وثائقي عن الحزب الشيوعي الذي تنتمي إليه، وأحتاج إلى بعض المعلومات التي تفيدنا في عمل هذا البرنامج .
_ بكل سرور .
_ دعنا نخرجْ من هذا المكان المقرِف ، ونذهب إلى الشاطئ لأستعيد حيويتي .
وخرجا معاً إلى بقعةٍ على الشاطئ كانا يقصدانها في الأيام الماضية . ولم تكن المسافة بين الخمارة والشاطئ طويلة . إنها تستغرق ربع ساعة مشياً على الأقدام . مشيا وفي عيونهما انعكاسات الأنقاض ، وصراخ العمال الذين حَوَّلوا المكان الهادئ إلى ورشة كبيرة صاخبة من أجل إعادة الإعمار .
كانت الجرَّافات الضخمة تُفَجِّر أبجديةَ الصخب في ذلك المكان. والآلات بدت أنها جديدة . ربما استوردتها الحكومةُ من الخارج لإعادة البناء . أُعجبت ديالا بهذا المشهد الذي يعكس نشاطاً حكومياً ملحوظاً ، وقالت :
_ لقد ظَلَمْنا الحكومةَ ، فها هي تعمل بكل نشاط لإعادة الإعمار .
رد هاني باستخفاف :
_ هذه حكومة ساقطة ، تدفع دولاراً للإعمار وتسرق مليوناً . لا تُصَدِّقي هذه المسرحية البائسة . إنهم يقومون بذلك أمام وسائل الإعلام لتتحسن صورة الحكومة أمام الرأي العام الداخلي والخارجي . كلهم لصوص ويُنَظِّرون في الشَّرف والمبادئ. إنهم لا يعرفون من الحياة سوى مضاجعة نسائهم التافهات أو عشيقاتهم الساقطات وسرقة الشَّعب . إن الحكومة مثل الأم الخائنة التي تُعَلِّم بناتِها الخيانة لئلا يصبحن عوانس .
بدت كلماته كالحجارة التي تسقط على رأس ديالا . كل كلمة تتدحرج على حيطان ذاكرتها مثل كرة الثلج أو النار . إنها محاصَرة بقطيع من الجُمل المتلاحقة التي تبتلع وجهها تدريجياً . ولم يكن هاني يخجل من ترديد أية كلمة ذات دلالة جنسية أمام ديالا ، لعلمه أنها فتاة متحررة من كل الضوابط .
قالت ديالا متعجبة من هذا الجواب الذي لم تكن تنتظره :
_ إنك تخلط الحابل بالنابل .
_ دعكِ من هذا الكلام ، ولنبحث عن مكان نجلس فيه لنقوم بهذا الحوار البائس حول حزبنا الساقط .
_ ما دام أنه ساقط كما تقول ، فلماذا انضممتَ إليه ؟ .
_ هذه قصة طويلة سأخبرك بها فيما بعد .
ساد المكانَ دهشةٌ من نوع خاص ، لكن وقع نعالهما الخشن يدب على الأرض بصورة شبه وحشية . وصلا إلى الشَّاطئ ، واختارا صخرة قريبة ، وذهبا إليها ليجلسا عليها . صورةُ الموج أمامهما كقنديل بنفسجي عالق على أطراف ثُرَيَّة في سقف القلب المهجور . إنه الميناء المهجور ، ذكرياته الراحلة إلى النهايات الحاسمة . وجه الشمس المغموس في الماء الثائر . يا له من ميناء ، لقد رحلت السُّفن إلى فضاءات الرعشة ، أما البشر فتركوه لأسماك لم تعد تجيء إلا لتبكيَ على حواف الصدى الوحشي . إنهما في قلب الصَّدى المسافر أبداً في هذا الميناء الباكي .
قالت ديالا بعد أن جلست على الصخرة برفقة هاني :
_ لن نبدأ الحوار حتى تجيبني عن سؤالي ، وهو لماذا انضممتَ إلى الحزب وأنت تقول إنه ساقط .
تنهد هاني ، وأغمض عينيه لبُرهة ، ورمى بصره في الموج المغادِر ، ثم قال :
_ سأقول لكِ كلاماً لكنه ليس للنشر .
ثم توقَّف عن الكلام ، حيث بدا أنه متردد بعض الشيء ، لكنه أجمع أمره ، وقال :
_ كلنا في الحزب الشيوعي نعلم أن الله موجود . فالأمين العام للحزب اسمه عبد السَّلام ، فإذا كان مُلحداً حقاً فلماذ هو راض باسم عبد السلام . إننا انضممنا لتحقيق مصالح ذاتية وزيادة دخلنا وشهرتنا . فمثلاً محمود درويش وعبد الوهاب البياتي ما كانا سيصبحان شاعرَيْن مشهورَيْن لولا انضمامها للحزب الشيوعي . صحيحٌ أنهما شاعران من الدرجة العاشرة ، ولا يفقهان في الشِّعر الحقيقي شيئاً ، لكنهما استطاعا تحقيق شهرة كبيرة بسبب انتمائهما الحزبي . وكلامهما سيُرسلهما إلى الخلود في النار . وأنا أعرف أن نهايتي إلى جهنم إذا بقيت هكذا ، ولكنني أريد أن أُصبح مشهوراً ، وتكفيني الدنيا ولا شيء سواها . إن الله يُعطي الدنيا لمن يُحب ومن يَكره ، أما الآخرة فلا يُعطيها إلا لمن يُحب .
تعجبت ديالا من هذا الكلام الذي تسمعه لأول مرة من هاني ، وقالت والدهشة تتلاعب بها وتحاصرها من كل الجهات :
_ ماذا تستفيد إذا ربحتَ الدنيا وخسرتَ الآخرة ؟ .
ضحك هاني وطوفان الهواء يتوغل بين فَكَّيه ، وقال :
_ اسألي نفسكِ هذا السؤال ، فأنتِ تقضين حياتك في السُّكر والضياع ، وتمشين على حل شَعْرك. هل تستطيعين أن تمنعي مدير المحطة من التحرش بك ؟ . إنك تبيعين جسدك من أجل المال والشهرة ، وأنا أبيعه من أجل المال والشهرة . أنا وأنتِ حُثالة . لا ينبغي أن نُمَثِّل أدوار الشَّرف والأخلاق . هذه البلاد صارت مقبرتنا، لأننا بعناها لنشتريَ ملابس السباحة لنسائنا على الشطآن العارية ، في هذا الوطن الكل سيحترمكَ ما دمتَ تملك مالاً ، لذلك أنا بعتُ نفسي من أجل المال لكي يَحترمني الناس . أنا أعرف أنني غبي وتافه، وأنني آخر من يُنَظِّر في الأخلاق ، لكنني قرفتُ من نفسي كما قرفت ديانا من تشارلز .
صُدمت بهذا الكلام الذي ضربَ أجزاءها كالإعصار . دارت بها الأرض . ضربتها أمواجُ الذاكرة الخادشة التي لا تَرحم . تناثرت خدودها على الرمال ، حيث يطبع السائحون وقع أحذيتهم الثقيلة . لقد أحسَّت أن مفاصلها قد تشققت أو اندثرت . تفجرت في حلقها مرارةٌ عمياء . أرادت أن ترميَ نفسها في البحر وتبكيَ في القاع ، فلا يرى دموعها إلا السمك أو الرمال . ساد البُقعةَ صمتٌ رهيب . وأطلق الاثنان نظرهما باتجاه الشمس التي بدت وكأنها تسقط في نهايات البحر الشاسعة .
تجمَّعت في زوايا عينيها دموعٌ حَجرية تشبه حجارةَ مذبحٍ تُغتصَب في دهاليزه الراهباتُ البريئاتُ بلا شفقة . لكنها ليست راهبة بأي حال من الأحوال. إنها تمضي في شكوكها حول غاية وجودها . لو كانت بريئة لما أعطت لجسدها لونَ الرمال وعاشت بين شواهد القبور المتحركة التي لا تدل على ديانةِ صاحبها . هذه المرأة خليط من العَبثية والعَدمية ، ولكنْ ما الفرق بينهما ؟ . هي نفسها لا تعرف ، لكنها تمضي في طريق وعر موحش. هي خليطٌ من أفكار شتى . تَذَكَّرت في طفولتها كيف أن والدها ضربها لأنها ارتدت الحجاب مثل باقي تلميذات صَفِّها . تخيَّلت صورة والدها السِّكير على صفحة الموج وهو يصف ابنته بأنها مُعَقَّدة لأنها ارتدت الحجاب. ما زالت هذه الكلمة ترن في أُذنها ، وهذا جعل منها لا تستسيغ الحجاب. إنها قاتلةٌ وضحية في نفس الوقت .
أما هاني فأخرج من جيبه الأفيون وراح يَشمه تارةً ، ويتذوقه تارةً . نظرت إليه ديالا متسائلة عن طبيعة هذه المادة :
_ ما هذا الذي تشمه وتتذوقه ؟ .
رد هاني بكل ثقة وبدون أدنى خجل :
_ إنه أفيون .
لم تُصَدِّق ديالا هذا الكلام ، وقالت :
_ لا بد أنك تمزح .
_ إنه أفيون ، فأنا لا أمزح في هذه المواضيع .
استجمعت هذه المرأة الوحيدة أمام كل هذه الأمواج قوتها الوهمية ، وقالت بكل وقاحة :
_ أريد أن أُجَرِّب ! .
استغرب هاني من هذا الكلام ، لكنه قال بلهجة الشَّيطان الذي يتقمص دور الممرضة الطيبة :
_ سأجعلك تُجَرِّبين لأنني أحبك ، فأنا وأنت قاتلان ومقتولان في الوقت نفسه، وكلانا ذاهبٌ إلى الدمار الحتمي .
وابتسم ساخراً من نفسه كأنه يستعيد ذكرياتِ كل الأشباح التي مَرَّت على هذا الميناء المهجور. وناول رفيقته الأفيون . لأول مرةٍ تُمسك ديالا بالمخدرات . كان إحساساً مجنوناً عابثاً . تَذَوَّقَتْه فوجدتْ طعمه مُقرِفاً ، فألقته في البحر الذي يرتمي أمامها كالجدائل المنسية على أكتاف غجرية راحلة .
ثار هاني بشراسة منقطعة النظير ، واستولت عليه نوبةُ جنونٍ عارمة ، وبدأ يصب الشتائم الجنسية على رأس ديالا ، وقال بعد أن فَرَّغ ما في جعبته من شتائم :
_ ما الذي فعلتِه يا ساقطة ؟ .
ردت بكل هدوء أعصاب وبسخرية لاذعة :
_ لم أفعل شيئاً ، وإذا أردتَ المخدرات فارم نفسك وراءها في البحر إن كنتَ تعرف السباحة .
إنها تعرف أنه يحسن السباحة، ولكنْ أرادت استفزازه بكل ما أُوتيت من حيل. أرادت أن تلعب به مثلما لعب بها في مرات كثيرة ماضية . اشتهت تعذيبَه ليشعر بجزء من الألم الذي تحس به، والذي تسبب به هذا الصديق الخائن من وجهة نظرها. تمقته وتحبه في آن معاً . لقد قلتُ لكم إنها كتلة متناقضات متحركة .
جحظت عيناه بصورة هستيرية ، وأمسك بشَعْرها بشدة بالغة مما سبَّب لها ألماً فظيعاً . وارتمى عليها يضربها على وجهها . تارةً يضربها على خدها الأيمن ، وتارة على الأيسر . ثم بدأ يَنزع عنها ملابسَها . أحست بأنه يريد شيئاً آخر ، فقاومت بضراوة ولكنْ دون فائدة إذ كانت قوتها لا تسعفها على دفعه . أحست ديالا بحاجتها المجنونة والوقحة إلى الجنس . كل تلك الأحاسيس تكالبت عليها في ساعة نحس مستمرة ، فاستسلمت له ولانت أعضاؤها مثل نعجةٍ تُساق إلى المذبح اللذيذ وهي تضحك من كل قلبها لأنها استمرأت الذبح المتواصل . وعضَّها في أماكن حساسة من جسدها الذابح المذبوح ، كأنه يريد التنفيس عن سادية مكتشَفة للتو . أخذ منها كل ما يمكن للرَّجل أن يأخذه من المرأة ، ثم ارتمى إلى جانبها بعد أن خارت قواه . بقيا عَارِيَيْن تماماًَ على صخرة الجنون اللانهائية . بقيا كذلك لعدة دقائق قبل أن يقوما بارتداء ملابسهما .
ارتدت ديالا ملابسها وعاودت الاستلقاء على تلك الصخرة الشاهدة على العار والخيانة ، وأغمضت عينيها كأنها تغرق في عُلبةِ سُباتٍ لا قعر لها ، وتكاثرت بعض الدموع الخفية في زوايا عينيها . بدأ ظهرها يؤلمها لأنها كانت مستلقية على صخرة ذات سطح بالغ الخشونة . انطبعت على ظهرها آثار شديدة بعض الشيء كأنها بصمات الشَّاهد على ذلك العمل . وآثار أسنانه الحادة على أجزاء مختلفة من لحمها المقلي باللعاب الكريه. ثم استجمعتْ قواها واقتحمت رملَ هذا الشاطئ حتى وصلتْ إلى البحر ، ورمت نفسها فيه بكامل ثيابها . تسللتْ إلى تفاصيل أعضائها الملوحة واللذة المتكوِّمة . إنها تغتسل لوحدها في هذا الزخم المائي العملاق . كم بحراً أحتاج حتى يغسلني من الخطايا ؟. سألتْ نفسها، لكنها أعرضت عن الإجابة حين أحست بمداعبة الموج لجسدها الممزَّق .
أما هاني فقد انصرف من ذلك المكان مرتدياً كامل ملابسه وهو يشعر بحجم الكارثة التي أقدم عليها . بصراحة كانا يمارسان الجنس لأول مرة في تاريخهما. كان يمشي وهو يبكي بشكل متواصل ويمسح دموعه. اندفع إلى تلك الممارسة بكل شهوة المكبوتين جنسياً . كان يقول في نفسه إنه مجرم ، وكل من حوله مجرمون ، فالحكومة مجرمة، والشعب مجرم لأنه راض بتلك الحكومة التعيسة . هكذا كان يقول. وقد كان يُسَمِّي ما فعله جريمةً، لكنه أراد إيجاد برواز لتبرير فِعْلته .
إنه بِفِعْلته تلك أراد أن ينتقم منها ويذلها . اعتقدَ أنه يُثبت عُلُوَّه عليها وأنها مجرد دمية في يديه يفعل بها ما يشاء ، وهي لا تملك أن تعترض . طوال حياته وهو ينظر إلى المرأة نظرة دونية ، ينظر إليها على أنها حيوان جنسي يجب امتطاؤه وترويضه وقهره ، لدرجة أنه قال لأمه ذات يوم بكل وقاحة إنها ممسحة لحذاء أبيه ، مجرد ممسحة ، وإن المرأة كالحِذاء يستبدله الرَّجلُ إذا ضاق على قدميه . فإذا كان هذا هو تعامله مع أمه ، فكيف سيكون تعامله مع باقي النساء ؟! .
شعرت ديالا أن جسدها مفكَّك ، وأنها صارت تحمل في أحشائها كرةَ نارٍ تكبر تدريجياً. كل عضوٍ في جسمها صارة كرة نار . عيناها قنبلتان على وشك الانفجار.
حدَّقتْ في السماء بينما هي على الصخرة مستلقية على ظهرها المشقَّق . في ذهنها تتكاثر الخناجرُ التي تمزق وجهها الراكض في التلاشي . تحسستْ وجهَها ففرحتْ أنه لا زال موجوداً . قامت ونفضت الغبار والأتربة عن ثيابها . وسارت على الشَّاطئ وحيدةً كرمال البحر البنفسجية . اختارتْ بقعةً ما وجلستْ وبدأتْ تكتب على رمل الشاطئ هذه العبارة : (( لقد أنقذتُ الكثيرين من الاكتئاب لكني لم أجد أحداً ينقذني منه )) . وما إن فرغت من كتابتها حتى هجم الموجُ على تلك الكتابة وأزالها كأنه يرفضها بكل حزم . إنها كتبتْ تلك العبارة لتجد مخرجاً لها من الأشياء التي ارْتَكَبَتْها . إنها تبحث عن مبرِّر تماماً كما فعل هاني . هكذا قاما بذلك الفِعل ، وراحا يبحثان عن شَمَّاعة يُعَلِّقان عليها ما قاما به. إنهما يرميان على الناس أخطاءهما من أجل أن يستمرا في المشي مثل كل الأشباح التي مرت على الميناء المهجور ثم رحلتْ عنه إلى الأبد .
عاد هاني إلى الحانة التي يملكها والدُه . بدا وجهه غارقاً في شحوب صارخ . لاحظ أبوه منظر وجهه المنزوي ، فقال له :
_ ما بك يا هاني ؟ أأنتَ مريض ؟ .
_ لستُ مريضاً ، لكنني مُتعَب ، وسأدخل لأرتاح .
ومضى الشاب إلى غرفة داخلية يُدخَل إليها من باب منزوي في إحدى زوايا الحانة. دخل إلى الغرفة فرآها خرساء كما تعود أن يراها. شَغَّل المروحة لأن الحرارة كانت عالية كقطعان غزلان طلَّقت المرتفعات المتجمدة وعاشت في الصحاري الملتهبة . ارتمى على السرير ، وزرع رأسه في المخدة كالنَّعامة ، وغرق في بكاء حارق .
بدت الغرفة أضيق مما هي عليه في العادة ، كأن الحيطان تركض نحو حتفها لتُضَيِّق الخِناق على هذا الشخص الوحيد . مليون حائط يحيط به ولا يوجد أية نافذة يطل من خلالها على موته المتكرر كالشطآن الموبوءة . إنها الحيطان المحتوية على صور كارل ماركس ولينين وغيفارا وهو يُدَخِّن السِّيجار .
وبعد أن أجال بصره في الصور المعلَّقة على الحيطان ، قال في نفسه :
_ إن ثمن السِّيجار الذي تأخذونه مجاناً من عَرَق العمال كفيلٌ بإطعام عدة أُسر. إنكم تسرقون الفقراء باسم الدفاع عن الفقراء لتعيشوا كالأباطرة في صالات الرقص ، ولتعيش بناتكم كالأميرات في مسابح الخيانة الزوجية . إنكم تركبون سيارات فارهة ، وتسكنون في القصور المسيَّجة بمئات الحراس ، وتوزعون طاقتكم الجنسية بين زوجاتكم وعشيقاتكم ، وتُدَخِّنون ، وتشربون الويسكي مرتفع الثمن . وبعد كل هذا تسمون أنفسكم مدافعين عن الفقراء والعمال .
والتفتَ يمنةً فرأى زجاجة كُنياك موضوعة إلى جانب السرير ، فأمسكَ بها ورماها على برواز صورة ماركس ، فانكسر الزجاج وتساقط على الأرض مُحدِثاً ضجة سمعها أبوه ، مما جعله يأتي مسرعاً ليرى ماذا يحدث .
جاء الأب والخوف يأسر ملامحه بكل عنف ، فقد كان صوت تكسر الزجاج عالياً ومزعجاً . وعندما رأى الأب الزجاج المتناثر على الأرض سأل ابنه :
_ ماذا حدث يا هاني ؟ .
_ لا شيء يا أبي ، لكن زجاج البرواز انكسر .
_ وكيف انكسر ؟! .
قال هاني بلهجة الشخص الذي يريد أن يُنهيَ الحوار سريعاً :
_ أرجوك يا أبي ، إنني مُتعَب لدرجة جنونية ، ولا طاقة لي بالحوار .
وأردف قائلاً :
_ وبالنسبة للزجاج فالآن سوف ألمه ، وأرميه في القمامة .
وانتهى الحوار سريعاً مثل كل الأشياء التي تذهب إلى النهايات الصاعقة . وما إن فرغ هاني من كلامه حتى سمع أبوه أحدَ الزبائن يطلب مشروباً ، فذهب لكي يُقدِّم له حاجته . أما هاني فدخل الحمَّام لكي يغتسل . فتح الدوش فنزل الماء البارد الذي يقضم جِلْده بالمناشير . حتى الماء في هذا المكان يخنقه ويُحاصِره . هكذا كان شعوره النازل مع كل قطرة ماء تلمس جِلْده وتحرقه بالذكريات المحمَّلة في أكياس تنقلها القطارات الذاهبة إلى الاصطدام .