سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

28‏/07‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل السادس

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل السادس )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
في الدير كان على عايدة أن تجمع القمامة الموجودة في السلال وتضعها في كيس أسود كبير . فالمهمات في الدَّير موزَّعة ، وكل راهبة تقوم بعمل ما حسب دورها . فواحدة تقوم بجلي الصحون ، وواحدة تقوم بشطف البلاط ، وواحدة تقوم بالغسيل ، وأخرى تنشره . جمعت عايدة القمامةَ في الكيس الأسود . كان ثقيلاً بعض الشيء ، لذا كانت تعاني من حمله وهي المرأة البعيدة عن الخشونة والعنف . وضعت الكيسَ على باب الدَّير من أجل أن ترميَه أم وهبي في الحاوية البعيدة ، فعمال النظافة في هذا الوقت مشغولون بالأنقاض والأتربة والأوساخ في طرقات هذه البلدة المنكوبة وغير مستعدين لأن يدوروا على المنازل يجمعون القمامة ، فعلى كل بيت أن يتصرف من تلقاء نفسه ويرميَ القمامةَ بنفسه . وقد كانت حاوية القمامة بعيدة جداً عن الدَّير ، بحيث تستغرق المسافة بين الدَّير وأقرب حاوية نصف ساعة على الأقل ، وهذه المسافة ستكون تحت أشعة شمس حارقة لا تَرحم . لذا اتفقت أم وهبي مع سكان المكان على أن يَتركوا أكياس القمامة أمام الأبواب ، وهي ستقوم برميها مجاناً . وأم وهبي هي امرأة غجرية من النَّوَر الذين يسكنون في أقاصي البلدة، كانت تقوم بجمع القمامة من البيوت مجاناً حيث تقوم بالتفتيش عن فضلات الطعام والعلب المعدنية أو أي شيء صالح للأكل أو البيع من أجل أن تُعيل زوجها المشلول وأبناءها الصغار . حملت أم وهبي الكيس الأسود واتخذت ركناً في أحد الأزقة وصارت تفتش في القمامة عن أي شيء صالح . وجدت بقايا طعام وفواكه ، ومرآة مكسورة أَخَذَتْها لعلها تصلحها وتبيعها . وجدت أيضاً ملابس ممزقة ففرحت بها كثيراً كفرح صياد اقتنص حوتاً ، وفكَّرتْ في الملابس إن كانت تصلح لها أو لابنتها بعد تصغيرها . كانت منهمكة في حساب الجدوى الاقتصادية وفق منظورها البسيط ، منظور امرأة تسعى لإطعام زوجها المشلول والأبناء الصغار الذين ينتظرون عودة الأم بفارغ الصبر لعلهم يحصلون على طعام أو أي شيء يفرحهم ، وينسيهم لو للحظة هذا البؤس العارم الذي يجتاحهم بلا هوادة . وأثناء تفتيشها الدؤوب بزغ لمعانٌ صادم من بين بقايا الأطعمة والأشياء البالية. مدت يدها فإذا به صليب أصفر . تناولته بوحشية فائقة وحدَّقت به للحظات وصارت تفكِّر فيما إذا كان من الذهب أم لا . ولو كان من الذهب كم يساوي ثمنه . تركت الكيسَ في الزقاق وكفَّت عن البحث في القمامة ، ونظَّفت الصليبَ من الأوساخ العالقة به . وَضَعَتْهُ في إحدى جيوبها بعد أن تأكدت من أن الجيب ليست مثقوبة . داهمها خاطرٌ سريعٌ يتأجج في داخلها بأن أخذ هذا الصليب يُعتبَر سرقةً من نوع خاص ، وأن عليها أن تعيده إلى الدَّير لأنه من المستحيل أن تقوم إحدى الراهبات برمي صليبها في القمامة . هكذا كانت قناعتها التي لا تقبل التغيير . لكنها طردت هذا الخاطر وقال في نفسها : _ إن الراهبات يجدن من يصرف عليهن ، أما أنا فلا أجد من يصرف عليَّ . لو أعدتُه إلى الدَّير لربما مات أبنائي جوعاً . لن أُعيده ، وسأشتري بثمنه لحماً لأسرتي التي لم تذق اللحم منذ ثمانية أشهر . وانطلقت أم وهبي سعيدةً والصليب في جيبها ، وكلما مشت تحسَّسَتْه لتطمئن على وجوده ، وذهبت به إلى الخباز اليهودي من أجل تقييمه وشرائه ، فقد اعتادت على بيع كثير من الأشياء له ، فهو أدرى بالتجار والأسواق في العاصمة ، فدائرة معارفه واسعة جداً ، أم هي فلا تفهم حركة السوق أو مكان تواجد التجار . وقد صار الخباز هو الوحيد الذي يشتري منها علب المشروبات الغازية التي تجمعها ، إذ إنه على صلة بأحد تجار الخرداوات في العاصمة ، وهو متخصص بجمع العلب المعدنية . والخباز صار حلقة الوصل بين تجار العاصمة وبين أم وهبي التي لا تعرف أين تقع العاصمة، فكل ما قد تقع يديها عليه تذهب به إلى الخباز الذي يشتريه منها بثمن بخس مستغلاً حاجتها وجهلها . دخلت أم وهبي المخبز فوجدت يعقوب يجلس واضعاً رجلاً فوق أخرى على كرسي خشبي مهترئ يشبه كراسي المقهى الذي أُبيد نهائياً بعد عملية القصف الجنوني له ، فالطائرات كانت تعلم أن كثيرين من الجنود يتخذون من المقهى استراحةً لهم ، وهذا جعله هدفاً رئيسياً للقصف الجوي . واضطر صاحب المقهى بعد أن خسره أن يُزَوِّج ابنته ذات الخمسة عشر ربيعاً للمرابي العجوز أبي مسعود الذي يدق أبوابَ السبعين ، وهو بذلك يكون قد أكمل دائرة الأربع نساء . فالآن على ذمته أربع نساء يمكن أن تقول إنه اشتراهن بأمواله مستغلاً ضعف الأهل الذي باعوا بناتهم لمن دفع أكثر . ولستُ أدري لماذا تزوج الرابعة مع أنه ضعيف جنسياً . ربما يكون حب التملك قد سيطر على حياته خاصة أنه يلعب بالمال ولا يهتم كيف اكتسبه ولا فيما أنفقه . المهم أنه يظن أنه بوسعه شراء الناس بأموالهم . وفي إحدى المرات _ كان ذلك قبل عشر سنين _ أُعجب بامرأة متزوجة سيطرت على تفكيره، فصار يقضي نهاره وليله يفكر فيها ، حتى إنه ذهب لزوجها وعرض عليه مالاً طائلاً مقابل أن يطلقها ، لكن زوجها كان رجلاً شهماً ورد عليه رداً عنيفاً يومئذ . لا أدري ما الذي أتى بتلك القصة في هذه اللحظة . عدَّل يعقوب جلسته عندما رأى أم وهبي ، لكنه تعجب لما رآها صفر اليدين ، إلا أنه توقع أنها تملك شيئاً ما في جيوبها فليس من عادتها أن تأتيَ في مثل هذا الوقت إلا إذا كان لديها شيء للبيع . تشجع لهذا الأمر وقال : _ أرجو أن تكوني قد أحضرتِ شيئاً ذا قيمة هذه المرة . قالت أم وهبي والكلام يتدحرج على شفتيها المشققتين اللتين بَلَّتْهُما بلعابها : _ لقد أحضرتُ لكَ صليباً ذهبياً . جحظت عيناه بشكل هستيري وهيأ نفسَه لامتصاص صعقة المفاجأة ، وقال : _ أخرجيه بسرعة ، ماذا تنتظرين ؟ . أخرجته من جيبها . كان ضخماً وثقيلاً بعض الشيء والقلادة أيضاً كانت طويلة نسبياً . بلع يعقوب ريقه وتناول الصليبَ كمن يتناول صيداً ثميناً وصار يتفحصه ويقلبه ويحدِّق فيه بعين خبيرة ، وقال : _ إنه من نحاس رديء لا يساوي شيئاً . لم تطمئن أم وهبي لهذا الكلام ، وشكَّت في الأمر ، وقررت أن تعرضه على شخص آخر ، وقالت : _ إذاً أعطني إياها لا أريد بيعه . ضحك يعقوب ضحكة صفراء ، وقال : _ لقد كنتُ أمزح معك ، إنه ذهب من العيار الثقيل . _ إذاً كنتَ تريد أن تسرقني يا يهودي . _لقد كنتُ أمزح معك يا امرأة. ألم يعد في هذا الشعب أحدٌ يتحمل المزاح ؟!. وأردف قائلاً : _ وما معنى أن أسرقك وأنت سرقتِ صليباً بهذا الحجم ؟، فلا داعي أن تجعلي من نفسك شريفة، لأننا نحن الاثنين حثالة ولصان ، فلا داعي أن نمثل دور الشرف. أنا أعرف أنك سَرَقْتِهِ ، ولكنني على أية حال سأستر عليك وأشتريه منك. لم تجد أم وهبي فائدة في إقناعه بأنها وجدَتْه في القمامة لأنه لن يصدقها ، كما أنها اقتنعت بأنه لا حاجة لتمثيل دور الشرف ، فهي تعلم بينها وبين نفسها أن هذا العمل سرقة من نوع آخر . لذا دخلت في مفاوضات السعر مباشرة ، ولم تتكلف عناء الدفاع عن نفسها ، فقالت متحمسة على أمل الحصول على سعر جيد : _ كم تدفع ؟ . _ مئة دولار ولن أزيد . لم تستوعب أم وهبي ما هو الدولار. صحيحٌ أنها تسمع عنه هنا وهناك، ولكنها تعتقد أنه مادة مثل الذهب أو الفضة ، فقالت بكل سذاجة : _ أريد أوراقاً مالية أمسكها بيديَّ ! . أطلق يعقوب ضحكة استهزاء سريعة بعد أن اكتشف مدى جهل هذه المرأة البسيطة التي تقف أمامه فقال لها : _ انسي موضوع الدولار ، سأعطيك بالعملة المحلية مع أنها لا تساوي شيئاً ، فالبلد خارج من الحرب والاقتصاد في الحضيض . ومد يده وأعطاها بالعملة المحلية ما يعادل ثمانين دولاراً ، لكنها لم تعارِض لأنها لا تفهم كيف تعارِض ، وتناولت المبلغ بكلتا يديها ، وخرجت مسرعةً والفرح يقفز في عينيها كالأرانب المولودة حديثاً بلا بكاء أو ألم . حدَّق يعقوب في الصليب ، واشتبكت الصور في ذهنه بمنظر الصليب الذي كانت ترتديه الراهبة جودي ، وتذكَّر ذلك الوجه الأُنثوي الموغل في الغموض الفاضح . ويعقوب هذا لم يكن يحترم المرأة مطلقاً ولا حتى أمه . كل امرأة بالنسبة إليه هي آلة للتكاثر ، هي كومة أعضاء تناسلية مُغرِية . كان مصاباً بعقدة نفسية تجاه النساء عموماً فهو يعتقد أنهن شر مُطْلق وكائنات جنسية متوحشة، لذا كان يعاملهن على أنهن بشر درجة ثانية أو كائنات حيوانية شهوانية . هكذا قال لأمه عندما كان شاباً ولم يخجل منها فقد كان يحتقرها لأنه يعلم أنها تخون أباه مع الرجال الذين كانوا يقصدون بيتهم في الوقت الذي كان أبوه مسافراً . تلك الصور مطبوعة في ذهنه وهو طفل لا حول له ولا قوة يرى الرجال الأغراب داخلين خارجين من البيت بينما هو لا يملك إلا أن يختبئ في غرفته البائسة ليسترق السمع ، ذلك الصوت الأنثوي الضاحك بشكل هستيري والمختلِط بأصوات الرِّجال الذين تفوح من أصواتهم جنون الشهوة والخيانة في لحظة اللاعودة . وهذا جعل منه إنساناً يحتقر النساء بلا استثناء وأولهن أمه الخائنة . وفي الدَّير كانت جودي تدور في حجرتها كالمجنونة بحثاً عن صليبها . قلبت الغرفةَ رأساً على عقب. أين ذهب ؟ . فتَّشت في كل ما يحيط بها فلم تجده. ازدادت توتراً واكتئاباً . وارتمت على سريرها بعد أن أصابها اليأس الصادم كالجثة المصلوبة . لا بد أنها قد نسيته في مكان ما ، ولكن أين هو هذا المكان . هكذا كانت تفكر في نفسها . ذهبت إلى كاترين ولارا وسألتهما عن صليبها إذا كانتا قد شاهدتاه أم لا ، فأجابتا بالنفي . وصارتا تبحثان في الدَّير عن الصليب بشكل هوسي ، فهنَّ يعلمن حجم الكارثة التي ستقع في هذا المكان لو لم يجدنه . كانت عايدة تتجسس على الحديث الذي دار بينهنَّ في إحدى الغرف واستمعت إلى كامل القصة . وانطلقت مسرعةً إلى تيريز لِتُعْلمها بالأمر . حدث ذلك قبل أن يخرجن من الغرفة ليبحثن عن الصليب . وما إن سمعت تيريز بهذا الأمر حتى رمت السيجارة من بين أصابعها الخشنة وداستها بقدميها ، وجُنَّ جنونها ، وصارت تتصرف كالممسوسة . كانت تيريز مُدَخِّنة شرهة ، وهي لا تدخن إلا سجائر من نوع أجنبي، فالأنواع المحلية لا تعترف بها نهائياً . وهذا الدخان الأجنبي كان يصلها في طرود بريدية من شركات أجنبية في أمريكا وأوروبا. وقد كانت الوحيدة في الدَّير التي تدخن ولا تجد حرجاً أن تفعل ذلك أمام الناس ضاربةً عرض الحائط كل الانتقادات التي تعرضت لها من داخل الدَّير ومن خارجه ، لكنها كانت من نوعية البشر الذين لا يهتمون بكلام الناس مطلقاً . المهم أن تفعل الشيء الذي يدور في رأسها المثقل نتيجة النيكوتين والقطران. وأن ترميَ السيجارةَ من بين أصابعها فهذا يعني أن هناك كارثة مريعة قد حصلت . فليست من عادتها أن ترميَ السيجارة إلا عند امتصاصها حتى الرمق الأخير . وقبل عدة سنوات جاءها نبأ موت أمها ، لكن تيريز ظلت تُدَخِّن ولم يهتز لها رمش ، وقالت لمن نقل إليها هذا النبأ إنها ستفكر في الأمر بعد أن تنتهيَ من التدخين، وستحضر عندما يحين موعد الدفن. هكذا بكل برودة أعصاب كأن الميت قطة أو صرصار . إنها امرأة قاسية من ولادتها وحتى الآن ، ولا يوجد ما يدل على أنها ستغير طبائعها الشرسة . لذا فإن رمي السيجارة ينبئ عن أمر جلل موضوع في أقصى مدى الفظاعة والصدمة . خرجت تيريز من غرفتها هائمة على وجهها ، وفي الممر رأت الراهبات الثلاث يفتشن عن الصليب ، فقالت بصوت أجش : _ عماذا تفتشن ؟ . ارتبكت الراهبات لعلمهن بأن تيريز إذا عرفت الأمرَ سوف تحدث مشكلةً لا أول لها ولا آخر . ولم تجب الراهبات ، بل اكتفين بالصمت الفظيع وهن يحدقن في وجوه بعضهن البعض . وقعت عينا تيريز على صدر جودي الخالي من الصليب ، فقالت لها : _ أين صليبك يا جودي ؟ . احمر وجه جودي وبلعت ريقها بصورة تنبئ عن توترها قبل أن تجيب بكلمات مبعثرة لا رابط بينها والتلعثم يحاصرها من كل الجهات : _ إنه في ... في الغرفة ، أقصد كان في ... في الغرفة ، ولكن .. ثم قرَّرت أن تكون صريحةً في ردها فقالت : _ بصراحة يا أخت تيريز يبدو أنه ضاع مني . انتفضت تيريز ونشرت ريشها كالطاووس المكبوت ، وقالت بصوت أقرب إلى الصراخ : _ ربما قمتِ ببيعه لتطعمي ذلك المجنون أسعد ، فهذا ليس مستبعداً على مراهقة تافهة مثلك تفرط في صليبها الذي يضمن لها الخلاص . صارت عينا جودي بعدما سمعت هذه الكلمات القاسية كرتين من النحاس المصهور نتيجة شدة الحرارة ، وطار عقلها لما سمعت تلك العبارات الحادة ، فقالت وصوتها منقوع في بركان التمرد والغضب : _ لم أقم ببيعه أيتها العجوز الحيزبون ، وأسعد لا علاقة له بالموضوع ، وهذا الصليب لا يقدر أن يُخَلِّص نفسَه فكيف سَيُخَلِّصني ؟ . وإن الإله الذي يُصْلَب على خشبة الصليب لا يستحق أن يكون إلهاً لأنه لم يُدافِع عن نفسه فكيف سيدافع عني ؟ . أنا مؤمنة أن السيد المسيح لم يُصْلَبْ ، وهذا هو الحق المطْلق الذي جاء به القرآن والإنجيل الأصلي ، وكل ما سواه مردود . وكلماتي هذه أعظم من كل الأوهام ، وصكوكِ الغفران التي هي شيك بدون رصيد . أُصيبت الراهبات بالصدمة المدوية التي تنحت في عظامهن أشكال الأعاصير الشرسة . كلهن يحدقن في جلودهن هاربات من جلودهن المصلوبة على خشبة الدهشة . إنه كلام لم يتعودن عليه . ارتجفن مثل زوارق محطَّمة نسيها أحد البحارة على شاطئ الكوليرا . حتى جودي نفسها لم تصدق أن تلك الكلمات قد خرجت منها . إنها أبجدية جديدة تنثر في الأرجاء الطوفان الشامل . هل كانت زلة لسان أم أنها كلمات دُبِّرت بليل ؟ . كانت تيريز تدور حول رحى أشلائها المبعثَرة . أعضاؤها ترتجف بوضوح يشبه وضوح شاهد قبر مهاجِر إلى الباركنسون . تحوَّل جسدُ تيريز إلى مزرعة كهرباء مسيَّجة بكل أشكال الرعاش ، وقالت بصعوبة كأن الكلمات تُسحَب من بئر غائرة في أحداق الموتى : _ أيتها الكافرة الزنديقة الساقطة ! إن هذا ليس كلامك . وإن لم تقولي من أين جئتِ به فسأقتلك مثل الكلاب المتوحشة وأدفنك في أقرب مزبلة . وهجمت تيريز على جودي ، وأمسكت بشَعْرها تجره بوحشية ، وتلطمها على وجهها، وحاولت جودي الدفاع عن نفسها لكن محاولاتها باءت بالفشل. واشتبكت الراهبتان في معركة عنيفة غير متكافئة بينما تدخلت الراهباتُ لفض الاشتباك وحجز كل واحدة عن الأخرى . هربت جودي إلى خارج الدَّير سافرة . رأسها مكشوف ، وثيابها عادية ليست ثياب الكهنوت. وفي قدميها نعلان خفيفان. خرجت والبكاءُ يحتلها ويفرض عليها شروطه القاسية . وكلما مشت ازداد انهمار دموعها. توجَّهت إلى الشاطئ ، إنها تغذ الخطى باتجاه تلك الصخرة التي وجدت عليها الكتاب . جلست على الصخرة وزرعت بصرها في الغيوم المتجمعة على رأس البحر كالتاج . تمنَّت في قرارة نفسها لو يأتي صاحب الكتاب على فرس ويتزوجها ويرحلان معاً إلى بقعة في أعالي الموج ليست فيها تيريز أو صليبها الضائع . بدأت دموعها تجف تدريجياً . الرمل الأصفر واتحاد المد والجزر والطيور التي عادت تُحلِّق من جديد بعد أن هجرت المكان يوم حلَّقت الطائراتُ الحربية مكان الطيور . كل العناصر جفَّفت دمعها . لم تستطع مقاومة إغراء اقتحام الموج المتهادي على أنامل الشاطئ . تقدَّمت باتجاه الماء ودخلت البحرَ بكامل ثيابها دون أن تنزع قطعة واحدة ، ثم خرجت منه مبتلة كقطة سقطت من غيمة حمراء إلى رئة بحر مهاجِر أبداً . عاودت الجلوس على الصخرة وكلها حرص على عدم مس الرمل خوفاً من اتساخ ثيابها المبتلة، فإذا التقى الماء مع الرمل كان اللقاء عاصفاً . فكَّرت في التقاء هذه الشطآن الرملية مع الماء ، في عوالم ساعة الاصطدام . وانتبهت إلى أنها التقاء الطين مع الماء. إنه الإنسان التقاء الطين مع الماء في لحظة غائبة عن آبائنا عندما أنجبونا . كل هذه الأفكار تختمر في ذهنها . وأيضاً صارت تفكِّر في الكلام الذي خرج منها ، هل تقصده فعلاً أم أنه كلام عابر في ساعة غضب ؟ . غيَّرت الموضوعَ بعد أن أقنعت نفسها أنها بحاجة إلى فترة استراحة من الأفكار . استمر نجاحها في تغيير الموضوع مدة بالغة القصر . ولكنها كلما حاولت نسيان ذلك الكلام خرج لها من ثقوب وجهها المتشظي ، من فم البحر، من الغيوم على شرفات الفجر البعيد. رأسها يذوب في حروف تلك الأبجدية الجديدة التي صدمت بها الراهباتِ في الدَّير المنزوي . وبينما هي مشتبكة مع خواطرها وتأملاتها في الماء والطين والشطآن والأحزان لمحت أسعد يبني قصراً رملياً في ناحية بعيدة عنها . قرَّرت أن تذهب إليه لأنها محتاجة إلى أي أحد تتكلم معه حتى لو كان أسعد الذي يُنظَر إليه على أنه مجنون هذه البلدة، وأنه حصة البلدة من جنون البشر . لكن جودي لم تكن تنظر إليه بذلك المقياس ، بل بمقياس الرأفة به والعطف عليه . إنها تعتقد أنه ضدان التقيا في ساعة نحس بفعل أحزان قديمة عَبَرَت هذا الميناءَ المدمَّر . ذهبت إليه فإذا به منهمك في تشييد منزل العمر ! . جلست بالقرب منه لكنه ظل مركِّزاً في عمله ، فقالت له : _ من سيسكن في هذا القصر يا أسعد ؟ . نظر أسعد إلى البحر بعينين دامعتين كأنهما في رأس أرملة تنتظر عودة زوجها البحار الذي ابتلعه البحر لكنها تظل تعيش على أمل عودته الكاذب ، ثم نظر إلى جودي وقال : _ سأبنيه لتسكن فيه قطتي التي قتلوها مثلما قتلوني . _ ومن الذي قتلكَ وقتلها يا أسعد ؟ . _ إنهم الغزاة الذين يصنعون بساطيرهم من جلود الناس الطيبين . وأردف قائلاً : _ هل تريدين أن أقول لك نُكْتة اخترعتها من رأسي ؟ . ردَّت جودي وقد استحوذ عليها الابتسام والفضول : _ نعم ، قلها بسرعة . _ كان هناك مدير مخابرات نائم مع عشيقته ، فحضر أحد الضباط وأخبره بأن هناك محاولة لقلب نظام الحكم . فقال مدير المخابرات إنه سيتم ما بدأه ما عشيقته وسيأتي بعد ذلك دون تأخير . انفجرت جودي ضاحكة من أعماق نخاع عظمها، ولم تستطع إخفاء تعجبها من كلام أسعد ، لكنها تعودت على الأمر فصار حديثه موغلاً في الدهشة بشكل اعتيادي. إنها تعتبره مثل المنجم وعليها أن تكتشفه وتُنقِّب فيه ، لذا كانت تسترسل معه في الكلام لتجعله يُعَبِّر عن كل ما يعتمل في دواخله، وكانت مطمئنة عندما تحادثه لعلمها أنه لن يَنقل كلامها إلى الآخرين ، ويتسبب لها بمشاكل في غنى عنها . لذا أخذ الحوار طابعاً خصوصياً لحاجة جودي الماسة إلى أي شخص يبادلها الحوار حتى لو كان أسعد العائش في التشرد ، والذي يحتقره الناسُ في هذه البلدة ، أقصد ذكريات بلدة هاجرت إلى أعماق الحزن البحري السحيق مثلما هاجر أبناؤها إلى الخارج بحثاً عن فرصة للحياة ، ولكن للأسف منهم من قضى غرقاً بعد أن ابتلعتهم الأمواجُ التي ظنوا أنها ستحملهم إلى النعيم ، وما دروا أن قواربهم التي استخدموها للهجرة غير الشرعية صارت توابيت شرعية لهم ، هذا إن وُجِدَت جثثهم أصلاً . إن أجساد الشباب الغضة تصير طعاماً للأسماك بكل سهولة ودون بيروقراطية . يهربون من الموت البطيء في بلادهم إلى الموت السريع في مياه تفصل بين ذكرياتهم والأغراب أصحاب القبعات المخيفة . التفت أسعد في كل الجهات كأنه يطمئن على عدم وجود أحد ثم حدَّق في وجه جودي متجنباً النظر إلى عينيها بشكل مباشر ، مع ملاحظته أنها لم تلبس الصليب في عنقها ، ثم قال لها : _ سأقول لك نكتة أخرى . تحمست جودي وهزت رأسها كأنها تطلب منه أن يُسرع في قولها ، فقال : _ لو تزوج بيل كلنتون مونيكا ، ماذا سينجبان ؟ . وأردف قائلاً : _ سينجبان صهيونياً صغيراً . انفجرت جودي ضاحكة أكثر من المرة السابقة ، ولم تستطع أن توقف مسلسل ضحكاتها إلا بعد برهة . وعندما هدأت قال لها أسعد وعيناه منقوعتان في نشيد الريح والرمال : _ مليون صليب يشرب دمك ، فاكسري الصليبَ الذي عُلِّقْتِ عليه مثلما كسر ابنُ الزُّبير الصليبَ الذي عُلِّق عليه لتكتشفي وجهكِ ! . وقام أسعد تاركاً جودي القتيلة دَهْشةً بجانب قصره الرملي ، وغادر المكان وهو يصيح : _ إن الغزاة الذين قتلوا قطتي قادمون . إن الطوفان قادم ، لا بد أن يأتيَ . انهمرت كلمات أسعد كالخناجر على رأس جودي . بدت الكلمات أسرع بكثير من جريان ذهنها على صفحة الفهم . إنها تلهث وراء حروفه لتلتقط أكبر قدر من الاستيعاب. بدأت تخاف من محادثة أسعد الذي صار كلامه كالغابة المدهشة إلى حد الخوف . كل حرف من عباراته غابة من الكهرمان الخام الذي لم يُكتشَف بعد. هكذا صار تحس بهذه الأبجدية الجديدة التي تتعلمها لأول مرة بعيداً عن اللغات الأربع التي تتقنها . _ أسعد ! ارحمني قليلاً ، فأنا لا أتحمل كلماتك الجديدة التي تصعقني بها . قالت في نفسها . وبينما كانت الخواطر تدور في ذهنها هجمت موجةٌ ودمرت القصر الرملي ، وبلَّلتْ قَدَميها . أحست أن الطوفان فعلاً قادم . لأول مرة تشعر أن موتها قد يأتي من إحدى جهات البحر التي أحبته من كل قلبها ، حتى استوطن حبه في أقاصي شرايينها . هبَّت واقفة وابتعدت عن القصر الرملي الذي راح يضمحل شيئاً فشيئاً إثر تتابع الموجات على خاصرة المكان . وفي طريقها كانت تحاول أن تخترع نكتة مثلما فعل أسعد لكي تنتزع من قاع قلبها ضحكة . حاولت مرة ومرتين ففشلت لكنها نجحت في المرة الثالثة حيث ساعدها ذكاؤها الحاد في لملمة خيوط إحدى النكات ، فقالت مخاطبة نفسها في هذه المساحات الملقاة على أفق الجراح : _ كان هناك أمير أوروبي يلعب القمار مع عشيقته ، فجاءه مساعده وأخبره بأن الجيش قلب نظام الحكم ، فقال لهم إن الحكم غير المهم ، المهم ماذا حصل لكلبي ؟ . وضحكت جودي مرة ثالثة بحيث إن من يراها تمشي وحيدة وتضحك يظنها مجنونة ، أو في عقلها مشكلة ما . إنها بحاجة إلى الضحك ، هكذا قرَّرت في نفسها . كل الأحزان هبطت على رأسها كمقصلة متوحشة ينهمر من نصلها أعواد الكبريت المشتعلة . وفي الدَّير كان صراخ تيريز يقتلع الحيطانَ من جذور الريح . فصراخها ملأ المكان متفجراً في كل الجهات . إنها تنحت على ثياب المكان خطواتها المكهرَبة . لم تستطع أن تجلس . لا يمكنها أن تجلس حتى لو أرادت . نفسها تشتعل ناراً تأكل سعالَ البلاط بفعل الخطوات القاسية الخشنة . تدور كالثكلى التي فقدت ابنها في المعركة وصارت تفتش عنه بين أكوام الضحايا كالمجنونة . نظرت تيريز إلى كاترين ولارا نظرة تحمل كل معاني الريبة ، وقالت : _ الآن سوف تخبراني ما الذي غيَّر جودي بهذا الشكل . تلعثمت الراهبتان ولم تستطيعا إبداء أي جواب ، لكن لارا تمالكت نفسها وغلبت لسانها المعقود ، وقالت : _ نحن لا نعرف أي شيء عن أسرار جودي فهي لا تخبرنا بما يجري معها . قالت تيريز وجبينها يتفصد قلقاً وأرقاً واكتئاباً فضلاً عن العرق : _ هل غرفتها مفتوحة ؟ . وهنا تدخلت عايدة بعد أن عدَّلت وضعية نظارتها السميكة التي بدت كأنها احتضار الأسماك في أقاصي الضوء الفُسفوري النابع من عظام الماء الثقيل، وقالت : _ إن غرفتها مفتوحة . رمت هذه الكلماتِ وكأنها تخفي سعادة باطنية بهذا الأمر الجلل الذي حدث في الدَّير وأحال سكونه القبوري إلى رعشة متمردة . ركضت تيريز إلى الغرفة وبدأت تفتش في كل عنصر من عناصرها . قلبت السرير واللحاف رأساً على عقب . رفعت السجادة وبحثت تحتها عن أي شيء . المهم أنها تبحث . بحثت في خزانة ملابسها ورمتها على الأرض بعد انتهاء البحث . فتَّشت تحت السرير. اكتشفت علبةَ المكياج في أحد الأدراج، فقالت مخاطبة نفسها: _ علبة مكياج ؟! . وأردفت قائلة بسخرية بعد أن رمتها على الأرض : _ لم أعد أعرف هل هذا دير راهبات أم مسرح عارضات الأزياء ! . توجَّهت إلى الرف الذي عليه الكتب . قرأت عناوين الكتب عنواناً عنواناً : الإنجيل ، التوراة ، شرح معاني العهد القديم والجديد ، وكتباً كثيرة بلغات غير العربية . لكن الذي استوقفها كتاب " رسائل الإمام الشهيد حسن البنا " . أمسكته بكلتا يديها ، وقالت للراهبات الواقفات عند الباب كأنهن ينتظرن أوامر عسكرية من جهة عليا : _ إذاً هذا هو الكتاب الذي غيَّر عقيدة جودي ؟ . من أين جاءت به ؟ . في الحقيقة كان الكتاب مكتوباً بلغة مؤدَّبة ، ويعرض العقائد بأسلوب سلس دون شتائم ، ولكن جودي بفعل الضغط الذي تعرضت له ، حوَّلت خطابها إلى خطاب هجومي عنيف . وفتحت تيريز الكتابَ فوقعت عيناها على اسم " زياد خضر"، فقالت بسخرية: _ ومن أين خرج لنا هذا التافه الآخر زياد خضر ؟ .. هل تعرفن أي شيء عن هذا الشخص ؟ . هزَّت الراهبات رؤوسهن بالنفي . أما تيريز فقامت بإلقاء هذا الكتاب باتجاه عايدة فلم تتمكن من إمساكه فارتطم بنظارتها الساذجة ووقع الكتاب والنظارة على الأرض ، فلم تعد ترى إلا غبشاً ، وصارت تتحسس الأرضَ باحثةً عن الكتاب والنظارة. فلما رأت تيريز هذا المنظر ازداد استياؤها وتأففت بصوت عال ، وقالت: _ ساعدن هذه العمياء في إيجاد نظارتها ، ولْيُحْرَق هذا الكتاب فوراً ، ولا أريد أن رأى كتباً إسلامية ما دمتُ في هذا الدَّير .. هل هذا مفهوم ؟ . هزَّت الراهبات رؤوسهن للمرة الثانية ولكن هذه المرة بالإيجاب . فقد كُنَّ لا يجرؤن على الكلام وتيريز في فورة الغضب تلك ، لذا اكتفين بهز رؤوسهن . كانت الغرفة فوضى عارمة مقلوبة رأساً على عقب. الأشياء مبعثرة وملقاة على الأرض ، بحيث يظن من يشاهد هذا المنظر أن لصاً دخل المكان وبعثر كل الأشياء بحثاً عن غنيمة . الملابس على الأرض ، والكتب على الأرض . وبصراحة ظننتُ للوهلة الأولى أنها لن ترميَ الإنجيل والتوراة على الأرض لكنها فعلتْ ، وهذا ما يُحَيِّرني . وفي الوقت نفسه كانت جودي تفكِّر أن تشتريَ خبزاً من مخبز اليهودي الوحيد في هذا المكان لعل تيريز تنسى الموضوع حينما ترى اهتمام جودي بإحضار الحاجيات إلى الدَّير . هذا بالضبط ما كانت تفكر به جودي رغم قرفها من ذلك اليهودي الوقح ، ولكن لا خيار أمامها في الوقت الراهن . ومضت إلى المخبز وهي تتمنى أن لا تصل أبداً . استقبلها اليهودي بابتسامته الصفراء المعهودة ، وأول شيء لاحظه خلو صدرها من الصليب، فاستنتج في قرارة نفسه أن الصليب الذي اشتراه من أم وهبي هو صليب جودي بلا أدنى شك . قال يعقوب مستهزئاً : _ أهلاً بالقديسة الطاهرة جودي . _ دعك من هذا الكلام .. أريد خبزاً بهذا المبلغ . ومدَّت يدها لتناوله المال ، لكنه لم يأخذه كعادته ، وقال بخبث : _ عندي شيء لك أهم من الخبز ! . كانت جودي تعرف أن هذا اليهودي كثير اللغو ، فلم تعره اهتماماً ، وقالت بإصرار : _ لا أريد هذا الشيء المهم .. تَرَكْتُه لك .. والآن أعطني خبزاً . أخرج يعقوب الصليب من جيبه ، وصار يؤرجحه قائلاً : _ هل يُذكِّرك هذا بشيء ما ؟ . بزغت المفاجأة في عقل جودي بشكل صارخ . إنها مصدومة غير قادرة على الكلام . (( كيف وصل الصليبُ إلى يد هذا اليهودي التافه ؟ )) . تساءلت في نفسها . وتمالكت نفسها واستجمعت عضلات لسانها قائلةً : _ أيها السارق ! كيف سرقتَ صليبي ؟ . _ لستُ سارقاً ، لكن هذا الصليب وصل إلي عن طريق أحد اللصوص ، وقد كنتُ أشعر أنه لكِ ، لذا خبأتُه ليصير أحلى هدية أقدمها لك دليلاً على صدق قصة حبنا ! . ولما سمعتْ هذا الكلام طار عقلها ، فقالت : _ ما الذي تهذي به أيها الأبله ؟ .. واحدة مثلي تحب واحداً حقيراً مثلك ؟ .. أعطني الصليب قبل أن ألم عليك الناس . _ لقد دفعتُ فيه دم قلبي ، ولن أعطيَك إياه إلا إذا سمحتِ لي أن أُعَلِّقه على صدرك . صُعِقت جودي عندما سمعت هذا الكلام الوقح ، ولم تستطع تمالك نفسها فبصقت في وجه اليهودي ، وقالت : _ صحيحٌ أنك كلب حقير ساقط لا شرف لك . وانصرفت جودي والأرض تدور بها ودموعها تنحت أسماء الحزن في عينيها اللتين استوطنهما موسم البكاء . كأن اليوم بالنسبة لجودي هو موسم البكاء ، فدموعها لم تكد تجف حتى انهمرت من جديد . أما يعقوب فمسح البصقة بطرف كمه والابتسامة لا تغادر محياه . كان يريد أن يحرق قلبها بهذا الكلام ليفرغ شحنات ساديته . تعمد أن يخدش حياءها ليبدوَ هو السيد الذي يملك أعضاء جاريته ويتحكم بشهوته وشهوتها. هكذا بالضبط كان يفكر . إنه آخر رجل على هذه الأرض يحترم المرأة . ولقد قال لأحد زبائنه ذات يوم إنه يرى تفاصيل حياته من خلال احتقار المرأة ، وإنه يود لو يمضغ جسدَها كالعلكة ثم يبصقه للكلاب الضالة . إنه مؤسس السادية في هذه البلدة المنكوبة . كانت جودي تمشي والدموع تتساقط من عينيها كشلال في أقاصي جسد الدهشة . وصلت إلى الدَّير ولا تعرفُ كيف وصلت . واقتحمت بابَه مثل قائد مهزوم أُغلقت كل الأبواب أمامه إلا باب بيته الذي صار قبراً مفتوحاً على كل الشرايين والأحزان . كانت الراهبات يُحَدِّقْن في وجه جودي كأنهن شواهد قبور منسية . وقد التحفن الصمت الرهيب ، وبدا المشهد كمسرحية مطبوخة مسبقاً . وحينما رأت جودي هذا الوجوم آثرت عدم إلقاء التحية لاعتقادها بأن أحداً لن يجيبها خوفاً من نقمة تيريز . هكذا كانت تعتقد . ويا لها من مفاجأة صاعقة حين رأت غرفتها مقلوبة رأساً على عقب . وهذه الفوضى لم تحدث أيام الحرب ، لكنها تحدث الآن في حرب أكثر شراسة . امتصت جودي الصدمة سريعاً لأن قواها خائرة ولا تقوى على الجدال والعراك . إن كثرة جروحها قد أفقدتها الإحساس بالجرح . إنها تحمل على ظهرها قروناً من التعب . ارتمت على سريرها الفوضوي وغرقت في النوم سريعاً .