أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الثاني )
تأليف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
وفي اليوم التالي وقبل انبجاس ضوء الفجر . ها هو الليلُ يسيرُ بثقةٍ نحو نهايته الحتميةِ . وعندما يصطدم بصوت الموج دون موعدٍ مسبق ، تبدو لحظة الاصطدام كما لو كانت أنين طفلٍ هاربٍ من ضوء نجمةٍ بعيدةٍ يشعر أنها تقتربُ منه شيئاً فشيئاً، فيصرخ بعنفٍ لا يماثله سوى صراخ بشرٍ على وشك أن يَذبحوا ويُذبحوا. إنها بلدةٌ ساحليةٌ يغسلُ البحرُ رجليها دون أن يتقاضى أجراً . واسم البحر هو خلاصة تاريخية حافلة . فكل طرف يختاره بما يتناسب مع وجهته وتاريخه ، فالاسم يغدو مخططاً يعكسُ استيلاء حضارةٍ ما على هذا المسطح المائي الجبار . إنها بلدةٌ غرسَ فيها الصمتُ معوله بقسوةٍ ، فالبارحةُ مثل اليوم ، واليوم مثل نفسه. والوقائع الملموسةُ يُستنبطُ منها أن غداً كاليوم ، وهكذا تدور البلدةُ جثةً خرساء في مدار دائري بدايته تقود إلى نهايته التي تقود إلى بدايته .
ولكن منذ وقت بسيط صارت هذه البقعة الساكنة المنسية في كتب الجغرافيا والتاريخ مسرحاً يموج بالأحداث الجسيمة والتوجهات المتباينة . أي طارئ هجم عليها فأحال سكوتها القبوري ثورةً من الكلمات والأحلام والأفعال ؟. وما زال الماء يتحرشُ برمال الشطآن التي أَفاقت من عدم اكتراثها ، وبدأت تقتحمُ أسئلتها بصرامةٍ ، وتتساءلُ حول ما يجري حولها . لا بد أن يخرج الرملُ يوماً ما من عباءةِ الخضوع للماءِ، ويثور على طغيان المد المعتاد على اكتساح العناصرِ . وحتى يحين وقت اكتحال الساحلِ بالرطوبة المنتشيةِ ستظل الشواطئ تلبس أجمل ملابسها وتهاجر في مراكب الصيد الملونة .
وفي مثل هذا الوقت _ كل يوم_ أي موعد قدوم الفجر معلناً نهاية ليل رطب، يستيقظ الرجل السمين ذو الخامسة والأربعين يعقوب بنيامين. رجل يهودي عربي يفهم عروبته ويهوديته على أنها استبداد وقمع واضطهاد للآخرين . يزيح غطاءه الصوفي المتجعد كوجه زوجته مريانا . يحدق في الغطاء المتجعد ثم ينظر إلى امرأته النائمة إلى جانبه . ثم يبدأ في إيجاد قواسم مشتركة بينهما ، وبالطبع تعكر المقارنة مزاجه ، فيتجهم أيما تجهم ، ويقتنع أكثر من أي وقتٍ مضى بأنه كان غير موفق في اختيار امرأته ، ويستغرب من تلبسه بالفشل الفظيع . ويتعجب أكثر كيف قضى هذا العمر مع زوجته . ولكنه يقنع نفسه أنه كان صغيراً جداً يوم تزوج ، ولم يكن يمتلك الوعي الكافي والنظرة الصائبة . ويقول الرجل في نفسه _كاظماً حنقه رغماً عنه _ :
_ الحق عليك يا أبي . أمرتني أن أتزوج ابنة عمي لأحافظ على تماسك العائلة . حتى إنك لم تكلف نفسك أن تأخذ رأيي . كان أمرك نافذاً لا يُعارَض . وكنتُ أصغر وأضعف من أن أعارض رغبتك . لقد دَمَّرْتَني يا أبي ورحلتَ ! . شكراً لك يا أبي لأنك قضيتَ عليَّ ! .
هذه الأفكار تختمر في ذهنه كل يوم في هذا الوقت ثم تتبخر عندما تفيق امرأته مُنهية حقبة بائسة من الشخير الذي يعمل ضجيجاً قبيحاً في جو الحجرة ، ويكون مُنبهاً لمن يحاولون النوم كبعض المواد المهيجة في النباتات الطالعة هنا وهناك .
تقول مريانا بعد طقوس تثاؤبها الأحمق :
_ عِمْتَ صباحاً يا حبيبي .
فيرد يعقوب وقد أشاح بوجهه عنها تأففاً :
_ عمت صباحاً .
_ لماذا تشيح بوجهك عني ؟ .
يجيب زوجها مستهزئاً :
_ لا أستطيع أن أحدق في لمعان وجهك الوضاء، وخصلات شَعْرك اللازوردية، وعينيك الواسعتين كعيني غزالة على وشك أن تقع فريسة صياد .
_ إذاً ، إنك تتمنى قتلي ! .
يجيب مازجاً كلماته بتنهيدة عميقة :
_ للأسف ، ليست كل أمنية تتحقق ! .
ترد وقد استشاطت غضباً ومَلَكَها الحنق :
_ يا لك من زوج حاقد ! ، تتمنى هلاك من أعطتك كيانها وكل ما فيه ، ووهبتك عمرها عن طيب نَفْس . اشكر الرب أن رضيت بك ، وقد تقدمتَ إليَّ فتى أرعن لا تملك سوى ثيابك التي اشتراها لك والدي لتبدوَ أمام الناس صهراً محترماً . لا تنس أنك كنتَ أجيراً عند أبي في مخبزه ، وقد التقطك من الشطآن وأنت تطارد السائحات العاريات وهن يسبحن ويتشمسن . حاول أن تُنَشِّطَ ذاكرتك التي سممها الحقد ونكران الجميل .
_ لا أحد يعطي عمره لأحد . خذي عمرك ومجد عائلتك ، ولتفرحي بهما ! .
هذا النقاش العقيم يتكرر يومياً بصور متباينة وألفاظ جديدة ومعان مختلفة ، حتى إنه غدا افتتاحية لليوم ، وصار أشبه بحركة تلقائية ، أو جزء عفوي يومي . اعتادا عليه وصار من الصعب تجاهله أو القفز فوقه .
وكالعادة تستيقظ ابنتهما راحيل على صراع الديك والدجاجة. صراع يضرب جذوره بعنف في فضاء الدار ، وأسمنت الحيطان ، ووجوه البشر الساكنين في هذه المقبرة البعيدة عن عيون سائقي سيارات نقل الموتى . هؤلاء البشر يمشون على آخر ما تبقى من ضوء في عظامهم المترسبة في وديان الانتحار المتسارع والانطفاء الرسمي.
أنجبَ يعقوبُ ولدين وثلاث بنات . وقد هاجر الولدان والبنتان إلى فلسطين سراً واستقرا هناك حيث وفَّرت لهما الحكومةُ سكناً في إحدى المستوطنات ، كما وفَّرت للولدين عملاً في أحد مصانع الأسلحة ، أما البنتان فتعملان في إحدى دور النشر المعنية بترجمة الأدب العربي إلى العبرية . وقد أخفى الوالدان قضية الهجرة إلى فلسطين عن الجيران لما في ذلك من حساسية خاصة في المجتمع العربي .
أما راحيل فبقيت مع والدَيْها لأنها عمياء وصغيرة ولا يمكن لها أن تتدبر أمرها . وطالما عَيَّر زوجته بأنها أنجبتْ بنتاً عمياء . وقد صارت مثاراً لسخرية والدها على الدوام لكونها لا ترى. والحق يُقال إنها لا تعي معنى الهجرة إلى فلسطين ، وأن يُسرَق وطن في وضح النهار، وأن تحل محل الفلسطينيين السكان الأصليين . ففي ذهنها أن المسألة عبارة عن سَفر إلى مكان والإقامة فيه مثل كل المسافرين في هذا العالَم ، ولأنها لم تذهب في حياتها إلى أية مدرسة فإن ثقافتها تكاد تصل الصفر .
كانت راحيل في الثامنة عشرة من العمر . فتاة جميلة شعرها طويل ومسدل على كتفيها ، ووجهها أبيض مستدير ، وهي ممتلئة بشكل يفيض أنوثة ونعومة ، بلا عمليات تجميل أو مكياج . وهي أصلاً لا تملك ثمن هذه المساحيق فكيف ستستخدمها ؟ . وهي بالأساس في غنى عن كل المساحيق لأن الله وهبها جَمالاً طبيعياً لم يتلوث بالمواد التجميلية الكيماوية . أما عيناها اللامعتان فمفتوحتان على احتمالات الصدى الأخرس . وللأسف فقد كانت عمياء لا ترى مُطْلقاً . هكذا وُلِدت ، وقد سبَّب لها هذا العمى اكتئاباً مزمناً وضيقاً ما بعده ضيق . وما زاد الطين بلة هو استهزاء والدها بها على الدوام ، فهو يناديها في غالب الأحيان يا عمياء . تعالي يا عمياء ، واذهبي يا عمياء . ومن النادر أن يناديَها باسمها . منذ ولادتها وهي تعيش في جو موغل في الرعب وعدم الاستقرار الأسري . فمن النادر أن تختلط بالجيران أو الأقارب بسبب خوفها من الناس ونظراتهم إليها ، وعدم قدرتها على بناء علاقات اجتماعية سليمة . إنها مسكونة بالرعب والرعشة .
كانت هذه الأسرة تستيقظ باكراً جداً كل يوم بسبب عمل الأب في المخبز ، فهو يذهب إلى مخبزه مبكراً ليجهز العجين وباقي المواد المستخدمة في صناعة الخبز. أما راحيل فكانت تستيقظ رغماً عنها بسبب النقاش الحاد بين وَالِدَيْها . إن غرفتها سجنها الدائم ، فهي لم تذهب إلى مدرسة في حياتها قط . إنها لا تقرأ ولا تكتب . فقد رفض الأب ذهابها إلى المدرسة بذريعة العمى رغم إلحاح الأم على ذهابها ، إلا أن إصرار الأب كان طاغياً . من سيرسلها إلى المدرسة ؟ ومن سَيُحْضرها ؟ وكيف سترى محتويات الكتب ؟ وكيف ستقرأ وتكتب ؟ . هذه الأسئلة مغروسة في فمه على الدوام ، فلم تملك الأم إلا الرضوخ لعنف هذه الأسئلة ، وغياب الأجوبة الحاسمة . ولم يقم الوالدان بالبحث عن طريقة مناسبة لتعليم ابنتهما الوحيدة ، ولو أرادا فعل ذلك لاتصلا بجهات حكومية أو أهلية ذات علاقة بالموضوع ، ولكنهما لم يريدا أن يتكلفا عناء البحث .
ذهبت الأم لتحضير طعام الفطور ، أما راحيل فبقيت متجمدة تحت اللحاف ، ولم تذهب لمساعدة أمها لأنها ستكون عبئاً على أمها ، وستفسد الأشياء أكثر من إصلاحها ، هكذا كانت قناعتها المنحوتة على قلبها الضعيف .
أحضرت الأم الطعام إلى زوجها المتجهم، فتناوله بشهية شرسة، وزوجته واقفة أمامه خائفة أن تشاركه الطعام ، فقد تعودت أن لا تأكل مع زوجها منذ زواجهما ، وعليها أن تنتظره حتى يفرغ من الأكل ويخرج من المنزل ، وبعدها توقظ ابنتها المستيقظة أصلاً لتأكل المرأتان ما تبقى من الطعام .
فرغ الأب من تناول الطعام ، ثم ذهب ليرتديَ ملابسه . وهو لا يرتديها إلا بمساعدة زوجته كإجراء روتيني ، وفعلٍ لا بد منه ليثبت رجولته كما كان يعتقد . أمسكت زوجته حذاءه الممزق ، ومسحته بطرف كمها ، ثم اقتربت من قَدَمَي زوجها ، وأدخلت الحذاء فيهما بصعوبة ، ثم قالت لزوجها :
_ لو اشتريتَ حذاءً جديداً لكان أفضل من هذا الحذاء الذي يثير سخرية الناس .
فرد بأسلوب ساخر :
_ وكيف سأُطعمكما أنتِ وابنتك العمياء ؟! .
أحست الأم بعد سماعها لهذا الكلام بإبرٍ تنخر وجهها الراكض في العتمة المنكمشة . أرادت أن تبكيَ لكن الدموع تجمعت في سدود ألمها المتكاثر كوقاحة زوجها . لذا التحفت بالصمت الفظيع ، وبقيت صامتة، ولم تجب على السؤال الاستفزازي لزوجها .
غادر الرجل المنزل ، ونزل على الدرجات المهشَّمة التي تصرخ بصوت غير مسموع جراء حملها لتلك الكتلة اللحمية المتراكمة . ينطبع وشم حذائه الممزق على البلاط المنزوي تحت رحمة عوامل البيئة . كأنني أحس البلاط المتآكل يصرخ ويصرخ ، ولكن دون مجيب . هكذا يُخيَّل إِلَيَّ . ولستُ أدري لماذا لا يريد أن يفارقني ذلك الإحساس الغامض .
خطواته تنخر خيوط رئة المكان المسحوق تحت بصمات الحذاء التالف . استمر في النزول أو السقوط كأنه خَرَّ من الغيوم المكدسة ، وهوى إلى قاع حلمِ قاتِلٍ قديم لم تتمكن الشرطة من التعرف عليه . ذاب في خطواته واضمحل بصورة شبه نهائية لكنَّ شبحه وصل إلى باب العمارة ، ومضى إلى مخبزه القريب. نعم ! إن جسده كان يمشي أو شبحه المتكرر . بصراحة لا أستطيع التمييز بينهما . كل ما أعرفه أن كتلةً لحمية مشت ومشت إلى حلم جديد أو مقبرة جديدة .
أما الأم فذهبت إلى إيقاظ ابنتها ظناً منها أنها نائمة ، وما درت أنها تستيقظ على هذا الصراع اليومي الممل . مشت الأم بخطى وئيدة إلى الحجرة فرأت ابنتها متكومة تحت لحافها فتأكدت أنها نائمة ، وما درت أن ابنتها مستيقظة ولكنها تمثل دور النائم بحرفية عالية. اقتربت الأم من السرير ، ومدت يدها إلى ابنتها قائلاً بحنو:
_ راحيل .. راحيل .
لم تجب البنت لأنها تريد أن تظل مختبئة تحت اللحاف إلى الأبد ، ولا تخرج إلى النور أبداً . وكيف ستخرج إلى النور وهي مزروعة في قلب الظُّلمة اللانهائية ؟! .
أعادت الأم محاولتها بعد أن عززت كلماتها بهز جسد ابنتها المدجج بالخوف والمشاعر المتضاربة :
_ راحيل .. راحيل .. استيقظي يا راحيل .
مَثَّلت راحيل أنها تستيقظ للتو ، فتصنعت التثاؤب ، وقالت :
_ ماذا تريدين يا أمي ؟ .
_ قومي لكي نفطر سويةً .
_ لا أريد أن أفطر ، افطري أنت لوحدك .
_ ما هذا الكلام ؟! ، يجب أن تقومي لتفطري ، وإن لم تفعلي فلن أفطر .
نفضت راحيل اللحاف عن بدنها كما تنفض الفراشة المذبوحة ذكرياتِ النار عن أجفانها . وقامت وهي تدعك عينيها . وعندما رأت الأم أنها قد قامت تهللت أساريرها ، لأنها كانت حريصة أن تفطر ابنتها إفطاراً يليق بالإنسان ، ويُنسيه المجاعة أيام الحرب . والعجيب أن راحيل ظَلَّت محتفظة بصحتها حتى في أيام الحرب . فجسمها الممتلئ ليس ناتجاً عن كثرة الأكل ، ولكنه ناتج عن طبيعة القالب الموضوع فيه لحمها المتراص .
نهضت البنت لوحدها ، فأمها لم تتدخل لمساعدتها في النهوض لأنها كانت تريد أن ترى قوة ابنتها لكي تطمئن على نفسيتها وصحتها. رَتَّبت البنت سريرها . كل عنصر مُرَتَّب بشكل ينبئ عن ذوق رفيع وإحساس بالجَمال والترتيب والهدوء . إن هذه العناصر كلها احتشدت في سريرها المرتَّب . صحيحٌ أنها لا ترى الأشياء ببصرها ، لكنها كانت تحس بما حولها . تشعر بتنفس سريرها ، بدفء أجزائه ، بتموجات اللحاف ، بقيعانِ وسادتها المتأرجحة بين الصلابة والليونة . إنها تحس بالعناصر المحيطة ببصيرتها التي تعبر هذا المدى اللزج . إحساسها هو عينُها التي لا تُغمِض .
ذهبت المرأتان إلى طعام الفطور مسرعتين كحمامتين هاربتين من صياد محترف . في جبينهما أشجارٌ غامضة خائفة من شيء ما . لم تتكلما وإنما اندمجتا كلياً في الطعام. نظرت كل واحدة إلى الأخرى كأنهما تريدان قول شيء عالق في أحلامهما المقموعة . لمعت عينا راحيل المفتوحتان على العمى بشكل غريب. حدَّقت الأم في عيني ابنتها تحديقاً متواصلاً. أرادت أن تبكيَ إشفاقاً على ابنتها لكنها لم تستطع ، وغرقت في الأكل الذي قد يُعوِّضها عن البكاء .
وبينما كانتا تأكلان أحستا بوقع أقدام على الدرج . ابتسمت راحيل وقالت بخجل واضح :
_ إنه جارنا زياد ذاهب إلى صلاة الفجر .
وعندما انتثرت هذه الكلمات في الأفق الأرجواني المرتعش ، برقت عينا البنت مرة أخرى. ولاحظت أمها هذا البريق العميق . بدا بريقاً بريئاً ممزوجاً ببقايا طفولة شريدة . لقد قالت هذا الكلام ببراءة بنت محلقة في طفولة لا تُسافر في قطارات العمر .
قالت الأم مُعلِّقة على كلام ابنتها :
_ إن زياداً شاب متدين ومحترم، وسيكون بألف خير لو يتركه رجالُ المخابرات الذين يسألون عنه دائماً ، ليتهم يتركونه وشأنه ليعيش مثل باقي الخلق .
ارتبكت راحيل لما سمعت هذا الكلام ، وقالت بلهجة الأم الخائفة على ابنها الوحيد :
_ وهل سيؤذونه ؟! .
شعرت الأم بلهفة غير عادية تتخبط في كينونة هذا السؤال ، فقالت محاولةً إزالة الخوف عن ابنتها :
_ لن يستطيعوا أن يؤذوه لأنهم أضعف شخصيةً منه .
أُعجبت البنت بجواب أمها ومنطقها ، واطمأنت إلى كلامها المريح ، وعادت إلى الأكل بشراهة أكثر من ذي قبل .
كانت وقع الأقدام الموغلة في جسد الزنبق تعود إلى زياد كما قالت راحيل بالضبط . فهو حريصٌ على حضور صلاة الفجر في المسجد كل يوم . توضأَ بالماء النازل من رحم أشجار حُلْمه . هكذا كنتُ أتخيل المشهد رغم أنني أرى الماء نازلاً من الصنبور . أحس ببرودته لكن شعلة الإيمان في قلبه أضاءت تفاحاتِ قلبه الخاشع لله . انبسطت أعضاؤه أمام اجتياحات الماء الناعمة ، واستسلمت دموعه الخفية لسيل ذكريات جدران غرفته الممتلئة ببراويز الآيات القرآنية . كان سعيداً لدرجة لا توصف . وكلما مَرَّ الماء على لحمه شعر أن قلبه يُهاجر إلى خالقه ، تاركاً حقيبة السفر لتراب الغرباء الذين ما زالوا يدبون على هذه الأرض . مضى إلى طريقه حاملاً ظل الغيوم البعيدة على ظهره الضعيف وسار مبتسماً . نزل الدَّرج بخطوات غير قافزة . إنه يتأنى في النزول . فكَّرَ للحظة أن يصرخ في الناس ليوقظهم للصلاة ، أن يناديَ على الطيور والأشجار والبحر. ولكنَّ صورة جيرانه اليهود داهمته بعنف، وأدرك أن هذا ليس أسلوباً جيداً لإشعار الناس بالصلاة ، فأعرض عن هذا الخاطر السريع ، ومضى والابتسامة لا تفارقه .
كان الشَّارع يفتقد إلى ملامح الشوارع العادية . الخراب يحيط بهذا الكائن السائر في ظلمة الليل نحو لقاء خالقه . بدا منظر المنازل المهدَّمة في الظلام مُروعاً وبائساً كأشباح تتطفل على رائحة المجاري المجنونة . فقد قُصفت أنابيب الصرف الصحي ، وهذا سبَّب كارثة بيئية فظيعة . بدت هذه الأشياء تحت جنح الظلام أشد إيلاماً . هاجمته الروائحُ الكريهة من كل الأزقة ، إنها تخرج من الحيطان المشققة ، من خلايا الأسمنت المسلح المتهاوي ، من عيون الصَّدى المتوحش . إنها تخرج من كل العناصر المحيطة بالأنقاض الممتدة على مساحات حزن الأرصفة الذي ما زال يُقاتِل رغم كل الكوارث التي تجثم على صدر المكان اللامكان . ورغم كل هذا شعر زياد بنسمة مدوية قادمة من جهة البحر. نعم ، لقد كان يشعر بها بعنف. إنها فرصةٌ حقيقية ليتبختر في هذا الخراب كأنه يتحداه، ويجبره على التحول إلى نوع جديد من الأحلام . إنه التحدي الصارخ ، هكذا كان يُفكِّر . أحس بقوة غريبة تهزه بشدة . استسلمَ لها بمحض إرادته ، وراح يمشي كأنه يريد ان يطبع بصمات ظله على هذه الأرض التي تحب أن ترى ساكنيها أحياء رغم ما فيهم من موت يعشعش في زوايا ظلالهم المقاتِلة . رأى ضوء المئذنة من بعيد، يلمع كنجمة راحلة إلى سجودها لخالقها . قال في نفسه :
_ يا الله ! المئذنة سلمت من القصف في وسط كل هذا الخراب .
أحس بقلبه يتفطر عندما ذكر لفظ الجلالة، وبوجهه يتصدع من عظمة الكلمة، ثم ما لبث أن سكنت أعضاؤه كزيتونة تقف في وجه الكلاب المسعورة دون أن ترتعش .
وصل إلى المسجد ودخله بعد أن وضع حذاءه على إحدى الرفوف الخشبية المخصصة لذلك . خُيِّل إليه أن عظامه تركع على السجاد النظيف. بدا المسجد ممتلئاً بالمصلين على غير العادة في صلاة الفجر. كان هناك فجوة كبيرة في الحائط الغربي للمسجد . لا بد أنها نتيجة قذيفة مدفع . هكذا حلَّل زياد المشهد في ذهنه رغم أنه لا يفهم كثيراً في الأمور العسكرية . إن الهواء النقي يدخل من الفجوة غير حامل للغبار رغم كل الأنقاض المحدقة بالمكان. ولم يكد يُصَلِّي تحية المسجد حتى أُقيمت الصلاة . اندفع باتجاهه خاطرٌ عجيبٌ فقد تَخَيَّل أن الوقت بين الإقامة وتكبيرة الإحرام عاصمةٌ لاستنشاق رائحة المجرات. لم يجد تفسيراً منطقياً لهذا الخاطر الماحي. دخل في الصلاة وفي عينيه أشجارٌ تُصَلِّي . كان صوتُ الشيخ سليمان ثويني إمام المسجد وهو يقرأ القرآن يتسرب إلى خلايا زياد الحية والميتة . إنه صوتٌ يحمل كل ألوان الفراشات المهاجرة في موسم المحبة . استسلم لبكاء خفيف ضربه بلا موعد مسبق . ذرف دمعة إثر دمعة ، ونزيف الدمع لا يريد أن يتوقف ، كأن الدموع تحفر أخاديد البرتقال في وجهه الراكض باتجاه الخشوع . تملكته رِعْدةٌ لا يُعرَف مصدرها .
_ إنني قريبٌ من حضرة الله .
قال في نفسه .
وبدا وكأنه غير قادر على الوقوف على رجليه . لكنه تمالك نفسه بصعوبة وأكمل الصلاة . وبعد أن فرغ من الصلاة لمح آثار دمعه على السجاد. انعكس قلبه على مرايا دمعه ، وأغمض عينيه ، ودخل في الاستغفار والأذكار .
ذاب في أذكاره واضمحل قلبُه بين ضلوعه ، وَوَجد قلبه مُعَلَّقاً على الهلال الموضوع في أعلى المنبر . هكذا كان يرى ببصيرته . بدأ المصلون يغادرون المسجد ، لكنه بقي جالساً في مكانه . فكَّر أن يذهب إلى الإمام لِيُسَلِّم عليه، حيث إن الحرب الماضية قطعت العلاقات بينهما ولم يريا بعضهما البعض منذ ذلك الحين . اقترب من الإمام ، وألقى السلامَ عليه، ثم صافحه بحرارة قائلاً :
_ كيف حالك يا سَيِّدي الشيخ ؟ .
_ الحمد لله ، إنني في أفضل حال .
_ أحببتُ أن أُسَلِّم عليك ، وأطمئن على صحتك .
_ بارك الله فيك يا زياد ، وشكراً لك على سؤالك .
ومضى زياد مغادراً المسجد تاركاً الشيخ جالساً في مكانه .
إن الشيخ سليمان ثويني رجل صالح ، وفقيه شافعي ، وهو شيخ إحدى الطرق الصوفية . عندما تراه تشعر بملامحه تفيض أنهاراً من حرارة الإيمان . كل شيء في وجهه أبيض ، وثيابه كذلك . وكل تفاصيله بيضاء ما عدا عِمامته السوداء التي يقول إنها لون عِمامة النَّبي .
وهو ممنوعٌ من السفر بسبب خطبه يوم الجمعة التي ينتقد فيها النظام الحاكم وفساد الحكومة ، كما أنه ممنوع من الخطابة . ولكن في المرحلة الأخيرة ضعفت سلطة الدولة وأجهزتها الأمنية ووسائل الاتصالات بسبب الحرب، وانشغال الجيش بالقتال في المناطق الحدودية ، وهذا دفع الشيخَ إلى العودة للخطابة دون إذن حكومي. وعلى الرغم من كل ما حدث إلا أن أجهزة الدولة رجعت للعمل تدريجياً بعد انتهاء الحرب . وكلما مُنع أكثر ازداد التفاف الناس حوله . وفي المرة الأخيرة أرسلت الحكومة خطيباً من علماء السَّلاطين، فكانت خطبته كأنها منشور بيعة للحاكم ، فقضاها في التطبيل والتزمير له . مما جعل الناس يُصابون بالاستياء ، ويُنزلونه عن المنبر . ولولا تَدَخُّل بعض المصلين لإخراجه سالماً، لخرج محمولاً على نقالة ! .
في هذه البلاد تتدخل الحكومةُ في كل شيء ، وتتحكم في كل شيء. فوسائل الإعلام تابعة للدولة، ومؤسسات المجتمع المدني تابعة للدولة، ودور النشر تابعة للدولة ، والمساجد والكنائس تابعة للدولة . وفي الفترة الأخيرة سمحت الدولة بإنشاء أماكن عبادة لليهود في مناطق تجمعاتهم ، وحتى هذه الأماكن تابعة للدولة ، لدرجة أن زياداً نشر مقالاً في صحيفة عربية تصدر في الخارج ساخراً من هذه الهيمنة على كل شيء . وقال في مقاله مستهزئاً إنهم نسوا أن يحددوا ألوان الملابس الداخلية للشعب ، وقال في نفس المقال إنه يخشى أن يتذكروا ذلك قريباً ! .
خرج زياد من المسجد وفي جبينه تتزاوج الأشجار الباسقات ، وتتمرد الأنهار غير الدموية . مشى إلى مكان منحوت في ذهنه. إنه يعرف أين يذهب . قصدَ الشاطئ ، وزرع أقدامه في الرمال الصفراء التي يظهر لونها بشكل عاصف تحت أشعة القمر الآيل للرحيل. خلع ملابسَه ووضعها على الشاطئ ، وبقي مرتدياً لباس سباحة يُغطي المنطقة بين سُرَّته وركبتيه . وسلَّمَ نفسه للموج الهادئ ، وانصهر في جسد البحر ، وراح يسبح بعشق مثلما تسبح النجوم في مجرة الكلمات الشاعرية .
لقد تعود كلَّ يومٍ أن يُصَلِّيَ الفجرَ في المسجد ثم يذهب للسباحة في البحر . كان الماءُ بارداً بعض الشيء، لكن برودته ناعمة وليست قاسية. إنه يُحسن السباحة بصورة لافتة ، فمنذ طفولته هو يسبح في البحر . لقد علَّمه السباحةَ أستاذُ الرياضيات . كان يأخذه إلى منطقة ليس فيها نساء بملابس السباحة ، ويعلمه كيف يسبح في تلك البقعة ، وكان يخبره على الدوام بأن البحر هو التفاضل والتكامل .
وهؤلاء النِّساء على شطآن هذا البحر اللواتي يرتدين لباس سباحة من قطعتين لم يَكُنَّ من أهل المنطقة ، لأن أهل المنطقة محافظون إلى حد بعيد ، ولا يسمحون لبناتهم أو نسائهم بفعل ذلك . وإنما كانت النساء غالبيتهن من السائحات الغربيات اللواتي يأتين إلى هذا المكان من أجل الشمس والاستجمام .
لذا كان زياد طوال حياته يختار وقت ما بعد صلاة الفجر للسباحة ، حيثُ يكون الشاطئ خالياً تماماً، بلا سائحات عاريات، أو صخب هستيري . إنه يحس أن البحر ينادي عليه . صوتٌ ما يأتي من حنجرة الموج ينادي بأعلى صوته . وزياد لا يملك إلا أن يُلَبِّيَ مختاراً سعيداً باختياره . إن هذا السابح الوحيد في لجة أجنحة الفراشات النائمة مهاجِر باتجاه صوت غامض يأتي من شبابيك البحر المشرعة أمام قدوم ضيوف الإعصار .
كان سَبَّاحاً ماهراً وعاشقاً لما يقوم به . عشقه يسبح في ماء أحلامه الشمسية ، ولكن الشمس ما زالت مختبئة لم تظهر بعد . منح للبحر كامل أعضائه ، واخترق العمودَ الفقري للموج الثائر أبداً ، والمنفيِّ أبداً. لقد امتزجت ملوحة دموعه غير المرئية بملوحة البحر. خطر على باله أثناء السباحة أن كل شيء حوله مالِحٌ . صور الرمال المبتعدة عن ناظريه بينما هو يتوغل في الماء . شَعْرُ جارته اليهودية الشابة وهي تحفر موتها على قشر البطيخ الذي لا تستطيع أن ترى لونَه . حقيبة ابنة مدير المخابرات التي تدرس معه في الجامعة ، والمرشحة للفوز بانتخابات مجلس الطلبة بكل وسائل التزوير المعروفة وغير المعروفة . تزوير الانتخابات في كل تفاصيل البلد من رأس الهرم حتى القاعدة .رائحة الخبز المنبعثة من فرن اليهوديِّ وهو يعد الأموال التي جناها من القِمار والرِّبا . رائحة عَرَق أخيه الجندي الذي قد يعود وقد لا يعود.
_ كل شيء حولي مالح .
قال في نفسه وهو يسبح مغمض العينين .
لكنه تدارك إحساسه المؤلم ، وآمنَ أنه سيصعد من بين كل تلال الملح المحدِقة بجسده الوحيد في وسط جبال الموج التي لا ترحم ، سيصعد دماً للرياح لا ينقل على ظهره براميلَ النفط للغزاة . هكذا أكَّد لنفسه بكل حزم. كان يَسْبح لِيُفَرِّغ الكبتَ الجنسي والقهر السياسي الفظيعين اللذين يشعر بهما . يضرب الماء بيديه ورجليه ليعلن انتصاره على اليود البحري والشِّعابِ المرجانية ويومياتِ الحيتان التي لا تأتي إلى رياح القلب وأسماكِ القرش المشغولة بالتقاط فرائسها في مكان ما .
انتهى من السِّباحة ، وخرج من الماء . ارتدى ملابسه التي تركها على الشاطئ المهجور في مثل هذه الساعة . إنها ساعة يهجر فيها الناسُ رمالَ الحلم ويغطسون في منام الصخور . وحدها النوارس التي تقضم جسد السواحل التي لا يصلها خفرُ السواحل .
عاد إلى العمارة التي يسكن فيها . وبينما هو صاعد على الدرج لمح راحيل نازلةً وهي تمسك كيس القمامة من أجل رميه في الحاوية القريبة التي نجت من القصف بأعجوبة . أخشى أن تكون حاويات القمامة هي التي سَتَرِثُ هذه الأنقاضَ اللانهائية . كانت خطوات راحيل كالنَّمش الخفيف في وجه قطة مبلولة على سور مقبرةٍ تُقاتِل . إنها تزرع خطواتها برفق على هذا الدرج الموحش بالنسبة لها . لقد استوى عندها الليلُ والنهار ، فلا فرق يُذكَر . ولقد اختارت هذا الوقت بالذات لترميَ كيسَ القمامة ، لأن الناس نائمون في هذا الوقت ، وبالتالي لن يسخر منها أحدٌ بسبب العمى، لأنه لا أحد يراها في مثل هذا الوقت. هكذا كانت تعتقد. وقد قامت الأم بتوصيفها المكان الذي توجد فيه حاوية القمامة ، فقالت لها إنه يوجد على بعد عشرين متراً جهة اليسار بعد خروجك من باب العمارة . وهكذا صارت راحيلُ تقوم بهذا الفعل كل يوم .
وعندما رآها زياد أشفق عليها ، وشعر بكهرباء عجيبة قادمة من لمعان عينيها المفتوحتين والمغلقتين في الوقت ذاته ، فأسرع إليها وفي جبهته بنادق من نوع خاص تتقاتل . تَوَجَّه إليها قائلاً :
_ آنسة راحيل ، هاتي الكيس لأضعه في الحاوية .
ردت وقد ارتسمت على شفتيها أشجارُ ابتسامة غامضة ، وأسى يرتدي أقنعةَ الألم :
_ لا عليك يا أستاذ زياد، سوف أضعه بنفسي ، فأنا أعرف الطريق.
رد زياد وقد ارتدى صوتُه إصرارَ الرجولة :
_ لن أدعك تفعلين ذلك .
ومد يده وانتزع الكيس منها . وقد كان حريصاً على أن لا تلمس يدُه يدَها ، فهما في غنى عن الإحراج والمشاعر الشهوانية . هكذا كانا يُفكِّران في عقلهما الباطن .
أخذ زياد الكيس ومضى لكي يُلقيَه في حاوية القُمامة . أما راحيل فمضت إلى منزلها ، وعندما وصلت تَعَجَّبت الأم من هذه السرعة غير المعقولة ، وشَكَّت أن تكون ابنتها قد ألقت الكيس وعادت ، فقالت لها متعجبة :
_ لقد عُدتِ بسرعة جنونية .
ردت البنتُ وقد ارتسم على وجهها حياءٌ من نوع خاص :
_ لقد أخذ الكيسَ الأستاذُ زياد بعد أن أصر على ذلك ، وهو الذي ذهب ليرميَه .
غضبت الأم بصورة واضحة، واستولت على قسمات وجهها سمات حادة جداً، وقالت والغضب واضح في صوتها الذي اعتنق الإزعاج :
_ ألم أقل لك إنَّ عليك أن ترميَه بنفسك .. ماذا سيقول الناسُ عنا عندما يُشاهدونك مع رجل غريب أعزب ؟ .
وأردفت الأم :
_ راحيل ! هل بينكِ وبينه شيء ؟! .
ارتبكت راحيل ، وأجابت بسرعة لتدفع عنها أية شبهة :
_ ليس بيني وبينه شيء نهائياً . إنه شاب محترم لا يسيء لأحد ، وقد ساعدني بعد أن أصر على ذلك . صَدِّقيني يا أمي لا شيء بيننا .
وانهمرت دموع راحيل كأن صخوراً تتساقط من نجوم السماء ، وانصرفت إلى غرفتها وهي تجر أذيال الألم ، وتحمل أشواك الحلم على ظهرها الضعيف .
شعرت الأم بأنها ظلمت ابنتها ، وقست عليها بعد أن صَبَّت فوق رأسها سؤالاً طاعناً غير متوقع . وبدلاً من أن تذهب إلى غرفة ابنتها لتخفف عنها مضت إلى المطبخ للقيام ببعض الأعمال . فقد رأت أنه من الأفضل ترك البنت لوحدها في هذا الوقت لعلها تخفف عن نفسها بالبكاء . هكذا كانت تعتقد الأم . وافترقت المرأتان إلى طريقين مختلفتين. كل واحدة ذهبت إلى حلمها المقموع ، حلم يجيء من دموع متكورة على شكل بنادق تفتح النارَ على القلوبِ الكسيرة . وغرقت المرأتان في ذكريات أسماء أحزانهما ، وغابتا في أشلاء لا تزال تتحرك .
رجع زياد إلى غرفته بعد أن ألقى كيس القُمامة في الحاوية . استلقى على سريره وعلى جبينه عَرَقُ نجومٍ راحلة . أطلق نظره باتجاه السقف كأنما يريد أن يزرع فيه قمح ذكرياته القادمة . أغمض عينيه ليغرق في تأمل من نوع مختلف. انطفأ العالَم بالنسبة إليه ، وصار هو العالَمَ الجديد. صار حُلْماً لكائنات تعيش في كبده المسافر أبداً على سطوح القطارات البخارية . تَذَكَّر أن عليه كتابة فصول جديدة في كتابه الفلسفي الجديد " الرد على أرسطو" . أظنه قد وصل إلى الصفحة الستين بعد المئتين. كان طوال الفترة السابقة يكتب بنهم شديد . لكنه قال في نفسه إن عليه أن يقرأ وِرْده القرآني قبل أن ينهمك في الكتابة . نهض من تأملاته واستراحته القصيرة جداً. وبالفعل ذهب لإحضار القرآن ، وراح يقرأ من حيث إنتهى في الأمس . إنه يقرأ بأحكام التجويد كاملةً ، فالشيخ سليمان ثويني مجاز من الأزهر ، ودرَّسه أحكام التجويد في المسجد بعد صلاة المغرب . لقد مضى زمنٌ طويل على تلك الدروس . لقد كَبُرَ زياد وصار طالباً في الجامعة ، وانضم لجماعة الإخوان المسلمين مثل العلماء الذين كان يقرأ لهم في صغره . استغرقت تلاوته للقرآن ساعة إلا ربعاً. وبعدها ذهب إلى مكتبه . رتَّب الكتب المنثورة على المكتب. ومضى يكتب ويكتب . والعجيب أنه كان يكتب دون العودة إلى مراجع . لقد قرأ كل مؤلفات أرسطو في مكتبة الجامعة والمكتبات العامة أكثر من مرة . وبعدها صار يرد عليه من إملاء عقله دون الاستعانة بالمراجع . وهذا ما يُحيِّرني في شخصيته .
وبينما هو منهمك في كتاباته أحس بحركة على السطح ، فتوقف عن الكتابة ونظر من النافذة ليرى ماذا هناك . فرأى راحيل تنشر الغسيل . أشفق عليها وقرَّر أن يساعدها، لكنه تراجع بسرعة ، إذ إن فِعْلَه سيكون مريباً وشُبهة قبيحة بالنسبة لهما . فقرر أن يعود إلى كتاباته وقبل أن يفعل ذلك وقعت عيناه بدون قصدٍ على صَدْرِ راحيل وهي منحنية لتلتقط الغسيل من الطشت ، فرآى جزءاً من نَهْدَيْها . رمى بصره إلى أرضية غرفته بسرعة، وخر ساجداً لله وهو يسبحه،واحمرت خدوده، وازداد تسارع نبضاته ، واستغفر ربه وعيناه على أهبة الدمع . لقد رأى ما لا يحب أن يراه . جلس على الكرسي وأغرق نفسه في الكتابة لينسى ذلك المشهد المحرَّم عليه . فكَّر أن أفضل وسيلة لنسيان ما حدث هو الانهماك في أكسجين الورق والحِبر. وبالفعل تم ذلك بسرعة كبيرة جداً من أجل النسيان ولا شيء سوى النسيان في هذه اللحظات المرعبة التي يتدفق فيها الحرامُ في ذرات الأسمنت لو استمر في التقاط تفاصيل ذلك المشهد الصعب .
ألقى بنفسه في ممالك الحِبر . مسح العرق عن جبينه بظاهر يده اليمنى. أيقن أنه في هذه اللحظة بحاجة إلى القرآن. أمسكه وبدأ يقرأ منه، وتسبح روحه في ملكوت الله كفراشة لم يعرف الصيادُ طريقاً إلى اصطيادها . بدأت شهوته تخبو تدريجياً ، وهو يقرأ الآيات . إنه يتنفس كلامَ الإله ، ويمضي في رحلته إلى خالقه ، ولا يريد العودة إلى تلك البقعة التي رأى فيها ما رأى .