إن الكتابة الشِّعرية تُوجِّه الأبجديةَ نحو تحطيم صخرة الهزيمة الجاثمة على صدور البشر ، والتي تمنعهم من اكتشاف ذواتهم ومجتمعاتهم . فالقصيدة أملٌ جديد لحياة فضلى مرتكزة إلى قوة المجتمع الذي يحاول فك كافة طلاسم مأزقه كي ينتقل من طَوْر التبعية والهزائم الروحية والمادية إلى أطوار الحلم الذاتي والتنقيب المتواصل ، التنقيب عن الإنسان وعواطفه واكتشاف مدى أحلامه وتجذيرها بما يتلاءم مع رؤية الهوية الحضارية .
وكما أن الأفق الشعري يُسلِّح الأبجديةَ بالقيم الثورية النبيلة لمواجهة انكسارات الحلم ، فإن الأبجدية تُسلِّح المجتمعَ الإنساني بالعاطفة القادرة على مواجهة التحديات المصيرية . وعمليةُ التسليح هذه من شأنها منع الذاكرة الإبداعية من التآكل ، وحماية المجتمع الإنساني من التحول إلى جثة مُحنَّطة . فالفاعليةُ القصائدية هي الضمانة الأساسية لاستمرار الحركة الإنسانية بكل تأجج وتدفق وسلاسة . الأمرُ الذي يضخ الدمَ في شرايين المجتمع بشكل دائم ، لذا فإن الثقافة الشِّعرية تحرس الوجود البشري من الموت البطيء والسريع على السواء .
فالقصيدةُ _ بما تملكه من تقنيات إيداعية وآليات فكرية _ تبعث الخلود في أوصال المجتمع ، وتنقله من تحديات الغياب إلى عنفوان الحضور، ومن هواجس الانطفاء إلى فاعلية اللمعان. وفي ظل هذا الجو الثقافي الحقيقي يتزايد الاعتراف بشرعية النشاط الحيوي الهادر لهذا الكائن الحي المتفوق ( القصيدة ) .
وكما أننا نستثمر في جسد القصيدة لنُولَد من جديد ، فإن القصيدة تستثمر فينا ليتعزز وجودُها في الذاكرة البشرية تاريخاً للحلم المنبوذ، وجغرافيا للحالم المنفيِّ. وبعبارة أخرى ، إن النص الشعري يخترع _ بصورة متواصلة _ أمكنةً وأزمنة جديدة ، ويؤجج العناصرَ الرمزية للهوية الإبداعية لئلا نصبح جزءاً مَاضَوِيَّاً يرتدي قناع المستقبل . وكلما مضينا في سبيل تفعيل الوعي الإنساني بالعناصر الشِّعرية ، اكتشفنا القيمةَ الرمزية الماورائية للزمان والمكان .
فالزمانُ الجديد الذي تبتكره القصيدة يعطي للوجود الخيالي بعداً واقعياً شديد التماس مع الحاجات الإنسانية . أما المكانُ الجديد الذي يولد من رَحِم القصيدة فيعطي لبنية الثقافة العمومية زخماً حضارياً متفاعِلاً مع الإنسانيات المتمردة . وهذا التشابك المتين بين عناصر المجتمع البشري يضع الثقافةَ في أقصى مداها الاجتماعي ، بحيت يتحول الفرد إلى صانع للأحداث وليس متفرجاً عليها ، وتتحول البنى الاجتماعية إلى خلايا نحل دؤوب .