كان من اللافت للنظر نجاح حركة طالبان في إسقاط المروحية الأمريكية التي تضم نخبةً من القوات الخاصة ، لكنَّ اللافت أكثر أن الجنود القتلى كانوا ضمن الوحدة الخاصة التي قَتلت بن لادن _ وفق مصادر أمريكية مطلعة _ . مما يدفعنا إلى التساؤل : هل تحول مقتل بن لادن إلى لعنة تطارد قاتليه وتلاحق أعداءه ؟. وقد يبدو السؤال غارقاً في الخرافة أو الشعوذة . لكن الواقع يشير إلى تحول بن لادن _ بعد مماته _ إلى كابوس حقيقي يقض مضاجعَ أمريكا ، ويقضي على مستقبل خططها ، ويهدد مصيرَ جنودها .
فقد مضى على اغتيال بن لادن أكثر من ثلاثة أشهر ، أي إن أمريكا عاشت أكثر من تسعين يوماً بدون بن لادن . فهل يمكن اعتبار هذه المدة الزمنية فترة ازدهار وأحلام وردية بلا كوابيس وثلاثة أشهر عسل بدلاً من شهر واحد ؟ .
وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من تتبع الكوارث التي جلبها مقتل بن لادن . فقد كانت هناك أنباء عن مصالحة بين طالبان وحكومة كرزاي ، ومساعٍ حثيثة لاحتضان حركة طالبان لقاء إغراءات عديدة وعروض جذابة . فجاءت عملية الاغتيال لتقضيَ على فكرة المصالحة تماماً ، وتزيد طالبان إصراراً على القتال ومحاولة الثأر بكل الوسائل . فمقتلُ بن لادن سكب الزيت على النار . فبدلاً من ذهاب طالبان إلى أحضان الرئيس الأفغاني كرزاي ، قامت بقتل شقيقه الأصغر بعملية خاطفة مع عجز القوات الأفغانية والأمريكية عن حمايته . ومنذ ذلك الحين وحركة طالبان تُصعِّد قتالها بشراسة كأنها تثأر لابن لادن ، وتسير وفق وصيته ، وتحترم ذكراه .
أما تنظيمُ القاعدة فقد صار يحمل السلاح جهاراً نهاراً في إقليم زنجبار اليمني ، ويصول ويجول في أماكن عديدة على رقعة الخريطة مستفيداً من ضعف قبضة الدول . كما أنه افتتح فرعاً له في جزيرة سيناء للمرة الأولى، فصارت هناك بيانات تصدر باسم " تنظيم القاعدة في جزيرة سيناء " . فبدلاً من موت التنظيم ازدادت فروعه .
كما ساهم اغتيال بن لادن في توتير علاقة أمريكا مع باكستان التي صارت_ بالنسبة للغرب_ ورقةً محروقة انتهت صلاحيتها. وليس أدل على ذلك من انخفاض المساعدات الأمريكية لباكستان، فقد بدأت تتبخر المليارات التي كان الكونغرس يقرُّها كمساعدات لباكستان لقاء مساهمتها في مكافحة ما يسمى بالإرهاب . مما اضطر باكستان لأن تضغط بدورها على أمريكا وحلف الناتو ، فصار المسلحون يحرقون شاحنات إمداد الوقود المتوجهة لقوات الاحتلال في أفغانستان ويهددون طريق الإمدادات بشكل واقعي ، وهذا يخنق القوات الأجنبية ويشل حركتها .
لذلك من الواضح أن بن لادن ما زال يحارب أمريكا من قبره ، وكأن دماءه أضحت حريقاً شاملاً يكتسح أماكن عديدة في العالم . وهذا متوقع . إذ إن الأشخاص الذين يملكون بعداً أسطورياً قادرون على الظهور ضمن أشكال مختلفة _ بعد موتهم _ ، ليس ضمن إطار خُرافي ، ولكن ضمن إطار عمليات الثأر والانتقام والآثار الجيوسياسية الهائلة التي تنبع من غيابهم ، وكأن موتهم يفتح الباب أمام الأعاصير الشاملة.
وكما أن اغتيال ولي عهد النمسا قد أغرق أوروبا في الحرب العالمية الأولى ( 1914م _ 1918م ) ، ولم يتوقع أحد أن اغتيال شخص سيقود إلى حرب شاملة حصدت الملايين ، فإن اغتيال بن لادن له تبعات كبيرة لا يمكن لأحد أن يدرك مداها الزمني وبُعدها الجغرافي ، وها هي آثارها ماثلة للعيان في أماكن عديدة على وجه الأرض .