سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

30‏/01‏/2020

رواية جبل النظيف / الفصل السابع

رواية جبل النظيف / الفصل السابع

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

............

    يسيلُ الرمادُ من قزحيات الناس. الأمهاتُ يَطمحن إلى تسويق بناتهن خوفاً من شبح العنوسة الذي يتجول في طرقات الكوليرا . هؤلاء البسطاء الذين يعيشون في عزلة الروح مثل العوانس المتسمرات خلف زجاج القطارات ينتظرنَ فرسانَ القشعريرة وقراصنةَ قوس قزح ، مثل الجنود الذين يعودون إلى ديارهم ولا أحد يعبأ بهم ، ولا يسألهم عن النصر أو الهزيمة . يتساوى عدد الجثث التي يَجمعها الغيمُ كطوابع البريد مع عدد الأوسمة التي يمنحها الفقراء للفقراء في هذا المكان المهزوم المسكون بالأسرار والخيبات التي تتكاثر لتصبح انتصاراً، انتصار الوهم على الوهم. هكذا يتعادل صدأ الوجوه مع موت الزنابق ، ويحدِّد الحِبرُ حرارةَ الدم . كأن معادَلات الرياضيات قَد سَقطت ، وبَزغت معادَلات اجتماعية جديدة .
     كان الليلُ رطباً مثل جسد بحيرة أعمى . والندى يتكاثف كالخناجر في أجفان شجر المقبرة . استيقظ حارسُ المقبرة ، والذبابُ يلتهم رائحةَ شَعْره الممزوجة بالذكريات القاتلة.وكان أذانُ الفجر يملأ المكان، يرجُّه رجَّاً كأنه يريد بعث الناس من قبورهم . وبدت مئذنةُ مسجد طارق بن زياد في ثوبها الأخضر وردةً ترفض الذبولَ رغم تعاقب السنوات ، وتغيُّر وجوه الأحياء والأموات. والحمَامُ يطير حول المئذنة ، ويتداخل مع صوت المؤذِّن المنبعث من كل الاتجاهات بلا بوصلة .
     أيقظ الحارسُ إبريقَ الوضوء الذي كان نائماً إلى جانب وسادته الهشة ، ودخل في وضوئه بشكل كامل . انقطع عن العالَم الخارجي، ولم يعد يشعر بأية حركة غير حركة الماء المنساب على أعضائه التي بدت ألواحاً زجاجية حطَّمتها الريحُ قبل قرون بعيدة.
     قفز عن السُّور . نفض عن ملابسه ركامَ الأمطار القديمة ، وترابَ المجرات الحزينة . بدت خطواته الثقيلة وشماً داكناً حاكته الأرصفةُ من أكفان الحشرات السابحة في حفر المجاري التي تصب في عروق المتسولين ، وأظافرِ الباعة المتجولين .
     كان المكانُ نهراً هادئاً من الجثث الخالية من آثار الدم . باعةُ الخضار ينامون في الساحة أمام المسجد . يفترشون رموشَهم ويَلتحفون احتمالاتِ الربح والخسارة . وكأن نومَهم يَحرس صناديق الخضار من المجهول القابع في كل زوايا الحزن النهاري الممزوج بالتعب الليلي .
     حاولَ إيقاظهم بشتى السُّبل، ولكنهم كانوا في عالَم آخر، يَحْلمون بنوعية جيدة من الخضار وربحٍ وفير ، ويَخافون من مواجهة نهارٍ غامضٍ لا مكان فيه لأنصاف الحلول. تركهم الحارسُ على حالهم ، يَغرقون في كهوفهم المظلمة ، ومضى في طريقه نحو المسجد .
     كان الصف الأول ممتلئاً عن آخره، ولا فسحة فيه. والمراوحُ تدور بسرعة هائلة ، والروائحُ العطرة تنبعث من السِّجاد . ويبدو أن خادم المسجد قد نظَّف السجاد مساء البارحة ، ومسحَ زجاج النوافذ ، فكل شيء ظهر مرتباً ولامعاً ، ولا توجد آثار لرائحة جوارب المصلِّين الذين ينتمي معظمهم إلى الطبقة الكادحة ، حيث العَرَق يختلط مع الدم ، ورائحةُ الأجساد المنهَكة ترتطم بذرات الهواء .
     حضر الشيخُ نايف ريان إمام المسجد بدون مساعدة أحد ، وراح يشقُّ طريقَه نحو المحراب وَحْدَه . فهو شيخٌ أعمى عليه هالة الوقار والسَّكينة ، ولا أحد يجرؤ على مساعدته في المشي ، أو حتى لمس يده . والناسُ يَعتبرونه أحد أولياء الله تعالى ، ويَعتبرون مَشْيه بلا مُساعِد أو عكازة كرامة من الله، فهم يقولون إنه يرى ببصيرته . وهو يرتدي نظاراتٍ سوداء على الدوام ، حتى إن بعض الأطفال الأشقياء يحاولون الاقتراب منه ، والنظر إلى ما تحت عدسات النظارة ليَعرفوا ماذا يكمن وراء هذا السَّواد المطْبق. ومعروفٌ عنه أنه لا يرتدي إلا الثيابَ البيضاء بغض النظر عن المناخ أو الفصول .
     عاد الحارسُ إلى مملكته بعد أن صلى الفجر. ألقى نظرة سريعة على معالم المقبرة. كل شيء هادئ . الأعشابُ تتزاوج مع ضوء الذاكرة . وشواهدُ القبور دخلت في أرشيف الحشائش الأرجوانية . ولكنَّ هناك شيئاً غريباً في محيط قبر الحاجَّة سارة . فرك الحارسُ عينيه بشدة، فقد كان يظن أن النعاس بدأ يَهبط عليهما ، ويمنعهما من الرؤية بوضوح . تسارعت خطواته نحو تلك البُقعة ليتأكد من تفاصيل المشهد . وما إن وَصَلَ حتى تناثرت أعضاؤه في المكان ، ودبَّت رعشةٌ رهيبة في تقاطعات جسده الهش. لم يصدِّق ما رأى. إنه يَحلم. لا بد أنه يَحْلم . ولكن هذا كابوس قاتل وليس حُلماً . إن القبر قد تم نبشُه . فقد الحارسُ قدرته على الكلام أو الصراخ . خَرجت أعضاؤه عن سيطرته . بَالَ في ثيابه بصورة لا إرادية . ومضى مسرعاً لِيُخْبِر أبناء المرحومة . كان يركض في الأزقة المتعرجة كالممسوس ، ولم يره في تلك الساعة المرعبة سوى بعض الأشخاص الخارجين إلى أعمالهم مبكِّرين. وطبعاً، لم يهتموا بأمره لعلمهم أن هذا الحارس لا ينتمي إلى عالَم الأحياء ، فهو جزءٌ من تاريخ الموتى ، وله مغامراته الخاصة ، وقوانينه الذاتية التي لا تتلاءم مع حياة السكان ، لذا كان تصرفه الغريب أمراً عادياً في تفكير الذين شاهدوه في تلك الساعة الرهيبة .
     قرَّر الحارسُ التوجه إلى منزل عمران باعتباره الابن الأكبر للمرحومة . قرع البابَ بشدة كأنه يريد أن يَخْلعه . غرسَ أظافره وأصابعه في جسد الباب . قام أهلُ المنزل مذعورين ، يتفقدون أعضاءهم وملابسهم بحركة تلقائية . ماذا يَحْدث ؟! . هل اندلعت الحربٌ ؟! . هل هناك صِدَام بين عشيرتين في الجبل ؟! ، وإذا كان الأمر كذلك فما نوع الأسلحة المستخدمة ؟! . ماذا يَحْدث بالضبط ؟!.
     قفز فايز وهو في ملابسه الداخلية، وفتح الباب متحسِّساً قلبه، ويستعد لاستقبال مصيبة قاصمة . رأى الحارسَ في هيئة يُرثَى لها ، فقال له بسذاجة :
     _ لماذا جئتَ ؟! ، لا يوجد اليوم اجتماع لمجلس قيادة ثورة المقبرة .
     _ بلا ثورة بلا بطيخ ! .
     ودخل الحارسُ إلى جوف البيت بشكل عفوي، كأنه مُنَوَّم مغناطيسياً ، أو يَسير وهو نائم .
     وعمَّ الذعر والفوضى في البيت . وما زاد الطين بِلة أن النساء كُنَّ مستيقظاتٍ للتو ، ويرتدين ثيابَ نومٍ خفيفة للغاية . وما إن رأينَ الحارسَ حتى تفرقنَ في أرجاء المكان، وهَربت كل واحدة إلى زاوية. وكان فايز يَلهث خلف الحارس وهو يَصرخ:
     _ أين تذهب يا ابنَ الحرام ؟! .  
     وأمسك عمران بالحارس ، وبدأ يَلْطمه على وجهه بشكل هستيري . وفي تلك اللحظة القاسية استجمع الحارسُ قوته ، كأنه يعيش حلاوةَ الروح قبل مفارقتها للجسد ، وقال بأعلى صوتٍ :
     _ لقد نَبشوا قبرَ أُمِّكَ يا عمران .
     وهرب الحارسُ كالطيف السحري . وساد الهدوءُ المرعب في المكان ، واحتل الوجومُ ملامحَ الرجال والنساء .
     تقدمت زوجة عمران وعيناها غائرتان ، وتفاصيلُ جسمها مصلوبة على خشبة مسرح مهجور ، وقالت :
     _ هذا كلام مجانين . لا تصدِّقوا هذا المعتوه . لا بد أنه سكران أو يتعاطى حبوب هَلْوسة .
     وهنا تدخَّل فايز قائلاً :
     _ هذا الحارسُ عاقل .. أنا أعرفه أكثر منكم ، ولا يمكن أن يَكْذب أو يمزح في هذه المواضيع .. أنا وعبد الرحيم سنذهب إلى قبرها ، ونعرف القصة كاملةً .
     وعندما سمع أبوه هذا الكلام ، قال لزوجته :
     _ هذا هو الكلام الصحيح ، وأنا ذاهب معهما . ولا نريد إخبار أحد بالقصة خوفاً من الفضيحة .. لا قريب ولا بعيد .
     ومضوا إلى المقبرة كأنهم يُساقون إلى حبل المشنقة بلا مقاوَمة . كانوا أشباحاً لا تاريخ لها غير الانطفاء ، أو رجالاً آليين بلا مشاعر . عيونهم تغوص في مستنقعات خدودهم ، ورؤوسهم تتدحرج تحت خناجر الحزن ، وقسماتُ وجوههم حطبٌ يَحترق ، وجوارحهم تتقاتل في بينها . إن أجسامَهم رمالُ الفوضى والتآكل .
     وصل الثلاثة إلى المقبرة . لا توجد أية حركة غير حركة الحشائش التي يتلاعب بها النسيم الجارح. ولا يوجد أيُّ أثرٍ للحارس .
     توجَّهوا إلى القبر . وتأكدوا من صِدق الحارس. إن إحدهم نبشَ القبرَ ، وأخرج الجثةَ . ولكنْ ما الفائدة من هذه العملية ؟! . الآن اتضح المستور . فمن قام بهذا الفعل إنما كان يهدف إلى الحصول على أسنان المرحومة .. ست أسنان من الذهب . ويَبدو أنه خَلَعها بأداة حديدية . تبادَلوا النظراتِ ، ثم حَدَّقوا في الأفق البعيد . كان الأفقُ في تلك اللحظة الخشنة كتلةً من اللهب .
     بدا فايز ظلاً ليمامة جريحة . لقد احترقتْ عناصرُ ذاته ، وتصاعد الدخانُ منها إلى أن أطبق على رئتيه اللتين بَدَتَا كتفاحتين نخرتهما أوبئةٌ مجهولة . ورغم هذا قال بنبرة حادة ، والدم يَغلي في عروقه :
     _ سأُحْضِر الرَّشاشَ ، وأحرس قبرَ جدَّتي حتى يوم القيامة . سأبقى عنده ليلاً نهاراً .
     نظر عمران إلى ابنه عبد الرحيم ، وقال بسخرية :
     _ اسمعْ أخاك المجنون .. كُنَّا في مصيبة واحدة ، والآن نحن في مصيبتَيْن .
     وتابعَ يقول :
     _ اسمعا مني هذا الكلام . الذي أخذ الأسنانَ لن يَعود ، لأنه أخذَ الغنيمة كاملةً ولم يترك شيئاً . نريد دفن المرحومة من جديد ، وتجهيز القبر بشكل أفضل . ولا نريد إثارة الموضوع إطلاقاً. سُمعة عائلة المخلوسي يجب أن تظل في السماء . وهنا سندفن هذا السر ، كأن شيئاً لم يكن .
     ثم نظر إلى فايز قائلاً :
     _ إذا رأيتَ صاحبك الحارس أخبره أن الموضوع قد انتهى ، وإذا أخبر به أيَّ مخلوق ، فسوف أقتله ، وأعلِّقه على هذه الشجرة .
     وأشار إلى شجرة صنوبر ضخمة قابعة في إحدى زوايا المقبرة .
     كيف تُولَد الأحزان في هذا الأفق المفتوح على الدمع اللزج ؟. وحوشٌ محبوسة في قفص رَأت البابَ قد فُتح ، فانطلقتْ بكل جنونها تلتهم ما تراه أمامها، وما عادت تعرف هل هي من آكلات اللحوم أم الأعشاب ! . سخونةُ الدمع تنبعث من مكان غامض وتجرف الحيطانَ وكلَّ عناصر الاختناق. خرجت الذكرياتُ من المقبرة وهي تتوكأ على قدمَيْن مرتعشتَيْن. إنها هجرة الصنوبر إلى أرض مجهولة تقتل أبناءها بدم بارد . نَخرت أجسامَهم أحزانٌ مكبوتة لا تاريخ لها . أعمارُهم أدغال تشويش صاخب ، والمناظرُ أضحت كوابيس تندلع في اليقظة . لم يَروا ضوءاً في آخر النفق . لقد كان النفقُ هو الضوءَ .
     خزينٌ من الذكريات الحاشدة وملامحِ الوجوه الغائبة . تلكَ الوجوهُ التي كانت هناك في طوايا الزمان والمكان . كانوا بحاجة إلى جرعة بكاء ، ولكنْ خَانَتْهم أعينهم بصورة درامية حاسمة .وراحوا يَسْبحون ضد تداعيات الذكرى المؤلمة. بدا كل شيء حولهم جاهزاً للانفجار والتشظي .
     لَيْتَ الأشجار تفهم لغة رموشهم . لَيْتها تحس بمشاعرهم . لقد مضى أولئك الذين تهمُّهم أحاسيسُ شواهد القبور . أشعر أن العيونَ الخائفة تذرف شيئاً يشبه الدمع ، شيئاً من الحلم الدامي المتشبث بالبلاد الدامية، حيث يصير الجوع والعطش توأمين ينتشران في الجسد الذابل. لا أُريد أن أُفلسف الجوع والعطش، لكنهما مصطلحان فلسفيان يضربان بقسوة كلَّ أجزاء الذاكرة المفتوحةِ على كل الاحتمالات ، المعلَّقةِ على أعمدة الضياء التي ينام تحتها المتسوِّلون .  
     إنه الغرق في بركة تعب تُغرِق زُوَّارَها بدون مقدِّمات. كانت الجباهُ مُطفأة . هكذا ينطفئ اللمعانُ مثل عَشاء على ضوء الشموع. السباحةُ في فضاء من الدهشة والانطفاء. في هذه الحقبة التاريخية الواقعة تحت احتلال نزيف أعشاب المقبرة تجتمع الدهشةُ مع الانطفاء . كانت وجوهٌ موحشة ترتسم في منام الضوء . وجوه تشبه إلى حد بعيد وجوه القاتلين الذين قتلوا ضوءَ الأنثى . إنها منقوعة في زجاجة دم مُعطَّرة.
     كان الوضعُ موغلاً في المأساة على جميع الأصعدة ، وغارقاً في النزيف اللامرئي الذي يضطهدُّ المشاعرَ الحقيقية ويكبتها بعنف واضح. لستُ أدري ماذا ستفعل الطيورُ الخضراء في هذه القلوب المتفحمة . لقد صار مستقبلُها جزءاً من الماضي العاري من الذكريات .

29‏/01‏/2020

رواية جبل النظيف / الفصل السادس

رواية جبل النظيف / الفصل السادس

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............

     لقد تحسَّن الوضعُ المادي لرأفت سليم المخلوسي . فمنذ أن بدأ بإعطاء دروس خصوصية في اللغة الإنجليزية تضاعف دَخْله الشهري ، وتعرَّف على صَفْوة المجتمع . وكلَّ يومٍ _ بعد انتهاءِ دوام المدرسة _ يقضي وقته في عمَّان الغربية متنقلاً من فيلا إلى فيلا حتى ساعة متأخرة من الليل .
     وصل الأستاذ رأفت إلى فيلا فخمة مكتوب على بوابتها العملاقة : [ فيلا الدكتور لؤي عبد الكريم عَطْوة ] . كانت الساعة الخامسة مساءً ، أي إنه جاء في الموعد المحدَّد بدقة . وقد كانت دهشته كبيرة عندما دخل الفيلا ، ورأى الأثاثَ الفاخر ، والديكور المتناسق ، والخدمَ من عِدَّة جنسيات . كان طراز الفيلا غربياً حتى النخاع . وقد تساءل في قرارة نفسه تُرى ماذا يعمل الدكتور لؤي ؟! .
     جلس الأستاذ رأفت على الأريكة ، وأخذ يُجيل بصره في المكان مبهوراً ، وغارقاً في دهشته العارمة وأسئلته الوسواسية المتكاثرة . وبينما هو يصارع أفكارَه ظَهرت امرأةٌ ممتلئة وأنيقة ، ترتدي تنورةً قصيرة ، ويفوحُ منها رائحة عَطْرٍ شديدة . وجهُها أبيض بلا مساحيق، وخدودها وردية بدون بلا مكياجٍ . كانت أرستقراطية بكل معنى الكلمة . وعندما رآها رأفت أيقنَ أنها سيدة المنزل . وتعجَّب في قرارة نفسه من شموخها ، فقد اعتقد لمدة طويلة أن هذا النوع من النساء لا يوجد إلا في الأفلام السينمائية . وقف احتراماً لها . وبدا مهزوزاً بعض الشيء لكنه حاول أن يتماسك قَدْر المستطاع ، ويتخلص من الرجفة الداخلية التي تتلاعب به . إنها رَجفة جنونية شاملة .
     تقدَّمت منه مبتسمةً ، ومدَّت يدَها قائلةً :
     _ ميَّادة سمير حَرَم الدكتور لؤي عَطْوة .
     صافحها رأفت وهو يقول بصوتٍ خائفٍ :
     _ رأفت سليم المخلوسي .. أستاذ اللغة الإنجليزية .
     دخلت يداهما في رَجفةٍ مشتركة . وفوجئ الاثنان من هذا الإحساس الداهم . كانت يدُها وسادةً من الريش. ولم يستطع رأفت نسيانَ نعومة يدها منذ ذلك الحين. لقد صارت نعومةُ يدها سيفاً قاسياً يخدش مرايا ذاكرته ، ويَحفر قاعَ قلبه .
     جلست ميادة على أحد الكراسي . ويبدو أنه كان مُخصَّصاً لها . وقد ارتفعت التنورةُ بسبب جلوسها كاشفةً عن لحمٍ أبيض لا أثر فيه للتعرجات أو التَّرهل .
     وجلس الأستاذ رأفت كالتلميذ الخائف من عقاب مُعلِّمه لأنه لم يحل الواجباتِ المدرسية .
     قالت السيدة ميادة بلا مقدِّمات :
     _ ابني رمزي طالب في المرحلة الابتدائية في مدرسة أجنبية ، وهو يعاني ضعفاً في قواعد اللغة الإنجليزية علماً بأن الجميعَ في البيت يتحدثون الإنجليزية بطلاقة .
     استجمع رأفت قواه ، وارتفعت رأسُه معتقداً أن دوره قد حان لعَرْض فلسفته في الموضوع ، والتنظير في مسألة اللغة ، وقال بكل عنفوان :
     _ إن المحادَثة تختلف عن القواعد اللغوية . فالقواعدُ مثل أعمدة البيت ، أمَّا المحادَثة فيمكن اعتبارها كالطوابق المبنية فوق بعضها . كما أن القواعد عبارة عن جُمل منطقية واضحة لا مكان فيها للحركة أو الفذلكة، أمَّا المحادَثة فهي عالَم شديد المرونة ، ويمكن التحرك فيه يَمنةً ويَسرة .  
     كان رأفت يتعمَّد انتقاءَ الكلمات التي لها وَقْعٌ في النَّفْس ، وذلك ليبدوَ أكثر من مجرد مُعلِّم للإنجليزية . إنه ينتقي الكلمات الرَّنانة ليظهر كالفيلسوف الذي يُبهر مُحاوِرَه ، وينال إعجابَه ، ويسيطر عليه .
     لم تهتم ميادة بهذه التفاصيل ، لذلك لم تعلِّق عليها . واكتفت بالقول :
     _ أُريد أن يتحسن مستوى رمزي .. وهو طفلٌ ذكي لكنه مُشتَّت ، ويُفكِّر كثيراً في اللعب على حساب دراسته . وقد أحضرتُ له مُعلِّمين كثيرين لكنهم لم يُحسِنوا التعاملَ معه.. وما يهمني هو أن يتحسن مستواه ، ويتفوق في دراسته ، وأنا مستعدة لدفع أي مبلغ .
     انتعش رأفت عندما سمع " أي مبلغ " . كان تعبيراً رائعاً بالنسبة إليه ، ولم يُرد أن يُضيِّع هذه الفرصة ، لذلك قال بسرعة قبل أن يبتعد الحديثُ عن المال :
     _ لستُ معنياً بالمال . المهم أن يتحسن أداء الطالب ، وتكون النتائج ملموسة. وبصراحة .. أنا أتقاضى عشرة دنانير عن الساعة الواحدة .
     _ لا ! .
     ذُهل رأفت من هذا الجواب ، وارتبك بشكل واضح . وكل أحلامه المالية في تلك اللحظة بدت كقصرٍ رملي انهار فجأةً . فهو لم يتوقع أن مبلغاً زهيداً بالنسبة لهؤلاء الأغنياء سَيُرْفَض بهذه السرعة . ورغم مشاعره المتساقطة ، ومعنوياته التي صارت في الحضيض ، قال بنبرة كسيرة :
     _ فلتكن ثمانية دنانير .
     _ لا ! .
     وفي تلك اللحظة المرعبة صَبَّ رأفت غضبَه على الأغنياء دون أن يتفوه بكلمة، وشتمهم في قرارة نَفْسه ، واعتبرهم لصوصاً يَسرقون الملايين ، في حين أنهم يَبخلون بدينار أو دينارَيْن . فهم ذئابٌ يختبئون في ثياب الحِملان ، ويَظهرون بمظهر المحترمين وهم مجرد أوغاد يُخفون قذارتهم وراء ربطات العنق والتنانير القصيرة . كل هذه المعاني كانت تحترق في داخله . إن صدره مِرْجل يَغلي بلا رحمة . احمرَّ وجهُه ، وتمنى لو يَقدر على البوحِ بما يُفكِّر فيه لكي يرتاح من هذا العذاب المباغِت . وبينما هو يَغرق في جحيم أفكاره ، قالت ميَّادة :
     _ سأدفع عشرين ديناراً عن الساعة الواحدة .
     نَزلت هذه العبارة على قلبه كالمطر الذي يُطفئ الحرائقَ، وزال الألمُ الذي يخنقه، وأخذ يمدح الأغنياءَ في سِرِّه ، ويَعتبرهم أماناً للمجتمع ، ودعامةً في بناء الاقتصاد الوطني ، ومساعدةِ الطبقات المتدنية ، ودعا لهم بطول العمر ، وزيادة الأموال والأولاد .
     وفي ذلك اليوم استغرقت حِصَّةُ رمزي ساعتين ، من الساعة الخامسة والنصف حتى السابعة والنصف. وتقاضى الأستاذ رأفت أربعين ديناراً . كانت تلك الساعتان من أجمل لحظات حياته دون مبالغة . كان رمزي فتىً لطيفاً ، والسيدةُ ميادة امرأةً مهذَّبة ، والخادمةُ التي أحضرت الحلوى والعصير أنيقةً. كل شيء كان جميلاً ورائعاً. حتى أزقةُ جبل النظيف القذرة التي سار فيها رأفت في طريق عودته إلى بيته ظهرت نظيفةً ولامعة . أحس أنه سيطير من الفرح . سيصبح له جناحان ويُحلِّق ضد الجاذبية ، وضد قوانين نيوتن ، وضد قواعد اللغة الإنجليزية . وأخيراً شعر أن الحياة ابتسمت له مثلما ابتسمت للكثيرين غيره .

27‏/01‏/2020

رواية جبل النظيف / الفصل الخامس

رواية جبل النظيف / الفصل الخامس

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............

    جَبروتُ فِطْرٍ سام مُكابِر أثناء تكوُّنه في قلب غازات سامة . لعلَّه يكون آخر تعرجات طريق السُّم في جبال دفاتر الرسم لطفلةٍ مَرَّت من هنا ، أي من شمال السكاكين . والضحايا يتكاثرون يومياً . القاتل لن يستمر إلى ما لا نهاية . لا بد أن يُحشَر في الزاوية . عندها فقط سَيُتَوِّجُ خَيْبَتَه بالعار ، ويضمحل جيفةً متحركة على سِكَّة خيانتها. فالقاتلون في ذروة عنفوانهم يرتعون في رئة الهزيمة المخنوقة التي تتنفس السموم المركَّبة. منظرُهم وهم يغوصون في دماء الأبرياء هو منظرهم حين يطعنون أنفسهم على أعواد المشانق في السراب الرمادي الذي لا تكفي صحاري الدنيا لاحتضان خداعه .
     الغريقُ لا يُحدِّد هويةَ المنقِذ ، ولا يَفرض عليه الشروط . ما يهمُّ هو طوقُ النجاة وليس صاحب طوق النجاة . دموعٌ أثرية منقوعة في حمض ضبابي المذاق . هستيريا الموقف النهائي في أفق يبلعك وأنت تضحك على نفسكَ ، وتظن أنك ذكي مثل الضباب الصافي . كانوا هَوَساً يركض على حصى الطرقات مسرعاً كالبكاء اليومي في معدة الرمال المتحركة . إنها لحظات سقوط الصنوبر في فخ قصديري ، بدأ جنيناً غامضاً ثم اتَّضح عُنصراً مُشِعَّاً . إشعاعُه قَاتِلٌ ، وَوَهْجُه محاولةٌ لصيد الحلم .
     سقوطُ الطائرِ في حنجرة الياسمين هو تواريخ موت بطيء تنضح برائحة الفجر الكاذب . هجرةُ الذكريات إلى مصرعها . والأجسادُ الصاخبة جنوناً تهوي مثل أي ورقة في مهب الحلم . الجسدُ اختزالٌ لكل العابرين الذين مَرُّوا به، لكل العيون المسكينة، لكل الصرخات المكتومة ، لكل الآهات المرتعشة في الأكواخ المحترقة بنار البنادق الملوَّثة . الجسدُ القوي هو الجسد النقي ، أما الملوَّث فكلما مشى احترق ، حتى لو لم تَرَ دخاناً متصاعداً . وهذا الرعبُ يرمي رموشَه تحت بكاء الخيول .
     تُسرع الزنابقُ إلى الأضرحة كزوجة خائنة تُهرع إلى طفلها الصغير، وتتمنى في عقلها الباطن لو يتلاشى من الوجود حتى ينقطع ما يربطها بأسرتها التي صارت مقبرتَها. لحمٌ يُشبه حَبلَ مشنقة ألقاها الموج قبل ألف عام من ميلاد الخيانة. تناسل اللغو في المكان ، وظهر الارتباكُ واضحاً على الوجوه المذعورة ، والأقنعةِ المشقَّقة.
     بعد أسبوع اجتمع مجلسُ قيادة ثورة المقبرة الذي رسمه فايز . ولكنْ هل هذا الشخص هو فايز ؟!. لقد أَطلق لحيته ، وصار يَحمل حقيبةً محتوية على كتب ممنوعة وأقلام وأوراق . طبعاً لن تكون حقيبة مدرسية . ومَن هؤلاء الأشخاص الذين أَحضرهم ؟!. بسَّام خميس ( ابن عمِّه ) ، ومازن عبد الله ، ومعاذ أحمد حميد . وقد انضمَّ إليهم حارسُ المقبرة لملء وقت فراغه ، وتقديم الدعم اللوجستي ! .
     وهؤلاء الأشخاصُ يُعتَبَرون خارج حسابات الناس ، بسبب تصرفاتهم الغريبة ، وكلامهم غير المفهوم في أحيان كثيرة.لذلك أُحيطوا بنظرات الشك وعدم الارتياح.
     فالناسُ ينظرون إلى فايز عمران وحارس المقبرة على أنهما ينتميان إلى الموتى وليس الأحياء، وذلك بسبب حياتهما في المقبرة ، وانسجامهما مع الموتى أكثر من الأحياء . وبصراحة ، إنهما وَجْهان لعُملة واحدة يُكمِلان بَعْضَهما البعض . فنظريةُ فايز في هذا السياق هي أن الموتَ هو الحقيقة الوحيدة في الحياة ، أمَّا نظرية الحارس فهي أن الموت هو الحياة الحقيقية . وطالما تناقشا حول هاتَيْن الفكرتَيْن ، وإمكانية التوفيق بينهما . وهما متَّفقان على أن اختلاف الرأي لا يُفسِد للود قضية .
     أمَّا بسام خميس فهو عبقري في الرياضيات . ففي أحيانٍ كثيرة يطلبه يوسف صاحب بقالة الخيَّامي لإجراء حساباته والجردِ السنوي للبضاعة . أمَّا النساءُ فيطلبنَ منه حسابَ ثمن الذهب صعوداً أو هبوطاً . كما أن معلِّم الرياضيات في المدرسة يتركه يشرح المادةَ للطلاب بينما يهرب هو من المدرسة ، إذ إنه يعمل سائقَ تاكسي لإعالة أُسرته الكبيرة. لكنَّ الناس صاروا يخافون من بسام لأنهم سمعوه _ذات مَرَّة_ يقول إنه ذاهبٌ إلى الجِن ليُدرِّسهم مادةَ الرياضيات . وكانت هذه العبارةُ المخيفة هي القطرة التي أفاضت الكأسَ .
     ومازن عبد الله هو شاعر جبل النظيف بلا مُنازِع ، ويشارك في مسابقات داخلية وخارجية . وكثيرٌ من الناس يقولون إننا نشعر بعبقريته لكننا لا نَفهم شيئاً مما يقوله . وقد صار مكروهاً بعد تغزُّله بزوجة المختار . وقد حاول المختارُ إطلاقَ النار عليه لِيَغْسلَ شَرفه لكنه هَرب، ومنذ ذلك الحين اعتزل الشِّعرَ الغزلي ، وصار يكتب في مواضيع سياسية فَطُرد من عمله .
     أمَّا معاذ أحمد حميد ، فهو كهربائي ، ويبتكر تصاميم للسيارات. وقد حَقد عليه السكان ، وصار مكروهاً عند عُمَّال النظافة خاصةً، بسبب تصاميم السَّيارات التي يرسمها على الحيطان ، بحيث إن زائر جبل النظيف يُخيَّل إليه أنه في مضمار لسباق السيارات .
     اجتمع الأشخاص الخمسة في المقر الجديد . وشَعروا بهدوء جامح منبعث من نسيم عذب غامض جاء من جهة ما . أسندوا ظهورهم بعناية تامة ، ورموا أبصارَهم وراء الغيوم الخجولة ، وأغمضوا عيونهم لبرهة ثم فتحوها كمن يفتح باباً مغلقاً منذ قرون . كانت هذه الحركاتُ هي فقرات حفل الافتتاح الذي جهَّزوه مسبقاً .
     وربما لو شاهدهم أحدٌ في تلك اللحظات لاعتبر لقاءهم مسرحيةً بائسة تم تحضيرها بدقة، واعتقدَ أن كلَّ الممثِّلين حَفِظُوا أدوارَهم كارهين لعملهم لكنهم _ في نفس الوقت _ محتاجون إلى أجرة التمثيل .
     وهذا الانطباع ليس له نصيب من الحقيقة . فلم يَجبرهم أحد على المجيء إلى المقبرة . كما أنه لا توجد منفعة مادية من وراء هذا الاجتماع .
     انفتحت القلوبُ المولودة حديثاً على كل الاحتمالات . الاستراحة قصيرة جداً في العقلانية، طويلة جداً في الجنون. ملامحهم مشبوحةٌ على أخشاب الكرة الأرضية. صار الوقتُ مسافاتٍ من المراكب الراسية في ميناء منبوذ لم يعد أَحدٌ يستخدمه . الحناجرُ تحدِّق في المستحيل الممكن، والعتمةُ المحيطة به هي وقودُ العار ومقدمةٌ لثورة جامحة. أرضٌ تَبسط شرايينها كفناً لكَ لترتاح الحجارةُ من اسم جرحكَ . المشي نحو هاوية الحشائش البلورية .
     آبارُ الوجوهِ حقولُ بارود كالتين المعلَّق على حبل الغسيل . لحظةُ غياب الروح عن سمائها الوضيئة هي لحظة اندلاع القتل الصارخ . القتلةُ والضحايا يتناوبون على الصمت. والصمتُ أُولى خطوات الخفافيش على سطوح الشهيق . زيتونةٌ تحلِّق فوق
المقابر الجماعية .
     قد يلتحم مطرُ القلب بدمع العين لكنَّ الملحَ لا يختلط بالأكسجين . وكلُّ الموتى يسكنون فيهم ، ويأكلون معهم ، وينامون معهم . وليس من السهل أن يجد الإنسانُ ذاته في هذه الفوضى . وربما يقضي أحدُهم كل لحظات حياته في التفتيش عن ذاته بين ذواته ، وقد يجدها ولا يجدها . لكن الأمر يستحق المحاولة .    
     إنهم يَركضون ويأكلون المسافةَ . يَسْبحون في أمعاء بحيرةٍ على وشك التبخر . وكلماتُهم تَذوب في أبجدية العشب . ولا أحدٌ يَزورهم في قَلعتهم سوى الطوفان .

25‏/01‏/2020

الحضارة الباحثة عن المجد الوهمي

الحضارة الباحثة عن المجد الوهمي

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

............

     لا يُمكن تمييز القيم المركزية والقيم الفَرعية في المجتمع الإنساني ، إلا بتكوين منظومة فكرية قائمة على طرح الأسئلة ، وتَجميع الفرضيات ، واختبارها وَفْق قواعد المنهج العِلمي ، مِن أجل الوصول إلى صيغة معرفية مُتماسكة ، تَكُون أساسًا منطقيًّا لبناء النظريات الاجتماعية القادرة على تفسير وَعْي الإنسان ، وسُلوكه ، وعلاقته بنفْسه ، وعلاقته بالآخرين، وطبيعة ارتباطه بالعناصر المعرفية في داخل كيانه وخارجه .
     والنظريةُ فرضية تَمَّ التحقُّق مِنها ، وإثباتها بالأدلة والبراهين ، فانتقل المعنى مَن أطوار الشَّك إلى حالة اليقين ، وتَحَوَّلَت الأسئلة المصيرية إلى إجابات شافية ، تُحدِّد معالمَ الطريق أمام الفرد والجماعة . والوصولُ إلى حالة اليقين هو التحدي الصعب في المجتمع الإنساني ، لأن العلاقات الاجتماعية لا تُبنى على الشَّك ، والأُسس المعرفية للحضارة تَفقد معناها في حالة غياب الثِّقة . وحالةُ اليقين هي قِمَّة الجبل ، التي تتطلَّب جُهدًا هائلًا لبلوغها، لأن الطريق إليها مليء بالعقبات والصعوبات . وإذا أراد المجتمعُ الإنساني تذليل العقبات والصعوبات وتجاوزها ، لا بُد أن يُفجِّر الطاقات الإبداعية في نُفوس أبنائه ، ويُحرِّرهم مِن الخَوف ، لأن الخوف يشلُّ قُدرة الفرد على التفكير ، ويُفقِده ثقته بنفْسه، مِمَّا يؤدِّي إلى انهيار الجُزء في المنظومة الاجتماعية، وإذا انهارَ الجُزء، انهارَ الكُل تِلقائيًّا .
     وفي بعض الأحيان، يخاف الإنسانُ مِن نفْسه ومُجتمعه، لأن الإنسان_في السياقات الاجتماعية الضاغطة_ يتمُّ احتكاره ، والاستحواذ عليه ، والسَّيطرة على أحلامه ، وقمعها ، ومَنعه مِن التفكير ، وإقناعه بأن هناك مَن يُفكِّر نِيابةً عِنه ، ويتَّخذ القرارات باسمه ، فلا معنى لإعمال عقله ، ولا إتعاب نفْسه في التفكير . وهذا الانهيارُ الشامل يَظهر بوضوح في المجتمع الإنساني الاستهلاكي المادي الذي سلَّع الإنسانَ ، وجَعله سِلعةً مسلوبةَ الإرادة ، وخاضعةً لقانون السُّوق .
     والنظامُ الاجتماعي المَهووس بالاستهلاك المُتَوَحِّش ، الذي يعتمد على تدمير عناصر البيئة واستنزاف موارد الطبيعة للحُصول على المُتعة واللذة والرفاهية ذات الصِّبغة الأنانية ، أحكمَ قبضته على العلاقات الاجتماعية ، وفرَّغ الإنسانَ مِن مُحتواه الإنساني ، وحوَّله إلى كيان مُوحِش ومُتَوَحِّش ، وفاقد لشروطه وجوده الحُر . لذلك ، صارَ هدف الإنسان هو الوصول إلى منفعته الشخصية ، وتحقيق مُتعته الذاتية ، ونَيل الخلاص الفردي، دون أيِّ اعتبار آخَر ، ودُون اهتمام بمصير مجتمعه . ومِن أجل تكريس هذه الأنانية المركزية ، يَسحق الإنسانُ أخاه الإنسان ، ويُدمِّر عناصرَ البيئة ، لأنَّه صارَ يَعتبر البشر أعداء ، يجب إخضاعهم وإذلالهم ، من أجل التحكُّم بهم ، ونهب ثرواتهم ، والاستحواذ على حاضرهم ومُستقبلهم ، وصار يعتبر عناصرَ البيئة عقبةً في طريق التقدُّم الصناعي والرخاء الاقتصادي ، لذلك لم يَعُدْ يُبالي بطبقة الأوزون ، أو الاحتباس الحراري ، أو التغيُّر المناخي، أو ذوبان الجليد في القطب الشمالي أو الجنوبي ، أو حرق الغابات التي تُنقِّي هواءَ كوكبنا ، فالغايةُ هي بناء المجد الذاتي وتحقيق الرخاء الشخصي على حساب تعاسة الآخرين وشقائهم . وهذا مجد وهمي ، وانتصار مُتخيَّل ، لأن الإنسانَ لا يَحصل على الأمان عن طريق قَتْل جاره ، أو تهديد سُكَّان منطقته ، إو إحداث فوضى في عَالَمَه ، وإنما يحصل على الأمان عن طريق الحوار الهادئ مع الآخرين ، والوصول إلى صيغة توافقية تحفظ حقوق جميع الأطراف ، معَ بناء منظومة تعاون مُشترك لِمَا فيه خَير الحضارة وسعادة البشرية . ومهما كان الإنسانُ ماهرًا باللعب بالنار وتهديدِ الآخرين ، سيحترق بها يومًا ما ، ويَدفع ثمن أنانيته ، وكُل كَاسر مكسور ، وقانون تداول الحضارات يَسري على الجميع ، ولا يَرحم أحدًا، لذلك ينبغي أن تكون العلاقات الانسانية قائمة على التراحم والاحترام المتبادل ، بدون إخضاع ولا إذلال ولا استغلال ، لأن القوي لا يظل قويًّا إلى الأبد ، والضعيف لا يظل ضعيفًا إلى الأبد . والدُّنيا دوَّارة ، والدهر يَومان : يَوم لك ، ويَوم عليك . والتاريخُ يُعيد نفْسه بأدوات عَصْره ، ولا جديد تحت الشمس . الحُب هو الحُب في كل مراحل التاريخ، ولكن وسائل التعبير عنه تختلف باختلاف الزمان والمكان وطبيعة الناس. وأيضًا ، الحربُ هي الحرب في كُل العُصور ، ولكن الاختلاف في نوعية الأسلحة. وهذا يدل على أن المشاعر الإنسانية واحدة، سواءٌ كانت إيجابية أم سلبية، لسبب بسيط ، وهو أن الحضارة تستطيع أن تخترع تقنيات جديدة ، وتبتكر وسائل تكنولوجية حديثة ، ولكنها لا تستطيع أن تخترع إنسانًا جديدًا ، وتبتكر مشاعر وعواطف حديثة .
     والإنسانُ لا يتعلَّم من التاريخ ، لذلك يُكرِّر أخطاءَ مَن سَبقوه ، والمشكلة أنَّ كل إنسان يعتقد أنَّه أذكى مِن الآخرين ، وأنَّه الاستثناء مِن القاعدة ، وما أصابَ الآخرين لَن يُصيبه ، وما حَدَثَ لهم لَن يَحدث له. وهذا الغُرور قاتل، لأن الإنسان يتحرَّك في حلقة مُغلَقة مُسَيْطَر عليها ، وهي مَحكومة بقانون التاريخ الذي لا يَستثني أحدًا . ومهما كان الإنسانُ ذكيًّا ، لا يَقْدِر أن يَهزم التاريخَ . ومهما كان السَّباحُ قويًّا ، لا يَقْدِر أن يَهزم البحرَ . وما يَنطبق على الإنسان ( العُنصر الجُزئي ) يَنطبق على الحضارة ( المنظومة الكُلِّية ) .
     وللأسف الشديد ، وقعت الحضارةُ الباحثة عن المجد الوهمي، في فَخ الواحدية الفلسفية ومِصْيَدة أُحادية القُطب، أي إنَّها اعتقدت أن وجودها يستلزم نَفْيَ الآخرين وشطب تُراثهم الحضاري، وأن المكان لا يتَّسع إلا لحضارة واحدة فقط . وبالتالي، لا مجال للتعدُّد، ولا فرصة لصناعة عَالَم مُتعدِّد الأقطاب . وهذه نظرة قاصرة ، لأن البشرية في سفينة واحدة ، وكُل حضارة لها حُجرة في هذه السفينة ، وإذا تصادمت الحضاراتُ ، وحاولت كُل حضارة أن تنفي الحضارةَ الأُخرى، وتُلغي خُصوصيتها الثقافية، فإنَّ السفينة ستغرق ، وتنهار المنظومة الحضارية الجَمعية برُمَّتها . وهنا تبرز خُطورة اللعبة الصِّفرية ( إمَّا أنا أو أنتَ ) ، التي تشتمل على المبدأ الوَحْشي : " المكان يتَّسع لشخص واحد فقط". وفكرةُ الإقصاء تَقُود الإنسانَ إلى تدمير نفْسه بنفْسه، وتحطيمِ عناصر الطبيعة ، لأنَّه يَدخل في صراع مستمر ودائم ، يَستنزفه حتى الرمق الأخير . وهذا هو انتحار الإنسان التدريجي الذي يتم على مراحل زمنية ، ويتطلَّب البحث عن أعداء جُدُد باستمرار ، لإبقاء نار الحِقد مُشتعلة .
     وفي رحلة البحث الجنوني عن الصِّراع والصِّدام واحتمالات الانتصار والهزيمة ، يَغرق الإنسانُ في هَوس الاستهلاك ، وأحلامِ السيطرة على موارد الطبيعة وعناصر البيئة ، والتفكير بأساليب قَتل جديدة ، قَتل الرُّوح ، وقَتل الجسد . وتَتَكَرَّس مفاهيم مُتَوَحِّشَة كالاستئصال والإبادة والتَّطهير العِرقي والإلغاء الشامل . وهذا يعني أن الإنسان ابتلعَ جُرثومة الحضارة الباحثة عن المجد الوهمي ، وتجذَّرت بِذرة انهيار الإنسان في داخله ، لأنَّه اعتقدَ أن حياته تَستلزم مَوت الآخرين ، ووجوده يتطلَّب فناء عناصر الطبيعة ، وأنَّ الحضارة مشروع مادي استغلالي شخصي ، يَسعى إلى تحقيق الانتصار ، بغض النظر عن الوسيلة ، ومهما كان الثمن . وهذا يَجعل الحضارةُ وحشًا كاسرًا ، يُشكِّل خطرًا على وجود الأفراد والمجتمعات . وبدلًا مِن أن تكون الحضارةُ هي الحَل لمشكلات الإنسان ، صارت هي المشكلة . وهذا يعني حُدوث مُواجهة كارثية بين الإنسان والحضارة ، ينتج عنها دمار شامل. والأمرُ يُشبِه حُدوث مُواجَهة بين الرُّبَّان والسفينة ، ولا يُمكن أن ينتج عنها إلا الغرق .
     وهذا الانحرافُ الخطير ينبغي أن يُوَاجَه بمنهج حضاري إنساني غَير مُوحِش ولا مُتَوَحِّش ، يقوم على ثنائية ( أنا وأنتَ ) ، وليس ( أنا أوْ أنتَ ) ، فالطريقُ يتَّسع لجميع المَارَّة ، والحضارة الإنسانية إسهامات تراكمية عابرة لحدود الزمان والمكان . وكُل مَن يَعتقد أن إلغاء إنسانية الآخرين سيَجعله إنسانًا مُتَفَرِّدًا ومُمَيَّزًا ، ومُستقرًّا في قلب الأحداث ودائرة الضَّوء لوَحْده ، هو وَحْش ، وليس إنسانًا ، وسيخسر نفْسه والآخرين . ومَن يُرِدْ كُل شيء ، يَخسر كُل شيء . وكما قِيل : كَسر مجاديف الآخرين ، لا يَزيد مِن سُرعة قاربك .
     و" البشرية في سفينة واحدة " ليس شِعارًا رومانسيًّا حالمًا لإظهار المحبة بين الناس ، وصناعةِ الأُخُوَّة البشرية ، وبيان وَحدة المصير الإنساني. إنَّ هذا الشِّعار هو مُلخَّص الوجود الإنساني ، والحقيقة الواقعية الثابتة في عصر المُتغيِّرات . وكُل تهديد وُجودي في أيَّة بُقعة في هذا العَالَم ، هو بالضرورة تهديد للوجود الإنساني بأكمله . وكُل مُشكلة صِحِّية ، أو معرفية ، أو بيئية ، أو تكنولوجية ، مهما بدت صغيرة وبعيدة ، هي مشكلة لكل البشر، وقريبة مِنهُم أكثر مِمَّا يتخيَّلون ، وتُؤَثِّر على حياتهم ووجودهم ومصيرهم بشكل أو بآخَر . فإمَّا النجاة معًا ، أو الغرق معًا .

23‏/01‏/2020

رواية جبل النظيف / الفصل الرابع

رواية جبل النظيف / الفصل الرابع

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............

     كان فايز عمران ( خمراوي ) جالساً أمام قبر جَدَّته، يحدِّق في أبعاد شاهد القبر، يقيس زواياه بالفراشاتِ الذبيحة . صارت هذه البُقعة هي تاريخه الشخصي . ومنذ وفاة جَدَّته لم يشرب أية قطرة من الخمر. لقد عَيَّن نَفْسَه حارساً لقبرها. وقد صارت لديه عادات غريبة . فمثلاً عندما يأتي إلى المقبرة يدق على سورها المتهالك كأنه يستأذن قبل الدخول. وإذا جاء صباحاً فإنه يقف على السُّور ، ويؤدي التحيةَ العسكرية للشمس ، وإذا جاء مساءً يؤدِّيها للقمر. وعندما يدخل في عوالم المقبرة يبكي عند الأعشاب الطالعة بين القبور .
     ولم تكن حياةُ فايز في المقبرة وعاداته الغريبة تجذب انتباه الناس لأنهم تعوَّدوا على غرابة أطواره ، فلم تعد غريبة بالنسبة إليهم . وهم _ أصلاً _ يَعتبرون " فايز" خارجاً على كل القوانين . لذلك أسقطوه من حساباتهم ، حتى عائلته التي حاولت إصلاحه بكل الطرق قد غَسلت يدها منها ، لأنها قَرفت من تصرفاته . وبسبب ذلك تُرك هائماً على وجهه يَفعل ما يَريد ، وصار متمتعاً بحُكم ذاتي . فالناسُ ملُّوا منه ، وتعبوا من حكاياته التي لا تنتهي .
     لكنَّ شخصاً واحداً كان مهتماً بفايز . إنه حارس المقبرة . هذا العجوزُ الذي رماه أبناؤه في بيت المسنِّين ثم هرب منه . ومنذ ذلك الحين صارت المقبرةُ بيتَه الأول والأخير. إنه يعيش في إحدى زوايا المقبرة في غرفة متهالكة . ويعيش على الصدقاتِ من أهالي الجبل .
     وبصراحة ، لا يوجد شيء ليحرسه . فهذا الصمتُ الموحش الذي يفرض سُلطته على هواء المكان يَحرس الجميعَ . والموتى على وِفاق تام مع بعضهم لا مشكلات بينهم ! . ولا داعي لحراسةِ الأموات من الأموات ! .
     أحضر حارسُ المقبرة إبريقَ الشاي ، وتقدَّم بخطوات متعَبة كخطوات ديناصور ذاهب إلى الانقراض . لم ينتبه فايز إلى وقع الخطوات الهامس لأنه كان غارقاً في تأملاته ، ويُغطِّي وجهَه بيدَيْه كأنه يستعيد تاريخَ الحضارات الغابرة من الألف إلى الياء .
     اقترب منه حارسُ المقبرة ، وقال بصوت خافت :
     _ فايز ، استيقظ يا فايز .
     شعر فايز للوهلة الأولى أن الصوت قادم من باطن الأرض، من جثث الأموات. إنه صوت ذابل مزدحم بالحزن والانكسار . صوتٌ مِثْلُ حصانٍ هزيل يجرُّ عربةَ نقل المحكومين بالإعدام .
     أخرج فايز وجهَه من غبار الذاكرة ، ونظر حَوْله ، فإذا حارس المقبرة واقفاً كبقايا شجرة ضَرَبَتْها صاعقةٌ مفاجئة. بدا فايز في تلك اللحظة كشبحٍ لا تاريخ له . وجد صعوبةً في التحكم بأعصابه ، لكنه تمالك نَفْسَه وابتسم . كانت ابتسامته تلك تُشبه ابتسامةً وَدَاعيةً لرَجل يحتضر .
     قال حارسُ المقبرة وقد تهللت أساريره :
     _ تعال اشرب شاياً .. أفضل من الويسكي ! .
     هزَّ فايز رأسَه موافقاً على هذا الكلام ، وراح الاثنان يشربان الشاي ، وحَوْلهما طيور الاحتضار المهاجرة من الذاكرة إلى الألم . انتشر السكوتُ بينهما ، فلم يجدا حروفاً تحمل خواطرَهما ، لذا صارت عيونهما أبجديةً جديدة ، ووسيلة للتخاطب .
     وفي زحمة الصمتِ ، قال فايز بشكل مباغِت :
     _ قررتُ أن أُنشئ مشروعاً خاصاً بي .
     فوجئ الحارسُ من هذا الكلام ، وقال ضاحكاً :
     _ هذا الكلامُ كبير عليك . انتظر حتى تتخرج من الجامعة ، وبعد ذلك تُحقِّق أحلامك .
     نظر فايز باتجاه إحدى زوايا المقبرة ، وأشار إليها بالسَّبابة ، وقال بنبرةٍ حاملة للتحدي والإصرار :
     _ في تلك الزاوية سوف أُؤسِّس مملكتي الخاصة . سوفَ أُولَد من جديد ، سألدُ نَفْسي بنفْسي . أنا رئيسُ مجلس قيادة ثورة المقبرة . أنا رئيسُ مجلس إدارة المقبرة . سوف تثورُ القبور ، ويَخرج الأمواتُ .
     ارتبك الحارس ، وأُصيب بالدهشة رغم معرفته المسبقة بغرابة أطوار فايز ، وقال بصوتٍ حاد :
     _ هل رجعتَ إلى شرب الخمر يا فايز ؟! . أنتَ مستيقظ أم سكران ؟! .
     _ هذه أكثر لحظات حياتي يقظةً وتركيزاً . لقد عَيَّنْتُ نَفْسي قبراً جَوَّالاً بين القبور ، مثلما عَيَّنْتَ نَفْسك حارساً للمقبرة دون وثائق . المقبرةُ تتمتع بحُكم ذاتي ، وهي المكان الوحيد في العالَم الذي لا يوجد فيه بيروقراطية .
     ولمعت عينا فايز بصورة غريبة كأنه يرقب قدومَ شيءٍ ما مِن أسمنتِ الحلم ، أو يُلبِّي نداءً قديماً تفجَّر في داخله ، وتشظى على حشائش الانطفاء . وقال بحماسة شرسة :
     _ لن أشرب الخمرَ بعد اليوم . حياتي الجديدة تحتاج تركيزاً هائلاً . سوف أَجمعُ العناصرَ الخارجة على قانون القبيلة، وأَصنع حياةَ البشرية من قلب الموت . سأُدخل المنبوذين في تاريخ الحضارة ، وأُحوِّل الأسمنتَ المفكَّك إلى مشاعر لا تتفكك . سَيَفْتخر جبلُ النظيف بابنه القاتلِ المقتول .
     ارتجف الحارسُ . وتفشَّت في جسده زلازل تُحطِّم نَفْسَها . وفي تلك اللحظة الرهيبة شعر الحارسُ بخوفٍ متأجج . كان يظن أنه يَعرف فايز وعاداته الغريبة ، ولا مكان لعنصر المفاجأة ، لكنه فوجئ بالفعل ، وأحس أنه أمام وحش قاتل يستدرج ضحاياه إلى النهاية الحتمية . وما زاد خوفَه هو ذلك الإصرار العجيب الذي كان يلتهب في عيون فايز .