رواية جبل النظيف / الفصل الخامس
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
.............
جَبروتُ فِطْرٍ سام مُكابِر أثناء تكوُّنه في
قلب غازات سامة . لعلَّه يكون آخر تعرجات طريق السُّم في جبال دفاتر الرسم لطفلةٍ مَرَّت من هنا ، أي
من شمال السكاكين . والضحايا يتكاثرون يومياً . القاتل لن يستمر إلى ما لا نهاية .
لا بد أن يُحشَر في الزاوية . عندها فقط سَيُتَوِّجُ خَيْبَتَه بالعار ، ويضمحل جيفةً
متحركة على سِكَّة خيانتها. فالقاتلون في ذروة عنفوانهم يرتعون في رئة الهزيمة
المخنوقة التي تتنفس السموم المركَّبة. منظرُهم وهم يغوصون في دماء الأبرياء هو
منظرهم حين يطعنون أنفسهم على أعواد المشانق في السراب الرمادي الذي لا تكفي صحاري
الدنيا لاحتضان خداعه .
الغريقُ لا يُحدِّد هويةَ المنقِذ ، ولا
يَفرض عليه الشروط . ما يهمُّ هو طوقُ النجاة وليس صاحب طوق النجاة . دموعٌ أثرية
منقوعة في حمض ضبابي المذاق . هستيريا الموقف النهائي في أفق يبلعك وأنت تضحك على
نفسكَ ، وتظن أنك ذكي مثل الضباب الصافي . كانوا هَوَساً يركض على حصى الطرقات
مسرعاً كالبكاء اليومي في معدة الرمال المتحركة . إنها لحظات سقوط الصنوبر في فخ
قصديري ، بدأ جنيناً غامضاً ثم اتَّضح عُنصراً مُشِعَّاً . إشعاعُه قَاتِلٌ ،
وَوَهْجُه محاولةٌ لصيد الحلم .
سقوطُ الطائرِ في حنجرة
الياسمين هو تواريخ موت بطيء تنضح برائحة الفجر الكاذب . هجرةُ الذكريات إلى
مصرعها . والأجسادُ الصاخبة جنوناً تهوي مثل أي ورقة في مهب الحلم . الجسدُ
اختزالٌ لكل العابرين الذين مَرُّوا به، لكل العيون المسكينة، لكل الصرخات
المكتومة ، لكل الآهات المرتعشة في الأكواخ المحترقة بنار البنادق الملوَّثة .
الجسدُ القوي هو الجسد النقي ، أما الملوَّث فكلما مشى احترق ، حتى لو لم تَرَ
دخاناً متصاعداً . وهذا الرعبُ يرمي رموشَه تحت بكاء الخيول .
تُسرع الزنابقُ إلى
الأضرحة كزوجة خائنة تُهرع إلى طفلها الصغير، وتتمنى في عقلها الباطن لو يتلاشى من
الوجود حتى ينقطع ما يربطها بأسرتها التي صارت مقبرتَها. لحمٌ يُشبه حَبلَ مشنقة
ألقاها الموج قبل ألف عام من ميلاد الخيانة. تناسل اللغو في المكان ، وظهر
الارتباكُ واضحاً على الوجوه المذعورة ، والأقنعةِ المشقَّقة.
بعد أسبوع اجتمع مجلسُ
قيادة ثورة المقبرة الذي رسمه فايز . ولكنْ هل هذا الشخص هو فايز ؟!. لقد أَطلق
لحيته ، وصار يَحمل حقيبةً محتوية على كتب ممنوعة وأقلام وأوراق . طبعاً لن تكون
حقيبة مدرسية . ومَن هؤلاء الأشخاص الذين أَحضرهم ؟!. بسَّام خميس ( ابن عمِّه ) ،
ومازن عبد الله ، ومعاذ أحمد حميد . وقد انضمَّ إليهم حارسُ المقبرة لملء وقت
فراغه ، وتقديم الدعم اللوجستي ! .
وهؤلاء الأشخاصُ
يُعتَبَرون خارج حسابات الناس ، بسبب تصرفاتهم الغريبة ، وكلامهم غير المفهوم في
أحيان كثيرة.لذلك أُحيطوا بنظرات الشك وعدم الارتياح.
فالناسُ ينظرون إلى فايز
عمران وحارس المقبرة على أنهما ينتميان إلى الموتى وليس الأحياء، وذلك بسبب
حياتهما في المقبرة ، وانسجامهما مع الموتى أكثر من الأحياء . وبصراحة ، إنهما
وَجْهان لعُملة واحدة يُكمِلان بَعْضَهما البعض . فنظريةُ فايز في هذا السياق هي
أن الموتَ هو الحقيقة الوحيدة في الحياة ، أمَّا نظرية الحارس فهي أن الموت هو
الحياة الحقيقية . وطالما تناقشا حول هاتَيْن الفكرتَيْن ، وإمكانية التوفيق
بينهما . وهما متَّفقان على أن اختلاف الرأي لا يُفسِد للود قضية .
أمَّا بسام خميس فهو
عبقري في الرياضيات . ففي أحيانٍ كثيرة يطلبه يوسف صاحب بقالة الخيَّامي لإجراء
حساباته والجردِ السنوي للبضاعة . أمَّا النساءُ فيطلبنَ منه حسابَ ثمن الذهب
صعوداً أو هبوطاً . كما أن معلِّم الرياضيات في المدرسة يتركه يشرح المادةَ للطلاب
بينما يهرب هو من المدرسة ، إذ إنه يعمل سائقَ تاكسي لإعالة أُسرته الكبيرة. لكنَّ
الناس صاروا يخافون من بسام لأنهم سمعوه _ذات مَرَّة_ يقول إنه ذاهبٌ إلى الجِن
ليُدرِّسهم مادةَ الرياضيات . وكانت هذه العبارةُ المخيفة هي القطرة التي أفاضت
الكأسَ .
ومازن عبد الله هو شاعر
جبل النظيف بلا مُنازِع ، ويشارك في مسابقات داخلية وخارجية . وكثيرٌ من الناس
يقولون إننا نشعر بعبقريته لكننا لا نَفهم شيئاً مما يقوله . وقد صار مكروهاً بعد
تغزُّله بزوجة المختار . وقد حاول المختارُ إطلاقَ النار عليه لِيَغْسلَ شَرفه لكنه
هَرب، ومنذ ذلك الحين اعتزل الشِّعرَ الغزلي ، وصار يكتب في مواضيع سياسية فَطُرد
من عمله .
أمَّا معاذ أحمد حميد ،
فهو كهربائي ، ويبتكر تصاميم للسيارات. وقد حَقد عليه السكان ، وصار مكروهاً عند
عُمَّال النظافة خاصةً، بسبب تصاميم السَّيارات التي يرسمها على الحيطان ، بحيث إن
زائر جبل النظيف يُخيَّل إليه أنه في مضمار لسباق السيارات .
اجتمع الأشخاص الخمسة في
المقر الجديد . وشَعروا بهدوء جامح منبعث من نسيم عذب غامض جاء من جهة ما . أسندوا
ظهورهم بعناية تامة ، ورموا أبصارَهم وراء الغيوم الخجولة ، وأغمضوا عيونهم لبرهة
ثم فتحوها كمن يفتح باباً مغلقاً منذ قرون . كانت هذه الحركاتُ هي فقرات حفل
الافتتاح الذي جهَّزوه مسبقاً .
وربما لو شاهدهم أحدٌ في
تلك اللحظات لاعتبر لقاءهم مسرحيةً بائسة تم تحضيرها بدقة، واعتقدَ أن كلَّ
الممثِّلين حَفِظُوا أدوارَهم كارهين لعملهم لكنهم _ في نفس الوقت _ محتاجون إلى
أجرة التمثيل .
وهذا الانطباع ليس له
نصيب من الحقيقة . فلم يَجبرهم أحد على المجيء إلى المقبرة . كما أنه لا توجد
منفعة مادية من وراء هذا الاجتماع .
انفتحت القلوبُ المولودة حديثاً على كل
الاحتمالات . الاستراحة قصيرة جداً في العقلانية، طويلة جداً في الجنون. ملامحهم
مشبوحةٌ على أخشاب الكرة الأرضية. صار الوقتُ مسافاتٍ من المراكب الراسية في ميناء
منبوذ لم يعد أَحدٌ يستخدمه . الحناجرُ تحدِّق في المستحيل الممكن، والعتمةُ
المحيطة به هي وقودُ العار ومقدمةٌ لثورة جامحة. أرضٌ تَبسط شرايينها كفناً لكَ
لترتاح الحجارةُ من اسم جرحكَ . المشي نحو هاوية الحشائش البلورية .
آبارُ الوجوهِ حقولُ بارود كالتين المعلَّق
على حبل الغسيل . لحظةُ غياب الروح عن سمائها الوضيئة هي لحظة اندلاع القتل الصارخ
. القتلةُ والضحايا يتناوبون على الصمت. والصمتُ أُولى خطوات الخفافيش على سطوح
الشهيق . زيتونةٌ تحلِّق فوق
المقابر
الجماعية .
قد
يلتحم مطرُ القلب بدمع العين لكنَّ الملحَ لا يختلط بالأكسجين . وكلُّ الموتى
يسكنون فيهم ، ويأكلون معهم ، وينامون معهم . وليس من السهل أن يجد الإنسانُ ذاته
في هذه الفوضى . وربما يقضي أحدُهم كل لحظات حياته في التفتيش عن ذاته بين ذواته ،
وقد يجدها ولا يجدها . لكن الأمر يستحق المحاولة .
إنهم يَركضون ويأكلون المسافةَ . يَسْبحون
في أمعاء بحيرةٍ على وشك التبخر . وكلماتُهم تَذوب في أبجدية العشب . ولا أحدٌ
يَزورهم في قَلعتهم سوى الطوفان .