رواية جبل النظيف / الفصل السادس
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
.............
لقد تحسَّن الوضعُ المادي لرأفت سليم المخلوسي
. فمنذ أن بدأ بإعطاء دروس خصوصية في اللغة الإنجليزية تضاعف دَخْله الشهري ،
وتعرَّف على صَفْوة المجتمع . وكلَّ يومٍ _ بعد انتهاءِ دوام المدرسة _ يقضي وقته
في عمَّان الغربية متنقلاً من فيلا إلى فيلا حتى ساعة متأخرة من الليل .
وصل الأستاذ رأفت إلى
فيلا فخمة مكتوب على بوابتها العملاقة : [ فيلا الدكتور لؤي عبد الكريم عَطْوة ] .
كانت الساعة الخامسة مساءً ، أي إنه جاء في الموعد المحدَّد بدقة . وقد كانت دهشته
كبيرة عندما دخل الفيلا ، ورأى الأثاثَ الفاخر ، والديكور المتناسق ، والخدمَ من
عِدَّة جنسيات . كان طراز الفيلا غربياً حتى النخاع . وقد تساءل في قرارة نفسه
تُرى ماذا يعمل الدكتور لؤي ؟! .
جلس الأستاذ رأفت على
الأريكة ، وأخذ يُجيل بصره في المكان مبهوراً ، وغارقاً في دهشته العارمة وأسئلته
الوسواسية المتكاثرة . وبينما هو يصارع أفكارَه ظَهرت امرأةٌ ممتلئة وأنيقة ،
ترتدي تنورةً قصيرة ، ويفوحُ منها رائحة عَطْرٍ شديدة . وجهُها أبيض بلا مساحيق،
وخدودها وردية بدون بلا مكياجٍ . كانت أرستقراطية بكل معنى الكلمة . وعندما رآها
رأفت أيقنَ أنها سيدة المنزل . وتعجَّب في قرارة نفسه من شموخها ، فقد اعتقد لمدة
طويلة أن هذا النوع من النساء لا يوجد إلا في الأفلام السينمائية . وقف احتراماً
لها . وبدا مهزوزاً بعض الشيء لكنه حاول أن يتماسك قَدْر المستطاع ، ويتخلص من
الرجفة الداخلية التي تتلاعب به . إنها رَجفة جنونية شاملة .
تقدَّمت منه مبتسمةً ،
ومدَّت يدَها قائلةً :
_ ميَّادة سمير حَرَم
الدكتور لؤي عَطْوة .
صافحها رأفت وهو يقول
بصوتٍ خائفٍ :
_ رأفت سليم المخلوسي ..
أستاذ اللغة الإنجليزية .
دخلت يداهما في رَجفةٍ
مشتركة . وفوجئ الاثنان من هذا الإحساس الداهم . كانت يدُها وسادةً من الريش. ولم
يستطع رأفت نسيانَ نعومة يدها منذ ذلك الحين. لقد صارت نعومةُ يدها سيفاً قاسياً
يخدش مرايا ذاكرته ، ويَحفر قاعَ قلبه .
جلست ميادة على أحد
الكراسي . ويبدو أنه كان مُخصَّصاً لها . وقد ارتفعت التنورةُ بسبب جلوسها كاشفةً
عن لحمٍ أبيض لا أثر فيه للتعرجات أو التَّرهل .
وجلس الأستاذ رأفت
كالتلميذ الخائف من عقاب مُعلِّمه لأنه لم يحل الواجباتِ المدرسية .
قالت السيدة ميادة بلا
مقدِّمات :
_ ابني رمزي طالب في
المرحلة الابتدائية في مدرسة أجنبية ، وهو يعاني ضعفاً في قواعد اللغة الإنجليزية
علماً بأن الجميعَ في البيت يتحدثون الإنجليزية بطلاقة .
استجمع رأفت قواه ،
وارتفعت رأسُه معتقداً أن دوره قد حان لعَرْض فلسفته في الموضوع ، والتنظير في
مسألة اللغة ، وقال بكل عنفوان :
_ إن المحادَثة تختلف عن
القواعد اللغوية . فالقواعدُ مثل أعمدة البيت ، أمَّا المحادَثة فيمكن اعتبارها
كالطوابق المبنية فوق بعضها . كما أن القواعد عبارة عن جُمل منطقية واضحة لا مكان
فيها للحركة أو الفذلكة، أمَّا المحادَثة فهي عالَم شديد المرونة ، ويمكن التحرك
فيه يَمنةً ويَسرة .
كان رأفت يتعمَّد
انتقاءَ الكلمات التي لها وَقْعٌ في النَّفْس ، وذلك ليبدوَ أكثر من مجرد مُعلِّم للإنجليزية . إنه ينتقي الكلمات الرَّنانة ليظهر
كالفيلسوف الذي يُبهر مُحاوِرَه ، وينال إعجابَه ، ويسيطر عليه .
لم تهتم ميادة بهذه
التفاصيل ، لذلك لم تعلِّق عليها . واكتفت بالقول :
_ أُريد أن يتحسن مستوى
رمزي .. وهو طفلٌ ذكي لكنه مُشتَّت ، ويُفكِّر كثيراً في اللعب على حساب دراسته .
وقد أحضرتُ له مُعلِّمين كثيرين لكنهم لم يُحسِنوا التعاملَ معه.. وما يهمني هو أن
يتحسن مستواه ، ويتفوق في دراسته ، وأنا مستعدة لدفع أي مبلغ .
انتعش رأفت عندما سمع "
أي مبلغ " . كان تعبيراً رائعاً بالنسبة إليه ، ولم يُرد أن يُضيِّع هذه
الفرصة ، لذلك قال بسرعة قبل أن يبتعد الحديثُ عن المال :
_ لستُ معنياً بالمال .
المهم أن يتحسن أداء الطالب ، وتكون النتائج ملموسة. وبصراحة .. أنا أتقاضى عشرة
دنانير عن الساعة الواحدة .
_ لا ! .
ذُهل رأفت من هذا الجواب
، وارتبك بشكل واضح . وكل أحلامه المالية في تلك اللحظة بدت كقصرٍ رملي انهار
فجأةً . فهو لم يتوقع أن مبلغاً زهيداً بالنسبة لهؤلاء الأغنياء سَيُرْفَض بهذه
السرعة . ورغم مشاعره المتساقطة ، ومعنوياته التي صارت في الحضيض ، قال بنبرة
كسيرة :
_ فلتكن ثمانية دنانير .
_ لا ! .
وفي تلك اللحظة المرعبة
صَبَّ رأفت غضبَه على الأغنياء دون أن يتفوه بكلمة، وشتمهم في قرارة نَفْسه ،
واعتبرهم لصوصاً يَسرقون الملايين ، في حين أنهم يَبخلون بدينار أو دينارَيْن . فهم
ذئابٌ يختبئون في ثياب الحِملان ، ويَظهرون بمظهر المحترمين وهم مجرد أوغاد يُخفون
قذارتهم وراء ربطات العنق والتنانير القصيرة . كل هذه المعاني كانت تحترق في داخله
. إن صدره مِرْجل يَغلي بلا رحمة . احمرَّ وجهُه ، وتمنى لو يَقدر على البوحِ بما
يُفكِّر فيه لكي يرتاح من هذا العذاب المباغِت . وبينما هو يَغرق في جحيم أفكاره ،
قالت ميَّادة :
_ سأدفع عشرين ديناراً
عن الساعة الواحدة .
نَزلت هذه العبارة على
قلبه كالمطر الذي يُطفئ الحرائقَ، وزال الألمُ الذي يخنقه، وأخذ يمدح الأغنياءَ في
سِرِّه ، ويَعتبرهم أماناً للمجتمع ، ودعامةً في بناء الاقتصاد الوطني ، ومساعدةِ
الطبقات المتدنية ، ودعا لهم بطول العمر ، وزيادة الأموال والأولاد .
وفي ذلك اليوم استغرقت
حِصَّةُ رمزي ساعتين ، من الساعة الخامسة والنصف حتى السابعة والنصف. وتقاضى
الأستاذ رأفت أربعين ديناراً . كانت تلك الساعتان من أجمل لحظات حياته دون مبالغة
. كان رمزي فتىً لطيفاً ، والسيدةُ ميادة امرأةً مهذَّبة ، والخادمةُ التي أحضرت
الحلوى والعصير أنيقةً. كل شيء كان جميلاً ورائعاً. حتى أزقةُ جبل النظيف القذرة
التي سار فيها رأفت في طريق عودته إلى بيته ظهرت نظيفةً ولامعة . أحس أنه سيطير من
الفرح . سيصبح له جناحان ويُحلِّق ضد الجاذبية ، وضد قوانين نيوتن ، وضد قواعد
اللغة الإنجليزية . وأخيراً شعر أن الحياة ابتسمت له مثلما ابتسمت للكثيرين غيره .