رواية جبل النظيف / الفصل الأول
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
...............
إنه الصراخ يقتلع حيطانَ الغرفةِ الكالحةَ. في تلك الزاوية من الحلم الذي
يتكوَّم كجثث الفئران المنفية يبدأ المنفى بكاءه حنيناً إلى ذاكرة صارت مَنفى. كل
أجزاء صوتها يتداخل في جليد المنافي، والنسوة حولها يحاولن التخفيف من ألمها .
دهان الحيطان آخذ في الانحسار ، ويكشط ضوءُ الاحتضارِ المؤقَّتُ ألوانَ المواد الكيماوية
على خدود الأسمنت الطازج. ويتواصل الصراخ بشكل هستيري ، ويجتث رئاتِ صدأ حديد
الشبابيك المفضية إلى الشبابيك .
_ استعيني بالله يا أم بسام،
لستِ أول واحدة تلد في هذا العالَم ، وهذه ليست أول مرة ، فقد صرتِ خبيرة في
الولادة .. لقد صارت نسوان هذا الجبل مثل الأرانب ، الواحدة لا تعرف إلا الحمل
والولادة .
قالت الحاجة سعدية وهي
تتأفف بصوت عالٍ ممزوج بمشاعر متضاربة، فهي تنام في الجلسة ثم تستيقظ على صراخ أم
بسام .
وتدخلت إحدى النسوة في
هذه المعركة لتثبت أن لها وزناً في جلسة الولادة هذه ، فقالت وقد أخفت العلكةَ في
قلعة حصينة في فمها الواسع :
_ لا وقت لهذا الكلام ،
المرأة تموت أمام عيوننا ، وتضيع من بين أيدينا . وحتى الآن لم يأت ابنها ، أرسلناه
لإحضار الداية عواطف لكي تُوَلِّد هذه المسكينة ، فلم يأت بسام ولا عواطف .
لم تقدر أم بسام على
الرد ، ودخلتْ في صراخ أشد من ذي قبل ، فجسدها شعلة نار في الصحاري الجليدية .
جِلْدها يتمزق كمداخن أكواخ الخنجر الدائم . بطنها أضحت معقلاً لكل الانقلابات
العسكرية في العالَم . إن ناراً تريد الخروج من رحمها. اشتدت عليها الآلام بصورة
دَفَعَتْهَا إلى الدخول في غيبوبة سريعة ، ثم أفاقت وهي لا تكاد تميِّز وجوه
النسوة المحيطات بها . إن أحشاءها في تلك اللحظات كرة نارٍ في ذاكرة منجنيق وُلِدَ
في المعركة ، وعاش في المعركة ، ومات في المعركة .
وحينما تمالكت أم بسام نفسَها ، ركَّزت في
وجوه النسوة الجالسات حولها .
بدت وكأنها تريد افتراس الملامح النسائية لكي تميِّزها بشكل دقيق . مدَّت
يدها تحت الوسادة بتثاقل رهيب ، وبدا أنها تسحب شيئاً ما كأنها تنزع جثةً ثقيلة من
بئر سحيقة .
وبعد أن فرغت من رحلة
الاستكشاف تلك ، ارتسمت على محياها ابتسامة عريضة وهي تمسك علبة دُخان مع القداحة
.
نظرت النسوة إلى بعضهن
البعض في استغراب ، وقالت إحداهن _ وأظنها الحاجة سعدية_ :
_ ليس وقت الدخان الآن
يا أم بسام . أنتِ بين الحياة والموت . لا تُدمِّري صحتك ، وتضيِّعي نَفْسَكِ يا
حُرْمة .
تدخلت زليخة الأرملة بعد
أن قَطعت أفكارها الشاردة مع ابنها يونس الذي يعمل ميكانيكي دبابات في الجيش ، ولم
يأخذ إجازة منذ مدة طويلة :
_ اتركيها تُدخِّن يا سعدية . سيجارة واحدة لن
تقضيَ عليها ، اتركي كلام الأطباء ، هؤلاء دجالون يبيعون الكلام في الهواء من أجل
الفلوس ، ولا يفهمون شيئاً.. اذهبي إلى أية مستشفى، ستجدين الأطباء يغازلون
الممرضات في غرف العمليات ، والناس يموتون مثل الفئران .
انقطع نَفَسُها من كثرة
الكلام . وبعد أن تنفَّست بعمق ، قالت :
_ أنا زليخة على سِن
ورُمح ، أفهم أكثر من كل الأطباء الذين درسوا في بلاد الأجانب . لي عشرون سنة
أُربِّي الأرانبَ على سطح الدار ، وأُجري لها عمليات ولادة وعمليات جراحية . ولم
يمت أيُّ أرنب في أي عملية . هذا هو الشغلُ على أصوله .
كانت زليخة امرأة أُمِّية
تلقي الكلام ثم تفكر فيه . وهي تعيش حياتها ببساطة ساذجة . وقد كرهت الأطباء وعلم
الطب وكل ما يتعلق به منذ أن طردها أحد الأطباء من باب المستشفى لأنها لا تملك ثمن
العلاج .
ربما كانت هذه الحادثة
قبل أربع سنوات أو أكثر. لستُ متأكداً بالضبط . فقد كُسِرت رِجْلها على سطح بيتها
عندما حاولت وضع الذُّرة للحمَام فسقطت على الأرض . وذهبت إلى المستشفى بالعكازة،
وبمساعدة الحاجة سعدية ، ولم تكونا تملكان أجرة سيارة التاكسي ، فكان الطريقُ
قطعةً من الجحيم ، وحينما وصلت إلى باب المستشفى طردوها ، فوقعت على الأرض ، ووقعت
عليها العكازة . ومنذ تلك اللحظة أعلنت الحرب على الأطباء كلهم ، وكرهت المستشفيات
.
كان بسام يتبختر في
مشيته كأن شيئاً لم يكن . اشترى قطعة شوكولاتة من النوعية الرخيصة من بقالة
الخيَّامي، ومضى إلى بيت الداية عواطف ، والأزقةُ القذرة تقتل رائحةَ ظلالها مثلما
تخرج جثامين أسماك القِرش من كتابات الأولاد على الحيطان البائسة . صارت الأزقة
تضيق وتضيق، وكلما ضاقت أكثر عَرف أن البيت المقصود صار أقرب .
ففي جبل النظيف، ذلك
المكان المنسي في حِبر الخرائط، والبُقعة المنبوذة في تاريخ أحزان الشوارع غير
المعبَّدة. ذلك المستودع من أسرار النساء المسحوقات والرجال العائشين على الهامش بلا
مستقبل أو أحلام، حيث وجوه الناس مُصادَرة ، وأحلامهم موؤدة قبل أن تُولَد. كلُّ
عجوزٍ تَجلس على درج بيتها تنتظر ما لا يأتي، وكلُّ أرملةٍ تخيط أحزانَها في ليالي
الشتاء .
في هذا المكان الموحل، لا
يصل ضوء الشمس إلى نخاع الأزقة الضيقة ، فالمنازل العشوائية مبنية بصورة متلاصقة
إلى حد التزاوج مع جنون الأسمنت المغشوش ، فلا الشمسُ تدخل في شرايين جغرافيا
الحلم الواقعي ، ولا البشر ينتظرون قدومَ ضوء الشمس .
في هذا المكان كلما
اقتربتَ من الأشياء ابتعدتَ عن نَفْسك ، وكلما ابتعدتَ عن الأشياء اقتربتَ من حزنكَ
. لن تقع عيناك في هذا المحيط الشاسع من أكواخ الصفيح والأوحال والروائحِ الكريهة وأكياسِ
القمامة المبعثرة على طول المدى والتي مزَّقتها القططُ العمياء ، إلا على عيون
مكسورة للبشر والحيوانات التي انتخبت المنفى الاختياري في هذا الجبل الذي ليس له
من اسمه نصيب .
ولن تجد سلال قمامة أمام
أبواب البيوت لأن السكان يُوفِّرون بقايا النقود لشراء ما هو أهم من سلال القمامة ،
لكي يظلوا على قيد الحياة لا أكثر. الحياة من أجل الحياة ، حيث التاريخ متروكٌ
للقادرين على الدفع، وحيث المستقبل لم يعرف طريقَ هذا الجبل المنسي في انكسار
الروح . هنا يصير الهدفُ من الحياة أن تظل على قيد الحياة أطول فترة ممكنة هارباً
من تاريخ الصراصير المقتولة تحت الأحذية الممزَّقة.
وبعد أن تعب بسام من
اللعب في الشارع ، ورمي الحجارة على القطط المغضوب عليها في هذه القذارة الشاسعة ،
وأنهى امتصاص قطعة الشوكولاتة حتى الرمق الأخير ، فقد لا يقدر على شراء قطعة ثانية
في المدى المنظور، ذهب إلى بيت الداية ، وقرع الجرس بشكل هستيري متواصل.
كانت الداية في قميص
النوم برفقة زوجها محمود بائع الخضار ، وقد كانا شبه عاريَيْن على السرير المكسور ،
وهما يخترعان نظرياتٍ جديدة في الغزل على ألحان رائحة المجاري الفائضة في الأزقة
المحيطة ، وحينما سمعا قرع الجرس بهذا الشكل المرعب، وقعا على الأرض، وهبَّ الرجل
واقفاً ، وهو لا يعرف ماذا يفعل ، وأين يذهب ، لكنه قال بصوت متذبذب نتيجة القلق البالغ
:
_ استري على حالك يا
امرأة ، ضَعِي اللحاف عليك . يا فرحة ما تمَّت ، كل يوم يصير نفس القصة ، لا أعرف
متى سننجب الأطفال إن بقينا على هذه الحال .
قالت عواطف وهي في غاية
الارتباك ، ولا تعرف كيف تستر نفسها :
_ اترك هذا الكلام .. اذهب
وافتح الباب .
وطيلة هذه المدة لم يتوقف
الرنين المجنون ، فقد غرس بسام أصابعه كلها في الجرس كأن لديه ثأراً شخصياً معه .
ارتدى ثيابه على عَجَل ،
وانطلق كالملسوع لكي يفتح الباب . وعلى الرغم
من أن بيتهم عبارة عن غرفة واحدة ضيقة وحَمَّام ومطبخ صغيرين ، إلا
أنه أحس المسافة بين السرير وباب البيت كأنها مسافة بين كوكبَيْن .
فَتح البابَ ، والعرقُ
يكتسح وجهَه ، وبسبب ارتباكه لم ينتبه إلى الصغير بسام بسبب قصر قامته . فصار بسام
يرفع نفسه ليجذب الانتباه .
فلما انتبه محمود إلى
هذا المشهد الذي بدا فصلاً من مسرحية كوميدية ، قال بصوت مستسلم، وعلامات الخيبة
تقتلع ملامحَه، والكلام يخرج من جوفه بصعوبة :
_ ماذا تريد يا بسام ؟ .
_ أريد خالتي عواطف لأني
أمي سوف تلد .
_ حاضر يا سيدي .
وقد استمعت عواطف إلى
الحوار كاملاً ، فارتدت كامل ثيابها ، وهي تقول في نفسها :
_ أنا أُوَلِّد النسوان
، وأظل بلا ولادة . صدق من قال : باب النجار مخلَّع .
ثم قالت لزوجها وهي تهم
بمغادرة بيتها :
_ ضع الماء على النار ،
وانتظرني في السرير ، ولا تلمس قميص النوم لأني استأجرته من جارتنا .
وانطلقت الداية برفقة
الصغير بسام بسرعة كبيرة ، يقتحمان الرائحةَ الكريهة في أزقة الوباء. وفي أثناء
سيرهما المتماهي مع الركض، كُسر كعب حذائها ، فوقعت على الأرض ، وقد التوى كاحلها
بصورة طفيفة ، لكنها واصلت السير ببطء شديد وهي تعرج، والألم ينهش رِجلها، ويسري
كالرماد الحارق في شرايينها .
وما إن وصلت إلى بيت أم
بسام حتى سمعت صراخ طفل يُفجِّر المكانَ ، لكنها لم تقدر على تمييزه هل هو ذَكر أم
أنثى . وحينما دخلت إلى جلسة الولادة تلك ، نسيت النسوةُ الجالسات موضوع الولادة ،
وصِرْنَ يحدقن في هذه المرأة التي وصلت بعد فوات الأوان ، وكان العَرقُ يأكل وجهَها
، والقاذورات عالقة بثيابها .
شعرت عواطف في تلك
اللحظة بأنها وحيدة في هذا العالَم، وأنها غريبة عن هذا المكان . أحست برغبة شديدة
في البكاء، لكنها قاومت الدموعَ بشراسة جندي محشور في الزاوية ، ولم تعرف ماذا تقول
في ساعة الولادة تلك المصبوغة بالصراخ الذي يدهن حيطانَ الغرفة البائسة . لكنها
ألقتْ نظرها إلى الأرض ، وقالت :
_ مبروك يا أم بسام .
وغادرت تلك البقعة
المشتعلة بالأحاسيس المتضاربة . وبدأت الدموع تسيل من عينيها بحرقة في الطريق ،
لدرجة أن سخونة الدمع أنستها وجع قدمها .
وحينما وصلت إلى بيتها
ذُهِل زوجها حينما رآها في هذه الهيئة التعيسة ، فقد بدت كالمتسولة. ولم تقدر على
النظر في عيون زوجها، وإنما دخلت إلى الاستحمام بالماء الذي تم تسخينه لأمرٍ آخَر .
وزَّع الرجلُ نظراته في
أنحاء الغرفة ، ورمى مشاعره في سقفها المصنوع من الصفيح المتهالك ، وراح يتحسس نعومةَ
قميص النوم الملقى على السرير ، ثم اختبأ تحت اللحاف ، والنعاس والبكاء يتصارعان
في جسده المنهَك .
وعلى الضفة الأخرى للحلم
المشتعل كان بكاء المولودة الجديدة يملأ المكان ، ويزرع الخناجر في حلوق النساء
المبتسمات حول هذا الكائن الحي الجديد القادم إلى هذه الأسرة . أما أم بسام فتشعر
أن جسدها قد غادر مدارَه ، وانفصل عن الحياة برمتها . فالألم ينهش جسدها نقطةً
نقطة ، وهي تمارس الألم لكي تنسى الألم في بقعة أخرى .
وزَّعت النسوةُ الأعمالَ
فيما بينهن . فواحدةٌ تجهز الماءَ الساخن ، ورفيقتها تحاول إيقاف سيلان الدم بطرق
بدائية مضحكة ، وأخرى تحاول تنظيف المولودة . وقد بدت أفعالهن ارتجالية غارقة في
الفوضى، لكن هذا هو أسلوب الولادة المتوارث في هذا الجبل المنسي . وكلُّ واحدة
تريد إثبات نفسها كقائدة لفريق العمل .
وفي زحمة هذه الفوضى
العارمة المختلطة بطقوس الولادة المتوارثة ، والبكاء
الصادم ، والارتباك ، وضوضاء النساء الأميات ، جاء بسام كالرصاصة ،
وهو يلهث ، ووقف أمام تلك الجلسة النسائية المخيفة ، والتي تبرق في عينيه كرؤوس
الرماح ، وقال :
_ لقد ماتت جدتي سارة .
ألقى هذه الكلمة الحارقة
، وأصابع الموت تزحف على جِلده ، والدموعُ تصعد إلى جفونه ، وغادر المكان هارباً
كشخص يلقي قنبلة على مجموعة بشر ، ويهرب قبل أن يمسكه أحد .
كان الموتُ ينثر معناه في
أرجاء الفضاء . لقد سيطرت النهايةُ على مشاعر النسوة الغارقات في فوضى طقوس
الولادة . أما بسام فكان يركض إلى اللامكان . فالموتُ يحمل معنى جديداً في نفسه
الطفولية . وهو الطفل المحصور في العاشرة من عمره .
ظهر المشهد كخليط شرس من
الأضداد ، حيث المشاعر تقتل المشاعر ، ولا يعرف الإنسان أين يذهب . لقد شعر بسام
في تلك اللحظة الرهيبة أنه نقل بحوراً من المتفجرات ، ولم ينقل خبراً عادياً . لم
يفهم بدقة ماهية الموت . لكنه متأكد أن الغياب هو الذي سيفرض شروطَه ، وأنه لن يرى
جدته سارة بعد اليوم .
كانت الحاجة سارة كبيرة
العائلة . وهي أشبه بشيخ قبيلة، فكلمتها مسموعة ، وسارية على الصغير والكبير . وبعض
الناس يقولون إنها وُلِدت في عام 1900م ، والبعض الآخر يؤكد أنها وُلدت عندما
أُلغيت الخلافة العثمانية . وآخرون يقولون إن تاريخ ميلادها نفس تاريخ ميلاد هتلر.
وصار تحديد تاريخ ميلادها قضية أمن قومي ، وكل واحد يخترع تاريخاً من بنات أفكاره ،
والجميع مشغولون بهذا ، ويحاولون ترك بصماتهم في هذه المسألة التي تمس ثقافة هذه
البقعة الجغرافية البائسة .
والحاجة سارة نفسها لم
تعد تعرف كم عمرها من كثرة السنوات التي عاشتها والأمراض التي حاصرتها . لكن الشيء
الذي بقي عالقاً في ذهنها طيلة عمرها هو محاولة أبيها أن يُسمِّيَها " رعد
" رغم أنها أنثى . وقد قال حينها إنه يرى في عينيها اللامعتين صفات زعماء
العشائر ، وإن اسم " رعد" يناسب الزعامة . لكن أمها أقامت الدنيا ولم
تقعدها ، وقالت له إنك ستفضحنا في العائلة ، وتسبِّب عقدةً نفسية للبنت . وقد
تراجع عن فكرته بعد تدخل عدد من كبار العائلة .
لكنَّ حكاياتٍ كثيرة
مرتبطة بهذه العجوز الأسطورية ، لكن الحكاية الأكثر غرابة ، والتي يتناقلها الناس
بكثافة هي أنها حاولت عقد مصالحة بين الفلسطينيين والأردنيين في حرب أيلول 1970م ،
وقد رفعتْ عَلَمَي فلسطين والأردن على سطح بيتها ، وأقامت بمساعدة طبيب محلي عيادةً
لعلاج الجرحى من الجانبين ، وقالت إن أهل جبل النظيف لن يرفعوا بنادقهم في نار
الفتنة ، على الرغم من عدم وجود بنادق مع السكان ، ولا يملكون ثمن الرصاصات ! .
فهم بالكاد يجدون ما يأكلونه ، لكن الأمر _ آنذاك_ بدا جزءاً من خطبة حماسية .
والناس شبه متفقين على
هذا الأمر ، وما زال بعض السكان يضعون صورة ذلك الطبيب في منازلهم احتراماً له.
وهم يعتقدون أن الموساد قام باغتياله في باريس التي هاجر إليها فيما بعد ، لأنه
كان أحد أعضاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، وأحد المقرَّبين من وديع حداد . لكن
الجميع يعرف أنه كان يؤدي الصلوات الخمس في المسجد ، كما أن زوجته كانت محجَّبة !
.
وبصراحة لا يوجد شيء
موثَّق في كلام أهل هذا الجبل الضائع . وكلام الناس خليط من الحق والباطل ، فهم
يرددون ما يسمعونه بدون تدقيق ، ويقولونه بحسن نية ، فلم يتخرجوا من الجامعات لكي
يعرفوا المنهجَ العلمي ، كما أن لهاثهم وراء كسرة الخبز جعل تفكيرهم لا يتعدى حدود
الراتب الشهري إلا في حالات نادرة .
ولا شك أن وفاة مثل هذه
المرأة التي تُعتبَر شيخة جبل النظيف سوف يترك أثراً سلبياً. وعلى أية حال سوف
تستمر حياكة الأساطير حولها ، لأنها ليست مجرد امرأة منسية في هذا الجبل المنسي،
بل هي مادة غنية بالتراث والفلكلور والرموز الشعبية، لدرجة أن السائحات كنَّ
يلتقطن الصور التذكارية معها . فهي مَعْلم أثري وتاريخي، وقد صارت مثل كليوبترا ،
إلا أن قَدَرها أحضرها إلى هذا البقعة المنبوذة في تاريخ الحضارات .
كانت الأحداث تتسارع
بصورة مرعبة . يتَّحد الميلادُ والموت في لحظةٍ واحدة. ويمشي الفرحُ إلى جانب
الحزن في مدارات النسيان . كلُّ طريقٍ سيخلعُ وجهَه ويلبس قناعه هرباً من الشمس .
لكن الشمس الكامنة في داخل الإنسان لا يمكن الهرب منها أبداً .
أقبل أبو بسام وهو لا
يَعلم بولادة ابنته أو وفاة أُمِّه . فمهنته تفرض عليه طَوقاً من العزلة. فهو يعمل
في إحدى الكسَّارات المجاورة . غارقٌ في الجبال المعانقة للغيوم يقوم بتكسير
الحجارة ، وزرع المتفجرات في باطن الأرض ، وتحويل هذه الجبالُ العالية الحاملة
لذكريات العمَّال إلى حجارة بناء أو رُخام .
وفي طريق عودته كان
الوجومُ يخيِّم على الأزقة ، والانطفاء يكشط أحلامَ البيوت. ورغم أنه عاش كل حياته
في هذا الجبل إلا أنه أحس بشعور غريب في تلك اللحظات الخشنة . شعر أنه دخيلٌ أو
منفيٌّ ، وأن الزمان والمكان لم يعودا يتقبلان وجودَه . وقد أدرك أن أمراً كارثياً
قد حدث . فالطرقاتُ شبه فارغة ، ولا أثر للضجيج الذي كان يملأ الفضاء . وقد واصل
المسير بخطى مثقلة متوقعاً أن يسمع خبراً مؤلماً في أية لحظة .
لمح يوسفُ صاحب بقالة الخيَّامي
خطواتِ أبي بسام المتعَبة ، فقفز إليه كالمجنون قائلاً :
_ عَظَّمَ اللهُ أجركم ،
واللهُ يغفر لها . لقد كانت امرأة تساوي ألف رَجُل . كلنا على هذا الطريق .
صَدِّقْني كنتُ سأغلق الدكانَ قبل قليل ، لكنَّ هؤلاء القرود [ وأشار إلى بعض الأطفال ] أصروا على شراء
عصير وشوكولاتة .
أدرك أبو بسام أن أُمَّه
قد ماتت . وأن الدائرة قد اكتملت . والذاكرةُ أُغلقت
فلم تعد تتسع للذكريات . سيتحول البشرُ إلى براويز خرساء على الحيطان
. والنهايةُ التي كانت تبدو بعيدةً صارت واقعاً ملموساً. تجمَّد الدمعُ في عينيه، وأسرع
إلى بيته بخطى ميكانيكية لا شعور فيها، كأنه رَجل آلي يمشي ولا يعرف لماذا يمشي .
وكلما رآه أحد المارَّة صافحه وعَزَّاه ، وأثنى على الحاجة سارة خيراً . وكلهم
مُجْمِعون على عبارة " تساوي ألف رَجل " ، وكأنهم اتفقوا على قولها ،
وجعلها شعاراً للمرحلة .
وصل أبو بسام إلى بيته .
والصورُ تتشابك في ذهنه ، بحيث شَكَّ في بداية الأمر
هل هذا بيته أم لا . لكنه تأكد حينما سمع ضجيجَ الرجال وبكاءَ النساء
. وما إن دخل إلى البيت حتى هُرع الجميعُ إليه كأنه كان مسافراً منذ سنوات . لكنه
واصل المشي إلى غرفة أُمِّه لذا ابتعد الجميعُ عنه وخلُّوا طريقه . ولَمَّا دخل
إلى الغرفة خرج منها كلُّ مَن كان فيها . لقد أراد أن يختليَ بأُمِّه ، تلك المرأة
التي سَيْطرت على جبل النظيف بحكمتها ، وكان الرجال لا يجرؤون على كسر كلمتها .
وها هي الآن جثة هامدة لا تتكلم ولا تتحرك ، مُسجَّاة على حصيرٍ خشن ، ومغطاة
بقطعة قماش بيضاء .
تقدَّم أبو بسام من
أُمِّه، ورفع الغطاء عن وجهها ، وقَبَّلها على جبينها ، ثم غطَّى وجهها . غروبٌ
أبدي لا شروق بعده ، ووداعٌ نهائي لا يمكن التراجع عنه . وراح يُكلِّم أُمَّه كما
لو كانت على قيد الحياة .
وفي خارج الغرفة كان يقف عمران وزهدي وسليم
أبناء الحاجة سارة . وهُم يحترقون بنار الانتظار . ماذا يفعل خميس في الداخل طيلة
هذه المدة ؟! . المرأةُ ماتت وارتاحت من هذا القرف . والحيُّ أبقى من الميت . كانت
هذه الأفكار تجول في ضمائرهم .
اقترب عمران ( الأخ
الأكبر ) من زهدي ، وقال له بصوت منخفض يُشبِه صوتَ النوارس المذبوحة :
_ أخوك خميس ليس سهلاً .
أنا متأكد أنه يبحث عن الذهب تحت البلاط ، أو يفتِّش في ثياب أُمِّنا بحثاً عن
المال .
فُوجئ زهدي من هذا
الكلام ، وارتبك في البداية ، لكنه قال :
_ يا رَجُل ، حرام عليك
. بلا ذهب بلا بطيخ . المرأة ماتت ، وأنتَ تحلم بالذهب والمال .
بدت علاماتُ الخيبة
والاستياء على وجه عمران ، وقال لأخيه :
_ ستظل طيلة عمرك أهبل .
أخوك آخر العنقود سيأخذ كلَّ شيء ، وستظل شحاذاً مثل أخيك سليم .
ولم يكد عمران ينهي
كلامَه حتى خرج خميس من غرفة أمِّه ، ووجهه كتلة من الأسمنت ، وشَعره رصاصةٌ
مطاطية ، وعيناه وردتان ذابلتان .
تقدَّم عمران من أخيه
خميس ، ورَبَت على كتفه ، وقال له :
_ ارحم نَفْسَكَ يا خميس
. الحاجَّةُ ذهبت إلى رحمة ربِّها . وعلينا أن نحافظ على ذِكرى أُمِّنا .
وأردف قائلاً :
_ كنتُ قبل قليل أقول
لزهدي إن خميس أفضل واحد بين إخوته، فهو أكثرهم حناناً وأقربهم إلى المرحومة . ولم
يفارقها في حياتها ولا موتها . وأكيد هُوَ في الغرفة يتذكر أيامه مع المرحومة
ويُوَدِّعها بكل محبة .
ونظر عمران إلى وجه أخيه
زهدي ، وحدَّق فيه بقسوة قائلاً :
_ ألم يَحدث هذا يا زهدي
؟ .
اكتفى زهدي بهز رأسه
تصديقاً لكل ما قاله عمران .
قال خميس مخاطباً إخوته
:
_ سندفن المرحومة اليوم
بعد صلاة العِشاء . سيكون الناسُ قد عادوا من أعمالهم ، وسوف يصلِّي عليها جميع
سكان الجبل .
استغرب باقي إخوته هذا
الكلام . وقال عمران :
_ لماذا لا ننتظر إلى
غدٍ وندفنها في النهار ؟ .
_ إكرامُ الميت دفنه،
ولن أُؤخِّر دفن أمِّي . سندفنُ جثمانها الطاهر وهو ساخن. أم هل تنتظرون خروج
رائحة من جثمانها وتصبح فضيحة في كُلِّ الجبل ؟! .
ألقى خميس هذه الكلمات
وغادر المكان بسرعة من أجل تجهيز أمور الجنازة والدفن . ومع أنه أصغر إخوته إلا أن
كلماته في تلك الساعة كانت حاسمة ، ولا تقبل النقاش .
وبعد أن ذهب ، قال عمران
لأخوَيْه :
_ سأقطعُ يَدِي إن لم
تكن هناك وصيَّة للمرحومة . لا يمكن أن يقرر خميس دفنها ليلاً إلا تنفيذاً لوصية .
ولا أحد يَعرف ماذا في الوصية من الذهب والأموال التي كانت تخزِّنها المرحومة . على
أية حالٍ لا نقدر إلا أن نقول : اللهُ يرحمها .
وهنا تدخَّل سليم قائلاً
:
_ يا جَماعة، المرحومة
كانت أُمِّيةً لا تقرأ ولا تكتب، لا يوجد مالٌ ولا وصية.
ردَّ عليه عمران قائلاً
:
_ أنتَ وأخوك زهدي نَفْس
النُّسخة. مسكينان، القط يأكل عَشاءكما. فِعلاً ، هذه عائلة فاشلة تتوارث الفقرَ
والغباء . اللهُ يُخلِّصني منها بأسرع وقتٍ .
كان الصغير بسام يركض
باتجاه المقبرة المقابلة لمسجد طارق بن زياد . تسلَّق سورَها مثل الأفعى ، وقفز
إلى داخلها باحثاً عن شيءٍ ما . وفي إحدى الزوايا وَجد فايز ابنَ عمِّه ، فأسرع
إليه وهو يَلهث ، وعندما وصل عنده وقف هُنيهة يلتقط أنفاسه . نظر إليه فايز باستغراب
شديد ، وخبَّأ زجاجةَ الويسكي خلف ظَهره . ماذا يَفعل هذا الطفل هنا ؟ .
قال بسام ونبضات قلبه
تكاد تخلع ألواحَ صدره :
_ جَدَّتي سارة ماتت .
ألقى هذه القنبلة ، وعاد
أدراجه مثل جنيٍّ لا يمكن الإمساك به .
وقف فايز كالأبله ،
والذهول يحتل قسماتِ وجهه . وراح يضحك بشكل هستيري ، ثم أمسك بزجاجة الويسكي
المغلقة وأطلقها على الحائط كالرصاصة ، فانكسرت ، وانتشر الخمرُ على حشائش المقبرة
. كان المشهدُ أشبه بسدٍّ ضربته صاعقة فانهار وأغرقت المياهُ كل القرى المحيطة به .
لقد غابت الذكرياتُ من ذهنه كأن إعصاراً ابتلعها ، ولكنْ ذكرى واحدة برزت في تلك
اللحظة القاسية ، وهي كيف كانت جَدَّته توقظه من النوم بعُكَّازها بعد أن يفشل أهل
الدار في إيقاظه ! . كان توقظه رغمَ أنفه لئلا تفوته مواعيد الامتحانات في المدرسة
.
كان فايز عمران شاباً في
نهاية المرحلة الثانوية ، وقد كان معروفاً بأنه سِكِّير من الدرجة الأولى . ومن
هنا جاء لقبه " خمراوي " نسبةً إلى الخمر التي كان يعبُّها بصورة جنونية
. وكثيرٌ من الناس لا يعرفون أن اسمه " فايز " ، فقد تفوَّق لقبُه على
اسمه . وقد ذاع صيته بعد حادثة شهيرة . فقد زار مدرستَه مديرُ التعليم في المنطقة
برفقة وفد من المعلِّمين القُدامى. وأثناء تجواله في المدرسة للاطمئنان على سير
العملية التعليمية ، سأل بعض الطلاب عن مشكلاتهم وأحلامهم . وقد سأل المديرُ فايز
بدون معرفة مسبقة :
_ ما الذي تغيَّر في
حياتك عندما انتقلتَ من المرحلة الإعدادية إلى الثانوية ؟ .
ابتسم فايز كالأحمق ،
وسأل :
_ هل تريد الصراحة ؟ .
_ يا ابني ، المدرسة
بيتك الثاني ، وهي تُعلِّمنا الصدق والتعبير عن الرأي .
_ بصراحة ، لقد تغيَّر
مزاجي ، فصرت أشرب الويسكي بدلاً من البِيرة ! .
وقعت هذه الكلمات على
رأس المدير كالمطرقة ، واحمرَّ وجهُه ، وارتفع الزبدُ فوق شفتَيْه، ونظر إلى مَن
حَوْله كالطفل الخائف الذي يبحث عن أُمِّه . وقال بأعلى صوتٍ :
_ هل أنا في خَمَّارة أم
مدرسة محترمة ؟! . هذا الولدُ مكانه في الشارع وليس في المدرسة . سوف أُرَبِّيه
مثل كل الزعران الذين رَبَّيْتُهم في المنطقة .
وغادر مسرعاً ، وخلفه
الوفد التعليمي يحاول اللحاق به .
وحصلت ضجة هائلة ، ليس
في جبل النظيف وحده ، بل في البلد كلِّه . فقد فُصل فايز من المدرسة فصلاً
تأديبياً ، ومُنع من إكمال دراسته . وكاد والده يُطلِّق أُمَّه لأنه اتهمها بأنها
أفسدت الولدَ بالدلع والمال . وتبرَّأ منه أبوه ، وقال إنه سيقتله ويعتبره كلباً
ميتاً . وتدخَّل بعضُ الوجهاء للإصلاح بين الأب وابنه . واستغرب الناسُ حين علموا
أن فايز السِّكير هو شقيق الشيخ عبد الرحيم عمران . فالشيخ عبد الرحيم يحفظ القرآنَ
الكريم ، وهو من الدُّعاة الذين لهم وزن ، كما أنه يُلقي درساً أسبوعياً في المسجد
. ولكنْ هذه حال الدنيا ! .
وتناقلت قصةَ فايز وسائلُ
الإعلام المحلية والعالمية . وقال البعض إنه فاسق يجب جَلْده ، وتطبيق حَد شرب
الخمر عليه . والبعض الآخر اعتبر الأمر حرية شخصية . وتدخَّلت منظمات حقوق الإنسان
في القضية . واختلط الحابلُ بالنابل . حتى إن إحدى المجلات الأمريكية أجرت مقابلةً
مع فايز باعتباره مثالاً للشباب المتمرد في دول العالم الثالث، وسألوه أسئلة عديدة
لكشف شخصيته أمام الرأي العام ، لكن أكثر الأسئلة إحراجاً : هل أقام علاقاتٍ جنسية
مع النساء ؟ . وعندما يتذكر فايز هذا السؤال يضحك من كُلِّ قلبه ، فهؤلاء جاؤوا من
آخر الدنيا ليعرفوا هل له علاقات جنسية أم لا .
وقد أجاب بأنه لم يمارس الجنسَ مع أية امرأة،
لكنه حاولَ الاختباء في حفر المجاري ليرى النساءَ اللواتي يَمشين على الشارع،
خصوصاً اللواتي يَرتدين تنانير !. لكن محاولته باءت بالفشل . وقد كان يَذهب إلى
وسط البلد ليلةَ العيد للتحرش جنسياً بالنساء بسبب الازدحام الهائل . فالجميعُ
يريدون شراءَ ملابس العيد ، وهو كان يستغل هذه الفرصة التي لا تأتي كل يوم ! .
ومنذ ذلك الحين صار فايز شخصيةً معروفة . وقد
تلقى العُروض من الملاهي الليلية للاستفادة من خبرته وشهرته. لكنه أخبر أصحابَها
أنه يُفكِّر حالياً في دراسته، وكيفية العودة إلى المدرسة ، والملاهي الليلية لن
تطير ! . وقد عاد إلى مدرسته بسبب ضغط منظمات حقوق الإنسان .
انتشر خبرُ وفاة
الحاجَّة سارة في أنحاء جبل النظيف والمناطقِ المحيطة كانتشار النار في الهشيم ،
كما انتشر موعدُ صلاة الجنازة، وصار الناسُ يتوافدون على الجبل بكثافة من كل
ناحيةٍ . ومن المضحك المبكي أن نقول إن موتها قد ساهم في دعم الاقتصاد ، فقد ازدادت
حركة سيارات الأجرة ، وازداد الإقبال على المحلات التجارية ، وقامت محلات الأقمشة
بعَرْض أنواع أجنبية من ثياب الحِداد ، حتى إن الصيدليات باعت كمياتٍ هائلة من
المهدِّئات النفسية . ويقال إن بعض السُّياح الذين كانوا يتجولون في وسط البلد قد
جاؤوا إلى جبل النظيف للاطلاع على هذا الحدث الكبير ، ومعرفة الفلكلور الشعبي ،
ورؤية ماذا يحدث في الجنازات في هذه الأماكن البدائية . لقد كانت _ بالنسبة إليهم
_ فرصةً لا يمكن تعويضها . وبالطبع سيعودون إلى بلادهم حاملين الكثير من الحكايات
والصور التذكارية. وربما يقومون بكتابة خواطر فلسفية أو اجتماعية عن حياة الناس في
هذه البُقعة الضائعة . وقد يلتقطُ بعض العلماء هذه الأفكار ، ويصوغون منها نظرياتٍ
في العلوم الإنسانية .
تجمَّع الناسُ في صلاةِ العِشاء ، وبعد انتهاء
الصلاة . قام حفيدها الشيخ عبد الرحيم عمران بالصلاة عليها وخلفه جموع المصلِّين .
ثم حُملت على الأكتاف ، والناسُ يرددون عِبارة " لا إله إلا الله " . وعندما
خرج المصلون من المسجد حدث ما لم يكن بالحسبان ، فقد انقطع التيارُ الكهربائي عن
الجبل ، وصار الناسُ غارقين في الظلام ، وعمَّت الفوضى ، وارتفعت الأصوات . وهنا
تدخَّل عمران ( ابنها البِكر ) ، وقال :
_ يا ناسُ ، لِيُحْضر كلُّ واحد مصباحاً أو شمعة . نريد أن
تمضيَ هذه الليلة
على خيرٍ .
وانتشرت المصابيحُ
والشموعُ . وكان ضوءُ القمر يُظلِّل الناسَ السائرين إلى المقبرة .
وعلى الرغم من أن
المقبرة كانت مغلقة منذ سنواتٍ ، ولا مكان فيها لقبرٍ جديد ، إلا أن سكان الجبل
رَفضوا أن تُدفن الحاجَّة سارة إلا في تلك البُقعة . فهي _من وجهة نظرهم _ تراثٌ
قَوْمي يجب أن يظل موجوداً في جبل النظيف بأي ثمن .
وأظن أن حارس المقبرة قد
تدخَّل حينها ، فَقُلِعت إحدى شجرات الصنوبر ، ليحل مكانها القبرُ الجديد والأخير .
وبصراحة لا أدري هل تقاضى حارس المقبرة مبلغاً نظير هذا العمل ، أم أنه فعله
مجاناً . وفي كلا الحالتين فإن حارس المقبرة قَد تصرَّف فيما لا يَملك . ولكنْ في
هذا المكان لا أحد يُحاسِب أحداً .
وقفَ عمران عند قبر
أُمِّه ، وراح يُلقي بعض الكلمات التي بدت وكأنها جزء من خُطبة مُعدَّة سابقاً :
_ يا سُكَّان جبل النظيف،
إن المرحومة كانت من أولياء الله تعالى . وما انقطاع
الكهرباء إلا دليل على أن نور وجهها هو الذي يضيءُ المكان. ولأول
مرةٍ في تاريخ جبل النظيف تَسير جنازة على ضوء المصابيح ، وهذا يدل على تميُّز
المرحومة عن باقي الأموات . كما أنها دُفنت في مكانِ شجرة صنوبر ، وهذا لم يحصل
مسبقاً ، فالمرحومة عاشت مثل الشجرة ، وماتت مثل الشجرة . ويوم غَد سَيَظهر
نَعْيُها في أكبر جريدة في البلد . صفحةٌ كاملة في صفحة الوفيات باسم الحاجَّة
سارة .
لقد جمعَ عمران مالاً من
كل أفراد العائلة لنشر النعي في الجريدة. فهو يعتقد أن هذا الأمر سيُبرِز مكانةَ
العائلة ، ويَرفع اسمَ العشيرة بين باقي العشائر .
بدا كلام عمران وكأنه خُطبة
حماسية أو إعلان تجاري. وربما أراد استغلال هذه اللحظة من أجل إبراز عائلته ،
واختراع مكانة خاصة لها . وأدرك الكثيرون أن هذا الكلام لا يتلاءم مع موضوع الموت
، وطبيعة المكان . لذلك لَمَّا سمع الشيخُ نايف
رَيَّان إمام مسجد طارق بن زياد هذا الكلام ، قال :
_ إن أكرمكم عند الله
أتقاكم . وسبحان الذي قَهر عبادَه بالموت . والموتُ قد سَوَّى بين الناس ، فقد
تساوى الغنيُّ مع الفقير ، والعالِمُ مع الجاهل ، والذَّكر مع الأنثى .
دُفنت الحاجة سارة،
وأُهيل التراب عليها ، ووُضع شاهد القبر . وكان مكتوباً عليه: (( الفاتحة على روح
الحاجَّة سارة محمد عبد اللطيف أرملة المرحوم لطفي سعيد المخلوسي . إنَّا لله
وإنَّا إليه راجعون )) .
تفرَّق الناسُ وعادوا
إلى بيوتهم. وفي مساء ذلك اليوم جَمع خميس إخوته عمران وزهدي وسليم وأختهم الوحيدة
رسمية . وقال لهم بالحرف الواحد :
_ أُمُّنا تَركت خاتِماً
وعِقداً من الذهب ، وثلاث أساور فضة ، ومبلغ مئة وخمسة وعشرين ديناراً .
لم تَقدر رسمية أن تسيطر
على نفسها حينما سَمعت هذا الكلمات ، وراحت تبكي بحُرقة ، وقالت بصوتٍ مختلط
بالأسى :
_ أُمُّنا دُفنت قبل
قليلٍ ، ونحن نريد أن نَرِثَها .
قال خميس :
_ الدنيا فيها حياة وموت
. وأنا جمعتُكم لكيلا تقولوا إن خميس ضَحك على
أُمِّنا في حياتها ، وبَلع كلَّ شيء قبل وفاتها .
وفي تلك اللحظة قال
عمران واللهفة تقتلع عينيه :
_ حاشاكَ يا " أبو
بسام ". لكنْ بصراحة أنا أعرف أن أُمَّنا تملك أكثر مما قلتَ.
_ يعني أنا كذَّاب يا
" أبو عبد الرحيم " ؟! .
_ يا سيدي ، لا أنتَ
كذاب ولا أنا كذاب . وحقكَ عليَّ . وبالنسبة إِلَيَّ لا أريد شيئاً منكَ ولا من
أُمِّي . سامحتكما في الدنيا والآخرة .
وخرج عمران غاضباً، وأغلق
الباب خلفه بقسوة واضحة ، بحيث أزعج صوتُ
الباب جميعَ مَن كان في البيت .
وعندئذٍ قال سليم :
_ باللهِ عليك يا "
أبو بسام " غَيِّر الموضوعَ . لا نريد أن نخسر بعضَنا من أجل قِرْشين .
وانفضَّ المجلسُ ، وذهب
كل واحد إلى حال سبيله .
كان عمران يَسرد على
زوجته مديحة تفاصيل ما جرى في بيت خميس بشأن الميراث . فما كان منها إلا أن قالت :
_ يا عيب ! ، أخوك
الأصغر ضَحك عليك ، وخرجتَ من المولِد بلا حُمَّص . غداً سيبني أكبر فيلا في
عَمَّان الغربية بأموالك أنتَ وإخوتك. الحق عليَّ أني رضيتُ بزوجٍ مِثلك . ضيعتُ
شبابي من أجلك بلا نتيجة . ولكنْ لا يفيد الندم . بقي أبي _ الله يرحمه _ يقول لي : ظِلُّ رَجل ولا ظِل
حائط . ولم يَعرف أني تزوجتُ رَجلاً مثلَ الحائط .
_ يا امرأة ، كل يوم
أسمع نَفْس الموَّال . لقد مضى العمر. الذي ضَرب ضربته ضربها زمان ، ولا يمكن أن
يرجع الزمان . الفرصة لا تأتي إلا مرة واحدة ، إمَّا أن تستغلها أو راحت عليك .
_ يا عيني على هذه
الحِكَم ! ، لا آخذ منك إلا الكلام . قضيتَ حياتك بيَّاعَ
كلام يا فالح ! .
ثم ذهبت إلى تغيير
ملابسها ، وارتدت قميص نوم أحمر يبرز مفاتنها ، وجاءت تتمايل أمام زوجها المرهَق .
وعندما رآها زوجُها قال :
_ أستغفر اللهَ العظيم
وأتوب إليه . يا حُرمة استري على حالك . نحن في حالة وفاةٍ . خلِّي هذه الليلة تمر
على خيرٍ .
_ ومَن أين سيأتي الخير
؟! . تريد مني أن أدفن نفسي في الحياة ؟ . الذي يموت
مع السلامة .
تأفَّف زوجُها بصوتٍ
عالٍ ، وقال بعد أن أتعبه الجِدال :
_ أنا حمار لأني أناقش
امرأة جاهلة مِثلك .
واستلقى على السرير،
وغطَّى جسمه المنهَك باللحاف، وراح في سُباتٍ عميق.
أمَّا زوجته فذهبت لكي
تشاهد التلفاز ، وهي تكيل الشتائم في سِرِّها ، وتندب حظَّها .
وفي البيت المجاور كان
خميس يطمئن على صحة زوجته ، ويحدِّق في طفلته الجديدة . فهو لم يجد وقتاً في هذا
اليوم لممارسة دوره كأبٍ . حَمل طفلته بين يَدَيْه ، وشعر _ لأول مرة في حياته _
أنه يحب إنجابَ البنات ، وقال :
_ هذه سارة الجديدة .
لقد ماتت سارة ووُلدت سارة . لا أريد أن يختفيَ هذا الاسم من حياتنا .
وهكذا صار لخميس ثلاث
بنات : سارة وحورية وهند . بالإضافة إلى ابنه الوحيد بسام .
كان هذا اليوم من أطول
الأيام في حياة هذه العائلة . ويبدو أن هذا الليل لا يريد الانتهاءَ . فعند الساعة
الرابعة فجراً قُرع باب منزل عمران قرعاً عنيفاً . قام عمران من نومه كالمصروع،
وزوجته هبَّت من نومها غير قادرة على تمييز ما يجري.
فَتح عمران الباب فإذا
به أحد المسؤولين عن شبكة الكهرباء في المنطقة . تأفَّف
عمران ، وراح يلتقط أنفاسه بعد هذا الفيلم المرعِب .
وقال عمران وهو بين
الحياة والموت ، وعيناه مزروعتان بالقذى :
_ يخرب بيتك ، ألم تقدر
على الانتظار حتى الصباح ؟ .
أطلق المسؤول ضحكةً
صفراء كَشفت عن أسنانه التالفة ، وقال :
_ أنا أنتظر أي شيء إلا
المال . يجب أن أذهب إليه بسرعة لأنه يطير مثل الدخان .
ودخل عمران إلى منزله ،
وقال لزوجته التي كانت واقفة تسترق السمعَ :
_ أحضري عشرين ديناراً
بسرعة .
_ لن أحضر شيئاً حتى
تخبرني بقصة هذا الرَّجل .
_ هاتي المال الآن قبل
أن يفضحنا. فهو مستعد أن يبيع أباه من أجل رُبع دينارٍ، وسأخبرك بالقصة بعد أن
يغور في ستين داهية .
أخذ المسؤولُ المالَ
وعاد أدراجه . وتنفس عمران الصعداء لأن الموضوع انتهى على هذا النحو بدون انتباه
الجيران . لكن زوجته حاصرته بالأسئلة ولم تتركه . فما كان منه إلا أن قال :
_ لقد اتفقتُ مع هذا
المسؤول أن يقطع الكهرباء أثناء جنازة أُمِّي ، وذلك ليبدوَ المشهد غريباً يتناسب
مع مكانة عائلتنا ، فيتحدث الناسُ عن هذه الحادثة في كل مكان . وهكذا يصبح لنا وزن
بين العائلات ، وتشتهر قصتنا على كل لسان .
ومضى إلى النوم كأن
شيئاً لم يكن ، في حين أن زوجته بقيت واقفة غير مصدِّقة لما سمعتْه ، وقد طار
النومُ من عينيها ، ومضت تقول :
_ أنا متأكدة الآن أنني
أعيش مع رَجل مجنون ! .