الظواهر العقلية الإنسانية وتحليل التراث
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
...........
إن المجتمعات الإنسانية لا تُبنى على الوهم
والأهواء الشخصية ، وإنما تُبنى على الظواهر العقلية القادرة على صناعة نظام
التحولات الاجتماعية ، الذي يَنقل الأفكارَ المُتناثرة مِن الفوضى إلى النظام ،
ومِن الارتجالية إلى التخطيط . وهذا الحراك الفكري البَنَّاء يَصنع عَالَمًا
معرفيًّا مِن الحقائق الاجتماعية ، والتصوُّرات النَّفسية ، والسلوكيات الإنسانية
. الأمر الذي يُؤَدِّي بالضرورة إلى إنتاج لُغة جديدة في أنساق المجتمع ، تقوم على
الوَعْي والحوار الهادئ ، ولا تَقوم على التناحر والضجيج . وإذا نَجح المجتمعُ في ابتكار
لُغته المنطقية الخاصَّة بِه ، استطاعَ تَكوينَ شخصية اعتبارية لحاضره ومُستقبله ،
قائمة على غَرْبلة تُراث الماضي ، والتعامل معه بإنصاف، بدون تقديس أعمى، ولا
قَطيعة عِدائية . والتُّرَاثُ إسهامات بشرية تشتمل على الصواب والخطأ . واللغةُ
المجتمعيةُ المنطقية تتعامل مع التُّرَاث باعتباره نظامًا مِن المعارف والرموز
والبُنى الفكرية المُنعكسة عن الواقع المُعاش والبيئة المُحيطة ، وهذا البناء
التُّراثي المعرفي يَحتاج إلى أدوات فاحصة ، واختبارات عقلانية ، ومنهج نقدي
تحليلي ، للوقوف على مواطن القوة ، والاستفادة مِنها للانطلاق نَحْو المستقبل بلا
خَوف ولا قلق ، وللوقوف على مواطن الضعف ، وتجنُّبها ، وأخذ الدروس والعِبَر مِنها
لضمان عدم تكرارها .
وإذا أردنا بناءَ منظومة الاختبارات
المَوضوعية في تراكيب التُّراث ، فلا بُد مِن دراسة البُنية الاجتماعية كنسق مِن
التحولات المعرفية ، قائم بذاته، ومُنفتح على خصائص العواطف الإنسانية ، والأشواق
الروحية، والنَّزعات المادية، لأن التَّوفيق بين الرُّوح والمادة هو أساس التفاعل
الرمزي ، الذي يَصنع قوانينَ المجتمع العقلية ، ويُحدِّد طبيعةَ مساره
المنطقي.وإذا اتَّحدت الظواهرُ العقلية معَ الأنظمة الاجتماعية المنطقية، تشكَّلت
الكَينونةُ الاجتماعية الاعتبارية ، التي تتجلَّى في وُجود مجتمع حَي وحُر وذي
شخصية مُستقلة . وهذه العناصر الوُجودية ضرورية لتكوين جوهر الحقائق الاجتماعية،
الذي يقوم على الأدلة والبراهين، ولا يتأثَّر بالمصالح الشخصية الضَّيقة ،
والمُحاولاتِ المُغرِضة لإعادة إنتاج الإنسانية كأيديولوجية عنيفة تُعادي وُجودَ
الإنسان .
ووظيفةُ المجتمع المُتصالح مع نفْسه، والمُتحرِّر
مِن الخَوف والقلق،هي تحريرُ الإنسان مِن المعاني الزائفة، والوجودِ الوهمي ،
والمُسلَّماتِ الافتراضية غير المنطقية ، ودفعُ الإنسان باتِّجاه قيم التسامح بلا
ضَعف ، وهذا يَمنع الإنسانَ مِن التَّحَوُّل إلى ذِئب لأخيه الإنسان .
والإنسانيةُ تعني قَتْلَ الوحش داخل الإنسان
، واجتثاث هِستيريا التَّوَحُّش مِن الوَعْي السلبي، والشُّعورِ العنيف،
والإفرازاتِ المُسيَّسة الصِّدامية للتاريخ والجُغرافيا. ولا تَعني الإنسانيةُ قَتْلَ
الحضارة ، وتدميرَ المَدنية ، وتَدجينَ الإنسان.وكُلَّما ابتعدت الحضارةُ عن الدم
والجماجم واستغلال الآخرين ، اقتربَ الإنسانُ مِن معنى الوجود ومركزية الوَعْي . وهذا
يُساهم في اكتشافِ الإنسان لإنسانيته ، والتصالحِ مَعَ نفْسه ، وإيجادِ حالة مِن
الوئام بين مُكوِّناته الروحية والمادية ، وتجذيرِ السلام بين اللفظ والمعنى داخل
أفكاره المنطقية وعناصرِ لُغته الاجتماعية .