رواية جبل النظيف / الفصل الرابع
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
.............
كان فايز عمران ( خمراوي ) جالساً أمام قبر
جَدَّته، يحدِّق في أبعاد شاهد القبر، يقيس زواياه بالفراشاتِ الذبيحة . صارت هذه
البُقعة هي تاريخه الشخصي . ومنذ وفاة جَدَّته لم يشرب أية قطرة من الخمر. لقد
عَيَّن نَفْسَه حارساً لقبرها. وقد صارت لديه عادات غريبة . فمثلاً عندما يأتي إلى
المقبرة يدق على سورها المتهالك كأنه يستأذن قبل الدخول. وإذا جاء صباحاً فإنه يقف
على السُّور ، ويؤدي التحيةَ العسكرية للشمس ، وإذا جاء مساءً يؤدِّيها للقمر.
وعندما يدخل في عوالم المقبرة يبكي عند الأعشاب الطالعة بين القبور .
ولم تكن حياةُ فايز في المقبرة وعاداته الغريبة
تجذب انتباه الناس لأنهم تعوَّدوا على غرابة أطواره ، فلم تعد غريبة بالنسبة إليهم
. وهم _ أصلاً _ يَعتبرون " فايز" خارجاً على كل القوانين . لذلك أسقطوه
من حساباتهم ، حتى عائلته التي حاولت إصلاحه بكل الطرق قد غَسلت يدها منها ، لأنها
قَرفت من تصرفاته . وبسبب ذلك تُرك هائماً على وجهه يَفعل ما يَريد ، وصار متمتعاً
بحُكم ذاتي . فالناسُ ملُّوا منه ، وتعبوا من حكاياته التي لا تنتهي .
لكنَّ شخصاً واحداً كان
مهتماً بفايز . إنه حارس المقبرة . هذا العجوزُ الذي رماه أبناؤه في بيت المسنِّين
ثم هرب منه . ومنذ ذلك الحين صارت المقبرةُ بيتَه الأول والأخير. إنه يعيش في إحدى
زوايا المقبرة في غرفة متهالكة . ويعيش على الصدقاتِ من أهالي الجبل .
وبصراحة ، لا يوجد شيء
ليحرسه . فهذا الصمتُ الموحش الذي يفرض سُلطته على هواء المكان يَحرس الجميعَ . والموتى
على وِفاق تام مع بعضهم لا مشكلات بينهم ! . ولا داعي لحراسةِ الأموات من الأموات
! .
أحضر حارسُ المقبرة
إبريقَ الشاي ، وتقدَّم بخطوات متعَبة كخطوات ديناصور ذاهب إلى الانقراض . لم
ينتبه فايز إلى وقع الخطوات الهامس لأنه كان غارقاً في تأملاته ، ويُغطِّي وجهَه
بيدَيْه كأنه يستعيد تاريخَ الحضارات الغابرة من الألف إلى الياء .
اقترب منه حارسُ المقبرة
، وقال بصوت خافت :
_ فايز ، استيقظ يا فايز
.
شعر فايز للوهلة الأولى
أن الصوت قادم من باطن الأرض، من جثث الأموات. إنه صوت ذابل مزدحم بالحزن
والانكسار . صوتٌ مِثْلُ حصانٍ هزيل يجرُّ عربةَ نقل المحكومين بالإعدام .
أخرج فايز وجهَه من غبار
الذاكرة ، ونظر حَوْله ، فإذا حارس المقبرة واقفاً كبقايا شجرة ضَرَبَتْها صاعقةٌ
مفاجئة. بدا فايز في تلك اللحظة كشبحٍ لا تاريخ له . وجد صعوبةً في التحكم بأعصابه
، لكنه تمالك نَفْسَه وابتسم . كانت ابتسامته تلك تُشبه ابتسامةً وَدَاعيةً لرَجل
يحتضر .
قال حارسُ المقبرة وقد
تهللت أساريره :
_ تعال اشرب شاياً ..
أفضل من الويسكي ! .
هزَّ فايز رأسَه موافقاً
على هذا الكلام ، وراح الاثنان يشربان الشاي ، وحَوْلهما طيور الاحتضار المهاجرة
من الذاكرة إلى الألم . انتشر السكوتُ بينهما ، فلم يجدا حروفاً تحمل خواطرَهما ،
لذا صارت عيونهما أبجديةً جديدة ، ووسيلة للتخاطب .
وفي زحمة الصمتِ ، قال
فايز بشكل مباغِت :
_ قررتُ أن أُنشئ
مشروعاً خاصاً بي .
فوجئ الحارسُ من هذا
الكلام ، وقال ضاحكاً :
_ هذا الكلامُ كبير عليك
. انتظر حتى تتخرج من الجامعة ، وبعد ذلك تُحقِّق أحلامك .
نظر فايز باتجاه إحدى
زوايا المقبرة ، وأشار إليها بالسَّبابة ، وقال بنبرةٍ حاملة للتحدي والإصرار :
_ في تلك الزاوية سوف
أُؤسِّس مملكتي الخاصة . سوفَ أُولَد من جديد ، سألدُ نَفْسي بنفْسي . أنا رئيسُ
مجلس قيادة ثورة المقبرة . أنا رئيسُ مجلس إدارة المقبرة . سوف تثورُ القبور ،
ويَخرج الأمواتُ .
ارتبك الحارس ، وأُصيب
بالدهشة رغم معرفته المسبقة بغرابة أطوار فايز ، وقال بصوتٍ حاد :
_ هل رجعتَ إلى شرب
الخمر يا فايز ؟! . أنتَ مستيقظ أم سكران ؟! .
_ هذه أكثر لحظات حياتي
يقظةً وتركيزاً . لقد عَيَّنْتُ نَفْسي قبراً جَوَّالاً بين القبور ، مثلما
عَيَّنْتَ نَفْسك حارساً للمقبرة دون وثائق . المقبرةُ تتمتع بحُكم ذاتي ، وهي
المكان الوحيد في العالَم الذي لا يوجد فيه بيروقراطية .
ولمعت عينا فايز بصورة
غريبة كأنه يرقب قدومَ شيءٍ ما مِن أسمنتِ الحلم ، أو يُلبِّي نداءً قديماً تفجَّر
في داخله ، وتشظى على حشائش الانطفاء . وقال بحماسة شرسة :
_ لن أشرب الخمرَ بعد
اليوم . حياتي الجديدة تحتاج تركيزاً هائلاً . سوف أَجمعُ العناصرَ الخارجة على
قانون القبيلة، وأَصنع حياةَ البشرية من قلب الموت . سأُدخل المنبوذين في تاريخ
الحضارة ، وأُحوِّل الأسمنتَ المفكَّك إلى مشاعر لا تتفكك . سَيَفْتخر جبلُ النظيف
بابنه القاتلِ المقتول .
ارتجف الحارسُ . وتفشَّت
في جسده زلازل تُحطِّم نَفْسَها . وفي تلك اللحظة الرهيبة شعر الحارسُ بخوفٍ متأجج
. كان يظن أنه يَعرف فايز وعاداته الغريبة ، ولا مكان لعنصر المفاجأة ، لكنه فوجئ
بالفعل ، وأحس أنه أمام وحش قاتل يستدرج ضحاياه إلى النهاية الحتمية . وما زاد
خوفَه هو ذلك الإصرار العجيب الذي كان يلتهب في عيون فايز .