رواية جبل النظيف / الفصل الثاني
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
.............
حلماً قاسياً كان الصدى الكُحلي . زهرةً
مسمومة كان الجرحُ . نادت على ابنتها الصغيرةِ :
_ أسرعي، نريد أن نحجز مكاناً
.
كَوَّمَتْ البنتُ
صُرَّةً بعد أن وضعت فيها مجموعةً من الأحذية الملمَّعة بصورة عشوائية . وقد كانت
الصرةُ ثقيلةً بعض الشيء فلم تتمكن الصغيرة من حملها . فهبت الأم المصابةُ بالسُّكري
إلى مساعدتها . وراحت خطواتُ الطفلةِ تتهادى على رقعة اللهب ، وتتقدمُ الأحزانُ
كما لو أن نورساً يزحفُ على بطنه .
أنثى ضئيلة الحجم تمسك بثوبِ والدتها
البدينة ليس من كثرة الأكل ، وإنما من كثرة الأمراضِ ، وتسيران محمَّلتَيْن بآثار الوقتِ القاسية . عليهما اجتيازُ الأزقة المتداخلة في الحارات الضيقة كي تصلا إلى السوق .
_ يا إلهي . الطريقُ
طويلٌ .
قالت الصغيرةُ وعلامات التعب تنهشها . وما تلقَّت
أي جوابٍ سوى صمتٍ مغلَّفٍ بالدهشة .
الدروب تتكرر كل مرةٍ . لا جديد غير أوحالٍ
ونفاياتٍ مكدَّسةٍ تناساها عمالُ النظافة ليعودوا إلى جحورهم تحت الأرضِ مُبكرين .
لو مشتا في الشارع الرئيسي فهذا يعني إمكانية السقوط ضحية إغراءات سيارات التاكسي
، وبالتالي عجزٌ في الميزانية، وعودةٌ بأيدٍ فارغة . إنهما تمشيان نحو اللاهدف تحت
شمسِ الاحتضار .
كان هذا المشهدُ بالضبط
ما رأته رسمية في منامها ، أو ربما كانت أحلام يقظة . هي نفسها لم تعد تعرف طبيعة
الأفكار التي تراودها. لكنها تأكدت أنها شَاهدت حُلماً . العَرَقُ يخنقها ويفيضُ
على تضاريس جسمها المتآكل ، والقشعريرة تبتلع أعضاءها حجراً حجراً . وقد صار
ريقُها مستنقعاً جافاً . وفي تلك اللحظات الرهيبة شَعرت بأنها وحيدة في الفراغ رغم
أن زوجها كان نائماً إلى جانبها ، لكن شخيره المرعب زاد من وحدتها ووحشتها .
ومنذ وفاة الحاجَّة سارة
لم تذق ابنتها رسمية طَعم النوم . صارت حياتها أقرب إلى الهلوسة . يقتحم ذهنَها أفكارٌ لا منطقية، وأحلامٌ مختلطة
بذكريات قديمة . هجم عليها الأرقُ والكوابيس دون إنذار مسبق . كأنها قَد وَضعت قَدَمَها
على طريق الجنون الطويل .
أحياناً تتفقد جسمَها
لتتأكد هل هي موجودة في هذا العالَم أم لا. تتحسس أعضاءها لتطمئن أن جسدها كامل لا
ينقصه شيء ! . وهي تقاتل نفسَها من أجل إخفاء هذه الحالة عن زوجها ، فقد يظن أنها
مجنونة فيبحث عن زوجة أخرى . وفي هذه الحالة تكون رسمية قد خَسرت أُمَّها وزوجها
معاً. وهذا ما لا تريده، ولا تحب أن يخطر في بالها. والحيُّ أبقى من الميت !.