رواية جبل النظيف / الفصل الثالث
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
.............
في الصباح ، بدت الأشياء غريبةً . كُسر
الروتين الحياتي . انتهى الملل . مذاقُ الضوضاء جديد هذه المرة . ما الذي حصل ؟.
باعةُ الخضار في ساحة المسجد تركوا صناديق الخِيار والبندورة مصفوفةً كالتوابيت .
والناسُ يتجمهرون كأنهم في عُرس أو في خيمة سيرك .
كان هناك سيارة مرسيدس تشقُّ أجفانَ الأكسجين .
تجمَّع الناسُ حولها كالجوعى الذي اكتشفوا كِسرةَ خبز . وراح الأطفالُ يهتفون
ويُصفِّقون كأنهم في عُرس . وفي الواقع إن مرور سيارة مرسيدس في هذا المكان يُعتبر
عُرساً يصعب تكراره .
وَجد قَيْس زهدي صعوبةً
بالغة في النزول من السيارة . ولولا مساعدة الناس لبقيَ سجيناً في سيارته الفارهة
. أخذ الناسُ يُسلِّمون عليه ويُقبِّلونه بعنف . وهو يحاول جاهداً أن يمسح عن
خدوده آثارَ القُبلات الممتلئة برائحة بقايا الطعام والتبغ الرخيص . وبدأ الأطفال
يتسلقون إطاراتِ السيارة التي كانت في عيونهم لعبةٌ كبيرة بحاجة إلى تفكيك . وقد
تسابق الحضور إلى حمل حقائبه إلى بيت والده الحاج زهدي المخلوسي .
وقف محمود بائع الخضار على
الرصيف مراقِباً هذا المشهد، ومبتسماً بسخرية ، وقال لأحد الواقفين بجانبه :
_ سُبحان مُغيِّر
الأحوال. هذا الأزعر قَيس قضى حياته مثل الكلب المسعور في شوارع جبل النظيف. صَدِّقْني لم يكن يملك مالاً لِيَحْلِق. والآن
صار فوق الريح مثل أولاد الوزراء .
_ يا محمود ، الدنيا
حظوظ ، وكل شيء نصيب . أنا أعرف قيس منذ كان ولداً على أبواب مدارس البنات ،
ويتعاطى حبوب هلوسة. لكنْ كل شيء تغيَّر بعد ذهابه إلى أمريكا . أكيد أخذ الجَملَ
بما حَمَل .
_ هذا الولدُ حظه يفلق
الصخرَ. وسأقطع يَدِي إن لم يكن لصاً سَرَق الأمريكان وجاء يُمثِّل دورَ الشريف .
الذي ما له حظ لا يتعب ولا يشقى .
وصل قيس إلى البيت . قرع
الجرسَ بعنفٍ يدل على شدة حماسه ، وشوقه إلى لقاء أهله . ذهبت أُمُّه لكي تفتح
البابَ منزعجةً من صوت الجرس . وكانت تصرخ في طريقها إلى الباب :
_ يَخرب بيتك ..
خَرَّبْتَ الجرسَ .. انتظر قليلاً .. لن تطير الدنيا ! .
وعندما فَتحت البابَ ،
ورأت ابنها الذي كان مسافراً وراء البِحار ، ذاب غضبُها في بحر المفاجأة ، ووقفت
مكانها كالصنم لا تَعرف ماذا تفعل . وواصلت التحديقَ في عيون ابنها . وفي تلك
اللحظة الخاطفة تحوَّلت حياتها إلى شريط سينمائي يتحرَّك في ذهنها المشوَّش الغارق
في الصدمة. ارتمى ابنها في أحضانها ، وأخذ الاثنان يبكيان بحرقة كأنهما يستعيدان
تاريخهما المشترك . وتجمَّع أهلُ الدار كالمجانين الذين أُفرج عنهم . وقد أفسد
اللقاءَ طلبُ حاملي الحقائب للأجرة . وبعد أن أخذوها صاروا يَدْعون له بالتوفيق والرزق
الواسع. ومضوا يتحسسون أموالهم ، وفي عيونهم يختلط الفرح بالألم .
وفي المساء تجمَّعت
العائلةُ على العَشاء . تكاثرت الصحونُ على المائدة ، وعَلَت أصواتُ الملاعق ،
وارتفعت الضحكاتُ في الهواء . انطلقت الضحكاتُ من قيعان قلوبهم ، كأنهم لم يَضحكوا
منذ قرون .
قال الحاج زهدي :
_ اسمعْ يا قيس. يكفينا
غُربة. من الآن فصاعداً أريدك أن تنسى أمريكا. سوف
تجلس في بلدك مع أهلك، ونجد لك ابنة حلال تتزوَّجها، وترتاح من
السَّفر ، وتفتح مشروعاً على قَدْر فُلوسك . وكان اللهُ بالسر عليماً .
هزَّت والدته رأسَها
مؤيِّدة لكلام زوجها على غير عادتها ، وقالت :
_ كلام أبيك صحيح يا قيس
. الذين في مثل عمرك صار لديهم أولاد وبنات. ما فائدة المال إذا عمرك راح بدون زوجة وذرية ؟! .
قال قيس ساخراً :
_ صحيحٌ أنا قيس ، ولكنْ
يا حسرة ، لا توجد ليلى ! .
قالت أمُّه وقد سيطرت
عليها الحماسة :
_ فَشرت عين ليلى .
اتركْ ليلى .. ابنة عمِّك هند مَلِكة جَمال ، ومؤدبة ، والقط يأكل عشاءها .
والبنتُ منَّا وفِينا ، نَعرف أصلَها وفصلَها . وابنُ العَم يُنزل ابنةَ عمِّه عن
ظَهر الفَرس .
_ هند ؟! . هذه طفلة
تلعب في الشَّارع . ولا أريد أن أُنزل أحداً عن ظَهر الفَرس ولا ظَهر الجَمل .
_ هند التي لا تعجبك
صارت أطول منك ! . كانت طفلة أيام زمان ، والآن امرأة كاملة ، الله يَحرسها .
واشكر ربَّكَ إذا وافقتْ عليك . معذور يا مسكين ، ضائع في بلاد الغُربة ولا تدري
عن العالَم .
وأردفت قائلةً :
_ اسمعْ يا وَلد ،
إيَّاك أن تكون قد وَضعتَ عَينك على امرأة أمريكية ، وضَحكت عليك صاحبات الشَّعر
الأشقر والعيون الزرقاء.صَدِّقْني لولا وفاة جَدَّتك سارة لزوَّجناك الآن .
نظر قيس حَوْله كالمصروع
، وقال بأعلى صوته :
_ جَدَّتي سارة ماتت ؟!
.
نظر أبوه إلى أُمِّه
مندهشاً ، ثم حدَّق في وجه ابنه قائلاً :
_ ألا تعرف أنها ماتت ؟!
.
_ لم يخبرني أحد .
_ ظننَّا أنك جئتَ من
أمريكا بسبب وفاتها .
وساد صمتٌ رهيب في أرجاء
المكان . لم يعودوا يَعرفون وجوهَهم . هذه الأجسادُ التي تحملهم الآن ، هي ذاتها التي وُلدوا بها أم أنها
معدَّلة وراثياً لتصبح ظلالاً للذعر . ارتبكتْ أجفانهم . شَعروا أن أحزانَهم الدفينة
لن ترحمهم . رَكبوا في أدغال الدهشة . لقاءٌ هو أم فِراقٌ ؟. فقدوا القدرةَ على
الكلامِ. تمكَّن الصَّمتُ منهم . أنهارٌ مُهاجِرة سَكنت في غُربة اليمامِ المقتول.
دقائق مَرَّت أم قرونٌ من الحرقة واللهيب؟. لم تدمع عيونهم عندئذٍ. سافرت الدموعُ
. خشبُ الأثاتِ ألغى ألوانَهم .
صار الحلمُ بجعةً ذبيحة
بين أعضائها آلاف السدود . شعرَ قيس أن جمجمته ستقع على الأرض ، فوضع يديه
الاثنتين عليها . أراد تثبيتها أو الإمساك بها قبل الوقوع . تصاعدت الأوهامُ من كل
مكان . كان يرى أخْيلةً تُحيطُ به ، أخيلة مسمومة تنهشه من كل جانب ، شعر بأسهم
منطلقة نحوه تسعى إلى اصطياده، وهو يغرقُ ويغرقُ . الصراخ يعلو في ذهنه، والوساوس
تخبطه وتحاصره ، وكلما حاول الخلاص منها تشبَّثت به أكثر وأكثر . صار يفكر هل عيناه
تدوران كالرحى في المدارات المسدودة مع عقارب الساعة أو ضدها . صار مقتنعاً أكثر
من أي وقتٍ سابقٍ أنه راكضٌ في الدمار الخالصِ ، وأن الدمار تَوَّجه مَلِكاً على
الركام .
أحزانه حقول زرنيخ عابسة
تَقْطر دُخاناً مجنوناً . عضلاتُ وجهه انفتاح فَكَّي كمَّاشة صدئة لا تغتسل إلا في
مستنقع الدمع . مشاعره استسلامُ أغصان أمام الإعصار النحاسي . اغرورقت عيناه
بالدمع المالح . وفي تلك اللحظات الغريبة صار كالطفل المذعور. جِلْدُه براري
متعفِّنة ينبعث الدودُ من زواياها ، ونكهةُ الماضي في شَعره المتجعِّد حكايةٌ
انتهت قبل أن تبدأ . أراه يصطبغ بعقارب ساعة تحيط بمعصم فراشةٍ مقطوع جرَّاء زلزال
قديم مَرَّ مِن هنا ، أي من هناك . هكذا تَفْقد الجهاتُ معناها ، وتصبح إبرةُ
بوصلةِ الذكرياتِ تفاحةً مأكولة .