قدرة الشعور على توليد الزمان وصناعة المكان
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
...............
إن التحليل الاجتماعي للعناصر النفسية
المُتحركة في داخل الإنسان ، يُلغي الفرقَ بين العَالَم الواقعي والعَالَم
الافتراضي، ويُوحِّد الزمانَ والمكانَ في سياق فكري واحد ، لأن الإنسان لا يتحرَّك
في الحياة وفق مسار خَطِّي بسيط ، وإنَّما يتحرَّك في مسارات مُتشعِّبة معنويًّا
وماديًّا ، وينتقل عبر أطوار معرفية مُعقَّدة ، كما أن مشاعره لَيست كُتلةً محدودة
ومُتجانسة ، وإنَّما كُتَل كثيرة مُتعدِّدة ومُتناقضة . وكثيرٌ مِن الناس يَعيشون
ويَموتون، وهُم لا يَعرِفون ما يُريدون. ويَأتون إلى هذه الحياة، ويَخرجون مِنها،
وهُم لا يَعرِفون الهدف مِن وُجودهم ، ولا يُدرِكون طبيعة مسارهم ومصيرهم . وهذا
يدل بوضوح على أن النَّفْس الإنسانية كيان في غاية التعقيد ، ومُتشابك مع عناصر
الحياة بكل تناقضاتها وتقلُّباتها .
وكما أن الوجود الإنسان مُوزَّع بين الضحك
والبُكاء،والحُب والكراهية، والفَوز والخسارة، والنصر والهزيمة، والحياة والموت،
كذلك حالته النَّفْسية مُوزَّعة بين الأضداد، ومُنقسمة بين التناقضات ، بسبب
الصراع الإنساني الداخلي بين الحُلم والقُدرة على تحقيقه، والصِّدام بين الرغبة
وإرادة تنفيذها. وبُنية الصراع تعني بالضرورة وُجود شظايا فكرية ، وانبعاثات
معرفية يَصعب السَّيطرة عليها ، لأن بُنية الصراع في داخل الإنسان لا تقع تحت
سيطرته ونفوذه، ولا يَملِك القُدرة على التحكم بها ، وتوجيه مسارها . تمامًا
كالحرب ، يَستطيع الإنسانُ أن يُحدِّد موعدَ بدايتها ، ولكنَّه لا يَستطيع أن
يَتحكَّم بمسارها ، ولا يَقْدِر على تحديد موعد نهايتها ، لأنَّ هناك تفاصيل كثيرة
، ومُفاجآت غَير مُتوقَّعة ، وأحداثًا مُتجدِّدة ، لم تَكن في الحُسبان . وكما
يُقال : الشَّيطان كامن في التفاصيل . والإنسانُ قد يَرمي عُود ثِقاب مُشتعلًا في
غابة مِن الأشجار بسهولة ، ولكنَّه لا يَستطيع أن يَعرِف مدى الحريق وانتشار النار
التي ستأكل الأخضرَ واليابس .
والحروبُ التي يَخوضها الإنسان في داخله ،
والمعارك التي يَخوضها بينه وبين نفْسه ، لا يُمكن التَّنَبُّؤ باتِّجاهها ، ولا
معرفة حركتها ، لأن الإنسان في هذه الحالة يَكون مَحصورًا في زاوية رَد الفِعل لا
الفِعل ، ويَكون في إطار المفعول به لا الفاعل . لذلك ، تَخضع سلوكياتُ الناس
الاجتماعية ، وتصرُّفاتهم في الحياة ، لمشاعرهم العميقة ، وأحاسيسهم الدَّفينة ،
ومُشكلاتهم النَّفسية التي سَيطرت على اللاوَعْي مُنذ طُفولتهم ، والماضي لا
يَمضي، وطُفولةُ الإنسان_ بأفراحها وأحزانها _ تنتقل مع الإنسان في كُل مراحل
وجوده رَغْمًا عنه . والإنسانُ لا يَقْدِر على تجاوُز مرحلة الطفولة مهما بَلَغَ
مِن العُمر ، لأنَّها راسخة في تفاصيل كيانه وأعماق وجدانه . ومَن يَعتقد أنَّ
بإمكانه تجاوز مرحلة الطفولة ، كَمَن يَعتقد أن بإمكانه خَلْع جِلْده ووجهه ،
والعَيش بجِلْد جديد وقِناع مُستعار . والشُّعورُ الإنساني العميق يُكَوِّن
زَمَنَه الخاصَّ به ، لِكَيْلا يَقفز الإنسان في الفراغ .
والمراحل الزمنية في حياة الإنسان ( الماضي
، الحاضر ، المُستقبل ) تُشبِه الحواجزَ العسكرية في الطريق، فهذه الحواجز موجودة،
والإنسان مُجبَر على التَّوَقُّف أمامها، ولكنَّها لا تُغيِّر شيئًا في طبيعة
الطريق ، ولا تُبدِّل اتجاهه. والطريق جَوهر ثابت، والحواجز أعراض زائلة، وسَوْفَ
تَختفي الحواجزُ يَوْمًا ما، ويظل الطريقُ كما هُوَ . وهذا يعني ضرورة التركيز على
الطريق ، لأنَّه الثابت في عَالَم التَّحَوُّلات .
وحياةُ الإنسان هي طريقه الأساسي الثابت ،
أمَّا الواقع والخيال ، فهُما عُنصران مُتغيِّران ، وخاضعان للتأثيرات الروحية
والمادية . وجَوهرُ الوُجود الإنساني واحدٌ في العَالَم الواقعي والعَالَم الافتراضي
، لذلك ينبغي التركيز على هذا الجَوهر ، لأنَّه الطريق الرئيسي ، وعدم إضاعة الوقت
في الطُّرُق الجانبية والشوارع الخلفية .
وتحليلُ الوجود الإنساني لا يتأتَّى إلا
بإزالة الفرق بين العَالَم الواقعي والعَالَم الافتراضي ، كَي يَرى الإنسانُ
وَجْهَه في المِرْآة، بدون مِكياج ولا إضاءة خادعة ، ولا مُؤثِّرات خارجية .
وقُوَّةُ الإنسان الحقيقية تَنبع مِن ذاته ، وتنبعث مِن أعماقه ، ولا تُسْتَمَدُّ
مِن عناصر دخيلة ، أو إسناد خارجي .
وكما أن الإنسان لا يَقْدِر على رؤية جسده
إلا إذا خَلَعَ ثِيَابَه ، كذلك لا يَقْدِر على رؤية قُوَّته الحقيقية وإمكانياته
الفِعلية ، إلا إذا خَلَعَ أقنعته ، وتخلَّصَ مِن عناصر الإسناد الخارجية ،
واعتبرَ العَالَمَ الواقعي والعَالَمَ الافتراضي شيئًا واحدًا ، واعتبرَ الزمانَ
والمكانَ شيئًا واحدًا ، لأنَّ العِبرة لَيست في عناصر البيئة المُحيطة بالإنسان ،
وإنَّما في ذات الإنسان باعتباره كيانًا قائمًا بذاته ، يتمتَّع بالسُّلطة
الاعتبارية ، وشرعيةُ حياته مُستمدة مِن حياته ، وغَير مُستمدة مِن العناصر
الخارجية . والإنسانُ قد يَشعر بالفَرَح في العَالَم الافتراضي ، كما يَشعر به في
العَالَم الواقعي، والنائم قد يَجِد لَذَّةً في مَنامه ، كما يَجِدها الشخص
المُستيقظ في الواقع ، مِمَّا يدل على أن الشعور الإنساني هو الأساس ، وليس البيئة
.
وكثيرٌ مِن الناس يَشعرون بغُربة بين أهلهم
وفي وطنهم ، مِمَّا يدل على أن الغُربة الحقيقية هي غُربة الرُّوح لا غُربة المكان
. وكثيرٌ مِن الناس يَشعرون بأحلام الطفولة في مرحلة الشَّيخوخة ، وكَم مِن عَجُوز
يَشعر بوجود طِفل صغير في أعماقه ، مِمَّا يدل على أن الزمان الحقيقي هو ما
يُفْرِزه الشُّعور الإنساني ، وليس ما يُفْرِزه مُرور السنوات . وهذه الأمثلةُ
تُشير بوضوح إلى أن الإنسان كيان قائم بذاته ، ومُستقل بوجوده وأحلامه عن العَالَم
الواقعي والعَالَم الافتراضي والزمان والمكان ، وأنَّ هذه المفاهيم مُجرَّد عناصر
تابعة للشُّعور الإنساني الداخلي ، الذي يُمثِّل التَّجسيد الحقيقي لمعنى الوجود
الإنساني وشَرْعيته وماهيته .
والمشكلةُ أن البَشَر المَحصورين ضِمن
الأنظمة الاستهلاكية المُغْلَقَة ، يَبحثون عن السعادة في العناصر الخارجية ، ولا
يُدْرِكُون أن السعادة كامنة في ذَوَاتهم وأعماقهم ، ولكنَّها تحتاج إلى عملية
تَنقيب وغَوص في الأعماق ، كما يُنقِّب عُمَّال المناجم عن الذهب في التُّراب ،
وكما يَغُوص الصَّياد في أعماق البحر للحُصول على اللؤلؤ .
وبشكل عام ، ينبغي على الإنسان أن يكون
كالشمس لا القمر ، لأن نُور الشمس ذاتي وأصلي ، أمَّا نُور القمر فهو مُستمد مِن
نُور الشمس . وقُوَّةُ الإنسان تتجلَّى في القُدرة على الاستغناء لا الامتلاك ،
وكُل شَيء تَمْلِكه فهو يَمْلِكُك بصورة أو بأُخرى . والغنيُّ هو المُستغني .
والدَّوْلَةُ ( الكيان السياسي ) لا تَمِلك قرارها وسِيادتها إلا إذا كانت قائمة
بنفْسها ، ومُكتفية ذاتيًّا ، وكذلك الإنسان . والخُضوع بقَدْر الحاجة ، ومَن
احتاجَ إلى شيء ، كان فقيرًا إلَيه ، وخاضعًا لشروطه .