والبراري الصاعقةُ تنام في عيون الرياح الموسمية . سَقَطَت الموانئُ ضَحِيَّةً للشَّخير . أنفاسُ خَفَّاشٍ قديم يلبس النسرَ ويضرب جذورَه في أرض ترفضه .
كانت وجوهٌ موحشة ترتسم في منام الضوء . وجوه تشبه إلى حد بعيد وجوه القاتلين الذين قتلوا ضوءَ الأنثى . رآها منقوعةً في زجاجة دم . لقد احترقتْ عناصرُ ذاته ، وتصاعد الدخانُ منها إلى أن أطبق على رئتيه اللتين بَدَتَا كتفاحتين نخرتهما أوبئةٌ مجهولة .
كان الوضعُ موغلاً في المأساة على جميع الأصعدة ، وغارقاً في النزيف اللامرئي الذي يضطهدُّ المشاعرَ الحقيقية ويكبتها بعنف واضح. لستُ أدري ماذا ستفعل النوارس في هذه الشطآن الموبوءة. لقد صار مستقبلُها جزءاً من الماضي العاري من الذكريات .
كان النزيفُ غاطساً في دُوار شرس . شعر أن وحشاً برأسين يعيش معه في النهار والليل . قال في نفسه إن أجساد الآخرين قنبلة موقوتة مزروعة في أحشائي ولا بد أن أتخلص منهما قبل أن تنفجر . بدا مشوَّشاً إلى أقصى حد . ارتمى على الأريكة . أغمض عينيه ثم فتحهما كأنه يفتح صندوقاً مغلقاً منذ قرون . تمنى في قرارة نفسه لو كان هذا حلماً عابراً ليستيقظ منه . لكنه عاد ليؤكد لنفسه أن هذا مجرد كابوس ، وسينتهي سريعاً . ولكن كيف سينتهي ؟ . هذا السؤال جعله يتقلب على الأريكة كالملسوع .
أَشعلَ الرمادُ سيجاراً ، وأكد لنفسه أنه يعيش حقيقةً مرة، لا حلماً ولا كابوساً ، وأن عليه أن يتعامل مع الأمر الواقع المفروض عليه . وبدأت الأسئلةُ العنيفة تنهمر عليه من كل الجهات وتتجاذبه بقسوة . أسئلةٌ تهرب من الإجابة الراكضة في الأذهان . كان يمتصُّ السيجارَ بعنف بالغ ، وينفث الدخانَ في الأرجاء بشدة . بحيث يظن من يراه أنه يريد اقتلاع رئتيه اقتلاعاً سريعاً ليرتاح من ثقل جهازه التنفسي .
اكتشفتُ صوتَ أُمِّي وراءَ هضاب القشعريرة . أوردةُ الشَّفق تشرب اليانسونَ في استراحةٍ على الطريق الصحراوي . الأحداثُ تتسارع وتتشابك مثل قافلة تائهة على حافة المجرة . كالفراغ الممزوج بالرهبة يجيء الحدث غاطساً في عنفوان الأشجار الميتة . لماذا يبكي الحطبُ عَلَيْنا في صحارينا الممتدة من نعوشنا حتى ضياع الأندلس ؟ .
القتلةُ يعيشون في قمصاننا ، ويتكاثرون كملاقط الغسيل في الأربطة الملفوفة على نزيفنا الصحراوي الذي هجر خُضرةَ الثلوج الراكضة في أحاسيسنا . كلُّ الطرقِ الصحراوية تمشي على العَرَق المتفجر من مسامات جلودنا في يوم حزين لم تُسَجِّلْه أجندةُ الغُزاة .
كلامٌ أخرس . استرجاعُ تلك الذكريات القاتلة . شَبحٌ يَتجوَّلُ بين أكوام العظام والجماجمِ . جسدٌ مَيِّتٌ يحفر في الجدران صورةَ احتضاره . في العيون المحترِقة يتصارع النعاسُ مع الشَّبق الهادر.
الفراغُ الأفقي . إنه يحسُّ بهذه العتمة الداخلية متكاثرةً في صَمْته النقيض . رخامُ الفوضى الموحشة . صمتُ الأثاث الباكي . إنه يَذوبُ في الوجود الحتمي للجسد . تزايدُ هطولِ الخواطر على رأسه الآيل للانفجار. الأوعيةُ الدمويةُ مغطَّاةٌ بالسَّجاجيد. أحسَّ أنه في حلبة مصارعة الثيران، وأن الموت قادم في أية لحظة ، ومن أية جهة . وها هو الجمهور يستمتع بموت أي كائن ، سواءٌ كان المصارِع أم الثور . المهم أن يموت أحدهما أو كلاهما لكي تصبح متعة الجماهير في أَوْجِها. إنهم يدفعون من أجل مشاهدة الموت القادم ، أو بالأحرى الاستمتاع بالموت .
مُعَلَّقاً بين جُرْحَيْن لا يستقران . مصلوباً على ألواح الذكريات . كانت العناصرُ من حَوْله تشاركه النَّوم أو الأرق ، فلا فرقَ بين الأضداد إذا تكاثرت الحبوبُ المنوِّمة . الستائرُ تتطاير في نشيد الصَّنوبر . الشُّرفةُ الخالية من مُواءِ القطط . العَرَقُ اليابسُ في زوايا الملابس العسكرية للنهر .
وأتى الصباحُ حَامِلاً ضحاياه في كيسٍ ورقيٍّ هَش . قال الرملُ الأخضر : (( إنني ضحيةُ نَفْسي عِشْتُ في الوهم وسأموتُ في الوهم . كنت ضعيفاً بما فيه الكفاية لأُحدِّق في شمسي الداخلية التي دفنتُها في أضلاعي )) .
كان ينظر القمرُ إلى جنازتي بِعَيْنَيْن جامدتَيْن مثل ضفدعَيْن حُوصِرا في بحيرة مُتجمِّدة . يسيلُ العَرَقُ من جبين السُّيول كالدبابيس ، وينتشرُ كالمسامير التي لم تجدْ مطرقةً .
كانت سياراتٌ عسكرية تحفر في الأرض خنادق من الرعب ، وتعبر الشوارعَ إلى وجُهةٍ محددة مسبقاً. كلُّ شيء جاهز مسبقاً في هذه البلاد. قائمةُ التُّهم جاهزة ، وتعجُّ بشتى أنواع التهم حسب الطلب، وحسب مزاج المسؤولين. أرقام الزنازين هي الأخرى جاهزة . المحاكم العسكرية في داخل كل بيت من هذا الوطن القربان ، من هذا البلد الذبيح . كل شيء يؤول إلى الذبح وفق الطريقة التي يختارها المسؤول الذي يعرف متى يرتدي الشرف ومتى يخلعه. تماماً كالقمصان وربطات العنق.
الشُّرفةُ الزجاجية تَذوب في دخان المراعي . كنتُ أشعر أن الدخان يغوص في أعماق عناصر المكان. كأنه يريد أن يستقر في معناها وتفاصيلها ، وينتزع قلبَ الرمل المكوِّن لألواح الزجاج .
كانت تفاصيلُ البقعة الجغرافية تنخر أجسادَ العسكر ، وتتحدُ مع بقع الضوء التي كنتُ أشعر بها، ولا أدري من أين تأتي. إنها بقعٌ ضوئية تفترس وجوهَ الوحوش المدجَّجة بالأعشاب ، وتقضم أضواءَ السيارات العسكرية، وتبتلع الدخانَ الملتصق على زجاج الشُّرفة .
حيطانُ الزنزانة تقتربُ من السجينين لتسحق عظامهما. بالكاد كانا يريان بعضهما من شدة الظلام. لم يتمكنا من الكلام، واكتفيا بالتحديق في عناصر تلك البقعة . يغتسلان في نهر الوحدة الممزوجة بوحشة الجدران . اختلطا بكومة من ذكريات الطيور المهاجرة نحو صُفرة المراحيض في الزنازين الضيقة . لكن صوت نعال السجانين قد فَرَّق كلَّ طيور القلب الوحيد .
شعرتُ أن جبالاً من الثلج الأسود تصهر دمَ البراري ذهباً لساعة يد السَّياف المتكرر في أقنعة السجانين . تتوالى الصرخاتُ الخرساء والسعال المعلَّب في فقرات العمود الفقري الممزَّق . تصعدان من خيوط أجنحة الفراشات الطريدة .
يا صَمْتَنا المتقمِّص تيجان المرعى المحاصَر . لم نَعُدْ نُميِّزْ بين تقشير البصل في المطبخ، وتقشيرِ جلود الفقراء !. وما زال بريقُ السِّياط يمرُّ على الظهور العارية كما تمرُّ الأسماكُ في عيون الغيمات المنهَكة .
كان الزَّبدُ يتحسَّس جثةَ ابنه ، يستنشق رائحةَ ثيابه ، يشم جسدَه الساكن الذي يهبط عليه قطيع الدموع البرية . لا تبيعوا تلك الجثةَ في السوق السوداء لتحصلوا على ميزانية صالة القمار . لا تَعْرِضوها في المتاحف أمام عيون القططِ الضَّالة . لا تُعلِّقوها إشارةَ مرورٍ في الشارع . في العيونِ الخائفة شلالاتٌ من الذكريات المنهمرة والبريقِ اللازوردي . أفتحُ معدتي لأمواج الذكريات .
أُريد أن أترك هذه السفينة قبل غرقها. إنها كتلة هوس القتل، في كل ناحية منها امرأة مغتصَبة ، أو راهبة مقموعة جنسياً ، أو جرذ يكاد يموت جوعاً .
لستُ روائياً لأن الروائي صدى ، أما أنا فصوتٌ . دمائي سيرةٌ ذاتية للرياح القديمة . وطنٌ يستثمر أجسادَ نسائه كمساحات إعلانية وعقودٍ تجارية ومعامل لصك العُمْلةِ . فرقٌ كبير بين بشر يعتبرون شنقَ الفقراء أفضل وصفة لتخفيف ملل السلطانة ، وبشر يموتون ليحافظوا على شرف الشمس . فتىً أحمق في أحضان عاهرة محترفة ، وبنتٌ خجولةٌ في ظلمات دَيْرٍ يَخْنقها ويَغْتصبها .
ظلالُ الريح الغضبُ صورةُ أنيابِ السحابة، ومن لم يغضب فهو خرافة كجدائل راهبةٍ مبتدئة اشمأزَّتْ من زي الكهنوت . حَفَروا قبركَ بأسنان خشبيةٍ . قِفْ تاريخاً لضمير الشمس يُلغي تواريخَ الأبقار المتسلقة على النباتات البلاستيكية على جُدرانِ القصرِ .
الجدرانُ تنقضُّ على السُّجناء كما ينقضُّ الملحُ على دموع الصَّبايا. تَسَمَّرَ خلف مقود السيارة ليلٌ . وبينما كانت عرائسُ القصر يَغْرَقْنَ في المرايا الأخيرة، كانوا يقترعون على حنجرة الضحية . وجهي صدامُ الحضارات فلتصعدْ يا زلزالي إلى الشمال الملوَّث بالزرنيخ الذي يُغَطِّي الشوارعَ كالثلوج الحمراء . الوردُ أجنحة النُّسورِ ، وكن وردةً لا تُدَاسُ ونسراً لا يَظْلِمُ . لا تُنَصِّبْ نفسكَ أميراً للمؤمنين ، ولا تُسَمِّ اللصَّ الذي أنزلته سيوفُه إلى السُّلطةِ أميرَ المؤمنين .
تلك الملامحُ المرميةُ وراء برسيم الإسطبلاتِ ومراعي الأثرياء . فالحاكمُ في دول الجنون والمحكومُ المسحوق يمشيان على خطين متوازيَيْنِ . وفي الرياضياتِ فرصةُ التقاءِ الخطين المتوازيين معدومة ، أما في الواقع فلا مفر من حتمية الصِّدامِ بين الخطوطِ المتوازية في العوالم المحطَّمة .
صاعداً من التراب نازلاً إلى التراب عانقتُ ثورتي عند مصبِّ وَرِيدي المفتوح دائماً . غريبٌ أنتَ تحت ذكرياتٍ مشلولةٍ تنفيكَ حدثتْ هذه الأحلامُ قبلَ ميلادِ قضبان السجون، وبعد انقراض ملايين المحارِبين الذين نسوا تقبيل نسائهم عند ذهابهم إلى المعركة. لقد كنتُ صغيراً وقتذاك ، أصغرَ من تفاحتَيْن على جناح طاووس حجري من عصور انطفاء الأحلام. لكنني ما زلتُ أتذكر هذه الأحداث كما يتذكر القتيلُ صورةَ قاتله خلف المغيب المتكرر . وها أنذا أعيش لأقول، ولستُ خائفاً من ملاحقات العسس التابع للخليفة غير الشرعي، ولستُ طامحاً في اصطياد قلب الأميرة . أنا وصيةُ المنبوذ الحاسمة وحجارةُ المآذن . صَلِّ عليَّ صلاةَ الجنازة سريعاً ، واستأنف القتالَ حتى يوم القيامة .
عدتُ إلى كوكب الأرض بعد أن قضيتُ إجازةً قصيرةً على كوكب القمر . لقد اشتقتُ للصنوبر الساكن في الغيم ، واندفعتْ نفسي لمعانقة البيلسان الموضوع تحت المقصلة لأنه رفض التصفيق للخليفة .
وعندما رجعتُ وجدتُ أشياءَ كثيرةً قد تغيَّرت. الوجوه تغيَّرت. الحلم تغيَّر. الناس المستعدون لإعداد أكفاني تغيروا . سألتُ عن أهلي ورفاقي فأجابني الرعد : (( إنهم في السجون ومن لم يكن في السجون فهو في المقابر الصامتة )). لقد توزَّعوا بين تراب المقبرة وحديدِ السجن . حزنٌ يغسلكَ من البرتقال المتعفِّن ، ويُسكنكَ في أبراج المعنى الخارج على دستور مراقَبة الحرَّاس .
إن ليلة الدخلة بالنسبة للرجال حين يدخلون على نسائهم لرؤية وجوه العرائس ، أما بالنسبة لي فحين أُدخَل في مَوْتي لأرى وجهَ مَلَكِ الموت .
كانت المراعي حَوْلي ترتمي كالدُّراق الذي قضى زمناً في السجن ثم خرج بعفو من جهة عليا لم تكشف عن اسمها أو أهدافها . مشيتُ في المرعى لأني لم أكن أملك غير المشي . وبعد أن سرتُ مسافةً ليست بالقصيرة رأيتُ بشراً متجمعين حول انتحارهم البطيء، فسألتُ قطةً كانت تمشي على سلك الكهرباء: (( ماذا يحدث ؟ )). لم تجبني. بل نظرتْ إلي باستخفاف أَخجلني. فما وجدتُ غيرَ لصوصٍ ومومساتٍ يعملون على تشكيل حكومة وحدة وطنية .
أصابني شيءٌ غامض يُشبه الفراولةَ المسمومة . وقررتُ أن أقلب نظام الحكم الهمجي المغروس في ظهور الجواميس . هذا هو دمي الراكض في الأزقة فاحْمِلْه أو اتْرُكْه ليَحْمِلَه غيرُكَ. لستُ أكتب روايةً لأن أشلائي الروايةُ التي تكتبني. ما زال في أبجديتي حرف اللام والألف، وسأقول : لا .
إنه الضياع الجنوني على نصالٍ تنفيكَ، تنفي عناصرَ جسدكَ المثقوب. وكلُّ ضائع يخترع جنونه ويمضي إلى حتفه الأكيد. مَن أنا ؟ ومَن أنتَ ؟، نحن العابرَيْن في أزقة البلاد التي تَصْلبنا لأننا نحبها حتى البكاء . ولكنْ مَن سَيَبْكي علينا حين تنسانا صفحاتُ الوفيات في الجرائد الرسمية ؟ .
سوف يمضي العشاقُ إلى حفلة الديسكو غير عابئين بدمنا المفروش على أعمدة الكهرباء . وسوف يخترع الساسةُ أكاذيب جديدة كي يُعزِّزوا نفوذَهم على حساب الفقراء الذين يُفتِّشون عن أسنانهم الصفراء في سلال القمامة .
كُلُّ نعشٍ للغيوم فجرٌ للإعصار ، وحياتنا لا تزدهر إلا إذا مِتْنا . إننا ندافع عن وطن يذبحنا ، ومع هذا يجب أن ندافع عنه حتى النهاية لأن لحمَنا كومةُ نجوم على سطوح بحيرات راكدة . شيءٌ مؤسف أن يعيش الإنسان منبوذاً ، ويموت مجهولاً لا يعرف قبرَه إلا الطيورُ المهاجرة والبناتُ الصغيرات لحفاري القبور .
لكن العصافير تحمل على أجنحتها براميلَ ماء الثورة . فَخُذْ عِظامي باروداً ، وانتظرْ جمجمتي تُكمِل انقلابَ الحزنِ على الحزن ، وتصنع سلامَ البنادق . ولا تُوقِّع على صكوك الغفران لأن دمي هو الخارطة الجديدة للعالَم ، وحدودَ قَلْعتي حيث تَصِل بُنْدُقِيَّتي.