مما لا شك فيه أن الفكر المتجسد في أبجدية الشعر ينبع من حرارة التعبير وانسياب المعاني . وكلما زادت حرارة التجربة ذابت الفروق بين الشِّعر والنثر. فالشِّعر لا تحدده الأوزانُ الشِّعرية بقدر ما يحدده الخيال الواقعي الصاعق. وهكذا تتركز حرارة الأداء التعبيري في قلب اللغة الرامية إلى كسر الرؤى الشعرية الركيكة، وتوليد إيقاع شعري متفجر في روح أبجدية النَّص .
وبما أن الكلمة سُلطة ، فإن امتدادها سيكون بالغ التكثيف والانتشار والتاثير في أوصال المجتمع، مما يدفع باتجاه صناعة عناصر لغوية ثورية ، وسكبها في عوالم الكتابة الشعرية . وفي واقع الأمر فإن الشاعر الرائي لا يَكتب وإنما يَنحت في جسد اللغة تاريخاً جديداً للإنسان وأحلامه . وهذا النحتُ المتواصل هو شرعية التفاعل بين الكلمة وطبيعة المجتمع الإنساني . كما أن الرموز اللغوية المنتشرة في عوالم القصيدة هي متواليات عاطفية تربط التدفق الذهني بالصور الجمالية . وهذا يؤدي إلى تكريس اللغة الشعرية كأبجدية ذات رؤية استقلالية. وكلما وسَّعت اللغةُ أحلامَنا، وسَّعنا مستوياتِنا المعرفية بأبجدية ثورية جديدة لا تخلع الأبجديةَ الأم .
وإن كثرة الولادات الشعرية المتوافقة مع صياغة المجتمع الإنساني الجديد ستضمن ولادة سلسة للإيقاع في طبيعة الكتابة الشعرية . وهذه الولادة بالغة الأهمية ، لأن الإيقاع المتشظي في رئة اللغة هو العنصر الأشد تأثيراً على مسار القصيدة وتماسكها . وإذا استطاع الإيقاعُ الحفاظَ على خط سَيره دون انحراف فإن انقلاباً شاملاً سيحدث في أبجدية الشِّعر ، ويُنتج لغةً مُحلِّقة ولا نهائية . وهذا يشير إلى ماهية القصيدة باعتبارها مساحةً غير محدودة ، ونصاً مفتوحاً على كل الاحتمالات . فالشِّعرُ الحقيقي لا يمكن حصره في نقطتي بداية ونهاية ، ولا يمكن إخضاعه لقواعد تفسير متشنجة أو مواقف مسبقة وساكنة . وذلك لأن الفكر الشِّعري دائم الحركة ، فهو الذي يصنع الحراكَ الاجتماعي على مستوى الشعور العاطفي للأفراد، وحركة الجماهير على أرض الواقع . فالشِّعر هو تعليل متجدد للعناصر الجمالية ، ومحاولات حثيثة لاستنطاق الواقع الخيالي من أجل إعادة إنتاج النَّفس البشرية بشكل مندمج بالكلية مع التجربة الروحية الشَّاسعة .
إن كلَّ قراءة للقصيدة هي قصيدةٌ جديدة ، وإعادةُ اكتشاف الأحلام البشرية المقموعة بفعل ضغط النظم السياسية ، واستحضارُ الأحلام المؤجَّلة بفعل ضغط الحياة المادية . وهذه الولادات المتشعبة المتكاثرة تضمن استمرار العوالم الشعرية إلى ما لا نهاية . فالتاريخُ القصائدي مفتوحٌ وعابرٌ لحدود الزمن ، لأن عناصر الماضي والحاضر والمستقبل تنصهر في بَوْتقة شِعرية واحدة . فالقصيدةُ تخترع زمنَها الخاص بها غير الخاضع لحركة الأيام، وتكتشف تاريخها الخصوصي غير الخاضع لإرادة المنتصرين ووسائل الإعلام، وتصنع تضاريسها الخاصة غير الخاضعة للطبيعة الجغرافية . لذلك تتكرس القصيدةُ كعالَم استقلالي يتمتع بالاكتفاء الذاتي .
والكتابةُ الشِّعرية هي توسيع للأفق الاجتماعي لئلا ينتحر في دائرة مغلقة ميتة في مهدها . فأخطرُ التحديات التي تواجه المجتمع الإنساني هو الموتُ في الحياة ، أي تحرك الأجسام البشرية في نطاق اجتماعي ضيق دون أشواق روحية . وهنا تتجلى أهمية القصيدة في بناء التفاعل الإنساني الوجداني مع الإنتاجات المعرفية للحضارة التي تنقذ الفردَ ولا تقضي عليه . فلا فائدة من الحضارة إذا تحولت إلى عبء على الأفراد، وطاحونة تقضي على أحلامهم، وتحاصرهم في الزاوية الضيقة . وإذا أردنا كبح جماح الحضارة والحيلولة دون تحولها إلى وحش مفترس لا بد من حقنها بمنظومة التوازن التي تُوجِّه شهوةَ الجسد في المسار الصحيح ، وتحافظ على السُّمو الروحي دون خدش . ويمكن الاستفادة من القصيدة في هذه المهمة، لأن القصيدة هي الحضارة التي تكسر عزلةَ الأفراد، وتأخذ بأيديهم نحو عوالم جديدة لم يتم اكتشافها مسبقاً .
والمنظومةُ الشِّعرية الحقيقية ليست مادةً استهلاكيةً يتناولها الفردُ كحبة مُنوِّم ثم يغطس في سبات عميق. فالشِّعرُ شُعلة اليقظة الممتدة من جسد الشَّاعر المتحد بالطين والعشب والبحيرات والجبال وحتى جسد القصيدة المتحد بالثورة والأحلام والذكريات .
إذن ، نحن أمام حالة معرفية تتسم بالبناءات الديناميكية من أجل تشكيل المجتمع الشِّعري الواعي لمسار الفكر الإنساني وتكويناته. والفكرُ الشِّعري هو شرعية الأسئلة التنويرية دائمة القلق الإبداعي الرامي إلى صناعة عالَم أقل توحشاً ، ودائمة البحث _ كذلك _ عن الذات الإنسانية في قلب المجتمعات .