لا يخفى أن وعود الإصلاح في الأردن هي كلام في الهواء لذر الرماد في العيون وكسب الوقت. فلا توجد إرادة سياسية لبدء عملية الإصلاح ومكافحة الفساد ، وذلك لأن الفاسدين يسيطرون على مفاصل النظام السياسي، ويتحكمون بمصير البلاد من الألف إلى الياء . وهؤلاء المتنفذون فوق القانون ، فلا يمكن أن تطالهم يد العدالة أو يتعرضوا للمساءلة والمحاسبة . وحتى لو أراد الملكُ أن يقود الإصلاح فعلياً ، فهو لا يستطيع تنفيذه على أرض الواقع، لأنه _ حينئذ _ سيصطدم بالحرس القديم الذين حَوَّلوا البلد إلى مزارع شخصية لهم ، وسيُدافعون عن مراكز نفوذهم حتى الرمق الأخير ، إذ إنهم يعتمدون على وزن عشائرهم ، أو قوة رأس المال ، أو علاقاتهم المتشابكة مع مراكز صنع القرار . لذا فإن الإصلاح خطرٌ حقيقي على هؤلاء الحيتان المستعدين للتضحية بالأردن _ من الرأس حتى القاعدة _ من أجل الحفاظ على أرصدتهم البنكية ونفوذهم الأخطبوطي . فولاؤهم لمقدار أرباحهم ، وانتماؤهم لسُلطتهم المتشعبة . وإذا شعروا بأي خطر عليهم فسيكشفون وجوههم الحقيقية ، وتسقط الأقنعة ، وتذوب الأغاني الوطنية ، وتختفي هتافات الولاء التي يتشدقون بها .
وهذه الحفنةُ ما كانت لتظهر لو كان في الأردن دولةٌ قادرة على بسط نفوذها على الكبير والصغير ، واحتضان أبنائها من شتى الأصول والمنابت . فالنظامُ السياسي فشل في صناعة الدولة ، إذ إن شرعية وجوده واستمراره مستمدة من تحالف القبائل الكبرى معه لقاء منافع متبادلة. ومثل هذه التحالفات البدائية لعبٌ بالنار، لأنها تتكون بدافع المصلحة لا الانتماء، وبدافع بسط سيادة القبيلة وتحقيق مكاسب لأبنائها لا تكريس الدولة كسُلطة عليا ذات سيادة وتتمتع بالديمومة .
إن عدم وجود دولة في الأردن أدى إلى ظهور مراكز قوى مدعومة بالميليشيات الأمنية البوليسية المستعدة لقمع المطالبين بالإصلاح ، ووأد نشاطاتهم السلمية . وهذا سيؤدي إلى عودة الأفراد إلى قواعدهم العشائرية لكي تدافع عنهم . فالفردُ حينما لا يجد دولةً تدافع عنه ، فسوف يعود إلى قبيلته ( النواة الاجتماعية الأولى ) لتُوفِّر له الأمان . وهذه عملية بالغة الخطورة ، فغيابُ الدولة من أذهان المواطنين سوف يقضي على روح الولاء ، واختفاءُ الحاضنة الشعبية الكبرى ( الدولة ) سيجعل كل قبيلة دولةً مستقلة بذاتها ، وهذا يشكل تهديداً للسِّلم الأهلي والوحدة الوطنية .
والنظامُ الأردني يتخبط طيلة عقود طويلة دون بوصلة ، وعاجز عن الاستجابة لعملية الإصلاح ، تماماً مثل شخص يعيش في كهف مدة طويلة ، فإذا أراد الخروج من عزلته فإن نور الشمس سوف يصعقه . وبسبب تغلغل الأمراض في جسد الدولة الأردنية الوهمية لفترة زمنية طويلة _ شأنها شأن باقي الدول العربية _ فإن استجابتها للدواء غير مضمونة . لذلك فمهمةُ الإصلاح شاقة للغاية ، وبحاجة إلى جهود مخلصة من شرفاء الأردن وليس أزلام الحكومات الفاسدة المتعاقبة .
ومن هنا تنبع أهمية تكوين حكومة إنقاذ وطني تتكون من أبرز الكفاءات الأردنية القادرة على انتشال البلاد من المستنقع العميق . فمن غير المعقول عدم وجود عقول خارقة في الإدارة والتنمية من بين ستة ملايين أردني . وإذا رفض النظامُ السياسي هذا الإجراء فينبغي تأسيس حكومة ظل من أجل الدفع باتجاه الإصلاح . أما أن تظل البلاد تغرق دون طوق نجاة، ونواصل الضحك على أنفسنا بهيئات حوار شكلية لا وزن لها ، قد فَصَّلها أزلامُ النظام السياسي على مقاسهم ، فهذا لعبٌ في الوقت الضائع . وإن الوقت الذي نستغرقه لتبرير أخطائنا والكذب على الشعب يكفي لإصلاح الأخطاء وإنقاذ الشعب . ومن العبث انتظار الإصلاح من هذه الحكومات المتعاقبة، فهي لا تملك من أمرها شيئاً ، ولا تعرف ما هو خط سيرها . وكما قيل: لا يذهب بعيداً من لا يعرف إلى أين هو ذاهب .